إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / الحرب الأهلية اللبنانية






مواقع المخيمات الفلسطينية
مواقع المخيمات الفلسطينية
لبنان - التوزيع الطائفي
الجمهورية اللبنانية
تعداد الفلسطينيين بلبنان
جنوب لبنان



المبحث الثالث

المبحث الثالث

إسرائيل والحرب الأهلية اللبنانية

1. أبعاد الموقف الإسرائيلي

عقب حرب يونيه 1967، أصبح لبنان، فجأة، في قلب الصراع العربي ـ الإسرائيلي، الذي ظل بعيداً عنه، سنوات طويلة. إذ ساعدت تلك الحرب على ظهور وضع جديد، اتّسم بتزايد الوجود الفلسطيني في لبنان، وارتبط بنشاط حركة التجنيد والتدريب في المخيمات الفلسطينية. وهو ما مثّل أحد العناصر المؤثرة في الحرب الأهلية اللبنانية. يضاف إلى ذلك، أنه في الوقت الذي تغيّر فيه التكوين الديموجرافي، في مصلحة المسلمين، ذوي الاتجاهات العربية الغالبة، أصبحت الأرض اللبنانية، هي المعقل الرئيسي للمقاومة، بعد إخراجها من الأردن. ولم يكن الأمر الوحيد، الذي اهتمت به إسرائيل، هو اعتراف لبنان بحق المقاومة في الوجود والعمل على أرضه، بل أولت اهتمامها، كذلك، تحسُّن العلاقات المطّرد بسورية.

في مواجَهة هذه التطورات، لجأت إسرائيل إلى جعل الجنوب اللبناني هدفاً لعمليات مكثفة، بغرض تفريغه من الكثافة السكانية، والقضاء على العمل الفدائي فيه. وبدت قدرة الجيش اللبناني على التصدي لهذه العمليات محدودة جداً. ولذا، توالت العمليات الإسرائيلية، من دون رادع، فألحقت بالمدنيين خسائر جسيمة. وأعلن كثير من قادة إسرائيل، أنها ستستمر حيثما توجد قواعد الفدائيين، حتى لو أدى ذلك إلى وقوع ضحايا بين المدنيين اللبنانيين.

سعت إسرائيل إلى طرح قضية الوجود الفلسطيني في لبنان، من أساسها، وإثارة التصادم بين المقاومة والجيش اللبناني، عسى أن تتكرر التجربة الفلسطينية في الأردن. بيد أن إسرائيل كانت ترى أن عمليات واسعة، ومؤثرة، في لبنان، ستزيد الإحساس بعدم الأمن وعدم الاستقرار. وإذ تمثّل التجارة والسياحة، بكل ما تتطلبانه من أمْن واستقرار، العمود الفقري للاقتصاد اللبناني، فإن القوة المرتبطة بالمصالح، الاقتصادية والاجتماعية، السائدة، ستحاول استخدام مؤسسات الدولة، تحت شعار حماية سيادة لبنان، لتقلّم أظفار المقاومة، في البداية، ثم لتجْهِز عليها، في مرحلة تالية. وفي هذه الحالة، تُعفى إسرائيل من مهمة القضاء على المقاومة بنفسها، الذي تضطلع به أيدٍ عربية، وعلى الأخص لبنانية. وهو ما ضاعف، بالفعل، من حدّة الحرب الأهلية في لبنان، وجعل لها بُعداً إقليمياً.

2. أهمية لبنان، بالنسبة إلى إسرائيل

قبل عام 1916، كانت الحدود بين فلسطين ولبنان متداخلة، تحت الحكم العثماني. فتاخمت حدود فلسطين الإدارية سنجق بيروت، كما ضم شمالي فلسطين لواءَي نابلس وعكا، وهما جزءان من ولاية بيروت. ثم جاءت اتفاقية سايكس ـ بيكو، عام 1916، لترسم بينهما خطوطاً فاصلة. وتلاها تصريح بلفور، عام 1917، وتحديد إنجلترا وفرنسا للحدود السياسية بين مناطق انتدابهما، في معاهدة باريس، في 22 ديسمبر 1920، ثم طرأت تعديلات على هذه الحدود، خاصة بين كل من فلسطين ولبنان.

