إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / الحرب الأهلية اللبنانية






مواقع المخيمات الفلسطينية
مواقع المخيمات الفلسطينية
لبنان - التوزيع الطائفي
الجمهورية اللبنانية
تعداد الفلسطينيين بلبنان
جنوب لبنان



المبحث الأول

سادساً: مواقف القوى السياسية من الوجود الفلسطيني

1. موقف القوى اليمينية

لم يرضَ كثير من اللبنانيين عن الثورة الفلسطينية، لأنها هددت التركيب اللبناني، الاجتماعي والاقتصادي، الذي يعتمد على قطاعَي التجارة والخدمات، ولا يواكبه خطط للتنمية، العمرانية والزراعية والصناعية وغيرها، تخفف من ذلك الشعور بأن الثورة الفلسطينية، تحمل في ثناياها تهديداً لهذا الكيان الاجتماعي، الهش.

أمّا القوى المسيحية في لبنان، فالأغلب أنها كانت تنظر إلى القضية الفلسطينية نظرة هامشية. ويتضح ذلك من القرارات، التي تضمّنها بيان ممثلي الطوائف المسيحية في لبنان، في 28 مايو 1975، الذي ورد فيه مناشدة الفلسطينيين، المقيمين بالأرض اللبنانية، "أن يقدروا مدى الخدمات، التي يؤديها إليهم لبنان". فضلاً عن المذكرة، التي قدّمتها "الرابطة المارونية" والرهبانيات، إلى رئيس الجمهورية اللبنانية، في 14 أكتوبر 1975، تطالبه فيها بأن يبحث مؤتمر وزراء الخارجية العرب، صراحة، الوجود الفلسطيني في لبنان، وتدخّل الفلسطينيين في شؤون لبنان الداخلية. بيد أن الساحة المسيحية اللبنانية، لم تخلُ من تيارات وطنية وقومية. فالكنيسة المارونية، مثلاً، رفضت مبدأ التقسيم. وبطريرك الطائفة الأرثوذكسية في لبنان، إلياس الرابع، حمل على الامتيازات، الطائفية والمارونية، ودعا أبناء لبنان إلى الانفتاح على العالم العربي. إضافة إلى أن مسيرات شعبية عدة، ضمت، خلال الأزمة، كثيراً من المسلمين والمسيحيين، المحتجين على الاقتتال الطائفي. علاوة على أن بعض المسيحيين، كانوا متفهمين لأوضاع الفلسطينيين ومطالبهم.

ورأى كمال جنبلاط، أن عدة عوامل، تحكمت في العلاقات الفلسطينية ـ اللبنانية:

أ. خوف غالبية المسيحيين في لبنان من احتمالات المستقبل، وسيطرة الروح الطائفية على كيانهم. وخوفهم من التيارات الفكرية الجديدة.

ب. خشية الفلسطينيين في لبنان، من عودتهم إلى ما كانوا عليه قبْل انبثاق المقاومة. وعدم اطمئنانهم إلى نظام الحكم القائم في لبنان.

ج. وجود نظام سياسي في لبنان، يعادي التطور والتقدم، ويقف حجر عثرة في وجْه بناء جديد للبنان، تنصهر فيه الاتجاهات الطائفية، في بوتقة وطنية حقيقية.

د. التغيرات الديموجرافية، التي هددت التوازن بين المسيحيين والمسلمين؛ إذ ناهز عدد المسلمين في لبنان نسبة 65 % من عدد السكان، فأصبحت الطائفة المارونية ثالثة الطوائف اللبنانية، بعد الشيعة ثم السُّنة.

هـ. استغلال معارضي المقاومة عدم الانضباط في الوسط الفلسطيني، فضخموا الأخطاء الفلسطينية، وحمّلوا الوجود الفلسطيني في لبنان تبعاتها.

و. التسليح المكثف لدى المقاومة الفلسطينية والمسيحيين، في لبنان. وهو ما ترك آثاراً سيئة في كلا الجانبَين.

ويمكِن القول إن موقف اليمين اللبناني تجاه الوجود الفلسطيني في لبنان، اتّسم بالتشكك. وتجلّى في ثلاثة محاور أساسية:

أ. التأثير في التوازن الطائفي

طالما نظر حزب الكتائب إلى الوجود الفلسطيني في لبنان، على أنه وجود غريب عن طبيعة الكيان اللبناني، أحدث خللاً في التوازن الطائفي، في مصلحة المسلمين. ونادى الحزب بضرورة العودة إلى التوازن الطائفي، وذلك بإبعاد الفلسطينيين عن دائرة الصراع السياسي اللبناني، وحصرهم في نطاق ضيق. وهو ما دعا رشيد الصلح، في بيانه أمام مجلس النواب، إلى القول إن حزب الكتائب، يحرص على إثارة الفتنة الطائفية، والوقيعة بين لبنان والمقاومة الفلسطينية.

