إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / الحرب الأهلية اللبنانية






مواقع المخيمات الفلسطينية
مواقع المخيمات الفلسطينية
لبنان - التوزيع الطائفي
الجمهورية اللبنانية
تعداد الفلسطينيين بلبنان
جنوب لبنان



المبحث الأول

المبحث الأول

أهمية البُعد الداخلي

       مثّل البُعد الداخلي أحد أهم العوامل، الحاكمة في الحرب الأهلية اللبنانية. فعلى الرغم من تضافر مجموعة من العوامل، الداخلية والإقليمية والدولية، إلاّ أن الأسباب الداخلية، كان لها الصدارة بين هذه العوامل. لعل من أهم هذه الأسباب صيغة النظام السياسي، والتكوين، الطائفي والحزبي، للبنان؛ إذ انبثق النظام اللبناني من توازن دقيق، لحماية أوضاع اجتماعية طائفية، عبّر عنه الميثاق الوطني، من ناحية، وشعار "لا غالب، ولا مغلوب"، الذي رفع عام 1958، من ناحية أخرى. إن أي اضطراب في هذا التوازن، يمكِن أن يؤدي إلى انفجار. ومن ثَمّ، كانت محاولة بشارة الخوري تعديل الدستور، عام 1952، لكي يعطي نفسه حق إعادة الترشيح لرئاسة الجمهورية، سبباً لأزمة وعدم استقرار سياسيَّين. وكذلك محاولة كميل شمعون الشيء عينه، عام 1958، أدت، مع عوامل أخرى، إلى حرب أهلية.

       ولكن هذا التوازن، أصبح لا يعبّر عن الظروف والأوضاع المستجدة في المجتمع اللبناني. لقد تعرّض لبنان لعملية تغيّر اجتماعي عميق، أدت إلى بروز قوى، اجتماعية وسياسية، جديدة، تسعى إلى تغيير قواعد اللعبة السياسية، ومعها النظام اللبناني برمَّته. أسفرت عنها تطورات وتفاعلات عديدة، عبْر مدة طويلة من الزمن. لعل أبعدها اغتيال رياض الصلح، في بداية الخمسينيات، ورجحان كفة الموارنة؛ إذ عجز "الإسلام السياسي" عن طرح قيادة قوية، تملأ الفراغ، الذي تركه الصلح. ومن ثَمّ، ازدادت كفة "المسيحية السياسية" رجوحاً. في الوقت عينه، أدى ارتفاع نسبة المواليد لدى المسلمين، إلى ازدياد عددهم على الموارنة، الذين يفترض، رسمياً، أنهم أكثر الطوائف عدداً في المجتمع اللبناني.

       وأعقب ذلك، في الخمسينيات، المدّ التاريخي لحركة القومية العربية، بقيادة جمال عبدالناصر، الذي اجتذب إليه أعداداً متزايدة من الشباب اللبناني المسلم. وكان ذلك، في حدّ ذاته، من وجهة نظر التوازن اللبناني، عاملاً من عوامل عدم الاستقرار. وقد ارتبط بذلك، ظهور نخبة متعلمة من المسلمين، طالبت بنصيب أكبر لهم في الحُكم، وفي الدخل القومي  . فحاول الحكم الشهابي الإصلاح، من خلال إعطاء المسلمين نصيباً أكبر من الحُكم، وتنمية مناطقهم، في الجنوب والبقاع وعكار. ولكن الشهابية، لم يقدر لها الاستمرار، فضلاً عن أن عملية الإصلاح نفسها، كانت عملية جزئية أو محدودة، لنظام، بدأت عوامل الاختلال تسري في أوصاله.

       وفي الستينيات، جاءت أزمة النظام الرأسمالي، ممثلة في إفلاس بنك أنترا، والتطورات السياسية، التي ارتبطت بالصراع العربي ـ الإسرائيلي، ولا سيما تصاعد حركة المقاومة، واضطلاعها بعمليات مسلحة، عبْر الحدود، وقيام إسرائيل بسلسلة من أعمال العدوان والعمليات الانتقامية في لبنان، الأمر الذي جعل لبنان في أتون الصراع. أضف إلى ذلك، أن الاعتداءات الإسرائيلية المستمرة على الجنوب، أدت إلى انتقال أعداد كبيرة من الشيعة إلى حزام الفقر الإسلامي، المحيط ببيروت .

       وهكذا، يمكِن القول إن النظام اللبناني، نشأ، أصلاً، على توازن ماروني ـ سُنِّي، في إطار الأوضاع الطائفية العشائرية السائدة، وإن هذا التوازن، تعرّض لعوامل اختلال، مبعثها عدة مصادر:  

  1. "الحركة الوطنية اللبنانية"، الراغبة في تأكيد المواطَنة اللبنانية، على حساب المشاعر والولاءات الطائفية.
  2. الصعود التاريخي للشيعة، منذ نهاية الستينيات، ودخولهم حلبة الحياة السياسية، تحت قيادة قوية، لها قدر كبير من النفوذ، وهي قيادة الإمام موسى الصدر، وتنظيمهم لعدد من الحركات، مثل "حركة المحرومين".
  3. التأثيرات الخارجية، مثل ارتباط "الشارع" المسلم بحركة القومية العربية، وآثار وجود حركة المقاومة الفلسطينية، والاعتداءات الإسرائيلية على لبنان، ووجود عدد ضخم من السوريين في لبنان، يُقدَّر بثلاثمائة ألف شخص.

       لم تكُن أزمة النظام اللبناني أزمة تأليف حكومة، أو أزمة تشكيل دستوري، بل كانت أزمة عجز البنى السياسية، والطبقة الحاكمة، عن التعبير عن القضايا الاجتماعية المطروحة، وعن تمثيل القوى الجديدة في المجتمع.

