إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / الحرب الأهلية اللبنانية






مواقع المخيمات الفلسطينية
مواقع المخيمات الفلسطينية
لبنان - التوزيع الطائفي
الجمهورية اللبنانية
تعداد الفلسطينيين بلبنان
جنوب لبنان



المبحث الأول

المبحث الأول

الدور الفلسطيني في الحرب الأهلية اللبنانية

       اضطلع الطرف الفلسطيني بدور محوري في الحرب الأهلية اللبنانية، نتيجة رفض الموارنة الوجود الفلسطيني في لبنان، الذي أرسى أُسُسه اتفاق القاهرة، عام 1969. في حين ورط الفلسطينيين تحالفُهم مع اليسار اللبناني، في الحرب الأهلية اللبنانية، التي عَدّها بعضهم حرباً بين اللبنانيين والفلسطينيين. ولذلك، فإن معرفة حقيقة هذا الدور، تستوجب إلقاء الضوء على أسباب الوجود الفلسطيني في لبنان، وموقف الفلسطينيين إزاء الحرب.

أولاً: أسباب الوجود الفلسطيني في لبنان

       بدأ نزوح الفلسطينيين إلى لبنان منذ الحرب العربية ـ الإسرائيلية الأولى، عام 1948. وطبقاً لتقديرات وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى "الأونروا"UNRWA: United Nations Relief and Works Agency for Palestine Refugees in the Middle Eastالتي أنشئت في 8 ديسمبر 1949، وبدأت أعمالها في أول مايو 1950، كان عدد النازحين الفلسطينيين في العالم العربي 988 875 شخصاً، منهم 753 106 فلسطينياً في لبنان. وكان فيه إلى جانبهم، كذلك، حوالي خمسة وعشرين ألفاً من النازحين، غير المسجلين لدى الوكالة. وقد تزايدت هذه الأعداد حتى بلغت حوالي أربعمائة ألف فلسطيني. وذلك لعدة أسباب، منها:

  1. زيادة الولادات على الوفيات.
  2. زواج الشباب الفلسطيني النازح في سن مبكرة.
  3. تفتيت الأُسَر الفلسطينية النازحة إلى وحدات صغيرة.
  4. نزوح أعداد جديدة إلى لبنان، عقب هزيمة 1967.
  5. تصادم النظام الأردني مع المقاومة الفلسطينية، في سبتمبر 1970.

       ومنذ بداية الصراع العربي ـ الإسرائيلي، رأى بعض الجهات اللبنانية في بقاء لبنان خارج دائرته، ضماناً لحياتها ومستقبلها، فحرصت على استمرار ضعف أوضاعه العسكرية، وإبعاده عن المشاركة في جولات الحرب الأربع ضد إسرائيل، في الأعوام 1948، 1956، 1967، 1973. وقد نجحت تلك الجهات في ذلك نجاحاً كبيراً. لكن وجود المقاومة الفلسطينية في لبنان، أفسد عليها خطتها، وفرض النضال على الساحة اللبنانية، وجذب الشباب الوطني إلى المقاومة، فتخطت القضية الفلسطينية كونها قضية عربية رئيسية، لتصبح قضية داخلية ملحّة، لا يمكِن تجنّبها أو تجاهلها.

       ومر الوجود الفلسطيني في لبنان بمرحلتَين متميزتَين، ومتناقضتَين. المرحلة الأولى، هي الفترة بين هزيمة 1948 وقيام الثورة الفلسطينية، في أوائل 1965. والمرحلة الثانية، هي الفترة التي تلت قيام الثورة. فخلال المرحلة الأولى، كان الفلسطيني نازحاً في المخيمات، يفتقر إلى المساعدة الاجتماعية من وكالة الإغاثة، وغيرها من المؤسسات، ويعيش تحت رحمة رجال الأمن اللبنانيين، ولا سيما مضايقات المكتب الثاني (الاستخبارات). وأما في المرحلة الثانية، فقد كان ثائراً، يحمل سلاحه، دفاعاً عن وجوده وقضيته. ولا شك أن هذا التغير، ترك آثاره في العلاقات بين الفلسطينيين واللبنانيين، على كل المستويات، السياسية والاجتماعية والاقتصادية. فقد كانت العلاقات، في المرحلة الأولى، علاقات بين مواطنين ونازحين، لكنها أصبحت، في المرحلة الثانية، علاقات بين مواطنين وثوار.