وجاء في مذكرة، بعث بها اللورد آرثر جيمس بلفورArthur James Balfourإلى لويد جورجLloyd George، في 26 يونيه 1919، عن الدور الصهيوني في رسم هذه الحدود: "إن الشيء، الذي يجب أن يؤخذ في الحسبان، حول تحديد هذه الحدود، هو جعل السياسة الصهيونية ممكِنة، من خلال إعطاء مجال للتطور الاقتصادي في فلسطين، بما يعني ضرورة أن تعطى الحدود الشمالية الفلسطينية سيطرة كاملة على مصادر المياه"، وهو ما عنى، طبقاً لآراء المسؤولين الإنجليز، أو اليهود، أن ترسم الحدود في أماكن، تتيح الحصول على مياه الليطاني، ومياه السفوح الجنوبية لجبل الشيخ، ومياه السفوح الغربية لمرتفعات الجولان، ومياه نهر اليرموك، ومياه نهر الأردن. وبذلت الصهيونية، آنذاك، قصارى جهدها في ضمّ جنوبي لبنان إلى الأرض، التي وعدت أن تكون وطناً قومياً لليهود. وإذ جاءت الحدود مخيبة لآمالها، فإنها جعلت تغييرها هدفاً لها. وجعلت السيطرة على جنوبي لبنان أحد الأهداف الرئيسية للحركة الصهيونية، وهو ما كان له أعمق الأثر في الحرب الأهلية اللبنانية.

أمّا الموقف اللبناني في مواجَهة إسرائيل، فارتكز على سياسة ذات طابع دفاعي، انتُهجت منذ توقيع اتفاقية الهدنة في رودس، في 23 مارس 1949، وتستند إلى احترام الوضع القائم، والحفاظ على هدوء خطوط الهدنة. وتجلت هذه السياسة في عدم ربط الأمن اللبناني بالأمن العربي، والاكتفاء بالسلامة الذاتية، وعدم الاشتراك في أي من مجالات الصراع العربي ـ الإسرائيلي. بيد أن حرب 1967، ساعدت على ظهور عامل جديد في الصراع، تمثّل في المقاومة الفلسطينية، التي تزايدت فاعليتها في الصراع. وترافق هذا الوضع مع تغيُّر في التكوين الديموجرافي اللبناني، في مصلحة المسلمين، ذوي النزعات والميول العربية. وبدءاً من عام 1970، وبعد الأحداث التي تعرض لها الفلسطينيون في الأردن، أصبح لبنان المعقل الرئيسي للمقاومة الفلسطينية، بعد أن كان، عام 1969، قد عقد اتفاقاً معها، يعترف فيه بوجودها الشرعي، ويقر، بموجبه، بحقوق لها في مواجَهة إسرائيل.

هكذا، شكل الوجود الفلسطيني في لبنان تحدياً لإسرائيل، التي تقع مراكزها السكانية الكثيفة، والصناعية المهمة، على مسافة قريبة منه. وأدى ذلك إلى وقوع عدة حوادث دامية، بين الجيش اللبناني والمقاومة الفلسطينية. غير أنها لم تؤل إلى ما آلت إليه حوادث "أيلول الأسود" في الأردن، بسبب التركيب الطائفي للمجتمع اللبناني، وضعف القدرات العسكرية للجيش اللبناني، وتعمق التأييد الشعبي للمقاومة. كما أدت سياسة إسرائيل إلى تفريغ جنوبي لبنان من سكانه، ونزوح عشرات الآلاف من اللبنانيين والفلسطينيين إلى بيروت وضواحيها، ليزداد اشتداد حزام البؤس حولها، وتزداد مساندة المجتمع الجديد للمقاومة.

وإزاء هذا الوضع، حاولت إسرائيل التقرب إلى اللبنانيين، المناهضين للوجود الفلسطيني. إلا أن التدخل السوري، في المرحلة الأولى من الحرب الأهلية اللبنانية، إلى جانب القوى اليمينية، حال دون تعاون علني بين من يجمعهم العداء للوجود الفلسطيني في لبنان.

