إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / الحرب الأهلية اللبنانية






مواقع المخيمات الفلسطينية
مواقع المخيمات الفلسطينية
لبنان - التوزيع الطائفي
الجمهورية اللبنانية
تعداد الفلسطينيين بلبنان
جنوب لبنان



الفصل الرابع

الفصل الرابع

البُعد الإقليمي للحرب الأهلية اللبنانية

       عكست فترة منتصف السبعينيات مناخاً إقليمياً متفجراً، مهد لإثارة الحرب الأهلية اللبنانية، خاصة أن الأوضاع العربية، آنذاك، كانت قد بلغت درجة عالية من التوتر.

       ففي 18 يناير 1974، وُقِّع اتفاق الفصل بين القوات، على الساحة المصرية. وإبّان توقيع اتفاق الفصل بين القوات، على الجبهة السورية، في 31 مايو 1974، كانت بذور الخلاف، قد برزت على الساحة السياسية. وكان الواضح من حملات الحرب الإعلامية، أن هناك دعوى، بأن سورية تتعرض لضغط كبير لتوقيع الاتفاق. وقد اشترك في الاتصالات مع الولايات المتحدة الأمريكية، كلٌّ من مصر والمملكة العربية السعودية. والتقى وزير الخارجية الأمريكي نظيره السوفيتي، في دمشق. وأصبح واضحاً أن هناك تيارين، أحدهما يمضي، بسرعة، نحو التسوية، بينما الآخر يتعثر. وما لبث الشقاق أن وقع بينهما.

       ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ، فإن اتفاق سيناء، الذي كان سيوقع في مارس 1975، ولكن فشل الاتصالات، في آخر لحظة، أجّل توقيعه إلى سبتمبر، قد زاد من فجوة الخلاف. إذ كان واضحاً استحالة الوصول إلى اتفاق جديد، على الجبهة السورية.

       ثم أضيف إلى ذلك الخطوات المتخذة، لفتح قناة السويس، التي رفضها كلٌّ من سورية ومنظمة التحرير الفلسطينية، في يونيه 1975، وأثارت جدلاً حادّاً بين مؤيد، يراها مصدر دخل، ودليلاً على حسن النيات؛ ومعارض، يرى أنها شروط مفروضة على مصر.

       وقد وصلت حدّة الموقف بين مصر من جانب، وسورية ومنظمة التحرير الفلسطينية من جانب آخر، إلى درجة تجاوزت حدود الخصام السياسي، إلى ما يشبه القطيعة، في ظل حرب إعلامية ساخنة. وكان الفلسطينيون يخشون، أن يفرض عليهم، في المستقبل، بمقتضى الاتفاق، أن يقبلوا العمل وفق الالتزامات الأمريكية لإسرائيل، وهي التزامات لا تترك للمنظمة شيئاً، تستطيع المناورة، بل الحركة، في إطاره؛ بل تفرض عليها، إن أرادت، أن تتنازل عن كل شيء، مقابل وعد بدعوتها إلى مؤتمر جنيف.

       اعتقد بعض المقتنعين بحتمية نجاح جهود السلام، آنذاك، أن الموقف الفلسطيني المعارض، كان يشكل العقبة الرئيسية، وربما الوحيدة، التي تحُول دون انعقاد مؤتمر جنيف. وترجمة ذلك، لبنانياً، أن موقف المقاومة المعارض، كان هو العقبة في سبيل مؤتمر جنيف، الذي أمل الموارنة، من خلاله، أن يتخلصوا من الوجود الفلسطيني. لذلك، كان لا بدّ من استنزاف المقاومة، على أساس أن أي تصادم في لبنان، لن يؤدي إلى إرهاق المقاومة وتجريدها من معظم أسلحتها فحسب، وإنما إلى التضحية، كذلك، بعشرات الآلاف من الفلسطينيين.