       وكانت هزيمة 1967، عاملاً مهماً في تعزيز فكرة الكفاح الشعبي المسلح، في البلاد العربية بوجه عام، وبين الفلسطينيين بشكل خاص. فتصاعد العمل الفدائي، جماهيرياً وتنظيمياً، وأصبح الكيان الفلسطيني حقيقة واقعة، منذ عام 1968، في الأردن، ومنذ عام 1969، في لبنان.

       وبادرت المقاومة، فور دخولها لبنان، إلى عمليات فدائية عدة، في الأرض المحتلة، أكسبتها ثقة أهل الجنوب اللبناني. وبدأت علاقات جديدة تتبلور، بين رجال المقاومة وأهل الجنوب. وركزت المقاومة قواعدها، أولاً، في منطقة العرقوب، ثم طورت علاقاتها بالأهالي، فامتدت إلى القطاع الأوسط، فالمخيمات، فالمدن. وتركز العمل الفدائي الفلسطيني، في لبنان، في منطقتَين رئيسيتَين: أولاهما على خطوط وقف إطلاق النار مع إسرائيل، في الجنوب، والثانية في مخيمات النازحين المتناثرة في مناطق لبنان المختلفة.

       وإزاء ازدياد العمليات الفدائية، داخل الأرض المحتلة وخارجها، ازدادت حدّة التناقض بين العمل الفدائي ومؤيديه، وإسرائيل ومؤيديها. إذ وجد العمل الفدائي، منذ بدايته في لبنان، تأييداً واسعاً، خاصة في الجنوب، حيث قدَّم الأهالي كثيراً من العون إلى الفدائيين. إلاّ أن بعض الموارنة سارعوا إلى تدبير بعض حوادث القتل والمذابح الجماعية، وشنوا حملة شائعات ضد الفدائيين، واتصلوا مع إسرائيل.

ثانياً: تصاعد العداء ضد الوجود الفلسطيني

       وتصاعد النشاط المعادي للعمل الفدائي في جنوبي لبنان، منذ أواخر 1968. وكان من مظاهره تطويق منطقة الجنوب، عسكرياً، وحصار قواعد الفدائيين، ومنع وصول الإمدادات إليهم، واعتقالهم وسجنهم، وملاحقة مناصري العمل الفدائي، وتعذيبهم ومحاكمتهم، أو محاصرة قرى بأسرها، واعتقال شبابها، كما حدث في: عيترون، عيناتا، بيت ليف والخيام وغيرها.

       وأمام محاولات الحدّ من العمل الفدائي، في مخيم النازحين الفلسطينيين، "عين الحلوة"، في 22 أبريل 1969، دعت "الحركة الوطنية اللبنانية" الشعب اللبناني إلى التظاهر، تأييداً للعمل الفدائي. فحدث الانفجار الشعبي، الذي أخذ شكل مظاهرات ضخمة، في 23 أبريل 1969، تطورت إلى تصادم مع رجال الأمن وقوات الجيش، وانتهت إلى مجزرة، سقط فيها ثلاثون شخصاً، أطلقت عليهم المدافع الرشاشة، في صيدا وبيروت وطرابلس وبر الياس.