       جوهر الأزمة، إذاً، أن هناك قوة جديدة، من الشيعة واليسار، رغبت في إصلاح النظام، وطرحت، في هذا الإطار، ضرورة إعادة النظر في عدد من أساسياته وفرضياته. وفي مواجَهة ذلك، رفض الموارنة تعديل النظام، وطرح عدد منهم تقسيم لبنان، كحلّ وحيد، بديل من الميثاق الوطني، أو إعادة النظر في هذا الميثاق. ففي تصريح للرئيس سليمان فرنجية، قال: "إن الميثاق الوطني، وهو صيغة التعايش الأخوي بين اللبنانيين، سيظل كما هو، استجابة لإرادة اللبنانيين، وتطوراً مع أمانيهم، في إطار الاستقلال". ومن ثَم، لا يمكن إعادة النظر في الميثاق. وإنما يمكِن أن يعدَّل الدستور. الموقف عينه، اتخذته "الكتائب"، التي جاء في بيان لها، أن الميثاق الوطني  "نابع من اتفاق كل اللبنانيين على قاسم مشترك. فلا يمكِن أن يعدَّل أو يُلغَى، إلا بقرار جماعي من كل اللبنانيين". ووافقت "الكتائب" على إمكانية تعديل الدستور، شرط أن يكون ذلك بطريقة شرعية، ووفقاً للأحكام الدستورية. كذلك، أكد حزب "الأحرار" تمسكه بالميثاق الوطني، وبالصيغة اللبنانية.

       ومن قبْل، كانت "الرابطة المارونية"، قد طالبت بعدم المساس بالصيغة اللبنانية، التي أرساها الميثاق الوطني. وذكرت أن منصب رئيس الجمهورية، يتجاوز الإطار اللبناني، لأن شاغله يمثل جميع الموارنة في العالم العربي. مما دفع الشيخ حسن خالد، مفتي لبنان، وقتذاك، إلى القول إن الميثاق الوطني، لا وجود له، حقيقة، وإنه لا يعدو أن يكون تفاهماً بين رَجلين، هما بشارة الخوري ورياض الصلح.

       وفي مواجَهة ذلك، طرحت الأحزاب والقوى التقدمية برنامجاً شاملاً، يتضمن تعديلات أساسية لنظام الحُكم، باسم "البرنامج الوطني للإصلاح الديموقراطي"، الصادر في 19 أغسطس 1975، والذي ينطلق من مبدأ علمانية الدولة، وإلغاء الطائفية، وإصلاح قانون الانتخابات، وإعادة تنظيم الجيش والأحزاب. كما تضمن البرنامج، إلغاء النصوص الطائفية من الدستور والقوانين، والإقلاع عن الممارسة الطائفية في مجال السياسة، للوصول إلى علمانية كاملة للنظام السياسي، وإدخال نظام التمثيل النسبي، ليكون لكل 10 آلاف مواطن نائب واحد، وخفْض السن التي تخوّل اللبناني الانتخاب، إلى 18 سنة، واعتماد مبدأ الاستفتاء الشعبي، وإعادة تنظيم الهيكل الحكومي، وضمان الحريات. كذلك تضمن بيان استقالة الرئيس رشيد الصلح، في مايو 1975، أن معالجة أوضاع البلاد معالجة جذرية، لن تكتسب فاعليتها، مرحلياً، إلاّ بعد تحقيق إصلاح سياسي ديموقراطي، وتعديل قانون الانتخاب، والالتزام بمقتضيات المعركة العربية المشتركة، وتعديل قانون تنظيم الجيش، وإخضاعه للسلطات السياسية، وإقرار قانون التجنس، ومعالجة الوضع، المالي والاقتصادي والاجتماعي.

أولاً ـ العامل الطائفي، وتطورات الحرب الأهلية اللبنانية

       الطائفية هي أن تتميز فئة معينة، بتقاليدها وتكتلها وتعصبها وتمسكها بامتيازاتها ومطالبها، وإيثارها مصلحتها على المصلحة العامة. وإذ يتكون لبنان من طوائف عديدة، فإن الطائفية، تشكل حجر الزاوية في تطوره، الاجتماعي والسياسي، بل الاقتصادي، كذلك. فهو يحتضن وحدات، دينية ومذهبية، يضرب بعضها في أعماق التاريخ البعيد، تمخض بها اصطراع المذاهب المسيحية الطويل، وتصارع المذاهب الإسلامية. وقليل من هذه الطوائف، هي حديثة النشأة. فلا عجب، والحال هذه، أن يكون العامل الطائفي، أهم عوامل الحرب الأهلية اللبنانية.

       خلال العهد الإسلامي، حافظ العديد من الطوائف المسيحية على كيانها، لِمَا اتَّسم به الإسلام من حرية في العقيدة الدينية. بيد أن بعض هذه الطوائف، لاذت بجبال لبنان، التي ساعدتها، ليس على المحافظة على كيانها فقط، بل على التعصب له، كذلك.

وفي إطار هذا السياق، يمكن تعرف الطوائف التالية:

أ . الموارنة :       يمثلون أحد الجيوب، التي تكونت في أواخر العصور الوسطى وأوائل العصر الحديث، "موارنة جبل لبنان"، الذي هاجروا إليه، فراراً من اضطهاد مخالفيهم في العقيدة من المسيحيين. وهناك في الجبل، بين زغرتا وبشري وإهدن وكسروان، نمت الطائفة المارونية، ثقافياً ومذهبياً، على يد الكنيسة المارونية. ولكن خلال الحروب الصليبية، عاون الموارنة الصليبيين، فأخذهم المسلمون، بقسوة، خلال القضاء على الوجود الصليبي وعقبه، في الشام، في القرن الثالث عشر. غير أن آمالهم، ظلت معلقة بالغرب، في انتظار كَرَّة صليبية جديدة.