ب. اتفاق الفلسطينيين مع القوى التقدمية في لبنان

"الكتائب"، إضافة إلى حزب الوطنيين الأحرار، الذي كان يتزعمه، في بداية الحرب الأهلية، كميل شمعون، وزير الداخلية؛ و"الكتلة الوطنية"، التي كان يتزعمها ريمون إده، اتَّهمت الفلسطينيين، بالاتفاق مع القوى اليسارية في لبنان، على رفض صيغة 1943، الطائفية، "الميثاق الوطني". وبناء عليه، فإن المقاومة تتدخل، كطرف، في الصراع الاجتماعي، بمعناه العام، والصراع السياسي منه، بصفة خاصة. وهو ما يخالف، في الوقت عينه، اتفاق القاهرة 1969، الذي نظّم العلاقة بين المقاومة الفلسطينية والسلطة اللبنانية. لذلك، رأى حزب الكتائب، أن الصراع الداخلي في لبنان، الساعي نحو إطاحة الأوضاع، السياسية والاجتماعية، إنما يعود، في أحد جوانبه، إلى تزايد الوجود الفلسطيني. أما رئيسه، بيار الجميل، فنبّه إلى ضرورة أن يكون للبنان دولة واحدة، وسلطة واحدة، وجيش واحد.

ج. توريط لبنان في صراع مع إسرائيل

رأت "الكتائب"، أن لبنان قدّم الكثير من أجل الفلسطينيين، وأنه يفوق، في هذا الصدد، العديد من الدول العربية. غير أن اقتصاد لبنان ونظامه، لا يقويان على إقحامه في الصراع مع إسرائيل. ولعل انطلاق المقاومة من الأراضي اللبنانية، هو مبعث الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة ضد لبنان. وفي هذا الشأن، يجب على المقاومة ألاّ تسهم في توريط لبنان، وإقحامه في النزاع. وإنما يجب قصر المقاومة في نطاق ضيّق، على أساس أن لبنان بلد مضيف، يتمتع بالسيادة. بل إن "الكتائب" اقترحت حصر الوجود الفلسطيني في جنوبي لبنان، فيبتعد، نهائياً، عن بيروت.

2. اليسار والوجود الفلسطيني

تحمست القوى التقدمية اللبنانية، ولا سيما الحزب التقدمي الاشتراكي، للوجود الفلسطيني في لبنان. ويعود هذا الموقف إلى عدة أُسُس، منها:

أ. التعامل مع الفلسطينيين، كواقع

اتّضح، من خلال المراحل، التي مرت بها العلاقات الفلسطينية ـ اللبنانية، أن ما يلحق بلبنان من أضرار، من جراء الاعتداءات الإسرائيلية، هو أقلّ من الأضرار التي تلحق به، خاصة المصالح الرأسمالية، من جراء الاقتتال اللبناني ـ الفلسطيني على أرضه.

ناهيك أن قبول المقاومة الفلسطينية ووجودها، وفقاً لليسار اللبناني، يُعزى إلى روح الضيافة العربية. وإنه ما دامت الدول العربية، اعترفت بهذا الوجود، وبمنظمة التحرير الفلسطينية، فلا يجوز للبنان التعرض لهما، أو طرحهما بصورة غير قومية.

ب. دعم المقاومة لليسار اللبناني

نظرت القوى التقدمية إلى الوجود الفلسطيني، على أنه فرصة سانحة، يجب استثمارها، لتحقيق مكاسب سياسية في لبنان؛ ذلك أن المقاومة، تُعَدّ، من وجهة النظر هذه، تجاوزاً للواقع اللبناني الطائفي. ومن ثم دعا اليسار إلى التعاون معها على إطاحة هذا الواقع، وفرض صيغة أخرى، تتّسم بالتقدمية. وقد اتضح هذا الموقف، في بداية الحرب، حين جرت اتصالات بين كمال جنبلاط ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية، ياسر عرفات، من أجل السيطرة على الموقف، لمواجَهة مخطط "الكتائب".

ج. اشتراك لبنان في الصراع مع إسرائيل

ظل لبنان بعيداً عن جوهر الصراع مع إسرائيل. ولهذا، فإن تدعيم المقاومة فيه، سيخلق قضية مصيرية، يتجمع المواطنون حولها؛ وبذلك يشغل الفراغ القومي الذي طالما عاناه. ويرتبط بذلك تأكيد اليسار، أن يقتصر دور الجيش اللبناني على الاستعداد لمواجَهة أي اعتداءات إسرائيلية على لبنان أو على المقاومة، ولا يمتد إلى التدخل في الصراعات الطائفية، أو التصادم مع الفلسطينيين.

سابعاً: التمييز في المعاملة

       لم يتمتع الفلسطينيون في لبنان بحق المواطَنة، ولا بحقوق سياسية. ولم تفرض عليهم التزامات عسكرية، فهُم والأجانب سواء، بل هم يخضعون لبعض القيود، التي لم يخضع لها الأجانب.