3. التحالف الإسرائيلي ـ الكتائبي

مع بداية الحرب الأهلية، لجأ أحد ضباط الجيش اللبناني (الرائد سعد حداد) إلى إسرائيل، وأنشأ شريطاً أمنياً على الحدود الجنوبية للبنان، وهو ما أسهم في بروز الدور الإسرائيلي في الحرب الأهلية اللبنانية. وحرصت إسرائيل على دعم حداد، ومدّه بالسلاح. وحينما اجتاحت الجنوب اللبناني، عام 1978، وبسطت سيطرتها على قطاع واسع منه، جعلت من حداد قائداً لهذا القطاع، المقدر عدد سكانه بنحو 100 ألف نسمة، والمقدرة مساحته بحوالي 600 كم2، من أصل 2085 كم2، هي إجمالي مساحة الجنوب اللبناني. وعندما تبدلت التحالفات السورية في لبنان، تهيأت لإسرائيل فرصة لتعزيز دورها في الحرب اللبنانية، فتعاونت مع التحالف الكتائبي، في شمالي لبنان، ومَدّته بالأسلحة، وعملت، في بعض الأحيان، على حمايته في مواجَهة الهجمات، التي تعرّض لها من قِبل القوات السورية، العاملة في نطاق قوات الردع العربية.

ومع إعلان سعد حداد لدولته، "لبنان الحر"، في 14 أبريل 1979، تحت الحماية الإسرائيلية المباشرة، أصبح الدور الإسرائيلي في الأزمة اللبنانية أشد فاعلية. وفي إطار هذا السياق، واصلت إسرائيل سياسة إفراغ الجنوب اللبناني من سكانه، ومهاجمة المقاومة الفلسطينية، وإضعاف موقف سورية. فساد جنوبي لبنان التوتر وعدم الاستقرار، نظراً إلى احتلال إسرائيل شريطاً من القرى والبلدات اللبنانية، المحاذية لحدودها الشمالية، منذ عام 1978، وهو ما يعرف بالشريط الحدودي. وتضم قرى هذا الشريط وبلداته العديد من الطوائف، إلا أن الغالبية فيها من الشيعة. وعمدت إسرائيل إلى إنشاء بوابات عبور، تربط الشريط الحدودي بالمناطق اللبنانية الأخرى، في الجنوب والبقاع، ووكلت مهمة الأمن الداخلي في الشريط، إلى جيش لبنان الجنوبي، الموالي لها، والذي يقوده أنطوان لَحْد، خلفاً لسعد حداد.

وتحتفظ إسرائيل بهذا الشريط لأسباب أمنية، ومطامع إقليمية في أراضي لبنان ومياهه، فضلاً عن استخدامه، كورقة، للضغط على دمشق، وللتجاذب والمساومة مع واشنطن. ويُعَدّ جنوبي لبنان الجبهة العربية الوحيدة، التي لا تزال تقاتل إسرائيل. وتحرص الدولة العبرية على أن تحصر القتال في منطقة الشريط الحدودي.

4. أهمية لبنان الإستراتيجية، كبُعد إسرائيلي

تُعَدّ الأهمية الإستراتجية للبنان أهم أبعاد موقف إسرائيل من الأزمة اللبنانية، وذلك لأسباب، إستراتيجية واقتصادية، تفرض عليها اهتماماً كبيراً بالجنوب اللبناني. إذ تقع هذه المنطقة على مسافة قريبة جداً من مراكز الكثافة السكانية، والإنتاج الصناعي فيها. يضاف إلى ذلك أنها صالحة، من الناحية الطبوغرافية، لتكون قاعدة تمركز الفدائيين وانطلاقهم. لذلك، تحرص إسرائيل على إخلائها من أي عنصر مسلح معادٍ، لتكون حزام أمن، أو أرضاً مهجورة، يمكِن، في ظروف ملائمة، على المستويين، الدولي والإقليمي، اجتياحها والسيطرة عليها.