ولكن حكام المسلمين، وأدوا تلك الآمال، إذ أحلوا، إبّان الحروب الصليبية وفي أعقابها، أُسَراً إسلامية سُنِّية، السواحل اللبنانية، لتتولى حمايتها من أي عدوان جديد، ولتكون قوة رادعة لأي تحرك معادٍ من الداخل. ولا يزال معظَم السُّنيين منتشرين على طول الساحل، وفي مدنه.

ب . الدروز : وُلدت عقيدتهم في مصر، ثم صدرت إلى الشام. وكانت، في نظر علماء المسلمين، خروجاً على تعاليم الإسلام. فعانوا كثيراً من اضطهاد الحكام لهم. ومثلما احتمى الموارنة بجبل لبنان الشمالي، تركز الدروز في المناطق الجبلية الوعرة، في جبل العرب، "جبل الدروز"، في سورية، والشوف ومنطقة الغرب في لبنان.

ج . الشيعة:  يقطنون في جبل عامل، في جنوبي لبنان، وفي سهل البقاع، ولا سيما حول بعلبك. وهم أقرب إلى التشكيل العشائري العربي التقليدي، وإنْ استطاعت أسرة "حمادة"، أن تمد سيطرتها من البقاع، إلى منطقة الموارنة الجبلية.

د . الروم الأرثوذكس : هم أكثر المسيحيين تعلقاً بالعرب والعروبة. وقفوا إلى جانب المسلمين ضد الصليبيين. كما أن رجال الدين العرب الأرثوذكس الفقراء، قضوا، إلى حدّ ما، على الإكليروس اليوناني في الكنيسة الأرثوذكسية، في القرن التاسع عشر، لتصبح ذات طابع عربي. ويكثُر الأرثوذكس في منطقة "الكورة". ويبدو أن انخفاض مستوى المعيشة بينهم، جعلهم هدفاً للبعثات التبشيرية، التي استطاعت أن تحوّل العديد منهم إلى موارنة وبروتستانت وكاثوليك.

هـ . الأرمن:  فرت أعداد كبيرة منهم إلى لبنان، إثر المذابح التي تعرّضوا لها، على يد الأتراك. واستقروا في بيروت، حيث حافظوا على كيانهم الطائفي، إلى جانب العديد من الطوائف الصغيرة الأخرى، مثل السريان والكلدان واليهود، حتى بلغ عدد الطوائف المعترف بها، قانوناً، في لبنان، في الوقت الحاضر، 17 طائفة.

        وأثناء الحكم المصري، شن عليه الموارنة والدروز حرباً، كانت بدورها، حرباً طائفية؛ إذ جمع الدروز والموارنة عداؤهما للمصريين، والعمل على إخراجهم من جبل لبنان. وإثر تدخّل الدول الكبرى ضد المصريين، غادر هؤلاء لبنان، فانفرط عقد الموارنة والدروز، ووجد كل منهما نفسه في مواجَهة الآخر. وما لبثا أن دخلا في صراع دموي رهيب، استمر من عام 1845 إلى ما عرف بـ "مذابح الستين" (1860). وأرسلت الدولة العثمانية حملة لتُنزل الضربات الشديدة بالدروز؛ إذ كانت أقدر على ضرب الدروز منها على ضرب الموارنة، الذين يحظون بعطف أوروبا، الطامعة في الشرق. وعمدت فرنسا إلى إرسال حملة إلى لبنان، دعماً للموارنة، وتأديباً للدروز، الذين توالت نكباتهم، حتى باتوا يبكون الحكم المصري.

        ومنذ ذلك الحين، والأُسَر المارونية، تعيش على ذكريات تلك المذابح، والأُسَر الإسلامية والدرزية، تبكي شهداءها، ومجدها الذي فقدتْه، وكلٌّ ينظر إلى الآخر بحذر شديد، خاصة الموارنة، الذين جعلهم شعورهم بأنهم أقلية، وسط أغلبية إسلامية ساحقة، في المشرق، يغالون في الحذر، حتى ترسخ فيهم الخوف، الذي أصبح، من وجهة نظر الزعامات الإسلامية، الدافع الأقوى للعصبية المارونية.

        وعقب مذابح 1860، وضعت تسوية على أساس طائفي، في مصلحة المسيحيين، وذلك في ما عُرف باسم نظام المتصرفية (1861 ـ 1915). إذ تقرر أن يحصل الجبل على نوع من الحكم الذاتي، تحت رئاسة مسيحية، ويديره مجلس إدارة، وزِّعت مقاعده على الأساس الطائفي. كما تقرر أن يكون مأمور كل مقاطعة من الطائفة ذات الأغلبية العددية فيها. وأصبح لكل طائفة قضاتها. وحالت هذه القاعدة الطائفية، في رأي المسلمين اللبنانيين، على الرغم من تعديلاتها غير الجوهرية، دون أن يصبح لبنان مجتمعاً متحداً، اجتماعياً.