       ومن صور التمييز، أن العمال الفلسطينيين، مثلاً، لا يشملهم قانون الضمان الاجتماعي، أسوة بالعمال اللبنانيين. ويشترط لتمتع الأجنبي بهذا القانون، أن يُعامل اللبنانيون، في دولته، بالمِثل. ولا شك أن هذا قيد جائر، بالنسبة إلى الفلسطينيين؛ إذ لا دولة لهم. فضلاً عن اشتراط الحصول على إجازة عمل من السلطات المختصة، وإزاء صعوبة الحصول عليها، يضطر الفلسطينيون إلى الاشتغال بالأعمال الشاقة، بأجر متدنٍّ جداً، مقارنة بغيرهم من العمال. هكذا تبلغ نسبة العاملين منهم في محطات الوقود، مثلاً، 43 بالمائة من مجموع العاملين في تلك المهنة. يُضاف إلى ما سبق، أن لبنان تحفظ، من الموادّ المتعلقة بمعاملة الفلسطينيين في البلدان العربية، وأَوْدَعَ تحفّظه الجامعة العربية، في 3 أغسطس 1966. وهي المواد المتعلقة بتوحيد المعاملة بين الفلسطينيين والمواطنين، والسماح لهم بمغادرة البلاد أو دخولها، متى اقتضت مصلحتهم ذلك. وسن لبنان قواعد جائرة، في هذا الصدد، تبيح الفلسطينيين الخروج منه، ولكنها تقيّد حقهم في الدخول إليه.

       ويمكن النظر إلى ما سبق، على أنه مشكلة ذات طبيعة طبقية، وليست قومية أو وطنية. فالبورجوازية اللبنانية، تسعى إلى استغلال العمال الفلسطينيين، إلى أقصى حدّ ممكن، وبأقل النفقة، وفي الوقت نفسه، الاستعاضة بهم عن العمال اللبنانيين، أو الأجانب، ذوي الأجور المرتفعة. فضلاً عن أن هذا التمييز، سيحدّ من أي اتجاهات عمالية فلسطينية نحو التجمع، قد تهدد مصالح تلك البورجوازية اللبنانية التجارية.

ثامناً: القوى الخارجية، الرافضة للوجود الفلسطيني في لبنان

       أمّا القوى الخارجية، غير العربية، التي لها تأثير في الحرب اللبنانية، من خلال رفضها الوجود الفلسطيني في لبنان، فقد ارتبط بعضها بهذا البلد بعلاقات مصالح. كان الدور الأجنبي واضحاً في الأزمة، منذ بدايتها، حتى إن رشيد كرامي، صرح، مع بداية الحرب الأهلية، بأن "السلاح منتشر في كل مكان، وأن التدريب والميليشيات موجودة في غير جهة، والسلاح يأتي بصورة رسمية، من طريق الموانئ اللبنانية، وأحياناً، يوزع بوساطة جهات رسمية". ويأتي في مقدمة تلك القوى الولايات المتحدة الأمريكية، التي أدت دوراً مهماً في تطور الأزمة اللبنانية، سواء في مجالات: التخطيط، أو الضغط، أو تقديم المساعدات المختلفة إلى القوى اليمينية. وعلى سبيل المثال، كشف النقاب، في واشنطن، في 22 يوليه 1975، عن صفقة أسلحة أمريكية، قدرت بألف بندقية، أُرسلت إلى لبنان، واضطلعت السفارة الأمريكية، في بيروت، بدور الوسيط فيها. ولكن الدور الأمريكي، كان مستتراً، وغير مباشر، حرصاً من واشنطن على تجنّب إثارة الجماهير العربية، وإبعاداً لغيرها من القوى الخارجية عن التدخل، خاصة فرنسا.

       أمّا إسرائيل، فهناك مظاهر عديدة، تؤكد تورطها في الحرب الأهلية. لعل أبرزها تحريض إيجال آلون، وزير خارجية إسرائيل السابق، المسيحيين في لبنان، على التمرد، في 20 سبتمبر 1974. فضلاً عن استثارة إسحاق رابين، رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، الدول المسيحية ضد مسلمي لبنان، بإبداء استغرابه عدم تدخّل أي رئيس مسيحي لإنقاذ مليون مسيحي في لبنان. أمّا الحكومة الإسرائيلية، فدعت إلى تقديم العون إلى "الكتائب".

       ولم يكن الأمر مقتصراً على مجرد إبداء التصريحات، أو التعبير عن المواقف؛ إذ وصل الأسقف الماروني، شربل القسيس، إلى إسرائيل في اليوم نفسه، الذي حدثت فيه مذبحة عين الرمانة في لبنان (13 أبريل 1975)، لدعوة أبناء الطائفة المارونية في إسرائيل، إلى زيارة لبنان. وإضافة إلى ذلك كله، تواصلت غارات إسرائيل وهجماتها على المخيمات والمعسكرات الفلسطينية. وتتابع تهريب الأسلحة، بكميات كبيرة، إلى لبنان، لدعم القوى اليمينية في القرى المارونية، وفتح الجسور مع أهالي الجنوب، وضرب الوجود الوطني التقدمي فيه، والاشتراك في عمليات عسكرية على الحدود، مع الإسرائيليين، كما حدث في مرجعيون وبنت جبيل.