       واستشعر الفلسطينيون بوادر الخطر المحدق بهم؛ إذ كان لا بدّ من وجودهم، لإعطاء الشرعية أي اتفاق نهائي. ولكن ما كيفية هذا الوجود؟ فالأردن، بتأييد عربي، رأى أنه هو طرف المباحثات للتسوية، ثم يأتي الدور الفلسطيني. ثم إن معالجة القضية، ستنطلق من قرار مجلس الأمن، الرقم 242، الذي نظر إلى الفلسطينيين من زاوية أنهم لاجئون، وهو ما رفضته منظمة التحرير الفلسطينية. وهكذا، برز دور المنظمة، في عرقلة اتفاق محتمل، يعارض الأهداف الفلسطينية. وكان طبيعياً، أن ينتهز موارنة لبنان هذه الفرصة النادرة لضرب المقاومة الفلسطينية.

       واستكمالاً لملامح الصورة، لا بدّ من إلقاء نظرة على خريطة العالم العربي، تكون أكثر شمولاً، وأبعد مدى، من دائرة القضية الفلسطينية والمواقف منها. ويمكن القول إن بدايات الحرب الأهلية اللبنانية، عام 1975، قد تبلورت، في ظل الوضع التالي للعالم العربي:

  1. حرب إعلامية، وحشود عسكرية، بين العراق وسورية، بسبب الخلاف في توزيع مياه نهر الفرات.
  2. الحرب الإعلامية، بين مصر وليبيا، التي وصلت إلى درجة التشاتم، عبْر الإذاعات، على الرغم من أن ليبيا، كانت تمثل العمق الإستراتيجي لمصر، زمن الحرب.
  3. الخلافات، بين مصر وسورية، في شأن التحرك نحو التسوية السياسية.

       وقد ذكرت النشرة الإعلامية الأسبوعية، لمكتب وزير الإعلام المصري، أن هذه الخلافات الرئيسية الثلاثة، تقلّل من قدرة العمل العربي على الحركة.

       وارتبط ذلك بتحرك الأردن ضد قرار مؤتمر القمة العربية، في الرباط، المتعلق بشرعية منظمة التحرير الفلسطينية ووحدانيتها، في تمثيل الشعب الفلسطيني. وارتكز الأردن، في تحركه، على التهديد بعدم الاشتراك في جهود السلام، وبالتحديد في مؤتمر جنيف. ولكن الرئيس الأمريكي، جيرالد فوردGerald Rudolph Ford، أقنع الملك حسيناً بالاشتراك في المؤتمر، لأسباب تتعلق بالقانون الدولي. فبرز تناقض واضح بين دَورَي الأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية في التسوية. وزاد الأمر تعقيداً اغتيال أقوى مطالب بعروبة القدس، الملك فيصل، في 25 مارس 1975.

       وكان من أبرز ما شهده عام 1975، الوفاق الخليجي، بين المملكة العربية السعودية والعراق وإيران الشاه، الذي أعقب اتفاق العراق وإيران، في شأن الحدود بينهما، في 13 يونيه 1975. وهو الاتفاق الذي ساعد عليه وساطة سعودية ومصرية، في مؤتمر الأوبك، في الجزائر، وتأييد جزائري، في مارس من العام نفسه. بيد أن الوفاق الثلاثي، لم يحقق للمنطقة استقرارها. إذ ما إن انتهت أزمة الحدود، بين العراق وإيران، حتى بدأت أزمة الحدود بين قطَر والبحرين، إضافة إلى الثورة في ظفار، حيث ساندت قوات إيرانية ـ أردنية ـ بريطانية السلطان قابوس، بينما دعم اليمن الجنوبي قوات جبهة تحرير ظفار.

       تجسدت هذه الصراعات جميعها، على الساحة اللبنانية تجسيداً واضحاً وملموساً؛ إذ إن وجهات النظر المتعارضة بين العرب، تبدت إزاء المشكلة اللبنانية، حتى إن سليمان فرنجية قال: "إن العرب، حاربوا بعضهم على ساحة لبنان". وأسفرت عن عودة سياسة المحاور. ففي مواجهة محور القاهرة ـ الرياض، سعت سورية إلى إقامة محور دمشق ـ عمان ـ بيروت ـ الثورة الفلسطينية. وحاول كل محور كسر تحالفات المحور الآخر، واستعمل في الصراع كل أنواع الأسلحة، من ضغوط إعلامية إلى تأخير المساعدات المالية.