        وفي عهد المتصرفية، انطلق الموارنة في تطور سريع، ثقافياً وسياسياً واجتماعياً. وازدادت روابطهم بفرنسا قوة. وأصبحوا مَعيناً لا ينضب، من محترفي الصحافة والطباعة والتأليف والمسرح، فضلاً عن الصرافة وأعمال التجارة؛ في الوقت الذي كان فيه تطور الطوائف الأخرى بطيئاً جداً. وأغرى الموارنة تطورهم بالتطلع إلى استقلال كامل عن الدولة (العثمانية الإسلامية)، التي كانت أوروبا تسعى، حينذاك، إلى اقتسامها. وفي الوقت نفسه، كان العرب، كذلك، قد سئموا تخلّفهم تحت الحكم العثماني. فظهرت بين مسيحيي لبنان، حركة عربية مبكرة ضد الدولة العثمانية، ولكن زعامتها، سرعان ما انتقلت إلى المسلمين، لكونهم الأكثرية في المشرق العربي.

        ومن ديناميكية الطائفة المارونية، انبثق الخطر، إذ اتخذت من الحركة العربية وسيلة إلى التخلص من الحكم العثماني، وليس وسيلة إلى تكوين وحدة عربية؛ في الوقت الذي كانت فيه الحركة العربية، تتحول من تحرُّك إعلامي ضد الأتراك، إلى تحرك ثوري. ومع أن نزعات عربية ـ إسلامية، نادت بالتعاون مع إنجلترا على الدولة العثمانية، قبَيل الحرب العالمية الأولى، وأن زعامات مارونية، نادت بالتعاون عليها مع فرنسا، إلاّ أن الفارق بين الاتجاهين، أن الزعماء المسلمين، كانوا يريدون استخدام قوى أوروبا في تحقيق وحدة عربية، أو على الأقل في الحصول على الاستقلال. بينما سعى الموارنة إلى استقدام فرنسا، لحمايتهم من حركة الوحدة العربية والعروبة.

        وكان طبيعياً أن يرتفع شأن الموارنة، في ظل الانتداب الفرنسي، وأن تكون المناصب العليا مركزة في يدهم، وأن ينعَموا بالفوائد المالية، وأن تحظى مناطقهم بالمشروعات الواعدة، وأن يتاح لهم التعليم العالي الغربي، فيُقبِلون عليه دون أي تعقيدات. وهكذا، أسبغت الطائفية على الموارنة ثروة وسلطة، وأصبح المسلمون والدروز دونهم، اقتصاداً وثقافة.

        وبينما رفضت الزعامات والشعوب العربية، المسلمة، والعديد من الطوائف المسيحية الانتداب، الفرنسي أو الإنجليزي، وقاومته ما أمكنها المقاومة، رحّبت الطائفة المارونية بالانتداب الفرنسي، وتبادلت مع الغزاة الجدد حفلات الاستقبال. وكانت وجهة النظر المارونية قد أخذت تتبلور، في أن للبنان قومية خاصة، متفردة، وأن الموارنة حُماتها. ونظراً إلى الوجود الفرنسي في البلاد (1920 ـ 1943)، كانت مقاومة المسلمين للتفوّق الماروني ضعيفة، خاصة أن البلاد العربية، المحيطة بلبنان، كانت، هي الأخرى، تكافح من أجل استقلالها.

        وبعد الحرب العالمية الأولى، وخلال معركة الاستقلال، واجهت المشكلة الرئيسية زعماء لبنان، من مسلمين ومسيحيين، ألا وهي انتماء لبنان، ومدى إمكانية تحقيق اتحاد فيدرالي بين طوائفه، إلى جانب موقفه من الحركة العربية، الساعية إلى تكوين جامعة دول عربية، تضم دولاً، أغلبيتها الساحقة من المسلمين السُّنة. ولكن القادة اللبنانيين، وفي طليعتهم، بشارة الخوري، رئيس الجمهورية الماروني، ورياض الصلح، رئيس الوزراء، المسلم السُّني، توصلوا، في 7 أكتوبر 1943، إلى ما سمّي "الميثاق الوطني". تخلى الموارنة، بمقتضاه، عن الحماية الفرنسية، مقابل اطّراح المسلمين فكرة الاندماج في أي دولة عربية.

        هكذا، نهض الحكم اللبناني بجناحين، رسّخا طائفيته: الدستور والميثاق. فأصبح لكل طائفة، في عهد الاستقلال، كيان معنوي قانوني، يكاد يتمتع بحكم ذاتي، في مجالات الأحوال الشخصية وإدارة الأوقاف. وله مدارسه وجمعياته ومؤسساته، ورجاله الدينيون، برتبهم ومراتبهم. مما أنعش الطائفية، فتجاوزت كونها أساس مجتمعات متميزة، لتصبح أساساً حزبياً دينياً، يسعى إلى الحفاظ على الامتيازات، مثلما هي الحال، بالنسبة إلى الموارنة، أو إلى الحصول على المساواة، مثلما هي الحال، بالنسبة إلى السُّنة والشيعة والدروز. وما لبثت الطوائف، أن اختلفت في مفهوم التوازن الطائفي. فلم يرَ فيه الموارنة، إلاّ الحفاظ على عوامل التفوّق الماروني. بينما رأى المسلمون أن العصر ليس عصر المذاهب الدينية، وإنما عصر المذاهب الاجتماعية، وعصر الوحدات الكبرى، السياسية والاقتصادية والقومية. ومن تضارب الرؤيتَين، انبثق التصادم الخطير بين القومية العربية، التي يتعلق بها مسلمو لبنان، والقومية اللبنانية، التي يتمسك بها الموارنة، ويحاولون إثبات وجودها، تاريخياً وواقعياً. وهو ما اجتهد فيه المفكر الماروني، كمال يوسف الحاج، وتهلّل له بيار الجميل، زعيم "الكتائب".