تاسعاً: موقف الفلسطينيين من التدخل السوري في لبنان

       كانت سورية، ولا تزال، تمثل أحد الأطراف الإقليمية المؤثرة في الحرب الأهلية. ولا يعني حرصها على تحقيق بعض الأهداف الخاصة، تخلّيها عن إستراتيجيتها الواضحة تجاه الثورة الفلسطينية. وكانت علاقتهما طيبة، في بداية الأزمة، حتى إن دمشق اقترحت إنشاء قيادة سورية ـ فلسطينية موحَّدة، إضافة إلى اتصالات الطرفين الدائمة.

       وبذلت منظمة التحرير الفلسطينية جهدها، في حصر النزاع ووأْده في لبنان. وأيدت المبادرة السورية، وأرادت أن تلزم بها جميع الأطراف المعنية. ووقفت المنظمة ضد تعريب الأزمة، حرصاً على علاقاتها الإستراتيجية بالشعب السوري. وكانت تَعُدّ الموقف السياسي السوري قوة لها ولحلفائها اللبنانيين. لكنها اعترضت، منذ البداية، على التدخل العسكري السوري، على الرغم من المحاولات المستميتة، والمتعددة، لتحييدها. لكنها كانت قد التحمت مع "الحركة الوطنية اللبنانية" لتكوّن معها جزءاً مهماً في الحرب الأهلية اللبنانية. فرأت في التدخّل خطراً، يهددها ويهدد حليفتها معاً. بيد أن التدخل العسكري السوري المكثف، الذي صاحبه تصعيد من حزب الكتائب، لم يترك للمقاومة الفلسطينية إلا قرار الدفاع عن نفسها، وعن الوجود الفلسطيني في لبنان. فاضطرت إلى توسيع إطار الأزمة وتعريبها، فدعت إلى اجتماع عاجل لوزراء الخارجية العرب، وناشدت الشعوب العربية، والقادة العرب، أن يتدخلوا لوضع حدّ لهذه الأزمة، التي أصبحت تهدد مصير الأمة العربية ومستقبلها.

       لا شك في أن للتدخل السوري في لبنان، أسباباً عديدة. لعل أهمها ما ورد في تصريحات المسؤولين السوريين، أن القوات السورية، دخلت لبنان لحماية الثورة الفلسطينية. لكن المتتبِّع لتطورات التدخل السوري في لبنان، يلاحظ بما لا يدع مجالاً للشك، أن هذا الهدف السوري المعلَن، لم يجد طريقه إلى التنفيذ، في بداية الأزمة. فالتصعيد العسكري المستمر للعمليات السورية في لبنان، وقصف المدن اللبنانية، والمخيمات الفلسطينية، قصفاً عنيفاً ومتواصلاً، في نهر البارد، قرب طرابلس، وتل الزعتر وجسر الباشا وبعلبك وعين الحلوة وشاتيلا وصبرا وبرج البراجنة وغيرها؛ والهجمات المتتالية على معسكرات المقاومة ومراكزها، وقطع طرق إمداداتها؛ ومساندة القوات اليمينية على تنفيذ خططها، سواء بطريقة سافرة أو مستترة؛ وما ترتب على ذلك كله من مئات القتلى والجرحى، وخاصة من النساء والأطفال والشيوخ ـ كل ذلك عُدَّ ضربات موجَّهة إلى المقاومة الفلسطينية، آنذاك.

       وحدا دمشق على التدخل في لبنان، في بداية الحرب الأهلية، ثلاثة أهداف:

  1. ضرب التحالف القائم بين المقاومة الفلسطينية و"الحركة الوطنية اللبنانية".
  2. إطاحة قيادة الثورة الفلسطينية، واحتواء قيادة جديدة.
  3. إثبات أن سورية، وليس غيرها، هي القادرة على تحريك الأمور في لبنان.

       وأتاح التدخل السوري في الأزمة اللبنانية، الفرصة لليمينيين، لمواصلة تآمرهم ضد المقاومة الفلسطينية، وتشديد هجماتهم على مَواقعها المهمة، مما قلب المعادلة إلى حدّ ما، في مصلحتهم. بل إن القوات السورية، ساعدت، بشكل سافر، القوات اليمينية على اقتحام مخيمَي تل الزعتر وجسر الباشا الفلسطينيَّين. كما هاجم السوريون واليمينيون معاً، عدة مَواقع فلسطينية، من الشمال والجنوب والشرق، في الوقت الذي كانت تجري فيه مباحثات لتسوية الأزمة، إلى غير ذلك من المواقف، التي يُفهم منها وجود تنسيق وتفاهم بين القوات السورية والقوات اليمينية.

