إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / الحرب الأهلية اللبنانية






مواقع المخيمات الفلسطينية
مواقع المخيمات الفلسطينية
لبنان - التوزيع الطائفي
الجمهورية اللبنانية
تعداد الفلسطينيين بلبنان
جنوب لبنان



المبحث الأول

ثالثاً ـ البناء الاجتماعي في لبنان، وأثره في الحرب الأهلية

1. التنوع الطبقي

يضم المجتمع اللبناني ثلاث طبقات: عليا ووسطى ودنيا.

أ. الطبقة العليا

تضم هذه الطبقة فئتَين: البورجوازية الكبيرة، والإقطاع السياسي. ولا تتجاوز نسبتها 6 % من مجموع السكان. ولكنها تسيطر على الاقتصاد، بفروعه المختلفة، وعلى أكثر من 31 % من الدخل القومي. وهي تتميز بمستواها الثقافي العالي، نظراً إلى إمكاناتها المادية الواسعة، التي تتيح لها تعليم أبنائها، في مختلف المستويات العلمية، داخل البلاد وخارجها. ويتميز الإقطاع بسيطرته على الجهاز الحكومي.

ب. الطبقة الوسطى

تتألف من صغار التجار والمزارعين والحِرفيين والموظفين، من إداريين وفنيين ومعلمين وكتاب ومهندسين وأطباء. وتفوق نسبتها 40 % من مجموع السكان. وهي مرتبطة بالنظام الرأسمالي القائم.

ج. الطبقة الدنيا

تضم صغار الحِرفيين والعمال. وتزيد نسبتها على 50 % من مجموع السكان. وتحيا في ظروف معيشية قاسية، بسبب انخفاض أجورها.

       ويلاحظ أن الدولة لم تحاول تنمية الاقتصاد الوطني، على نحو يسمح بتحسين أوضاع الطبقتين، الثانية والثالثة؛ إذ إن عمليات التنمية، كانت في مصلحة الطبقة العليا، وبخاصة البورجوازية الكبيرة .

2. التعدد الطائفي

يضم المجتمع اللبناني أكثر من سبع عشرة طائفة. يشكل كلٌّ منها كياناً متماسكاً، داخل المنطقة التي تعيش فيها. والطائفية، كوسيلة من وسائل الضغط، في النظام السياسي اللبناني، لا تكمن في تعدد الطوائف فحسب؛ إذ إن هذا التعدد سابق على قيام الدولة، وإنما هي كامنة في الأثر النفسي، الذي يتركه الانتماء الطائفي داخل الجماعة الدينية، والذي ينعكس على سلوكها إزاء الجماعات الأخرى، أو الطوائف الأخرى. ونجم عن ذلك، أن أصبحت العلاقة بين الطوائف علاقة صراع، سواء كان ذلك صراعاً خفياً أم معلناً. وينقسم اللبنانيون إلى قسمَين رئيسيَّين، الطوائف المسيحية والطوائف الإسلامية. كلٌّ منهما، تضم عدداً من المذاهب، لا يتردد أي منها في الادعاء أنه يمثل أكثرية عددية، على الرغم من أن أكثرها عدداً، لا يزيد على ثلث إجمالي عدد السكان.

أ. المذاهب المسيحية

يضم المجتمع اللبناني العديد من المذاهب المسيحية. تنتشر في مناطق متعددة من لبنان، كالجبل ومنطقة الكورة في الشمال، والمتن، والوسط. وتمثل حوالي 49.5 % من عدد السكان.

(1) الموارنة

وهم أكبر المذاهب المسيحية في لبنان. وتعود نشأة مذهبهم إلى القرن الخامس الميلادي، حينما أسّس تلاميذ القديس مار مارون ديراً باسمه، شرقي مدينة حماة. ومن أتباعهم، تكوّن هذا المذهب، بعد انشقاق اليعاقبة، على أثر انعقاد مجمع خلقيدونيا، عام 451 م. وقد اضطر الموارنة، إزاء اضطهاد اليعاقبة لهم، إلى الرحيل، فاستقروا، بصفة رئيسية، بجبل لبنان. ثم انتشروا في زغرتا وبشري وإهدن وكسروان.