        أمّا كميل شمعون، الزعيم الماروني، ورئيس الجمهورية اللبنانية (1952 ـ 1958)، فقد قبِل مبدأ أيزنهاور، على الرغم من استقالة معظَم الوزراء المسلمين من الحكومة. وأدى اتجاهه إلى تجديد مدة رئاسته، إلى تضامن المسلمين مع كمال جنبلاط في ثورة ضده، بينما ناصره معظَم الموارنة، ولا سيما "الكتائب". وإذا بالثورة ترتدي زياً طائفياً. ولئن حالت الثورة دون تجديد ولاية شمعون، فإنها لم تحل دون استمرار الطائفية، إذ انتهت إلى "لا غالب، ولا مغلوب".

1. موقع الطائفية في الحرب الأهلية اللبنانية

إن الحقيقة الأولى، في فهْم الحرب الأهلية اللبنانية، هي الطائفية، بمعنى انقسام المواطنين إلى فئتَين أساسيتَين، إسلامية ومسيحية. ثم انقسام كل من هاتَين الفئتَين إلى عدد من الطوائف (سبع عشرة طائفة)، يعترف بها النظام السياسي، ويقرر لها عدداً من الحقوق، الاجتماعية والسياسية. ولا يقتصر معنى الطائفية، في السياق اللبناني، على الانتماء الديني، وإنما يتعداه إلى الواقع، الاقتصادي والاجتماعي. إذ الطائفة هي إطار لتنظيم العلاقات، الاجتماعية والاقتصادية، ومركز الولاء السياسي . ومن ثَم، فلا بدّ من تحليل الطائفية، كظاهرة اجتماعية.

تضرب جذور الطائفية في عمق التاريخ اللبناني، وترتبط بتطوراته. وساعد على تبلورها عوامل ثلاثة: النظام المِلِّي العثماني، والنظام الإقطاعي الصليبي، وطبيعة الرقعة الجغرافية اللبنانية، التي احتضنت جماعات وطوائف، تأثرت بأحد هذين النظامين، أو بكليهما، ولم يكُن بينها كثير من الاختلاط. وفي الأربعينيات والخمسينيات من القرن التاسع عشر، شجع السلطان العثماني، التنافس الطائفي. وأسهمت الدول الأوروبية في إذكائه، إذ عمد كلٌّ منها إلى حماية إحدى الطوائف، وكسب ودها: فرنسا والموارنة، روسيا القيصرية والروم الأرثوذكس، إنجلترا والدروز.

وهكذا، أصبحت الكيانات الطائفية، في القرن التاسع عشر، أُطُراً متمايزة، يجري، داخل كلٌّ منها، تفاعل سياسي واجتماعي واقتصادي وثقافي، على نحو خاص. وأمست خصائص اجتماعية، صنعتها عقود من الاضطهاد الديني، والانغلاق الاجتماعي، والاستقلال الذاتي في الشؤون، الزمنية والدينية، والتعامل المتباين مع قوى خارجية استعمارية.

وعمّق الانتداب الفرنسي، هذه الأوضاع، باعتماده الطائفية أساساً، في التوظيف والاستخدام، وفقاً للمادة 95 من الدستور، الباب السادس، التي نصت على أنه "بصورة مؤقتة، وتحقيقاً للعدل والوفاق، تمثَّل الطوائف، بصورة عادلة، في الوظائف العامة"؛ وفي تشكيل الوزارة، من دون أن يؤول ذلك إلى الإضرار بمصلحة الدولة. كما رسخ الانتداب الانفصال بين المواطنين، بإقرار نُظُم مختلفة لأحوالهم الشخصية، في المادة التاسعة من الدستور. أضف إلى ذلك، سياسة احتضان الموارنة ومحاباتهم، في الوظائف العليا، وتدعيم مدارسهم، وإهمال المدارس، الإسلامية والمسيحية الأخرى .

إذاً، الطائفية في لبنان، ليست مسألة دينية، أو تعصباً دينياً فحسب، بل حقيقة اجتماعية واقتصادية، كذلك، ترتبط بدلالات اقتصادية واجتماعية. فالخلاف الطائفي، يعكس صراعاً، اجتماعياً واقتصادياً، بين الغني والفقير، بين اليسار واليمين، بين القوى المحافظة والقوى الثائرة، بين أنصار الأمر الواقع، والداعين إلى التغيير، الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. وبالنسبة إلى أغلبية اللبنانيين، فإن الحدود الطائفية، تتطابق مع حدود الوضع، الاقتصادي والاجتماعي؛ ومن ثَم، فالصِّلة وثيقة بين الطائفية والطبقية. ويبرز ذلك بروزاً صارخاً في الوضع المتميز للطائفة المارونية، التي تحتل قِمة السلم الاجتماعي، مقابل الوضع المتردي للشيعة، الذين حرموا المشاركة، السياسية والاقتصادية، في النظام.

ويمكِن تحديد أهم العوامل، التي أدت إلى استمرار الوضع الطائفي في لبنان وترسيخه، كما يلي:

أ.    الانفصال الجغرافي بين الطوائف؛ فالسُّنيون يتركزون في بيروت والشمال، والموارنة في جبل لبنان والشمال، والشيعة في الجنوب.

ب. التفاوت الاقتصادي بين مناطق الطوائف، ولا سيما مناطق الموارنة الغنية، ومناطق الشيعة الفقيرة.

ج.   النظام الاجتماعي، القائم على الروابط الإقطاعية الأُسَرية، والزعامات العشائرية.

د.    النظام السياسي، الحريص على الطابع الطائفي، واستمرار العلاقات الطائفية.

هـ. الوضع التعليمي، المساعد على الانقسام الطائفي؛ فلا يوجد نهج موحَّد للتعليم، بل ثمة عدة مؤسسات ونُظُم وموادّ تعليمية مختلفة، تتباين مناهج التنشئة السياسية فيها، والقِيم التي تنقلها.