عاشراً: موقف الفلسطينيِّين من تعريب الأزمة اللبنانية وتدويلها

       منذ بداية الأزمة، كانت قيادة المقاومة الفلسطينية، ترى أن ما حدث في لبنان، هو مسألة لا تُحل إلاّ في لبنان نفسه، ولا توافق على تعريب الأزمة أو تدويلها. ولم يكن هذا هو موقف المقاومة الفلسطينية، وحدها، بل كان موقف الأحزاب والقوى الوطنية، كذلك، التي تبنّت موقف المنظمة، ورفضت تعريب الأزمة اللبنانية. على عكس موقف "الكتائب"، التي كانت تريد تعريبها، لكنها أوجست من العقيدة الدينية للقوات العربية، فحاولت تدويل الأزمة، لا تعريبها.

       ولا يعني رفض قيادة الثورة الفلسطينية تعريب الأزمة، أنها تعترض على المبادرات العربية؛ إذ كانت ترحب بذلك، بل إنها دعت بعض الدول العربية إليها، عندما ساءت الأمور، مثل طلب ياسر عرفات تدخّل مصر، ومثل ترحيب الطرف الفلسطيني بالمبادرة السياسية السورية. بيد أنها، لم ترحب، في أي مرحلة من مراحل الأزمة، بأي مبادرة عسكرية عربية، على أساس أن تعريب الأزمة، سيعكس على لبنان، وعلى الثورة الفلسطينية، خلافات العرب وتناقضاتهم.

       وما لبثت الأمور أن تطورت تطوراً، أدى إلى تعريب الأزمة؛ إذ بادر الأمين العام لجامعة الدول العربية، إلى الدعوة إلى اجتماع مجلس الجامعة، في يونيه 1976، لبحث هذه القضية. وتمخض اجتماع مجلس الجامعة بمطالبة جميع الأطراف بوقف القتال، وتأليف قوة أمن عربية، للحفاظ على الأمن والاستقرار في لبنان، تتحرك، من الفور، لتحل محل القوات السورية. كما قرر المجلس دعوة جميع الأطراف اللبنانيين إلى إجراء المصالحة الوطنية الشاملة، وأكد الالتزام العربي بدعم المقاومة الفلسطينية وحمايتها.

       ومع أن منظمة التحرير الفلسطينية، كانت تعترض على تعريب الأزمة، إلاّ أن التدخل السوري في لبنان، دفعها إلى قبول التعريب. لكن، يبدو أن هذا الأمر، قد تقرر في وقت، لم تكن السلطة اللبنانية قد أكملت فيه بعد تحقيق ما كانت تبتغيه من أهداف. لذلك، اعترض الرئيس فرنجية، رئيس الجمهورية اللبنانية، آنئذٍ، في بداية الأمر، على قوة الأمن العربية، إذ أصدر هو وكميل شمعون وبيار الجميل، بياناً، عبّروا فيه عن رفضهم تلك القوة، وتصميمهم على مقاومتها، محلياً ودولياً. واتهموا بعض الدول المشتركة في القوة، بأنها طرف في المعركة. وهددوا بانسحاب لبنان من جامعة الدول العربية، إذا فرضت عليهم تلك القوة. لكن الأمين العام للجامعة، أكد لهم، أن قوة الأمن العربية، ستعمل ضمن السيادة اللبنانية، وأنها ستغادر لبنان، حينما يطلب ذلك منها رئيس الجمهورية اللبنانية المنتخَب.

       وحاول بعض الدول العربية تأخير إرسال قوات الأمن العربية، ريثما يُسوَّى الموقف في مصلحة بعض القوى اللبنانية الرسمية؛ إذ استمرت العمليات العسكرية، من دون توقف، واستمرت، كذلك، الذرائع، تبريراً لتأخير إرسال القوات، مما حمل ياسر عرفات على توجيه نداء إلى الملوك والرؤساء العرب، يطالبهم فيه بسرعة إرسال تلك القوات. وأكدت برقية، مرسَلة من عبدالسلام جلود إلى الأمين العام لجامعة الدول العربية، أن هناك استجابة من المقاومة الفلسطينية و"الحركة الوطنية اللبنانية" لوقف القتال، وحل المشكلة بالحوار؛ بينما الطرف الآخر ماضٍ في تشدده. وطلب جلود من الأمين العام مناشدة السوريين الضغط على الطرف الآخر، لإيقاف هجومه على المخيمات، موضحاً أن أي ضغط جادّ من سورية، سيؤدي إلى التزام اليمينيين بوقف إطلاق النار.

       ولعل ذلك هو ما دعا مجلس الجامعة العربية، إلى أن يضيف إلى قراراته، في أول يوليه 1976، تأكيد رفضه المحاولات الرامية إلى تقسيم لبنان، كي يقطع الطريق على الأحزاب والقوى، الهادفة إلى التقسيم، وإلى إفشال مهمة قوات الأمن العربية.

       واللافت أنه في اليوم الذي تحدد فيه انسحاب الجيش السوري من بيروت (22 يونيه 1977)، بدأت القوات اليمينية بشن هجوم على مخيمَي تل الزعتر وجسر الباشا، المحاصَرَين منذ أربعة أشهر، فقصفتهما بآلاف من قذائف المدفعية والصواريخ، مما يدل على أن السوريين، لم يمارسوا أي ضغط عليها، لإيقاف هجومها على المخيمَين.