إضافة إلى مقتضيات الأمن، هناك أسباب ذات طبيعة اقتصادية، تتعلق بفرص التوسع الزراعي، واستغلال المياه. ولعل مشكلة المياه، تظل أهم عقبة تواجه مشاريع التنمية الزراعية في إسرائيل. ولا تزال مسألة التغلب عليها، من طريق تحلية مياه البحر، باهظة النفقات. بينما جنوبي لبنان، يحتوي على مصادر وفيرة للمياه، تنبهت لها الحركة الصهيونية، منذ الحرب العالمية الأولى، فتضمنت المذكرة، التي قدمتها المنظمة الصهيونية العالمية إلى مؤتمر فرساي، أن حدود فلسطين، يجب أن تشمل جنوبي لبنان حتى صور، وأن جبل الشيخ ولبنان، هما مصدر المياه الحقيقي لفلسطين، وأنه لا يمكِن فصلهما عنها، من دون إصابة الحياة الاقتصادية فيها بأضرار فادحة. ومع مطلع الستينيات، كانت مطامع إسرائيل في مياه تلك المنطقة، قد أصبحت حقيقة واضحة، تمثلت في مشروعات محددة. وكان رد فعلها عنيفاً، إزاء كل المحاولات العربية لاستغلال مياه تلك المنطقة، بخاصة مياه نهر الليطاني.

غير أن سياسة إسرائيل تجاه لبنان، خلال الأعوام الأخيرة، كان تأثرها بالعامل الإستراتيجي الأمني، أكثر منه بأي عامل آخر. كما أنها كانت أحد مداخل الأزمة اللبنانية، وأحد عوامل تحريكها.

5. خصوصية لبنان في مفهوم الأمن الإسرائيلي

شهدت السبعينيات دخول لبنان، فعلياً، في المجال الحيوي للأمن الإسرائيلي، لأنه الموقع الوحيد بين مواقع "بلدان الطوق"، الذي يوفر لأركان الأمن في إسرائيل، مجالاً لامتحان خططهم، من طريق الحروب.

أحدثت حرب أكتوبر 1973، تحولاً في مفاهيم إسرائيل الأمنية، حتى إن كثيراً من قادتِها، السياسيين والعسكريين، دعوا، إثر تلك الحرب، إلى التخلي عن نظرية ديفيد بن جوريونDavid Ben-Gurionالشهيرة، المرتكزة على الحرب الخاطفة، والقتال الهجومي، الذي يتيح إحراز إنجازات تكتيكية في وقت وجيز. ويُنزل بالعدوّ، الذي تجري على أرضه الحرب خسائر قاصمة، تضطره إلى طلب تسوية ما، تضع نهاية سريعة للحرب. ورأى هؤلاء القادة، أن يستبدل الهجوم السياسي بالهجوم العسكري. بينما احتفظوا، في المجال اللبناني، بخيارات الحركة المفتوحة، بدءاً بالضربات الوقائية السريعة، إلى حروب الاحتلال، فالرغبة في تشكيل نظام الحكم الملائم لسياسة إسرائيل الإقليمية.

وفي إطار تشكيل إسرائيل لمفاهيمها الأمنية، يمكِن القول إن ثمة خمس مراحل متعاقبة، شكلت العلاقة بين إسرائيل ولبنان. وهو ما سيكوّن أحد أهم العناصر الحاكمة في الحرب الأهلية اللبنانية. وحين كان مسؤولو التخطيط الإسرائيليون، في الحكومة والجيش، يضعون سياسات أمنية حيال لبنان، فإنهم عادة ما كانوا يأخذون هذه المراحل في الحسبان. وهي:

  1. مرحلة ما قبل عام 1975، وهي المرحلة التي شهدت معارك الاختبار الأولى، لاستنزاف قواعد الفدائيين الفلسطينيين، في مناطق العرقوب والقرى الجنوبية الأمامية. كما شهدت عدداً من العمليات الخاطفة، ضد مَواقع حساسة في الأراضي اللبنانية، أبرزها الغارة على مطار بيروت الدولي، واغتيال قادة "فتح" الثلاثة في شارع "فردان"، وغيرهما من عمليات الكوماندوز، في الفترة الممتدة بين عامَي 1970 و 1974.
  2. مرحلة انفجار الحرب الأهلية اللبنانية، في ربيع 1975. وفيها اتسع هامش النشاط الإسرائيلي، وصار لبنان عرضة للاختراقات الإسرائيلية، على جبهتَي الجنوب والداخل، في آن. وانتهجت إسرائيل، خلال هذه المرحلة، نهجاً أمنياً مزدوجاً: جانبه الأول، اعتماد نظرية القتال الهجومي، عبْر شن الضربات الوقائية، من الجو والبر والبحر، ضد القواعد المشتركة للأحزاب اللبنانية اليسارية، ومنظمات المقاومة الفلسطينية. وجانبه الثاني، التسرب السياسي، لاختراق الداخل اللبناني. وساعدت البنية اللبنانية، المتداعية بفعل التمزق الأهلي، على رفع التصعيد الإسرائيلي إلى درجة الرغبة في إنشاء كانتونات طائفية موالية لإسرائيل، بل خلق نظام حكم في لبنان صديق لها.
  3. مرحلة حرب 15 مارس 1978، والنتائج التي ترتبت على اجتياح الجنوب حتى حدود نهر الليطاني، شمالاً. وكان الحزام الأمني، أو ما سمي "المنطقة الأمنية"، من أشد نتائج حرب الاجتياح خطراً، إضافة إلى إيجاد منطقة دولية عازلة، تشرف عليها قوات متعددة الجنسية، بموجب قرار مجلس الأمن الدولي، الرقم 425 الصادر في 19 مارس 1978.
  4. مرحلة غزو لبنان، صيف عام 1982. وفيها بلغت مفاهيم الأمن الإسرائيلي ذروتها، إذ عزمت القيادة الإسرائيلية على تحقيق هدفين إستراتيجيين:

أ. تدمير البنية العسكرية الفلسطينية تدميراً تاماً، وإخراج منظمة التحرير الفلسطينية، نهائياً، من لبنان، وهو ما تحقق معظَمه.

ب. خلق نظام حكم في لبنان، يعقد معها معاهدة صلح. وكان اتفاق السابع عشر من مايو 1983، التعبير الأوضح عن هذا الهدف.

  1. مرحلة مؤتمر مدريد للسلام (30 ـ 31 أكتوبر وأول نوفمبر 1991). وفيها سعت إسرائيل، منذ البداية، إلى دخول مؤتمر السلام بجرعة كبيرة من الإحساس بالغلبة، وإلى ترسيخ مفهوم للأمن، يحقق لها، عبْر المفاوضات، ما لم يكُن ممكناً استكمال تحقيقه، من خلال نظرية الهجوم القتالي، أو نظرية الضربات القوية. وتبيّن أن نقْل هذا المفهوم إلى المسار اللبناني، سيخضع لآلية معقدة، أساسها المزاوجة بين المفاوضات واستمرار العمليات العسكرية.

لا شك أن المراحل الخمس تداخلت تداخلاً، تصعب معه دراسة كلٍّ منها بمعزل عن الأخرى. فالسلسلة المتصلة لهذه المراحل، يؤلف بينها منطق داخلي واحد، مفاده بلوغ مفهوم أمني، يقضي بجعل "الضفة الشمالية" مع لبنان، سياجاً أمنياً، لا تشوبه شائبة. غير أن هذا التداخل، أدى، في جانب مقابل، إلى اضطراب إسرائيل في تعيين مفاهيم أمنية واضحة. وربما لهذا السبب، استمرت المقاومة في الجنوب، وتواصلت معها العمليات الإسرائيلية.

6. رؤية النخبة الإسرائيلية إلى مفهوم الأمن الإسرائيلي

على الرغم من التحولات، التي طرأت على الحرب الأهلية اللبنانية، على امتداد سنوات، إلاّ أن النزاع ظل قائماً بين النخب الإسرائيلية، حول مفهومَين متناقضَين للأمن في لبنان. وغالباً ما مثّل النزاعَ التياران الرئيسيان، المتعاقبان على الحكم: "العمل" و"الليكود".