وهكذا، تتعزز الطائفية بالتنشئة المدرسية، ثم بالعلاقات السياسية، القائمة على أُسُس طائفية.

2. خصائص المجتمع اللبناني، الممهِّدة للحرب الأهلية

يتميز النموذج اللبناني بأن فئتَيه الكبريَين، بمذاهبهما، لا تفوق إحداهما الأخرى بأغلبية طاغية. وبتقاطع الاختلاف الطائفي، أحياناً، مع الاختلاف اللغوي، فثمة الشركس والأكراد أو الأشوريين والكلدانيين والسريان والروم الأرثوذكس والكاثوليك. وبتقاطع التوجهات السياسية، أحياناً أخرى، مع نواحي الاختلاف السابقة.

أ. مؤشرات غياب الاتفاق حول القِيم الأساسية

اتّسم المجتمع اللبناني بضيق مساحة الاتفاق بين أطرافه، واختلافهم في أساسيات اللعبة السياسية وقواعدها، بعد أن استجدت مجموعة من العوامل، الشكلية (نسب الطوائف بعضها إلى بعض)، أو الموضوعية (ارتباط المسلمين بحركة القومية العربية، وتبيّن رجال "الحركة الوطنية" مفهوم المواطَنة اللبنانية، والصعود التاريخي للطائفة الشيعية). وبناء على ذلك، يدافع المسيحيون دون الانصهار في الأكثرية الإسلامية. ويطالبون بنظام الكانتونات، على غرار النظام السويسري. لذا، فهُم يعارضون إجراء إحصاء جديد للسكان، يغيّر نسب الإحصاء، الذي أجري عام 1932، وأظهر أن الموارنة والسُّنة والشيعة والأرثوذكس والدروز والكاثوليك، يشكلون، على التوالي، نسباً من إجمالي السكان بلغت: 30%، 21%، 19%، 10%، 7%، 6%.

وفي المقابل، أبى المسلمون، بدافع من شعورهم بالغبن، إلا تحريك الوضع الراكد في البلاد، وصولاً إلى فرص متكافئة في شغل مناصب صنْع القرار، وتحقيقاً لتنمية، اجتماعية اقتصادية، متوازنة. وهم على الرغم من اقتناعهم بأن وضعهم، على تردِّيه، هو أفضل من وضْع إخوانهم في العالم العربي، فإنهم يتمسكون بالحقوق، المترتبة على كونهم الأغلبية. إذ ورد في دراسة، أجرتها منظمة فرنسية للتنظيم العائلي والحدّ من النسل، عام 1977، أن المسلمين، يمثلون 55% من السكان: 28% شيعة و19% سُنة، و8% دروز. وأن المسيحيين، يشكلون 45% من السكان: 24% موارنة، و9% روم أرثوذكس، و6% روم كاثوليك، و5% أرمن، و1% طوائف أخرى.

ب. فقدان الحوار الصادق

افتقر المجتمع اللبناني إلى الحوار الصريح، في شأن عدد من القضايا الأساسية، على الرغم من أهميتها الطائفية، وفي مقدمتها قضية الأقليات، الأمر الذي يحيطها بشيء من الغموض، ويبقي، في خصوصها، على قدر من سوء التفاهم المتبادل، ويفرض على أطرافها التعامل بغير لغة واحدة. ومن ثم، فإن استثارة الموارنة، على سبيل المثال، العامل الديني، أو الأيديولوجي، أو القومي، تتوقف على كون المستثار من المسيحيين أو المسلمين المحافظين أو الفلسطينيين. وهو ما تلجأ إليه القوى السياسية الأخرى.

ج. الولاء للجزء، دون الكل

تحمل سمات المجتمع اللبناني المواطن على الاعتزاز بطائفته، والتمسك بها، والانتماء إليها، أكثر من ولائه لدولته. إذ ينشأ الشاب المسلم، وهو يدرك أن إمكاناته، مهْما عَلَت، لن يُتاح لها إلا ما سُمح به لطائفته (نسبة 20.5% من المقاعد البرلمانية، ورئاسة الوزراء، إن كان سُنِّياً؛ ونسبة 18% من المقاعد البرلمانية، ورئاسة مجلس النواب، إن كان شيعياً؛ ونسبة 6.5% من المقاعد البرلمانية، إن كان درزياً). إضافة إلى بعض المناصب، الوزارية والقضائية والإدارية، الثانوية، التي تُعطى للمسلمين بصفة عامة.

فضلاً عن أن فرصه، تحددها أصوله العائلية؛ إذ إن العملية السياسية في لبنان، تخضع لمعايير "الإقطاع السياسي". فقد كشف بعض الدراسات عن احتكار 134 شخصاً 333 منصباً وزارياً، في الفترة من 1926 إلى 1964. كما كشف عن احتكار  245 عائلة أكثر من نصف مقاعد مجلس النواب، في الفترة من العشرينيات وحتى السبعينيات . إزاء هذا الوضع، تصبح الطائفة هي الحقيقة الأولى في حياة الشباب اللبناني. ويساعد على ذلك عاملان أساسيان:

(1)       ضعف المؤسسات السياسية، من حكومة وأحزاب. فالحكومة المركزية غير قادرة على فرض سيادتها على المجتمع، بل لا يكاد يكون لها وجود؛ إذ لا يتمحور الفكر السياسي اللبناني حول الدولة، وإنما حول المجتمع. إنها إحدى الخاصيات الثقافية للكيان اللبناني، التي جعلت الدولة إطاراً لتعايش الطوائف، على المستوى السياسي. في إطار هذا السياق، فإن اللَّبْنَنَة، في التجربة الفكرية السياسية العربية ـ إذا جاز استخدامها كمصطلح ـ هي النظرة إلى السياسة، كحركة من المجتمع نحو الدولة، لا من الدولة نحو المجتمع.