       وترجع أسباب هذا الانفجار الشعبي إلى عدد من العوامل، أبرزها:

  1. سخط النازحين الفلسطينيين في مخيماتهم، لِما يلحق بهم، من معاملة سيئة، وتقييد لحركاتهم وحقوقهم الشخصية، على الرغم من تحسن معاملة السلطة لهم، خلال السنتَين الأخيرتين، قبْل هذا الانفجار.
  2. استياء الرأي العام الوطني، بما كان يسمعه عن سوء أوضاع الفلسطينيين. وأسهمت السلطة في ازدياد هذا الاستياء، بعدم إيضاحها الحقائق، مما أعطى فرصة لانتشار الأخبار والشائعات.
  3. عدم كفاءة الوسائل الدفاعية عن البلاد، والافتقار إلى جيش وطني قوي، وعدم إقرار قانون التجنيد الإجباري، أو تحصين قُرى الحدود اللبنانية ـ الإسرائيلية.

       وقبِل الفلسطينيون التفاوض مع السلطة اللبنانية، في نهاية الستينيات للتنسيق معها. غير أن بعض إجراءات الأمن، لم تتوقف ضد الفلسطينيين، سواء في مخيماتهم، أو في مناطق العمل الفدائي. وشملت تلك الإجراءات اللبنانيين في مناطق الجنوب. وبلغت ذروتها، في جنوبي لبنان، ضد الفدائيين الفلسطينيين والمواطنين اللبنانيين، في أكتوبر 1969.

       وكان الهدف الرئيسي للقوى اللبنانية، قبَيل تصادمات أكتوبر 1969، هو تفجير الموقف الداخلي في لبنان، لأغراض، يتصل بعضها بالصراع حول السلطة، وبعضها الآخر بمحاصرة العمل الفدائي وتطويقه. ويؤكد ذلك تصريحات إيجال آلونYigal Allon، بضمان الوضع القائم في جنوبي لبنان، وتحرُّك الأسطول الأمريكي في مياه البحر الأبيض المتوسط.

       وكانت تلك هي الأزمة الثانية، في تاريخ الصراع بين السلطة اللبنانية والمقاومة الفلسطينية. وأخذت شكل تصادمات مسلحة، في جنوبي لبنان، وعلى الحدود اللبنانية ـ السورية، وفي مخيمات النازحين. وبعد حصار كامل، دام ستة أيام، لمجموعة من الفدائيين، في قريتَي مجدل سلم وشقرا، فجرت قوات الأمن الموقف، في 20 أكتوبر 1969. وكان ضحيتَه فدائيون فلسطينيون، ومدنيون لبنانيون. وأعلنت السلطة، بعد يومين، أنها لا توافق على تمركز الفدائيين في مناطق الحدود، على أساس أن هذه المناطق المأهولة بالسكان، ومن ثَم، لا يجوز تعريضها لأي خطر، قد يصيب المواطنين الآمنين بأضرار وخسائر في الأرواح، من دون مبرر. وأعلنت السلطة حالة منع التجول، في جميع المدن الرئيسية، يوم 24 أكتوبر. ولم يؤدِّ ذلك إلى إيقاف القتال، فاضطرت، عقب ضغط، شعبي ورسمي، إلى طلب وساطة مصر. وتمخضت هذه الوساطة باتفاق القاهرة، الذي عقد بين السلطة اللبنانية والمنظمات الفدائية الفلسطينية، في 3 نوفمبر 1969، بهدف تنسيق العلاقات بين لبنان والثورة الفلسطينية. وفيما يلي أهم ما تضمنه الاتفاق:

  1. بالنسبة إلى الوجود الفلسطيني: حق العمل والإقامة والتنقل للفلسطينيين في لبنان. وإنشاء لجان محلية من فلسطينيي المخيمات لرعاية مصالحهم فيها، بالتعاون مع السلطات المحلية. ووجود نقاط للكفاح الفلسطيني المسلح، داخل المخيمات، مهمتها تنظيم وجود الأسلحة وتحديدها. والسماح للفلسطينيين، الموجودين في لبنان، بالمشاركة في الثورة الفلسطينية.
  2. بالنسبة إلى العمل الفدائي: تسهيل العمل الفدائي الفلسطيني، وتنظيم الدخول والخروج والتجول للفدائيين، وإيجاد انضباط وتنسيق وتعاون مشترك، بين الثورة الفلسطينية والجيش اللبناني، وضبط قيادة الكفاح المسلح لتصرفات أفرادها، وعدم تدخّلهم في شؤون لبنان. كما تمارس السلطات اللبنانية، مدنية وعسكرية، صلاحيتها في جميع المناطق اللبنانية، في كل الظروف.