       وتبين من تقرير اللجنة الثلاثية، الموفَدة من قِبل مجلس الجامعة إلى لبنان، للإشراف على تنفيذ الوقف الفوري لإطلاق النار، أن الرئيس اللبناني، فرنجية، أكد للجنة، أن المشكلة الأساسية، هي العلاقات اللبنانية ـ الفلسطينية، وأن القتال سيستمر في لبنان، ما دام السلاح منتشراً. وطالب بسحب السلاح من أيدي الفلسطينيين واللبنانيين على السواء، وأن يُرَحل من لبنان الفلسطينيون غير المسجلين في وكالة الأمم المتحدة لإغاثة اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى. وقد عنى هذا الموقف، أن الرئيس فرنجية، لم يكُن موافقاً على تنفيذ اتفاق القاهرة، الذي قضى بتسهيل العمل الفدائي في لبنان. وأنه أراد أن يتعامل مع الفلسطينيين في لبنان، كلاجئين.

       أما موقف الطرف الفلسطيني من تدويل الأزمة، فقد اتَّضح من خلال محاولة فرنسا إرسال قواتها إلى لبنان. إذ وجهت منظمة التحرير الفلسطينية مذكرة رسمية، إلى الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، أشارت فيها إلى تصريح الرئيس الفرنسي، فالاري جسكار ديستانValery Giscard d'Estaing، الذي أعلن فيه عزم فرنسا على إرسال قوات فرنسية إلى لبنان، والذي صدر عقب اجتماعه بالرئيس الأمريكي، جيرالد فورد. وقد نبهت المنظمة إلى خطر التدخلات العسكرية الخارجية، موضحة أنها تستهدف الثورة الفلسطينية، وأنها دعوة غير مباشرة إلى مزيد من القتال، وسابقة خطيرة، يمكِن تكرارها في المستقبل. ودعت المنظمة جامعة الدول العربية، إلى تحرُّك سريع ضد هذه الخطوة، ورفض أي تدخّل أجنبي، وإبقاء زمام الأمور في يد الشعب اللبناني.

حادي عشر: الدور الفلسطيني في الحرب الأهلية اللبنانية

تميزت حركة المقاومة، خلال الحرب الأهلية اللبنانية، بسِمات، جعلتها قادرة على الاستمرار. أهمها:

1. إن مواقف المقاومة، كانت واضحة، ومحددة. وهو ما تبيّن من خلال المذكرة، التي قدمتها المقاومة إلى الهيئة الوطنية للحوار، في 13 أكتوبر 1976، والتي تضمنت ما يأتي:

أ. إن الاتفاقات المعقودة بين المقاومة والسلطة اللبنانية، هي التي كانت تحدد علاقتهما. وهي تنص على شرعية الوجود الفلسطيني في لبنان.

ب. إن العلاقات اللبنانية ـ الفلسطينية، لا تناقش فيها المقاومة، إلاّ السلطة الرسمية اللبنانية، التي تعبّر عن كافة المواقف الشرعية.

ج. إن المقاومة طلبت من كل الأطراف التعهد، بعدم اللجوء إلى العنف، في حل أي مشكلة، في المستقبل.

2. إن قيادة المقاومة، ممثَّلة في ياسر عرفات، كانت تخاطب الرأي العام اللبناني، مباشرة، وتعرض عليه مواقفها.

3. إن قيادة المقاومة الفلسطينية، استطاعت، إلى حدّ كبير، أن تسيطر على نشاط منظمات المقاومة المختلفة، وأن تجري تنسيقاً كبيراً فيما بينها، وأن تقضي على أي احتمالات لحدوث اشتباك أو صراع بينها.

4. إن قيادة المقاومة الفلسطينية، حرصت على الوقوف على الحياد، إزاء الصراع بين القوى المحلية، فلم تستجب لنداء جنبلاط بالوقوف إلى جانبه، في رفض نزول الجيش إلى حلبة الصراع، تأكيداً منها لموقفها الثابت، من عدم إقحام نفسها في أي صراع داخلي في لبنان، ممثلاً في الحرب الأهلية اللبنانية.

5. إن قيادة المقاومة الفلسطينية، لم تعزل نفسها عن العالم، خلال الأزمة؛ إذ والت اتصالاتها مع كثير من الدول والمنظمات الشعبية، في أنحاء العالم. كما جال بعض الشخصيات الفلسطينية في عدد من الدول، شملت الاتحاد السوفيتي (سابقاً)، وبلغاريا وبولندا وإيطاليا وغيرها، مما أعطى الفرصة لشرح حقيقة الأوضاع في لبنان، وأكد موقف هذه الدول ودعمها للفلسطينيين.

       كانت خسائر المقاومة الفلسطينية، في الأزمة اللبنانية، فادحة، إلى حدّ، أن ما خسرته على أرض لبنان، زاد على ما فقدته في عملياتها، في مناطق أخرى.