أمّا الأحزاب السياسية، فكانت تحظى بأغلبية في مجلس النواب، ولا تشارك في صنْع السياسات، وتتبنى مصالح طائفية أكثر من تبنّيها قضية وطنية؛ يستوي في ذلك أحزاب الأشخاص، وأحزاب البرامج. ومِصداق ذلك، إعلان وليد جنبلاط، زعيم الحزب الاشتراكي، أن تولّيه رئاسة هذا الحزب، عام 1977، خلفاً لأبيه، إنما يعني رئاسته للطائفة الدرزية، انطلاقاً من أن الحزب، لم يُكن إلاّ طائفة . واستطراداً، فإن رصْد 47 حزباً، على الساحة اللبنانية، في مطلع الثمانينيات، لم يكُن يعني إثراء الحياة السياسية اللبنانية، بقدر ما كان يعني مزيداً من تعقيد المشكلة الطائفية.

(2) ضعف المؤسسة العسكرية، الذي حال دون ملئها الفراغ السياسي. وهو ضعف، يرجع إلى جملة عوامل، في مقدمتها تركيبها الطائفي. ففي تقرير لوزارة الدفاع الأمريكية، حول التركيب الطائفي للجيش اللبناني، في مطلع 1984، ورد أن 60 % من جنوده وضباطه، هم مسلمون، و40 % من المسيحيين. وعلى الرغم من هذا التوزيع، يتساوى الطرفان في الرتب العليا، مثل رتبتَي لواء وعميد. بينما يتمتع المسيحيون بوضع أفضل، في رتب لها أهميتها الخاصة: قيادات المناطق والألوية والوحدات المقاتلة المختلفة، وتنفيذ العمليات، مثل رتَب عقيد ومقدم ورائد، وذلك بواقع نسبتَي 60 %، 55 %، على التوالي . ولهذه الوضعية انعكاساتها على ولاء الجيش لطوائف بعينها، وهو ما اعتمد عليه كميل شمعون، حينما أنزل الجيش إلى حلبة الصراع في لبنان، في غضون أزمة 1958، ثقة منه بانحيازه إلى قوات "الكتائب". ومن العوامل الأخرى في إضعاف الجيش اللبناني، صِغر حجْمه، والمصاعب التي يواجهها، في شأن التمويل، في ظل الاقتناع بعدم فاعليته، فضلاً عن وجود وسطاء، حولوا عملية تسليحه إلى تجارة مربحة. إضافة إلى عشوائية الإدارة، وتناقض الأوامر، وحجب الحقائق عنه، وتعرّضه لحملات التشكيك والتشهير.

ولذلك كله، لا يستغرب، أن تكون فاعلية الجيش اللبناني دون فاعلية القوات الفلسطينية، التي أُتيح لها الحصول على التمويل والسلاح، من بعض الدول العربية، إضافة إلى تمتعها بدرجة عالية من التجانس والتدريب. بل ليس مستغرباً، أن يكون الجيش اللبناني دون الميليشيات الحزبية، التي تمتلك، فضلاً عن السلاح الملائم، واحداً من أهم العناصر، التي يفتقدها الجيش اللبناني، وهو وضوح الرؤية.

د. التركز الجغرافي للطوائف

ساعد اللبنانيين توزعهم الجغرافي على تعميق الروح الانعزالية في نفوسهم، ورغبتهم عن البحث في الاندماج. فتركز معظم الشيعة في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية لبيروت. وغالبية السُّنة في طرابلس وبيروت وإقليم الخروب ومنطقة العرقوب. وغالبية الروم الكاثوليك والأرمن في مدينة زحلة. والموارنة في كسروان وبيروت الشرقية. والدروز في الشوف ووادي التيم. وعلى الرغم من بعض التداخل السكاني، إلا أن التوزع الجغرافي الطائفي، يبقى واضحاً.

هـ. تعدد النُّظُم، التشريعية والتعليمية

يطغى على المجتمع اللبناني، ما يمكِن أن يُطلق عليه "الفوضى التشريعية". فلكل طائفة الحق في أن تشرع لنفسها، ما تنتظم به أحوالها الشخصية، وأن تتخذ إجراءات التقاضي أمام محاكمها الخاصة.

كما يُعَدّ النموذج اللبناني من النماذج القليلة، التي انتقل فيها الصراع الطائفي من الحلبة السياسية إلى المجال التعليمي، تحت سمع الحكومة وبصرها، إذ تختلف فلسفات التعليم ونُظُمه، باختلاف الطوائف، حتى ليكاد يصعب العثور على كتاب موحَّد، في واحدة من الموادّ التعليمية، في كلٍّ من المدارس اللبنانية، الرسمية والخاصة، ولا سيما الموادّ المتعلقة بالتطورات التاريخية للمجتمع، حيث تظهر واضحة الإسقاطات الطائفية على تلك التطورات. وكشفت دراسة، أُجريت على عيّنة من سكان العاصمة، في السبعينيات، عن تفضيل 17 % إرسال أبنائهم إلى المدارس اللبنانية، و38 % إلى المدارس الوطنية الفرنسية، و22 % إلى المدارس الوطنية الأنجلو ـ أمريكية، الخاصة، و12 % إلى المدارس الأجنبية الأنجلو ـ أمريكية، و4 % إلى المدارس الوطنية المصرية. ويمتد التشتت التعليمي إلى المستوى الجامعي، فيتضح توزّع الطوائف على الجامعات: الأمريكية والقديس يوسف (اليسوعية) وجامعة بيروت العربية.