وقد استأثر الموارنة بالمناصب الكبرى في الدولة. فمنهم رئيس الدولة، إضافة إلى عدد من الوزراء. وهم يمثلون حوالي 20 % من إجمالي عدد السكان في لبنان .

(2) الروم الأرثوذكس

استقروا، في القرن التاسع، بالمناطق الساحلية، وتركزوا في الكورة والمدن الكبيرة. وفي حين من تاريخهم، أَوْلتهم روسيا القيصرية عنايتها. إلاّ أنهم فقدوها، إثر نشوب الثورة البلشفية، مما ساعد على تواصل ارتباطهم بالطوائف الأخرى، في المجتمع العربي الإسلامي. كما أن وجود مقر بطريرك الأرثوذكس في دمشق، وطد العلاقة بينهم وبين إخوانهم في سورية. وهم يمثلون نحو 11 % من إجمالي سكان لبنان.

(3) الروم الكاثوليك

كان الروم الكاثوليك جزءاً من الروم الأرثوذكس، حتى القرن الثامن عشر، حين انشقوا عنهم، وتمركزوا في زحلة. وهم حلفاء، في الغالب، للموارنة. وينعمون بوضع اقتصادي رغيد. ونسبتهم إلى عدد السكان حوالي 8%. وإلى جانب هذه المذاهب الثلاثة، ثمة مذاهب مسيحية أخرى، أقل عدداً، كالأرمن الأرثوذكس، والأرمن الكاثوليك.

ب. المذاهب الإسلامية

تكوّنت بعد الفتح العربي لبلاد الشام، إذ اعتنق الإسلام قسم كبير من سكان لبنان المسيحيين. كما أن بعضها جاء إلى لبنان من سورية ومناطق أخرى، في فترات زمنية مختلفة. ويمثل أتباع المذاهب الإسلامية في لبنان، حوالي 51.5 % من إجمالي عدد السكان.

(1) السُّنة

وهم أكبر المذاهب الإسلامية عدداً. ويتركزون في شمالي لبنان ووسطه، خاصة في مدينتَي طرابلس وبيروت. وقد ارتفع شأنهم، خلال توقف الحروب الصليبية، بل عمد الحكام إلى نقْل أُسَر سُنية إلى السواحل اللبنانية، لتتولى حمايتها من أي عدوان، ولتكون قوة رادعة لأي تحرك مسيحي من الداخل. ولا يزال معظَم السُّنة منتشرين على طول الساحل، وفي مدنه. ويتميز السُّنة بمستوى ثقافي عالٍ. ويشاركون، بفاعلية، في الحياة السياسية. ويشغلون كثرة من المناصب، القضائية والإدارية والسياسية. ومنهم يختار مفتي الجمهورية اللبنانية. وهم يمثلون حوالي 25 % من عدد السكان في لبنان .

(2) الشيعة

برز الشيعة في لبنان في ظل الدولة الفاطمية (969 ـ 1075). وقد سيطروا، في القرن الحادي عشر، على معظم أجزاء لبنان، باستثناء الشمال، حيث يتركز الموارنة، والشوف ووادي التيم، حيث ينتشر الدروز. ولكن نفوذهم أخذ يتقلص، في العهود المتلاحقة، أمام تزايد عدد المهاجرين إلى أنحاء لبنان من الطوائف الأخرى. ولذلك، أصبح الشيعة ثاني المذاهب الإسلامية اللبنانية عدداً. وهم يتركزون في الجنوب اللبناني، وفي بعلبك والهرمل. وهم يمثلون حوالي 20 % من عدد السكان في لبنان.

