إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / الحرب الأهلية اللبنانية






مواقع المخيمات الفلسطينية
مواقع المخيمات الفلسطينية
لبنان - التوزيع الطائفي
الجمهورية اللبنانية
تعداد الفلسطينيين بلبنان
جنوب لبنان



المبحث الثاني

المبحث الثاني

بِنية النظام اللبناني، وأثرها في إذكاء الحرب الأهلية

       وسمت الدولة اللبنانية خصوصية نظامها السياسي، بسِمات، كان لها أعمق الأثر في مسار الحرب الأهلية.

أولاً ـ سمات النظام اللبناني

       اتسم النظام اللبناني، منذ عام 1864، بملامح رئيسية، باتت متأصلة فيه. وكان لها أثر عميق في مجريات الحرب الأهلية اللبنانية. لعل أبرزها:

1. حُكم كونفدرالي، بقيادة البيروقراطية المسيحية

تطور النظام المِلِّي العثماني، في اتجاه بسط مفاهيمه على الطوائف الإسلامية، إضافة إلى الطوائف الأخرى، الخاضعة لأحكامه، منذ زمن مبكر. ومن ائتلاف الطوائف داخل نظام واحد، انبثق نظام طوائفي، سياسي، كونفدرالي، تتمتع فيه بنوع من الحُكم الذاتي، وتحكمها جميعاً قيادة، خاضعة، غالباً، لتأثير البيروقراطية المسيحية. كان معظَم المناصب الإدارية، في عهد المتصرفية، للمسيحيين. ومرد هذه الظاهرة، ليس إلى رغبة المتصرف العثماني في إرضاء المسيحيين، وضمان ولائهم للباب العالي فحسب، بل إلى كون الموارنة، قد تمكنوا، منذ عام 1854، من إنشاء معهد لبناني، في روما، عاد خريجوه إلى لبنان، رهباناً. "وطفقوا ينشئون المدارس في القُرى، لنشر التعليم بين أبنائها. وأصبح بعض هذه المدارس، بإدارة الآباء اليسوعيين وسواهم من الإرساليين، مراكز تربوية ذات شأن، تزوّد الأمراء الشهابيين بالكَتَبَة والمعاونين. و هكذا، نشأت، على مر الأيام، طبقة من المتعلمين المورانة، تبوأت أعلى المناصب في الحياة العامة، وأملت، في الكثير الغالب، سياسة الإمارة الشهابية".

2. ترابط الإقطاعية والطائفية

احتفظت الطبقة الإقطاعية بسلطتها ونفوذها السابقَين، على بروتوكول 1864، الذي عزز، بدوره ارتباطها المصلحي بالطائفية، بأن وزع مناصب مجلس الإدارة ووظائف الإدارة عامة، على الزعماء الإقطاعيين، وفق نسب طائفية محسوبة، ومتفاوتة.

وبتفاعلها مع الطبقة الإقطاعية، تطورت الطائفية، في ظل هذا النظام، إلى بناء فوقي، أيديولوجي وسياسي، للتركيب الاقتصادي القائم.

3. تحالف البيروقراطية والتجار

ازدهرت، خلال عهد المتصرفية، صناعة الحرير اللبناني. وأصاب المتّجرون فيها ثراء كبيراً، مما حداهم على التفتيش عن أسواق لها، في الجوار، وما وراء البحر. وفي الوقت نفسه، أحست البيروقراطية الحاكمة، بأن انحباس لبنان في سنجق المتصرفية، أي جبل لبنان، يهددها بالاختناق الاقتصادي، نظراً إلى ضآلة موارد الجبل. وهكذا، توافقت البيروقراطية والتجار على أن سهل البقاع، ومناطق صيدا وطرابلس، هي متنفَّس لاقتصاد لبناني آخذ في التوسع، من دون أن يكون له أساس، يحميه من التقلبات والسقوط.