        يستخلَص ممـا سلف اختـلاف الأُطُر المرجعية وتنوُّعها. فبينما يرنو مسيحيو لبنــان، ولا سيما الموارنة منهم، إلى الدول الغربية، طلباً للحماية (خاصة فرنسا)، أو أخذاً بنظام التعليم والقِيم، يتطلع مسلموه إلى العالم العربي.

        تلك كانت دلالات "نموذج الفسيفساء"، الذي يجسده المجتمع اللبناني، والمعبَّر به عن خصوصية معينة، في السياق العربي، الذي تتراوح مجتمعاته بين التجانس والتعددية. وكلاهما يفترض الاتفاق على حد أدنى من القِيم والمبادئ الأساسية، وإنْ كان الاتفاق حول القضايا الرئيسية أسهل، في حالة التجانس، بالنظر إلى وجود هوية واحدة تقريباً؛ في حين يقتضي تحقيق هذا الاتفاق، في حالة التعددية، شيئاً من التنسيق بين الهويات الفرعية والهوية القومية. وفي كلتا الحالتين، يسهّل وجود نظام سياسي مركزي، قوي، تحقيق الاتفاق المذكور. لذا، فإن تركيب المجتمع اللبناني، والتطورات التي شهدها، خلال الستينيات والسبعينيات، جعلا الحرب الأهلية في لبنان، التي استنفدت موارد الشعب وطاقاته، المقدرة، حتى منتصف الثمانينيات، بـ 100 ألف قتيل، و20 مليار دولار  ، أمراً وارداً في حسبان المحللين السياسيين، خاصة أن المجتمع اللبناني قد خاض تجربة مماثلة، في الخمسينيات، بسبب التقارب مع الغرب. على أن المحللين، ذهبوا، في تحليلهم لتركيز القوى السياسية على العنف السياسي، وتفاعل بعضها مع بعض ـ مذهبين مختلفين:

        ركز أولهما في المعطيات الداخلية، وأهمها الواقع "الطائفي المعقَّد"، الذي كان المرحلة الختامية للتطور الطائفي في لبنان، بعد مرحلتَي الطائفية المستقرة، زمن العثمانيين، والطائفية المنفجرة، من منتصف القرن التاسع عشر وحتى الحرب الأهلية، عام 1958. وفي إطار المرحلة النهائية تلك، ركز المحللون في خصوصية العامل، الاجتماعي والاقتصادي؛ إذ إنه يؤثّر في التوجهات الطائفية أكثر مما يتأثر ويتحدد بها. فقد أثبتت دراسة على عيّنة من 415 مسلماً سُنِّياً، في مدينة صيدا، ذات الأغلبية السُّنية، أن أثرياء هذه الطائفة، يتعاطفون مع الموارنة في مدينتهم، بحُكم وحدة المصالح . في الوقت الذي يعرب فيه فقراء صيدا السُّنة عن عدائهم للموارنة، شعوراً منهم بالغبن. فالتحرك السياسي، إذاً، يرتبط بالانتماء الطبقي، أكثر من ارتباطه بالانتماء الطائفي.

        أما ثانيهما، فركز في المعطيات الخارجية، وتوازنات القوى، على المستويَين، الدولي والإقليمي. فأبرز أثر الوجود الفلسطيني، الداعم لليسار اللبناني، في مواجَهة القوى اليمينية المحافظة. ناهيك دوره في الأزمة الوزارية الحادّة، التي تركت البلاد على شفا حرب أهلية، عام 1969، بعد ما استعصى تشكيل وزارة جديدة، خلفاً لوزارة رشيد كرامي، وذلك على مدى سبعة أشهر كاملة.

        ولئن كان لا ينكر دور التأثيرات الخارجية في النموذج اللبناني، إلاّ أنه لا يتمتع بالأولوية في تحريك الأحداث. فالمد القومي العربي، لم يؤثر في المذابح الدرزية ـ المارونية، عام 1860. وكذلك، لم يكن له أثر في مذابح صبرا وشاتيلا، عام 1982، على الرغم من وجود قدر كبير من التطابق بين الانتماءات الطائفية والطبقية، الأمر الذي ينفي أولوية أي من العامِلين، الطائفي والاجتماعي ـ الاقتصادي؛ ذلك أنه طالما وقف الموارنة دون الاستثمارات، في المناطق ذات الأغلبية الإسلامية، مما ينمّ بالعاملين، الطبقي والطائفي، اللذين تنمّ عليهما احتجاجات الشيعة والسُّنة والدروز، على مسلك الموارنة. وهكذا، فإن تسييس الطائفية، كما تجسّد في الميثاق الوطني، لم يحفظ للنظام اللبناني استقراره؛ فلا هو حقق المساواة النسبية بين المسلمين والمسيحيين، ولا هو نجح، بأسلوب "الفيتو" المتبادل، في احتواء الصراعات الطائفية. بل على العكس من ذلك، كانت الطائفية من أهم عوامل تهديد الشرعية السياسية للنظام اللبناني، وهو ما يعود إلى فشل الحكومة في مواجَهة ثورة التوقعات، الناجمة عن سرعة التحديد، في الوقت الذي لا يكون فيه الحل الطائفي ملائماً، إلا حينما لا يكون أمام الحكومة الكثير مما يتعين عليها أداؤه. وبذلك، تبقى الريبة في مصداقية كل حلول الأزمة اللبنانية، التي تنطلق من الحفاظ على الطائفية، سواء بإقرار بعض الإصلاحات المحددة، التي تتجنّب المساس برئاستَي السلطتَين، التنفيذية والتشريعية، أو بإقرار التقسيم الجيو ـ طائفي إلى أربع مقاطعات، على غرار سويسرا.