(3) الدروز

تعود نشأتهم إلى أوائل القرن الحادي عشر. واستطاعوا في ظل الدولة الفاطمية، أن ينشروا مذهبهم في لبنان الأوسط، الشوف والمتن، وفي سورية، حوران، وفي فلسطين. ويقودهم عائلتان: أرسلان وجنبلاط. ويتمتع زعيما العائلتَين بالسلطة، السياسية والدينية. وهم يمثلون حوالي 7% من إجمالي عدد سكان لبنان.

       وفي إطار هذا السياق، برزت الطوائف الدينية، التي سيطرت على المجتمع اللبناني، وعكست أوضاعه الاجتماعية، وشكلت اتجاهاته السياسية، بين إيمان بالعروبة، واندفاع نحو القومية العربية؛ وإيمان بالحضارة الغربية، واندفاع نحو التقاليد الغربية؛ وبينهما مَن يحاول أن يوفق بين الاتجاهين. لذلك، كان للطائفة دور واضح وبارز في تكوين التنظيمات السياسية. ولهذا، يصح القول إن التشكيلات الحزبية في لبنان، هي انعكاس للواقع، الاجتماعي والاقتصادي، ومن أبرز ملامحه تفتت الشخصية الوطنية اللبنانية .

       ولكن ديناميكية المجتمعات أقوى من أن تجمد الطائفة في منطقة، إلا لفترات محدودة من الزمن. وكانت ديناميكية التحرك بين الموارنة، أقوى وأوسع مجالاً، مما كانت عليه لدى بقية طوائف لبنان. فقد استطاع الموارنة أن يبعدوا آل حمادة، الشيعة، عن التحكم في شمالي جبل لبنان. ثم توالت الهجرات من لبنان، الشمالي والأوسط، في اتجاه الجنوب، إلى منطقة الشوف الدرزية، بصفة خاصة. فظهر العديد من القرى المختلطة، فضلاً عن تلك الدرزية محض، وتلك المارونية بحت. كذلك، لم يمنع تداخل الموارنة والسُّنة، على طول الساحل، من طرابلس إلى بيروت، من أن تظل الطائفية تميز بين هذه الأُسْرة أو تلك.

       ولم تُثِر الديناميكية التدريجية مشاكل معقدة، في القرن الثامن عشر. إلاّ أن النمو الاقتصادي، الذي تحقق تحت رعاية الكنيسة، والناجم عن التجارة بين الموارنة وفرنسا، وإعلان لويس الرابع عشر أن الموارنة تحت الحماية الفرنسية (1649)، ونمو العلاقات المذهبية بين الموارنة، من جهة، والبابوية وفرنسا، من جهة أخرى، وتعدد ظهور المدارس ـ كل ذلك، خلق في الطائفة المارونية ديناميكية ناشطة، في أوائل القرن التاسع عشر، تجلت في حركات ثورية، اضطلع بها "العامة"، ضد الإقطاع والإقطاعيين، وكان للكنيسة المارونية دور مهم في تطوراتها.

       وأعقب ذلك التوسع المصري في الشام، وتعاون بشير الشهابي الثاني مع محمد علي. ولكنه تعاون لم يحظَ ببركة الكنيسة المارونية، ولا برضى الدروز؛ إذ إن المصريين، سعوا إلى إدخال نُظُم الدولة العصرية إلى الشام، على نحو ما حدث في مصر، وأولها المساواة الكاملة بين أفراد الشعب، أمام القانون، والاندماج الكامل في بوتقة الدولة، ومنع التدخل الأجنبي في البلاد. وهو ما يعني، عاجلاً أو آجلاً، إلغاء الامتيازات الإقطاعية، والقضاء على الكيانات الطائفية. في حين كان الكيان الطائفي الماروني، قد رسخ في لبنان، الشمالي والأوسط، والدروز لا يزالون يشعرون بالعزة المذهبية، التي احتفظوا بها طوال القرون الثلاثة الماضية.