وإذا كانت رقعة النظام الطائفي اللبناني، قد وسِّعت إلى الحدود المعلنة عام 1920، في إطار هذا التفكير، وباقتناع سلطات الاستعمار الفرنسي، الراغبة في توفير قواعد ثابتة لمجموعة الدويلات الاعتباطية، التي أوجدتها في سورية، فإن تحالف البيروقراطية الحاكمة، مع التجار وأصحاب المصالح، الذين رأوا في البلاد العربية المجال الطبيعي لنشاطهم الاقتصادي، قد أدى إلى تخطي بعض حواجز الانعزالية التقليدية، وإلى جعل الاستقلال السياسي ممكناً، عام 1943، من خلال ما سمي "الميثاق الوطني".

ومع تدفق عوائد النفط العربية، في مطلع الخمسينيات، وثّقت البيروقراطية الحاكمة تحالفها مع التجار ورجال قطاع الخدمات، فسنّت التشريعات اللازمة لتوسيع القطاع المصرفي، وقطاع الخدمات بشكل عام. كل ذلك مقابل دعم الطبقة الرأسمالية لقادة النظام في سياستهم، الساعية إلى الاحتفاظ بلبنان وسيطاً، في عملية النهب الأجنبي لموارد البلاد العربية.

4. ترسيخ الانفصال

من بروتوكول 1864 إلى ميثاق 1943، مروراً بالانتداب الفرنسي، وامتداداً إلى عهد الرئيس فؤاد شهاب، كانت سياسة النظام الطائفي حريصة على الاحتفاظ بتمييز الكيانات الفئوية (الطائفية وغيرها)، داخل الائتلاف الكونفدرالي، الذي حكم لبنان طيلة هذه العقود. فمن مجلس إدارة لبنان، في عهد المتصرفية، إلى المؤسسات "الدستورية"، في عهد الانتداب الفرنسي، إلى مختلف تشريعات عهود الاستقلال، بعد 1943، رُسخت الطائفية، على الصعيد السياسي، بموجب قوانين أساسية، وأعراف سلوكية، لها حرمة القوانين. فعلى صعيد الأحوال الشخصية، طُوِّر النظام المِلِّي، وعُمِّقت مفاهيمه وأحكامه، وأُصدر قرار، في 13 مارس 1936، يقضي بتقسيم الطوائف إلى طوائف تاريخية، خاضعة لأنظمتها الطائفية الخاصة، وأخرى عادية، خاضعة لأحكام القانون المدني.

واقتدى العهد الاستقلالي الأول بالانتداب الفرنسي، في تعميق الانفصال بين الطوائف وترسيخه، بإصداره قانون 24 فبراير 1948، الخاص بالأحوال الشخصية للطائفة الدرزية؛ وقانون 2 أبريل 1951، الخاص بتحديد صلاحيات المراجع المذهبية المسيحية، ومرجع الطائفة الإسرائيلية. وتماشياً مع سياسة تعزيز الكيانات الفئوية، داخل الائتلاف الكونفدرالي، صدر، في العهد الشمعوني، المرسوم الرقم 18، في 13 يناير 1955، المعدل بموجب القرار الرقم 5، الصادر في 2 مارس 1967، والقاضي بإعطاء المسلمين السُّنة استقلالاً تاماً، في شؤونهم الدينية، وأوقافهم الخيرية، فيتولون هم أنفسهم تشريع أنظمتهم وإدارتها، ويكون مفتيهم هو الرئيس الديني للمسلمين، وممثلهم لدى السلطات العامة. وساوى عهد شارل حلو المسلمين الشيعة بالمسلمين السُّنة، بإعطائهم الاستقلال عينه، في شؤون الدين والأوقاف، بصدور القانون الرقم 72، في 19 ديسمبر 1967.

ولم تقف سياسة التشتيت الفئوي عند هذه الحدود، بل تعدتها إلى الحق النقابي، إذ أصبح للمهنة الواحدة غير نقابة، وإلى الحقل التربوي، فتمكنت مؤسسات التعليم، الأجنبي والطائفي، على حساب التعليم الرسمي، وسائر المؤسسات الوطنية. الأمر الذي أدى إلى تخريج أجيال من الشباب، متمايزة في تنشئتها التربوية، متنافرة في تطلعاتها الوطنية، متناقضة في علاقاتها الاجتماعية.