       وكان المعنى المباشر للتطور، الحاصل على الساحة العربية، أن تناقضاً في المصالح، برز على السطح، للمرة الأولى، منذ قيام الثورة الفلسطينية، بين منطقَي الثورة والحكم "العربي". وتولدت قناعة لدى بعض الحكام، أن استمرار "ثورية" الثورة الفلسطينية، هو عقبة في سبيل تحقيق التسوية المطروحة. وإمعاناً في تلك القناعة، لم يتردد بعضهم في الدعوة إلى الإقليمية، ورفض الثورة الفلسطينية، على أسـاس أنها عبء، لا علاقة لهم به، أو أن ما قدموه من أجْلها، هو كافٍ. وفي الوقت عينه، كان لا بدّ من عملية احتواء أو حصار للقوى القادرة على دعم النضال الفلسطيني. وقد استوعبت كل الطاقات العربية في أزمات، شغلت الحكومات بأمنها الذاتي.

       وأصدرت اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية بياناً، في 22 يونيه من العام نفسه، تكشف فيه سعي عناصر فلسطينية، مدعمة من عواصم عربية، إلى شق الساحة الفلسطينية، وخلق بديل من منظمة التحرير الفلسطينية، أو على الأقل تغيير قيادتها، التي رفضت المشاركة في مؤتمر جنيف، على أساس قرار مجلس الأمن، الرقم 242. وهكذا، باتت الساحة اللبنانية ميداناً للمعركة من أجْل التسوية، وللقضاء على المعارضة الناشطة.

       أمّا "الجبهة اللبنانية" (شمعون ـ الجميل ـ شربل القسيس ـ فرنجية)، فرأت أن الوجود الفلسطيني هو المشكلة، وأنه لا حل لأزمة لبنان، من دون خروج الفلسطينيين منه. ولم يشاركها في هذا الرأي أحد، سواء من المسيحيين غير الموارنة، أو المسلمين من غير المتحالفين مع الموارنة.

       ولا بدّ، لفهم منطق "الجبهة اللبنانية"، من التعرض للوجود الفلسطيني على الساحة اللبنانية، بمرحلتَيه، ما قبْل الثورة، وما بعدها. وهو ما حدده كمال جنبلاط، بدقة، في قوله: "إن الشعب الفلسطيني، يعيش في لبنان، في ظل رواسب، تذكره بما كان عليه قبْل الثورة في المخيمات، وبممارسات السلطة اللبنانية والمكتب الثاني، (الاستخبارات)، بوجه خاص".

       وفي مواجَهة الخوف الفلسطيني، كان هناك خوف ماروني دفين من الوسط العربي، تمخضت به عوامل تاريخية متعددة، وتصورات نفسية عميقة، حتى بات من المسلَّمات المارونية. وعززته التيارات الفكرية، التي أخذت تنشرها الثورة الفلسطينية. ورسّخ الخوف في نفوس الموارنة التبدلات الديموجرافية، التي طرأت على التوازن بين مسلمي لبنان ومسيحييه، إذ أصبحت الطائفة المارونية ثالثة الطوائف اللبنانية، بعد الشيعة ثم السُّنة اللتين أصبحتا تمثلان، مع الدروز، نسبة 56% من سكان لبنان. وسعى الأرثوذكس، بدورهم، إلى زيادة عددهم، ليوازوا الموارنة تقريباً.

       ولا شك أن الوجود الفلسطيني في لبنان، كان عامل تغيير في مجتمع، لا يريد قادتُه له أن يتغير، فهو عنصر دفْع لعوامل التحديث في البنيان اللبناني؛ إذ إن مجرد الوجود الفلسطيني على أرض لبنان، كان فتحاً لمجالات واسعة، أمام التنظيمات الجماهيرية، للحركة التي أخذت، أحياناً، أشكال انتفاضات طبقية. وواضح أن الوجود الفلسطيني الثوري، كان يمثّل حماية لنضال "الحركة الوطنية اللبنانية". إلا أنه كان، كذلك، سبباً لإثارة سخط الموارنة عليه، الذين رأوا، ولا سيما "الكتائب"، أنه أفقد لبنان توازنه التقليدي، في مصلحة اليسار. لذلك، تمسكوا بالتوازن التقليدي، المؤدي إلى حل وسط، وعودة لبنان إلى شعاره: "لا غالب، ولا مغلوب". ولكن المشكلة، على حدّ تصور "الكتائب"، هي أن وجود المقاومة على أرض لبنان، يمنع اتفاق اللبنانيين.