       هكذا، اتَّسم التركيب الطائفي في لبنان بعدة سمات، أبرزها وجود العديد من العوامل التاريخية، والأُطُر الدستورية والقانونية، والممارسات السياسية وغير السياسية، التي أسهمت في تعميق الانتماءات الطائفية في الواقع اللبناني، فضلاً عن أن التمركز الجغرافي للطوائف، جعل لمناطقها هويات طائفية. وساعدت سنوات الحرب الأهلية على ترسيخ الانتماءات الطائفية، إذ أصبح الاحتماء بالطائفة هو البديل من الدولة المنهارة. كما أدت إلى زيادة تسييس الانقسامات الطائفية. وظهرت الأحزاب والميليشيات، العسكرية وشبه العسكرية، على أُسُس طائفية.

       وكشفت سنوات الحرب عن عدم الوفاق، داخل الطوائف نفسها. فالانقسام والاقتتال بين المجموعات والفصائل، داخل الطائفة الواحدة، لم يكونا أقلّ حدّة من الانقسام والاقتتال بين الطوائف المختلفة، فضلاً عن ارتباط الطوائف اللبنانية، وبخاصة الطوائف الكبرى، ببعض القوى الخارجية، الإقليمية والدولية، إلى جانب ارتباطها بمؤسساتها الحزبية.

       وفيما يلي تقسيم الطوائف اللبنانية، وفقاً لبيان نظام الحكم الانتدابي، عام 1936، وقانون عام 1951، بعد الاستقلال، والذي استمر في لبنان، ممثلاً لأهم أبعاد المكون الداخلي للحرب الأهلية اللبنانية.

تقسيم الطوائف اللبنانية، طبقاً للنظام الانتدابي، وقانون 1951   

1. الطوائف المسيحية

الكنيسة المارونية.

 

1. الطائفة المارونية

الكنيسة الأرثوذكسية.

 

2. طائفة الروم الأرثوذكس

كنيسة الروم الكاثوليك، أو الملكية.

 

3. طائفة الروم الكاثوليك

الكنيسة الأرمنية الرسولية أو الغريغورية.

 

4. طائفة الأرمن الأرثوذكس

كنيسة الأرمن الكاثوليك.

 

5. طائفة الأرمن الكاثوليك

اليعاقبة / كنيسة السريان الأرثوذكس.

 

6. طائفة السريان الأرثوذكس

كنيسة السريان الكاثوليك.

 

7. طائفة السريان الكاثوليك.

الكنيسة الأشورية الرسولية، أو النسطورية.

 

8. طائفة الكلدان (الأشوريين النساطرة).

الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية.

 

9. طائفة الكلدان الكاثوليك.

كنيسة اللاتين.

 

10. طائفة اللاتين.

كنائس بروتستانتية شتى.

 

11. طائفة البروتستانت الإنجيليين (عرب وأرمن).

 

 

12. طائفة اليهود أو الإسرائيليين.

2. طوائف المسلمين

1. الطائفة السُّنية: بيروت، طرابلس.

2. الطائفة الشيعية.

3. الطائفة الدرزية.

4. الطائفة العلوية (النصيرية): في ضواحي طرابلس.

5. الطائفة الإسماعيلية.  

رابعاً: التركيب الطائفي للجيش اللبناني، ودوره في الحرب الأهلية

       مثل التركيب الطائفي للجيش اللبناني أهم العوائق، التي حالت دون إرساء دعائم جيش قوي موحَّد؛ إذ إن النسب الطائفية، التي كان يجب أن يؤخذ بها، في السبعينيات، لم تراعَ. ففي عام 1975، كان 85 % من رُتب قادة الوحدات للمسيحيين، بينما تُرك للمسلمين 15 بالمائة. ولم يقف أثر الطائفية عند حدود توزيع الرتب، بل امتد إلى دور الجيش نفسه، الذي اتسم، منذ أزمة 1958، بالطائفية. ومصداق هذا الواقع، أن الجيش اللبناني، استخدم في قصف بيروت، عام 1973، بينما لم يكُن له دور فاعل في مواجَهة الهجوم الإسرائيلي على لبنان.