       ومن الممكِن القول إن الوجود الفلسطيني في لبنان، كان عاملاً مهماً في الحفاظ على وحدة هذا البلد، خلال الحرب الأهلية، لأن تضامن المقاومة مع "الحركة الوطنية اللبنانية"، أعطى هذه الحركة فاعلية، استطاعت بها مواجَهة خصومها، ومواجَهة كل مخططات التقسيم وأشكاله. فلولا الوجود الفلسطيني في لبنان، لكان من الممكِن، أن تنتهي الحرب الأهلية إلى تقسيم لبنان.

       ومع أن حزب الكتائب، كان يعمل على توريط الجيش، ودفعه إلى تصادم شامل مع المقاومة الفلسطينية، كما أكد بيان رئيس الوزراء اللبناني، في 15 مايو 1975، إلاّ أن اتجاهاً قوياً في قيادة الجيش، حرص على تجنّب التصادم مع المقاومة، وحاول تهدئة الموقف، وإيقاف الأعمال المسلحة، وتكوين اللجان المشتركة لتنفيذ ذلك.

       وكان من إيجابيات الأزمة، ولادة مقاومة لبنانية جديدة، ممثَّلة في قوات "أمل"، للدفاع عن الجنوب، وصد الاعتداءات الإسرائيلية، وفي تنظيم "حركة أنصار الثورة" الذي يهدف إلى حماية المقاومة الفلسطينية، ومشاركتها في رد الاعتداءات الإسرائيلية.

       خاضت المقاومة الفلسطينية أولى مواجهاتها مع "الكتائب"، في أبريل 1975، مع بداية الحرب الأهلية، في عين رمانة. واتّضح لها مخطط اليمين لتحويل المقاومة إلى إحدى فئات الصراع السياسي في لبنان، مما سيعوق، بطبيعة الحال، الكفاح ضد إسرائيل، من جانب، ويدعم وجهة نظر اليمين، في أن المقاومة تهدد سيادة لبنان، من جانب آخر، مما يبرر دعوة اليمين إلى ضرورة تحديد حجم المقاومة، وحصرها في الجنوب.

       وهكذا، حافظت المقاومة الفلسطينية، طيلة فترة وجودها في لبنان، على حيادها تجاه تطوراته الداخلية، إدراكاً منها أن الهدف الرئيسي لـ "الكتائب" تكرار "أيلول الأسود"، الذي وقع في الأردن، عام 1970. وفي بداية الحرب، وقعت أزمة بين زغرتا، بلدة رئيس الجمهورية، وطرابلس، مدينة رئيس الوزراء، فرضت على المقاومة أداء دور حقيقي فيها، باضطلاعها بالوساطة بين أطرافها.

       إلاّ أن اليمين، رأى في هذه الجهود الفلسطينية، نوعاً من التدخل في الشؤون الداخلية. فاتَّهم بيان مشترك، صدر عن الرهبان الموارنة و"الرابطة المارونية"، المقاومة الفلسطينية بالتدخل في الشؤون الداخلية، وأن وجود لبنان قد أصبح تحت رحمتها. والقصد من وراء ذلك، هو محاولة تصوير الأزمة في لبنان، على أنها نزاع لبناني ـ فلسطيني. ولهذا، كان بيار الجميل وكميل شمعون، يؤيدهما في ذلك رئيس الجمهورية، يريان ضرورة تدخّل الجيش في الصراع الداخلي، ومن ثم الاصطدام بالمقاومة، الأمر الذي لقي معارضة جميع الأحزاب والقوى التقدمية، والمسلمين، وكذلك، جميع فصائل المقاومة الفلسطينية، خوفاً من انتقال النزاع الطائفي إلى داخل الجيش، ومن ثَم إطاحة لبنان، كدولة.

       وإزاء دعوة حزب الكتائب إلى ضرورة تعريب الأزمة، بل تدويلها، متذرعاً بأن لبنان لا يستطيع، وحده، تحمّل عبء الوجود الفلسطيني على أرضه، من دون حل عربي، ركز الفلسطينيون جهودهم، من خلال الوساطة، في تطويق الصراع في لبنان، ومحاولة حله داخلياً؛ إذ إن تعريبه، سوف يدفع إلى التعرض لمناقشة الوجود الفلسطيني نفسه، وهو ما لم يكُن أحد على استعداد لإثارته، خاصة أن اتفاق القاهرة، عام 1969، نظّم هذا الوجود.