       ذاك هو اتفاق القاهرة، الذي يُعَدّ نقطة انعطاف مهمة، في تاريخ العلاقات اللبنانية ـ الفلسطينية. فقد أمكن، في ظله، تأجيل التصادمات المسلحة، بين السلطة اللبنانية والثورة الفلسطينية، أكثر من ثلاث سنوات متتالية. وتعرض جنوبي لبنان، في أواخر 1971 وأوائل 1972، لاعتداءات إسرائيلية متلاحقة، سبقتها تعليقات صحفية، وتهديدات للمسؤولين الإسرائيليين، أمثال حاييم بارليفHaim Bar Lev، وديفيد أليعازرDavid Elazar، رأوا فيها، أن لبنان هو المسؤول عن نشاط المقاومة، داخل الأرض المحتلة. وبدأ العمل الفدائي، مع أوائل 1972، يتكيف مع الظروف الجديدة، التي كان في مقدمتها انتهاء الوجود العلني لحركة المقاومة الفلسطينية، في الأردن، وتهديدات إسرائيل بالحرب، وتشدد الموقف الأمريكي إزاء قضية الشرق الأوسط. وأدت هذه الظروف إلى ضغوط عربية على حركة المقاومة، وإلى جهود لبنانية رسمية، بهدف تخفيف نشاط المقاومة على الحدود اللبنانية، وعدم إعطاء إسرائيل ذريعة لتنفيذ مخططاتها في جنوبي لبنان.

       ونتيجة للهجمات، التي شنتها إسرائيل على الجنوب اللبناني، خلال عام 1972، فقد خَف النشاط الفدائي، في بعض الأحيان، بل تجمد، في أوقات أخرى، استجابة من المقاومة لتلك الضغوط، وحرصاً منها على عدم تصعيد التوتر مع السلطات اللبنانية.

       وكانت غارة الكوماندوز الإسرائيليين على بيروت، وقتْلهم ثلاثة من قيادات المقاومة الفلسطينية، إيذاناً بانفجار التصادم، بين السلطة اللبنانية والفلسطينيين، عام 1973. إذ تحركت الجماهير، تدين عجز السلطة عن حماية البلاد، وتخاذلها دون الرد على هذا الهجوم. وكان رد القوى اليمينية على حركة الجماهير، والتفافها حول الثورة، هو المطالبة "بنقل المخيمات من حول العاصمة".

       وفي الوقت الذي كانت الأمة العربية تواجِه فيه تحدياً، وتهديداً بحرب إسرائيلية خاطفة، والمخيمات الفلسطينية في لبنان، تتعرض لهجمات إسرائيلية متوالية، من الجو والبر، بادرت وحدات من الجيش اللبناني إلى محاصرة بعض المناطق والمخيمات الفلسطينية، في مدينة بيروت، ومهاجمة بعضها الآخر، وقصفها وتفتيشها، واعتقال عدد كبير من الفلسطينيين واللبنانيين، بدعوى الحرص على سيادة لبنان. وحاولت قيادة الجيش التنصل من مسؤوليتها عن تلك الأعمال، التي ارتُكبت ضد الفلسطينيين بدعوىعجزها عن السيطرة على بعض قواتها. وإزاء ما تعرض له مخيمات النازحين ومناطقهم المختلفة، سواء في قلب العاصمة اللبنانية، أو خارجها، ازداد تمسك الفلسطينيين بوجودهم في لبنان.