       وإضافة إلى التركيب الطائفي، اتّسم الجيش اللبناني بالضعف، الناجم عن انخراطه في السياسة، إلاّ أنه على الرغم من ذلك، مثّل جهازاً مستقلاً، على عكس الحال في كثير من دول العالم. فطبقاً لقوانين 1955، استقل قائد الجيش استقلالاً تاماً عن السلطة التنفيذية. وفي غياب قانون التجنيد الإجباري، تحكمت السلطة السياسية في المؤسسة العسكرية اللبنانية، وهو ما تبدّى من خلال عمليات التطهير والتبديل في القيادات العسكرية، حسب التغيرات في الهيكل السياسي.

       ولعل ما ضاعف من تدنِّي فاعلية الجيش اللبناني، تفشّي الفساد بين القيادات العسكرية، من خلال تلقّي العمولات والرشاوى، وهو ما اتضح من خلال عقد صفقة صواريخ الكروتال وطائرات الميراج، البالغة قِيمتها200 مليون ليرة لبنانية، إلا أنها ألغيت، واستُبدل بالطائرات والصواريخ مدافع 20 مم، المصممة قبل الحرب العالمية الثانية، ضد طائرات، كانت سرعتها لا تتجاوز نصف سرعة الصوت، لتستعمل في لبنان، ضد أحدث طائرات. وقد عنى هذا الواقع، أن النظام السياسي، قبَيل الحرب الأهلية اللبنانية، لم يكن يرغب في تقوية الجيش اللبناني. حتى إن بيار الجميل، رئيس حزب الكتائب، آنذاك، أعلن في البرلمان اللبناني، ضرورة تحويل جزء كبير من ميزانية الجيش، إلى الخدمات العامة، بدلاً من النفقات العسكرية. بل إن الجيش اللبناني، تعرّض لهزات متتالية، كان لها أعمق الأثر في التمهيد للحرب الأهلية. من أهمها:

  1. محاكمات ضباط "المكتب الثاني"، (الاستخبارات).
  2. محاكمات بعض القيادات، نتيجة تلقّيها رشاوى وعمولات، في بعض صفقات الأسلحة، وهو ما فتح المجال أمام القيادات السياسية، لتوجيه الانتقادات إلى الجيش اللبناني، على الرغم من أن هذه المحاكمات اتخذت صيغة التطهير الذاتي.
  3. حملات التشهير والتشكيك، التي رافقت وتلت أحداث بيروت 1973، وصيدا 1975.

       وهكذا، يمكِن القول، إن الجيش اللبناني، قد أصبح، قبْل الحرب الأهلية وأثناءها، شراذم بين مختلف الانتماءات الطائفية. وكشف تقرير لمساعد رئيس الأركان، استحالة استخدام الجيش، كوحدة متماسكة، أثناء الحرب، لأنه سيصبح "جيشاً لفريق أو لطائفة، وليس جيشاً لدولة". وترك انحياز الجيش آثاره في العسكريين، وهو ما دفع الملازم الأول أحمد الخطيب، في 21 يناير 1976، إلى إعلان تمرده، مع عدد من الجند، على قيادته، التي انحازت إلى جانب الموارنة، وتكوينه جيش لبنان العربي، بعد ذلك بثلاثة أيام. وقد قوبلت حركة الخطيب بقدر غريب من السطحية، في البداية، خاصة أن عدد العسكريين، الذين كانوا معه، كان محدوداً جداً، على الرغم من إعلان بعض الضباط الانضمام إليه، مثل قائد ثكنة بعلبك وجنوده.