فتيار "العمل" بنى نظريته الأمنية على أسُس تكتيكية عسكرية، مستبعداً النظرية الإستراتيجية، القائمة على الأمن المطلق، ولا سيما في غياب الإجماع الأيديولوجي. وإزاء الخوف من مغبة مواجَهات، يمكِن أن تؤدي إلى إثارة الشقاق في المجتمع الإسرائيلي، وبإيعاز من القيادة السياسية، وخصوصاً من جانب أقطاب "العمل" في السلطة ـ ظهر مفهوم جديد، هو "حدود يمكِن الدفاع عنها". وقد نظرت حكومات إسرائيل (ابتداء من أواسط الثمانينيات) إلى هذه الحدود، على أنها حدود وقف إطلاق النار، في يونيه 1967.

انسحب هذا التوجه على لبنان، إذ انتُقدت القيادة الليكودية، التي اجتاحته، عام 1982. إلاّ أن هذه الظاهرة لم تقتصر على المعارضة العمالية، بل تعدتها إلى قادة عسكريين، شاركوا في الاجتياح نفسه. ومن هؤلاء العقيد الاحتياطي، جيورا فورمن، مساعد رئيس شعبة العمليات في هيئة الأركان، خلال اجتياح لبنان، الذي رأى أن "التورط في لبنان، ينطوي على عنصرين، يتكون منهما المفهوم، الذي استرشد به المسؤولون. الأول، ينطلق من وجهة النظر القائلة بإمكانية خلق نظام جديد في دولة مجاورة، بالقوة، يحولها من عدوّ إلى حليف. أما الثاني، فيرى أن محاربة الإرهاب، يمكِن أن تنتهي بعملية عسكرية. في حين يبدو واضحاً للجميع، أن الحل المطلوب هو حل سياسي، وليس العنصر العسكري، إلاّ مجرد أداة له".

أما تيار "الليكود"، فهو مشبع بثقافة سياسية، قائمة على نزعة القوة، وهي ثقافة، لم ينفرد بها وزير الدفاع، أثناء حرب لبنان، عام 1982، الجنرال أرييل شارونAriel Sharon، وإنما تعود إلى ما قبل توليه هذا المنصب. لكن شارون، الذي عُدَّ أحد أبرز ممثلي ثقافة النزوع إلى القوة، أصرّ على ضرورة الاحتفاظ بمفهوم الأمن القومي التقليدي، فيما يتعلق بلبنان، الذي وضع أُسسه الأولى بن جوريون، وشكّل أساس وجود دولة إسرائيل وأمنها. وقد حرص شارون، في تقديمه لحرب ما أسماه "سلام الجليل"، على ضرورة مقابلتها بالحروب الماضية. وهو ما يعكس وجهة نظر تيار الأمن المطلق في إسرائيل، أي التيار القائل إن كل الحروب الإسرائيلية في لبنان، تنطوي على جوهر واحد، وإن أي محاكمة للمعطيات الأمنية، الناجمة عن كل واحدة منها، يجب أن تقاس على إيقاع هذا الجوهر. ولتأكيد وجهه نظر التيار الذي يمثله، استعرض أرييل شارون أربع حالات، كان قد وضعها، قبله، إيجال آلون، وتجيز لإسرائيل البحث في ضرورة اجتياز خط وقف إطلاق النار، سواء من أجْل غارة قصيرة، أو من أجْل احتلال:

الحالة الأولى: إزالة أسباب الحرب الصغيرة والإرهاب والتخريب، التي تنفذ ضد إسرائيل، من قواعد تقع وراء خط إطلاق النار، ولا يمكن كبحها بوسائل أكثر محدودية.

الحالة الثانية: مد يد العون إلى حلفاء محتملين في بلاد مجاورة.

الحالة الثالثة: في حالة حدوث تغيير، يهدد الوضع الراهن في إحدى الدول المجاورة.

الحالة الرابعة: في حالة الهجوم، أو حشد القوات المعادية، تمهيداً للهجوم.

هذه هي الحالات الأربع، التي دعا فيها آلون إلى ضرورة التدخل، في ضوء الظروف، الإقليمية والدولية. ويصفها شارون بأنها مطابقة لعملية "سلام الجليل" في لبنان، التي كانت "بديلاً من حرب أكثر شمولية، كانت ستقع في وقت لاحق".