       ولم يكن تدخّل الجيش اللبناني في مظاهرة صيدا، في فبراير 1975، وقمعه للمتظاهرين، من صيادي الأسماك، والأحزاب الوطنية، بإطلاق النار عليهم، وقتل نائب صيدا، معروف سعد ـ إلاّ محاولة للإيقاع بالمقاومة. وآية ذلك، أن الجيش اللبناني، تدخّل في المظاهرة، من دون موافقة رئيس الوزراء اللبناني، رشيد الصلح، الذي هدد بالاستقالة، إذا لم ينسحب الجيش.

       ولعل مما ضاعف تدهور الموقف، استمرار الإضراب، في صيدا، وحدوث إضرابات ومظاهرات، في بيروت وطرابلس والبقاع، وحدوث معارك بين الجيش وبعض المسلحين، ومحاولة بعض أجهزة الإعلام إقحام المقاومة الفلسطينية فيها.

       ولم يكن بعض قطاعات السلطة حريصة على معالجة الموقف. ففي الوقت الذي التقى فيه المسؤولون ممثلي الهيئات والأحزاب في صيدا، لتسوية الموقف، كانت مصفحات الجيش، تطوّق عدة مناطق في المدينة، وتشتبك معها. فضلاً عن دور تلك القطاعات في تقوية القوى اليمينية، إذ أمدت "الكتائب" بالسلاح والمساعدات المختلفة، وأوجدت "حراس الأرز"، وقدَّمت العون إلى "الرابطة المارونية".

       وبدورها، تحركت القوى اليمينية، ممثلة في رئيس "الكتائب"، بيارالجميل، ورئيس "الأحرار"، كميل شمعون، ورئيس "الكتلة الوطنية"، ريمون إده، لمساندة قطاعات السلطة، المذكورة، ونظمت عدة مظاهرات كبيرة، في بيروت وغيرها، بحجة تأييد الجيش.

       وكانت مذبحة عين الرمانة، في 13 أبريل 1975، مؤشراً إلى أن حزب الكتائب، قد أخذ على عاتقه مسؤولية تنفيذ مخطط، لخلق فتنة طائفية في لبنان، تسفر عن تصادم الجيش اللبناني والمقاومة الفلسطينية. ففي ذلك التاريخ، هاجمت "الكتائب" مركبة عامة، تُقلّ عدداً من سكان مخيم تل الزعتر، بعد مشاركتهم في الاحتفال بذكرى دير ياسين. وأسفر الهجوم عن قتْل وجرْح أكثر من خمسين شخصاً. ومنذئذٍ، بدأت الاشتباكات بالمدافع الثقيلة، بين رجال المقاومة وحزب الكتائب، في بيروت.

       ولم يكن توجيه الاتهام إلى حزب الكتائب مشكوكاً فيه، إذ أكد بعض الشخصيات اللبنانية، الرسمية والشعبية، مسؤولية الحزب عن مجزرة عين الرمانة. ففي بيان، ألقاه رشيد الصلح، رئيس وزراء لبنان، في ذلك الوقت، أمام مجلس النواب اللبناني، مساء 15 مايو 1975، حمّل "الكتائب" كل المسؤولية، والنتائج المترتبة على تلك المجزرة. كما أكد الشيخ حسن خالد، مفتي الجمهورية اللبنانية، أن التسلط والاستفزاز، الكتائبيَّين، هما سبب تلك المجزرة.

       وحرص بعض الشخصيات، الرسمية والدينية والشعبية، على وأد الفتنة، ولا سيما رئيس الوزراء وريمون إده، بل كميل شمعون نفسه، والشيخ حسن خالد، والإمام موسى الصدر، والبطريرك خريش، فضلاً عن القوى الوطنية والتقدمية، وعلى رأسها كمال جنبلاط. فاتُّفق، في الأول من يوليه 1975، على وقف إطلاق النار، وإزالة جميع المظاهر المسلحة، وإلقاء القبض على العناصر، التي تعمد إلى الخطف؛ وعدد من النقاط الأخرى. وعلى الأثر، اجتمع ممثلو جميع فصائل المقاومة، والقوى والأحزاب، الوطنية والتقدمية، في لبنان، واتفقوا على ضرورة التمسك بتنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار. ووجَّه ممثلو فصائل المقاومة نداء إلى قواعدهم الشعبية، بضرورة الالتزام بمضمونه.