       وارتأت القيادة المارونية، أن حل مشكلة هذا التمرد، يكمن في التحكم في الرواتب، فاحتجازها سوف يجعل الجند، ينفضون من حول أحمد الخطيب، مما يضطره إما إلى التسليم، أو المحاكمة، أو الفرار خارج لبنان. وقد انطلقت هذه النظرة من أن الموارنة يمثلون السلطة الحاكمة، والقوة الوحيدة، وهو ما افتقر إلى الصحة. فقد وجدت "القوات المشتركة"، التي تمثل الحركة الوطنية ـ الفلسطينية، في حركة الخطيب، ظاهرة بالغة الدلالة، إذ أثبتت عدم وقوف الجيش اللبناني كله وراء الموارنة، بل إنه كان منقسماً على نفسه، مما سيحُول دون دوره المحتمل في ضرب المقاومة.

       لذا، قررت "القوات المشتركة" تقديم الدعم المالي إلى أحمد الخطيب، لصرف رواتب جنده. وأغرى صعود جيش لبنان العربي وقدرته على دفع الرواتب، قوات كثيرة بالالتحاق به. وحاولت "الكتائب" الادعاء أن ليبيا، هي التي دفعت الأموال إلى الخطيب، ولكن التمويل كان من داخل لبنان.

       وأمام تعاظم دور جيش لبنان العربي، اتفق على تغيير قيادة الجيش اللبناني. فعُيِّن العماد حنا سعيد قائداً له. وأُعطي العسكريون المتمردون مهلة، للعودة إلى الجيش، من دون عقوبة. ولكن تشدد سليمان فرنجية، زاد المشكلة تعقيداً، إذ رفض العفو عن العسكريين، الذين تركوا الجيش: "تُقطع يدي، ولا أوقّع مثل هذا المرسوم. فكل الذين فروا من الجيش، والتحقوا بحركة أحمد الخطيب، يجب أن يحاكموا، وتصدر ضدهم أقصى العقوبات، ليكونوا عبراً لكل من تسوّل له نفسه التمرد والفرار من الجيش". بينما رأى قائد الجيش ضرورة إعطاء الأولوية لإعادة بناء المؤسسة العسكرية، وضمان وحدتها. الأمر الذي عدَّه فرنجية تمرداً عليه من القيادة.

       أسفر موقف رئيس الجمهورية عمّا عرف بحرب الثكنات. فأعلنت ثكنة صربا العسكرية، قرب جونيه، تمردها، وهاجم جنودها قاعدة جونيه البحرية وسريتها الأمنية، ومحطة كميل شمعون الكهربائية، واستولوا على الأسلحة. وتوالى تمرد الثكنات، وأغلبها أعلن انضمامه إلى جيش لبنان العربي. فانهار الجيش اللبناني، إذ سقطت، في يوم واحد، 10 مارس 1976، 17 ثكنة من ثكناته، البالغة 21 ثكنة في أيدي "الحركة الوطنية". وتوزعته ثلاثة اتجاهات: قوة انضمت إلى "الحركة الوطنية"، وأخرى إلى "القوات اللبنانية"، (اليمينية)، وقوة ثالثة، حاولت الحفاظ على بقايا الجيش.

       وإزاء تهافت الثكنات، رفع 250 ضابطاً، في 10 مارس، مذكرة إلى العماد حنا سعيد، قائد الجيش، آنذاك، سموها "وثيقة شرف"، طالبوه فيها بمحاكمة جميع العناصر، الذين خرجوا على قوانين الجيش وأنظمته وتقاليده، من دون تمييز أو استثناء. وكان رد قائد الجيش نداءً إلى العسكريين، يؤكد فيه موقفه السابق، ضرورة العفو عن العسكريين الفارين، وأن الجيش يفتح ذراعيه لأبنائه العائدين، وأن قيادة الجيش، ترى أن الجيش اللبناني هو:

  1. جيش لجميع اللبنانيين، لا فضل لعسكري على آخر، إلا بمقدار ما يقدمه من بذل وتضحية.
  2. جيش للدفاع عن كرامة الوطن، والذود عن حدوده، ضد العدوّ الجاثم بها.
  3. الجيش الذي يتحسس واجبه تجاه لبنان العربي، الذي حددته "الوثيقة الدستورية، التي أعلنها رئيس الجمهورية".