       وبإضافة التناقض الطبيعي، بين الثورة والحكم، تكتمل الصورة؛ إذ إن وجود ثورة مسلحة، هو خطر، يتهدد كل عوامل الاستقرار للحكومات، فكيف به في منطقة تعج بالأزمات! ومصداق ذلك، ما اشترطه الرئيس حافظ الأسد، على الفلسطينيين، عندما طرح مشروع الوحدة الفلسطينية ـ السورية، ألاّ ينشروا الثورة في سورية.

       وهكذا، كاد البُعدان، اللبناني والعربي، يتطابقان، تجاه الثورة الفلسطينية. وكان هناك اتجاهان، على صعيد "الجبهة اللبنانية"، إلى استغلال هذا التطابق، أحدهما يدعو إلى ربط المشروع الانعزالي بالوضع العربي، انطلاقاً من أن عزلة لبنان الكلية عن العالم العربي، لن تحميه من أزمته، الوطنية والاجتماعية والسياسية، وأن الانتماء إلى العروبة الرسمية، هو خير سبيل إلى مواجَهة هذه الأزمة، مما يفرض، استطراداً، تصحيح المعادلة التاريخية، التي حكمت علاقات لبنان بالعالم العربي، قبْل هذه الحرب، وهي "أقصى الانفتاح الاقتصادي على العرب، وأقصى العزلة السياسية عنهم". وذلك تمهيداً للانتقال إلى معادلة جديدة، قوامها الخروج من العزلة السياسية، والانحياز إلى مصلحة الوضع العربي الرسمي، مع الاعتراف بمركز ممتاز لسورية. وفي إطار هذا التعريب الرسمي، يكتسب المشروع الانعزالي آفاقاً محددة، على النحو التالي:

  1. تأمين استمرارية الكيان اللبناني، واستمرارية نظامه السياسي، الطائفي، شبه الإقطاعي، بتوازناته التقليدية، من خلال تجديد التسوية المسيحية ـ الإسلامية، في ظل الرعاية العربية.
  2. إحكام السيطرة على الوجود الفلسطيني، تحت سقف الخطة العربية الرسمية، حيال القضية الفلسطينية، والمسائل المتصلة بالصراع العربي ـ الصهيوني.
  3. تجميد الصراع اللبناني ـ الإسرائيلي، من خلال إقفال الحدود بقوة ردع عربية، في وجْه العمل الفدائي.

       والاتجاه الآخر، يدعو إلى الاستعانة الظرفية بالقوة العربية، من أجْل الوصول إلى سلخ لبنان عن العالم العربي، في نهاية المطاف. وآفاق المشروع الانعزالي، في هذا الاتجاه، أبعد مدى من الاتجاه الأول. فهو يسعى إلى:

  1. تحويل لبنان، كياناً ونظاماً، إلى وطن ماروني، غير عربي.
  2. محو الوجود الفلسطيني في لبنان.
  3. تبديد التناقض اللبناني ـ الإسرائيلي، من أساسه.

       وكانت "الكتائب"، في البداية، تمثل الاتجاه الأول، بينما "الأحرار" (شمعون)، يمثلون الاتجاه الثاني. ولكن الأحداث خلطت المَواقع، فازداد مؤيدو الاتجاه الثاني، على صعيد الموارنة بوجه عام. وقد عبّر بشير الجميل، قائد "القوات اللبنانية"، عن هذين الاتجاهين بقوله: "إن لبنان، يجب أن يكون بلداً لبنانياً، دون أن يمتزج بالعالم العربي. فلدينا حضارتنا وثقافتنا وعلاقتنا المميزة بالغرب. والتحرير الكامل للبنان، لا يستلزم طرد الفلسطينيين منه. وهو ما لم يرضِ "حراس الأرز"، لأنه كان من الصعب إبادة 400 ألف فلسطيني. ولكن كان يتعين عليهم اختيار العودة إلى المخيمات، وبذلك يصرح لهم بالبقاء في لبنان".