ثانياً: تناقضات الوضع اللبناني

       تفاعلت عوامل التركيب الفئوي، والإقطاع، والتدخل الأجنبي، والصعود المبكر للبيروقراطية المسيحية، والمخططات الفرنسية لبَلْقَنة سورية، ومؤسسات التبشير الأجنبية، وتحالف البيروقراطية مع التجار، والمخططات الأجنبية ـ تفاعلت هذه العوامل جميعاً، لتفرز وضعاً خاصاً، يبحث، دائماً، عن استقراره، عبْر توازن القوى المتصارعة داخل النظام. فبدا، بوضوح، أن معضلة لبنان الأولى، تتمثل في غياب الوحدة الوطنية العضوية، أي الوحدة المجتمعية، التي تتجاوز، في مفهومها ونتائجها، الوضع الفسيفسائي اللبناني، بكل ما ضم من طوائف وفئات وطبقات وقوى متصارعة.

       وقد زاد خطر هذه المعضلة، أن لبنان لم يستطع، لكونه جزءاً من المنطقة العربية، أن يتفادى موجة التحرر القومي الثوري. كل ذلك، فرض على لبنان أن يواجِه تحدي الهوية القومية، والانتماء المصيري، في وقت كانت مؤسساته السياسية، ولا تزال، تشكو تخلفاً، لا تقوى معه على مواجَهة رياح التغيير.

       ورافق المعضلة السياسية، نشوء معضلة اجتماعية ـ اقتصادية، ناجمة عن عوامل، ديموجرافية واقتصادية.

       فعلى الصعيد الديموجرافي، أدى نزوح الريفيين إلى المدن، وتحشدهم فيها، خاصة في بيروت، إلى نشوء قطاعات سكانية مدينية واسعة، معرضة لشتى وسائل التواصل (الإعلامي وغيره) والتوجيه العقائدي والسياسي، مما أدى إلى اتساع دائرة الجماهير المتطلعة إلى ممارسة دور في النشاط السياسي. ثم إن عملية التمدن، لم تؤدِّ إلى اندماج الفئات والجماعات المتمايزة، بل عززت مشاعر العزلة والتباعد. كل ذلك أفضى إلى نشوء حالة من التوتر وعدم الاستقرار، سببها عجز المؤسسات السياسية عن استيعاب الحقائق والتطورات الجديدة، من جهة، وعدم قدرتها على أن تكون متنفساً، للقطاعات السكانية الأكثر وعياً، والأكثر رغبة في التحرك والفعل السياسيَّين، من جهة أخرى.

       أمّا على الصعيد الاقتصادي، فقد أدت سياسة التبعية للغرب إلى إعطاء  لبنان دور الوسيط، بين الاحتكارات الرأسمالية العالمية (شركات النفط الخاصة) والبلدان العربية، ذات الموارد الطبيعية الضخمة، والأسواق الاستهلاكية الواسعة. ولقد كان ذلك من أبرز الأسباب، التي أدت إلى تضخم القطاعات المنتجة للخدمات (68 بالمائة من الدخل الوطني)، على حساب القطاعات المنتجة للسلع  (32 بالمائة من الدخل الوطني). وأدى تقلص ودائع النفط العربية، وتناقص تحويلات المغتربين المالية، في منتصف الستينيات، إلى حدوث اختلال في القطاع المصرفي (أزمة بنك أنترا، عام 1966). كما أن حرب يونيه 1967، وما أعقبها من مناوشات واضطرابات، خارجية وداخلية، أضرّا بالقطاع السياحي، وقلصا إسهامه في الدخل الوطني. وبالنظر إلى النمو البطيء، نسبياً، في قطاعَي الزراعة والصناعة، فإن الاقتصاد اللبناني، واجَه صعوبات جمة، ليس أقلّها مشكلة البطالة، التي رأى بعض خبراء الحكومة، في وقت مبكر، أنها ستفضي، في المستقبل غير البعيد، إلى جعل ثلث القوة العاملة اللبنانية عاطلة عن العمل، وإلى تفاقم الصراعات، الطبقية والفئوية والإقليمية، بسبب تفاوت الدخول، وانحصار الرخاء في قِلة ضئيلة من الناس.