ثالثاً: الوجود الفلسطيني، والتوازن الطائفي في لبنان

       تبيّن مما سبق، أن الخلاف بين القوى اللبنانية، حول الوجود الفلسطيني في لبنان، لا يعود إلى بدايات الحرب الأهلية، ولكن جذوره تمتد إلى عام 1948، وهو تاريخ النزوح الفلسطيني الأول. حين قدر عدد اللاجئين الفلسطينيين إلى لبنان، بأكثر من مائة ألف لاجئ. وكانت القوى اليمينية في لبنان، ترفض فتح البلد أمام هؤلاء اللاجئين، بحجة عجز الاقتصاد اللبناني عن استيعابهم، فضلاً عن أن اللاجئين، ومعظَمهم من المسلمين السُّنة، من شأنهم قلب التوازن الديموجرافي بين الجماعات الدينية، ومن ثم، التأثير في مركز المسيحيين، وذلك بتحويلهم إلى أقلّية. فقد كان البنيان السياسي في لبنان يعتمد على التوازن في المصالح بين المسيحيين الموارنة (377.544 نسمة) وبين المسلمين السُّنة (273.125 نسمة) والمسلمين الشيعة (237.107 أشخاص). ويتحقق التوازن المنشود مع المسلمين بوجود أقلّية مسيحية: اليونان الأرثوذكس (120.858 نسمة)، والأرمن الأرثوذكس (67.139 نسمة)، والكاثوليك (81.764 نسمة)، والبروتستانت (112.641 نسمة).

       وفي عام 1952، بلغت نسبة المسيحيين 53.6%، والمسلمين 45.5% من إجمالي السكان. وكان من شأن قبول اللاجئين الفلسطينيين (حوالي 8% من إجمالي السكان في لبنان)، قلب هذا التوازن، ولم يكُن ذلك مرغوباً فيه.

       ومنذئذٍ، وأزمة الثقة قائمة بين النظام السياسي في لبنان، والوجود الفلسطيني على أرضه، على الرغم من أن الوجود الفلسطيني، كان طارئاً ومؤقتاً، في آن واحد. فهو طارئ، لأن لبنان، هو أقرب إلى فلسطين من سائر الدول المضيفة للاجئين: مصر، الأردن وسورية. ولذلك، لجأ إليه العدد الأكبر من الفلسطينيين، الذين قدر عددهم، عام 1973، بنحو 281.5 ألفاً، وهو ما يعادل حوالي 9% من إجمالي سكان لبنان. أمّا السمة المؤقتة للوجود الفلسطيني في لبنان، فمردّها إلى أنه ينتهي حالما تسوّى قضية عودة الفلسطينيين إلى ديارهم.

رابعاً: الموقف الفلسطيني، في بداية الحرب الأهلية

       تميز الموقف الفلسطيني عن غيره من مواقف أطراف الحرب الأهلية اللبنانية، خاصة الموقف السوري، بأنه موقفُ طرف متفاعل، داخلياً، في الأزمة اللبنانية، أي أنه طرف يؤثّر فيها ويتأثر بها، سواء بسبب وجود الفلسطينيين في لبنان، أو بسبب تمركز المقاومة الفلسطينية المسلحة، بشكل مكثف، في الأراضي اللبنانية. وهو ما أسفر عن خلاف حول الوضع القانوني للمنظمات الفلسطينية في لبنان، أي حول حقوقها وواجباتها، وكذلك حول حقوق الدولة اللبنانية وواجباتها حيال تلك المنظمات.