       ورأت لجنة التنسيق المشتركة، أنه من الضروري تولّي قوات المقاومة الفلسطينية عمليات توطيد الأمن وحفظه، في طرابلس، على سبيل المثال. ففي 22 سبتمبر 1975، شكلت لجنة أساسية، ضمت "أبو الحسن"، عن المقاومة، وماجد حسن، عن الأحزاب والقوى التقدمية، وداني شمعون، عن "الكتائب" و"الأحرار". وتتولى تنفيذ وقف إطلاق النار، وإزالة الوجود المسلح من كافة المناطق. وقد أوضح زهير محسن، رئيس الدائرة العسكرية في منظمة التحرير الفلسطينية، أن الاشتراك في أعمال حفظ الأمن، جاء نتيجة إلحاح الحكومة اللبنانية، وليس نتيجة أي سعي من جانب المقاومة. وأكدت المقاومة، كذلك، أن مثل تلك العمليات يشغلها عن مهامّها الأصلية، في الكفاح ضد إسرائيل، وأنها ترفض رفضاً تاماً التحول إلى طائفة، ضمن طوائف الصراع في لبنان.

ثاني عشر: رؤية الموارنة إلى الحرب الأهلية اللبنانية

       عوامل عديدة، محلية وإقليمية ودولية، تظافرت، فأثارت الحرب الأهلية اللبنانية. ولا شك أن للوجود الفلسطيني في لبنان، علاقة بها. إلاّ أنها ليست، كما يراها المسيحيون اليمينيون نزاعاً لبنانياً ـ فلسطينياً فقط. فالوطنيون اللبنانيون، ناضلوا، في أواخر الستينيات من هذا القرن، وقبْل أن توجد المقاومة الفلسطينية في لبنان، ضد اليمينيين والطائفيين، على مدى أربعين عاماً. وكانت أحداث 1958، قبْل وجود المقاومة الفلسطينية في لبنان. كما أن التجاوزات الفلسطينية، لم تكن هي سبب الأزمة اللبنانية؛ إذ طالما جاهر اليمينيون، قبْل اندلاع الفتنة، برفضهم الوجود الفلسطيني في لبنان.

       إن الأزمة اللبنانية هي أزمة سياسية، ذات جذور، اجتماعية واقتصادية وتاريخية عميقة، وإن أخذت وجهاً طائفياً؛ إذ اقتضت مصلحة الكيان السياسي في لبنان ذي النظام الطائفي، الانخراط الاقتصادي الكبير في العالم العربي، وفي الوقت نفسه، الانعزال السياسي الكبير عن قضاياه وصراعاته. واستطاعت الانعزالية اللبنانية، ولا سيما حزب الكتائب، أن تفرض هذه العزلة على لبنان، وأن تجعل مواقفه السياسية متسمة بالحياد السلبي، وأن تنأى به، إلى حدّ بعيد، عن الانتفاضات، التحررية والاجتماعية، التي شهدها العالم العربي، قبْل عام 1967. وعلى الرغم من وجود بعض الظواهر، الوطنية أو التحررية، في لبنان، إلا أنه أمكن الكيان اللبناني أن يمتصها، من دون حدوث تغييرات داخلية عميقة، داخل هذا الكيان. لكن دخول حركة المقاومة الفلسطينية لبنان، قلَب أوضاعه، وحمل كيانه على إعادة النظر في مواقفه وأوضاعه، وتحديد مواقف واضحة من قضايا المقاومة والتحرر، والخروج من عزلته.

       أما التناقضات الاجتماعية في لبنان، فهي عديد، ومن أبرزها ذلك التخلف، الذي كان سائداً في جنوبي لبنان. فبينما تتمركز المصالح الاقتصادية في العاصمة، تتردّى الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في الجنوب. وبينما تشهد العاصمة نمواً وازدهاراً، في كافة المجالات، يعاني الجنوب وأهله الحرمان. وكما يظهر الضد حُسْن ضده، كذلك، الضد يظهر سوءه الضد، إذ برز تخلّف الجنوب اللبناني في مقابل المستعمرات الإسرائيلية.

       شهد لبنان، قبَيل حربه الأهلية، تحوّلاً اجتماعياً كبيراً. تجلى في نمو قوى طفيلية ورأسمالية، عديدة، وتدهور أوضاع الطبقة الوسطى، واضطرابات طلابية وعمالية، عنيفة، واستشراء الغلاء، وظهور قوى اجتماعية وتقدمية، جديدة، رأت في التغيير الاجتماعي علاجاً لأوضاع لبنان ومشاكله. لكن هذه التغييرات، لم تكن واضحة لبعض القوى اليمينية في لبنان، التي رأت في الوجود الفلسطيني في لبنان، أساساً للحرب الأهلية اللبنانية. فشن حزب الكتائب حملة ضارية على حركة المقاومة الفلسطينية، وأمعن في تدريب أعضائه، عسكرياً، وكثّف تسلحه، ثم بادر إلى التصادم المسلح مع قوات المقاومة، في عين الرمانة، إيذاناً ببدء الحرب الأهلية، التي استهدفت استنزاف قدرات المقاومة، عسكرياً وسياسياً، وامتصاص طاقات العمل الفدائي، في أعمال جانبية أو ثانوية، تبعده عن هدفه الرئيسي ضد إسرائيل، فيتوقف إطلاق النار في الجبهة الملتهبة الوحيدة، ويفتح الطريق أمام التسوية النهائية مع العدوّ.