ثالثاً: تأثير النظام في الحرب الأهلية اللبنانية

       كان للنظام السياسي اللبناني دور مهم في إذكاء حدّة الحرب الأهلية اللبنانية، وذلك لترسيخه مبدأ الطائفية. إذ نشأ على أساس "توزيع السلطة السياسية بين الطوائف المختلفة"، فيكون رئيس الجمهورية مسيحياً مارونياً، ورئيس الوزراء مسلماً سُنياً، ورئيس مجلس النواب مسلماً شيعياً. أما مجلس النواب، فتكون الأغلبية فيه للمسيحيين، بنسبة 6 إلى 5. ومن ثَم، فإن العدد الإجمالي للنواب، يكون قابلاً للقسمة على الرقم 11 (وقد كان عدد مقاعد مجلس النواب، في البداية، 44 مقعداً، ثم 99 مقعداً). وكذلك، تتوزع الطوائف المناصب الكبرى، الحكومية والإدارية والعسكرية. كما أن الأحزاب اللبنانية الرئيسية، اتسمت، في الفترة التي تلت الاستقلال، بأنها تجمعات طائفية.

       أما "الميثاق الوطني"، إحدى الدعامتَين، اللتَين نهض عليهما النظام اللبناني، فيمكِن القول إنه لم يكُن "وطنياً" بقدر ما كان "طائفياً". فغير صحيح أنه أنشأ دولة علمانية، أو علاقات سياسية  علمانية في لبنان، بل رسّخ الطائفية، وجعل التعبير السياسي يمر، أساساً، عبْر قنواتها، كما رسّخ سلطة الزعماء العشائريين في مناطقهم. وهكذا، بدلاً من أن تصبح المؤسسات السياسية، أداة لتغيير الوضع الطائفي، أمست قوة لتدعيمه وتكريسه. ومن الميثاق، انبثقت مصطلحات، مثل المسيحية السياسية، والإسلام السياسي، بمعنى وجود فئة من السياسيين العشائريين، الذين ترتبط مصالحهم بانقسام المجتمع إلى طوائف متميزة، ويعملون على تعميق هذا الانقسام، وتأكيد استقلال الكيانات الطائفية، من خلال المؤسسات السياسية القائمة.

       ولم يقتصر الطابع الطائفي على العلاقات بين الطوائف بعضها ببعض، بل تغلغل داخل كل طائفة، على حِدَة؛ إذ إن الوظائف الحكومية، توزَّع على أساس طائفي، فكان أبناء كل طائفة، يتصارعون حول نصيبها من تلك الوظائف.

       ودستورياً، لم يكن النظام اللبناني نظاماً نيابياً، ولا نظاماً رئاسياً، وإنما هو خليط من النظامَين، وإنْ غلب عليه، من الناحية الواقعية، سمات النظام الرئاسي، إذ يُعَدّ رئيس الجمهورية، من الناحيتَين، النظرية والعملية، هو الشخص المسيطر في النظام، وينتخب لمدة ست سنوات، غير قابلة للتجديد، بوساطة مجلس النواب، بأغلبية الثلثَين، في أول اقتراع. فإذا لم يحصل أحد المرشحين على هذه النسبة، يكون انتخابه، في الاقتراع الثاني، بالأغلبية المطلقة.

       ويعيّن رئيس الجمهورية رئيس الوزراء. وله أن يدعو مجلس النواب إلى جلسة استثنائية. وبموافقة مجلس الوزراء، يستطيع أن يحل المجلس النيابي. كما يشارك في السلطة التشريعية، من خلال حقه في الاعتراض على القوانين، فإذا اعترض على تشريع ما، يعاد إلى مجلس النواب، الذي يعدله، أو يعيد التصويت عليه، وفي هذه الحالة، يحتاج  التشريع إلى أغلبية الثلثَين. وتشير التجربة العملية إلى سيطرة الرئيس على مجلس النواب، خاصة إذا أدخلنا في الحسبان الوضع الطائفي، ووجود أغلبية مسيحية فيه. ومع كل هذه السلطات، فإن الرئيس، ليس مسؤولاً أمام المجلس النيابي، وإنما تنحصر المسؤولية في رئيس الوزارة وأعضائها.