       وكما دعم الوجود الفلسطيني المسلح موقف منظمة التحرير الفلسطينية، فإنه، كذلك، منح القوى اللبنانية المسيحية، أقوى حججها لتبرير بدئها المعركة ضد هذا الوجود، بكل قواها، السياسية والعسكرية، تحت شعار وضع حدّ "للتهديد الفلسطيني لسيادة لبنان". وكان الرد الفلسطيني على هذا الطرح الطائفي للأزمة، هو اللجوء، أولاً، إلى القوة الذاتية للمقاومة الفلسطينية، والتلاحم مع القوى اللبنانية، الملتفّة حولها، أي اليسار اللبناني، الذي تشكل الجماهير قاعدته الشعبية. أمّا الوسط اللبناني المعتدل،فالتزم موقف الحياد، الطائفي والطبقي، انتظاراً لحسم المعركة، أو تهدئتها، تدريجاً، تمهيداً لإعادة طرح مسألة التوازن الطائفي، مستقبلاً، وضمن إطار حركة إصلاح دستوري، كانت القوى الوطنية، في جميع الطوائف، تدعو إليها، قبل اندلاع القتال. ولكن تصاعد القتال لم يمكّن الأطراف من إيجاد قاعدة الاستقرار اللازمة، لمعالجة الأزمة سياسياً.

       أمام هذا الوضع، رأت منظمة التحرير الفلسطينية نفسها، تواجِه وضعاً شبيهاً بالوضع، الذي تعرضت له في الأردن، عام 1970. فشدة القتال، واقترابه من مَواقع المخيمات الفلسطينية، وارتفاع درجة التعبئة السياسية، لدى جميع الفئات في لبنان، كل ذلك، جعل منظمة التحرير الفلسطينية أمام بديلين، لا يقلّ أحدهما خطراً عن الآخر:

البديل الأول: الدخول في المعركة، كطرف رئيسي، إلى جانب القوى التقدمية، بهدف حسم القتال، في مصلحة هذه القوى، مع تحمّل ما ينطوي عليه هذا البديل من أخطار تدخّل الجيش اللبناني، أو تدخّل قوى أجنبية، من بينها إسرائيل، لتدويل الأزمة، وتوجيه ضربة مشتركة إلى الثورة الفلسطينية والقوى الوطنية في لبنان.

والبديل الثاني: الخروج من المعركة، والاكتفاء بموقف المشاهد، والمدافع عن النفس، عند الضرورة فقط، مع تحمّل ما ينطوي عليه هذا البديل من أخطار فقدان المساندة الجماهيرية، للمقاومة الفلسطينية.

       راوحت منظمة التحرير الفلسطينية بين البديلين. فعندما كانت تتعرض لهجمات، كانت تلجأ إلى البديل الأول. وفي الحالات الأخرى، كانت حريصة على دقة تحركاتها، السياسية والعسكرية، موازِنة بين الحفاظ على التزاماتها الثورية، والحفاظ على قواتها الضاربة، ومركزها السياسي.

       وأكدت منظمة التحرير الفلسطينية، في المذكرة، التي رفعتها إلى "لجنة الأمن والمصلحة الوطنية"، في 5 أكتوبر 1975، اهتمامها وحرصها على إحلال السلام والاستقرار في لبنان، والحفاظ على استقلاله وسيادته ووحدة أراضيه. كما أكدت أن الشعب الفلسطيني، الذي عاش نازحاً عن أراضيه، مصمِّم، اليوم، على ألاّ يقبل بديلاً من أرضه، في الوطن الفلسطيني. وأن شعب فلسطين، رفض أن يُمنَح أي جنسية أو هوية وطنية، سوى حق المواطَنة في فلسطين. كما أنه رفض الاندماج في أي مجتمع آخر. وأن هذه الحقائق، تنطبق أدق الانطباق، على هؤلاء الفلسطينيين، الذين لجأوا إلى لبنان.