       وبدل أن يبادر سليمان فرنجية إلى إنقاذ الموقف، إذا به يعزل كل قيادة الجيش. فرأى كل الأطراف ضرورة عزل فرنجية، الذي يمثل عقبة حقيقية دون إنقاذ لبنان. وسادت القناعة العامة بضرورة انقلاب عسكري، يعزل رئيس الجمهورية، وينقذ الجيش اللبناني. وإذا بالعميد عزيز الأحدب، يعلن انقلاباً، مساء 11 مارس، ويطالب في بلاغه الأول باستقالة رئيس الجمهورية. ووضح أن قيادة الجيش اللبناني، لم تكُن ضد الانقلاب، وإنْ لزمت حياله الصمت. أمّا كمال جنبلاط، فأعلن، بوضوح، أنه ضد أي انقلاب عسكري. وردّ سليمان فرنجية بدفع أحد ضباطه، العقيد أنطوان بركات، إلى إعلان انقلاب مضادّ، يدعم رئيس الجمهورية.

       واتضح أن الانقلاب واحد، والانقلابيين كثُر. فالعميد موسى كنعان، مساعد رئيس الأركان، أعد انقلاباً، وهو الرجل القوى في الجيش اللبناني، وكان وزيراً للإعلام في الوزارة العسكرية، بل رئيسها الحقيقي، وله علاقات وثيقة بعدد من الدول، أبرزها الولايات المتحدة الأمريكية. كما كان على اتصال بالمقاومة الفلسطينية، ولا سيما "فتح". كذلك، فكر الضباط الدروز في الجيش اللبناني، في تنظيم مظاهرة عسكرية، لإقالة فرنجية، من دون الاستيلاء على الحكم، شرط أن تحظى برضى قائد الجيش، حنا سعيد. حتى قيادة الجيش اللبناني، عرضت على سورية، يوم انقلاب الأحدب، وأثناء وجود عبدالحليم خدام في بيروت، الذي كان يرى أن فرنجية عدوّ نفسه ـ أن تضطلع هي نفسها بانقلاب. أما المقاومة الفلسطينية، فكانت ترى أنه إذا كان لا بدّ من انقلاب، فليكُن في اتجاه مؤيد لها، أو على الأقل، ليس من القوى المعادية. وفي هذه الأجواء، وقع انقلاب عزيز الأحدب، الذي توجّه في سيارة مدنية، إلى مبنى التليفزيون، ليذيع بيانه، وكان يؤمّن له الطريق، "أبو حسن"، أحد مرافقي ياسر عرفات. وهو ما أثار شبهة أن تكون المقاومة، هي التي دبّرت الانقلاب.

       رفض سليمان فرنجية الاستقالة، متذرعاً بالحفاظ على الشرعية، وأن السلطة الوحيدة، صاحبة الحق في إقالته، هي مجلس النواب. وفي 13 مارس 1976، رفع 66 نائباً أي ثلثا مجلس النواب، إلى رئيس الجمهورية، عريضة تطالبه بالاستقالة، فرفضها. فعمدت حركة أحمد الخطيب وحركة عزيز الأحدب، إلى توحيد موقفَيهما من سليمان فرنجية؛ إذ رأتا أنه لا بدّ من استخدام القوة، التي تفتقر إليها حركة الأحدب، بينما حركة أحمد الخطيب تملكها. ولدى تحرُّك قوات جيش لبنان العربي نحو القصر الجمهوري، في بعبدا، لعزل فرنجية، فوجئت بحواجز الصاعقة السورية في طريقها.