       ومن متابعة علاقة الوزارة بمجلس النواب، يمكِن تبيّن الضعف النسبي لدور المجلس. فالوزارة تتغير، عادة، على أثر خلاف مع رئيس الجمهورية، وعدم رضائه عن نشاطها، وليس لسحب المجلس النيابي ثقته منها. وفي الفترة ما بين 1926 و1964، شهد لبنان 46 وزارة. ومن ثم، يكون متوسط عمر الوزارة أقلّ من 8 أشهر.

وعلى مستوى الأحزاب، اتّسم النظام الحزبي اللبناني بعدد من السمات، منها:

  1. التعدد الحزبي.
  2. الطابع الفردي للأحزاب، ونشؤوها من الأوضاع العشائرية السائدة، ليكون مصدر القيادة هو الوضع الأُسَري، والانتساب إلى أُسَر ذات نفوذ عشائري، أو إقطاعي، أو إقليمي، قوي.
  3. توارث الأُسْرة الواحدة قيادة الحزب: طوني فرنجية ابن الرئيس سليمان فرنجية، وأمين الجميل ابن بيار الجميل، ووليد جنبلاط ابن كمال جنبلاط.
  4. عدم وجود حزب أغلبية في مجلس النواب.
  5. عدم مشاركة الأحزاب في صنع السياسة، فالأحزاب لا تمارس دوراً مهماً في العملية السياسية، نظراً إلى المعايير، التي يفرضها الوضع الطائفي، بالنسبة إلى اختيار النواب.

       بيد أن أحزاباً حديثة النشأة، ذات طابع يساري، أو علماني وطني، أخذ دورها، منذ بداية الستينيات، يتزايد وذلك لسببَين:

       أولهما، مخاطبتها الجماهير مباشرة. ومن ثَم، أجبرت الزعماء التقليديين على أن يحذوا حذوها، خوفاً على نفوذهم من الضياع.

       ثانيهما، مبادرة بعض الأحزاب، ذات الطابع الأيديولوجي، كالحزب القومي السوري، وحزب البعث، والحركات الاشتراكية، إلى طرح قضايا الصراع الاجتماعي، وفرضها على العملية السياسية.

والخلاصة، أن من أهم سمات النظام السياسي اللبناني:      

  1. عدم استقرار سياسي، تمثل في قِصر متوسط عمْر الوزارة.
  2. أوليجارشية النخبة الحاكمة. ويتضح ذلك، عدداً، في قِلة عددها، بالنسبة إلى عدد المناصب الوزارية؛ ونوعاً، في أنها ترمز إلى الزعامات العشائرية والإقطاعية. ففي الأربعينيات، وحتى منتصف الخمسينيات، استأثر كبار ملاّك الأراضي بأغلبية المقاعد النيابية. غير أنهم نقلوها، في الستينيات، من "العِبّ للجيبة"، إذ طغى على المجلس النيابي المهنيون، وأبناؤهم وأبناء الأُسَر العريقة.
  3. محدودية المشاركة السياسية، إذ لم يمارس حق الانتخاب، قبْل الحرب الأهلية، سوى 32 بالمائة من الذين يملكونه.
  4. الطابع الطائفي للنظام السياسي، والعلاقات السياسية السائدة فيه، حتى إنه لا يمكن تسميته مجتمعاً تعددياً؛ إذ التعددية، تتضمن توزيع القوة السياسية بين عدد من الجماعات والتنظيمات، ترتبط فيما بينها بعدد من الولاءات المشتركة، ووجود اتفاق عام بينها، يعبّر عن الرضاء العام في المجتمع.

رابعاً: تصاعد أزمة النظام، ومدى إسهامها في  بلورة مناخ الحرب

       وصل لبنان، في مايو 1973، إلى شفا حرب أهلية. وذلك بعد وفاة الرئيس فؤاد شهاب، حين حدثت مواجهة ساخنة بين النظام وخصومه. ولوحظ تنامي أسلوب الاحتكام إلى العنف بين الفريقَين. زد على ذلك أن الرئاسة الأولى، استأثرت بقضية السيادة، فتصدت لعدد من المواقف، وأخذت مبادرات مهمة، بمعزل عن رئاسة الوزارة. وفي المقابل، تصاعد السخط من قِبل بعض القيادات الإسلامية، إلى احتجاج صارخ على ما رأته اختلالاً في التوازن، الوطني والديموقراطي، في مصلحة فئة معينة.