       وأكدت مذكرة منظمة التحرير الفلسطينية، أن الوضع في لبنان، دفع حركة المقاومة الفلسطينية إلى معالجة موضوع التعايش بينها وبين الجماعات اللبنانية، في إطار الأخوّة والتفاهم، وحصر موضوع العلاقة اللبنانية ـ الفلسطينية، في الدولة اللبنانية فقط، وبوساطة مؤسساتها الدستورية. لكن هذا الموقف، ظل نظرياً، عند قياسه بحركة الأحداث، التي فرضت على المقاومة مواقف آنية، وردود فعل، عفوية، أوجدتها ظروف الإشكالات المتواصلة، أو ظروف العلاقات العربية، ومواقف الأطراف من الأزمة. فمنظمة التحرير الفلسطينية، وقفت من اجتماع وزراء الخارجية العرب موقفاً مماثلاً لموقف سورية، إذ أعلنت "أن هذا الاجتماع هو محاولة لتعريب الأزمة، وجر التناقضات والخلافات العربية إلى الساحة اللبنانية، وأن إرسال قوات عربية، محايدة، للفصل بين المتحاربين، سيؤدي إلى تحييد المقاومة الفلسطينية، وشل فاعلياتها، وفصلها عن جماهيرها الفلسطينية في لبنان".

       من هذه الحقائق، يتضح أن الحرب الأهلية اللبنانية، كان لها آثار، مباشرة وغير مباشرة، في حركة التحرير الفلسطينية، فلسطينياً وعربياً ودولياً:

  1. على الصعيد الفلسطيني، خشيت منظمة التحرير الفلسطينية، من مخطط بعيد المدى، تخفيه الأحداث اللبنانية، ويرمي، في النهاية، إلى القضاء على وجودها العسكري في المنطقة.
  2. على الصعيد العربي، رأت المنظمة، أن ما يجري في لبنان، هو جزء من التطورات، الهادفة إلى تحويل النزاع العربي ـ الإسرائيلي، إلى نزاعات عربية ثانوية، تمهيداً لتجميد هذا النزاع، بعد أن استطاعت القوى، العسكرية والسياسية والاقتصادية، للدول والشعوب العربية، تحقيق انتصارات ملموسة، محلياً ودولياً.
  3. على الصعيد الدولي، كان أحد الأسباب الكامنة وراء الأزمة اللبنانية، هو التشكيك في جدوى الفكرة القائلة بدولة فلسطينية ديموقراطية، تجمع المسلمين والمسيحيين واليهود.

خامساً: موقف السلطة اللبنانية من الوجود الفلسطيني، وأثره في الحرب الأهلية

       لم تتعاطف السلطة اللبنانية مع الوجود الفلسطيني. ولعل أهم ما واجَه الفلسطينيين في لبنان، أن القوانين اللبنانية، لم تحدد علاقتهم بالدولة، سواء كانوا عمالاً أم مزارعين أم جامعيين. كما لم تختلف طريقة التعامل معهم، في بعض الوزارات، عنها في عام 1949، عندما كان الفلسطينيون نازحين، ليس إلاّ. فضلاً عن عدم التزام لبنان بالمواد، التي تنص على معاملة الفلسطينيين المعاملة نفسها، التي يلقاها مواطنو البلاد العربية. فالعمال الفلسطينيون، لم يتمتعوا بقوانين الضمان الاجتماعي، وتدنّت أجورهم عن أجور العمال اللبنانيين، واتجه معظَمهم إلى الأعمال الشاقة.

       وقد لوحظ، قبْل الحرب الأهلية، محاولات عديدة لشل فاعلية المقاومة الفلسطينية، وتعطيل الاتفاقات المنظِّمة للعلاقات بين لبنان والثورة الفلسطينية، خاصة اتفاق القاهرة لعام 1969. وتبدت هذه المحاولات في العديد من المظاهر، مثل إلقاء القبض على الفدائيين، ومصادرة أسلحتهم، وتقديم بعضهم إلى المحاكمة. ولعل مما يوضح موقف السلطة اللبنانية من المقاومة الفلسطينية، وعدم اهتمامها بإشاعة الثقة والطمأنينة، بين اللبنانيين ورجال المقاومة، أنها لم تسمح بصوت فلسطيني واحد، خلال الحرب، بالتحدث إلى إحدى وسائل الإعلام اللبناني.