       وعلى صعيد الفكر السياسي، برز اتجاه جديد في صفوف خصوم النظام، أصبح لا يرضيه الاكتفاء بالقول إن الطائفية هي مجرد قناع، يستعمله أهل النظام، لحجب الصراع الطبقي، بل بات مسلِّماً بأن المسألة الطائفية، في أساسها، هي مسألة اضطهاد طائفي. وليس الشباب، وحده، هو الذي طرح مسألة الاضطهاد الطائفي. بل إن قائد الحركة الوطنية نفسه، أخذ يضرب على أوتار مشابهة. ففي تعليقه على بيان الرئيس تقي الدين الصلح، لطلب الثقة بحكومته، وقف كمال جنبلاط في المجلس النيابي، يطالب بالمساواة بين الطوائف، أو إلغاء الطائفية.

       وبعد أحداث مايو 1973، وعلى أثر اغتيال ثلاثة من قادة المقاومة الفلسطينية، مما أدى إلى استقالة حكومة صائب سلام، وإزاء كلام جنبلاط، وتصريحات غيره من القادة ـ شعر اللبنانيون أنهم أصبحوا، فعلاً، على مفترق طرُق.

       وقد ساء الفريق المتشدد في المارونية السياسية، تنامي قوة المقاومة الفلسطينية، وتضامن "الحركة الوطنية اللبنانية" معها. ورأى أن هذه العلاقة بين القوَّتين، هي "خلل في ميزان القوى الداخلي، يستوجب الاحتكام إلى السلاح". وهو ما تجلى في حادثة 13 أبريل 1975، التي أطلقت شرارة الحرب الأهلية اللبنانية.

       وحاولت سورية، بتدخّلها، أول الأمر، من خلال مؤتمر القمة العربي الثامن، المنعقد في القاهرة، في 25 أكتوبر 1976، أن تطفئ نيران الحرب الأهلية، بالإتيان بشخصية معتدلة، ومقبولة من معظم الأطراف (الرئيس إلياس سركيس)، لتولّي مقاليد الحكم، على أن تتولّى قوات الردع العربية (معظمها وحدات سورية)، نزع السلاح من أيدي جميع اللبنانيين. ولكن الرئيس سركيس، رفض هذا التدبير، بدعوى أنه لا يجوز نزع سلاح "الجبهة اللبنانية"، إلا بالتزامن مع تطبيق اتفاق القاهرة، أي نزع سلاح المقاومة الفلسطينية، كذلك. وقد تعذر، لأسباب عديدة، تحقيق رغبة الرئيس سركيس.

       وإذ تنامت قوة المقاومة الفلسطينية، في الجنوب اللبناني، مع اقترانها بنزوع قيادة منظمة التحرير الفلسطينية إلى التجاوب مع المساعي، العربية (قمة فاس)، والدولية، لدخول المفاوضات، من أجل تقرير مصير الضفة الغربية وغزة ـ لجأت إسرائيل إلى الحرب، لتدمير البنية العسكرية لمنظمة التحرير الفلسطينية، في محاولة لإلغاء وزنها السياسي، وإحباط مساعي التفاوض، ولإيجاد وضع سياسي جديد في لبنان، يباعد بين طوائفه، ويمهد تقسيم البلاد إلى دويلات مذهبية. ولعل أبرز ما أفرزه الاحتلال الإسرائيلي لثلث لبنان، هو اتفاق 17 مايو 1983، الذي أريد له أن يحل محل اتفاقية الهدنة لعام 1949. ولكن مقاومة القوى الوطنية اللبنانية، ومعارضة سورية القوية، منعتا الحكومة اللبنانية من إبرامه، بل حملتاها على إلغائه، كشرط مسبق لانعقاد مؤتمر الحوار الوطني، في لوزان، في سويسرا، في 12 مارس 1984.