وبصرف النظر عن مبررات المؤيدين لنتائج حرب "سلام الجليل"، أو انتقادات المعارضين لها، فإن السنوات، التي تلت تلك الحرب، لم تحسم المناقشة في شأنها. فالإنجازات التي حققتها عملية الغزو، صيف 1982، ما لبثت أن ولدت معطيات معاكسة، وفرضت وجوب العودة إلى عدد من الثوابت، في مفهوم الأمن عند الإسرائيليين. ولئن كانت الإنجازات قد تحددت، تقليدياً، بالقضاء على بنية منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، وبتوسيع الحزام الأمني إلى عمق يراوح بين 10 و 15 كم، على الحدود مع لبنان، وإقامة سياج من القوات الدولية بعمق 30 كم، فإن هذه الإنجازات، لم تمنع الاختراقات الكبرى للأمن الإسرائيلي في الجنوب. ولعل أبرزها حرب الاستنزاف الفعلية، التي قادتها المقاومة (الوطنية والإسلامية)، ضد جيش لبنان الجنوبي، ومواقع انتشار قوات الاحتلال الإسرائيلي، في ما يسمى "المنطقة الأمنية". وتعكس آراء النخب الإسرائيلية، حيال النتائج المتعاقبة لحرب عام 1982، ووجهات نظرها المختلفة في الأمن. وهي تعبّر عن مفهومَين، يحكمان دولة إسرائيل، تاريخياً. فالذين قادوا الحرب، ينتمون، تاريخياً، إلى الأصولية الصهيونية. أمّا المعارضون، فهم أولئك الذين جزموا أن استخدام القوة استخداماً يتخطى المألوف، وهو ما حدث في حرب لبنان، 1982، سيؤدي، حتماً، إلى إلحاق ضرر سياسي بعيد المدى، بالدولة، هو أكبر من الفائدة التي ينطوي عليها.

قد يكون الحزام الأمني، أو "المنطقة الأمنية"، على حدّ تعبير رئيس أركان الجيش الإسرائيلي السابق، موشى ليفي، من أهم مكاسب إسرائيل وأشدها خطراً، عبْر اجتياحَين متواليَين: الأول عام 1978، والثاني عام 1982. والمبررات التي يطرحها ليفي، هي "أننا في حاجة إلى منطقة أمنية في لبنان، لعدم وجود سلطة حقيقية فيه. فنحن لا نحتاج إلى منطقة أمنية على حدودنا مع الأردن، مثلاً، ولا منطقة أمنية في هضبة الجولان، فهناك ترتيبات لفصل القوات العسكرية. وليس ثمة إرهاب بسبب وجود سلطة مسيطرة على المنطقة" . ويتبين من كلام ليفي، أن الحزام الأمني، هو ضرورة حيوية، لإقامة حاجز، بشري وجغرافي، يفصل بين احتمالات الهجوم المسلح، من جانب المقاومة، ومستوطنات منطقة الجليل الأعلى. غير أن الإستراتيجية القائمة على مفهوم المنطقة العازلة، ما لبثت أن تعرضت لاختراقات، لا حصر لها، باعتراف الإسرائيليين أنفسهم.

وأصبح "الحزام الأمني" عاملاً مؤثراً في الحرب الأهلية اللبنانية، إلا أنه أمسى معضلة، أمنية وسياسية، تقلق مسؤولي الأمن في إسرائيل، حتى إن بعضاً منهم، فضّلوا إزالته؛ إذ رأوا أن هذا "الحزام"، بات في حاجة إلى حزام يحميه، من جراء حرب الاستنزاف، التي شنتها عليه المقاومة. وحرصت القيادة الإسرائيلية على الاستفادة منه، استناداً إلى مرتكزات واقعية وجيوسياسية، منها إشراف الإسرائيليين على الأمن مباشرة في المناطق المحتلة، مع إعطاء "جيش لبنان الجنوبي" مهمة الاستطلاع والإنذار المبكر، فضلاً عن استخدامه كمتاريس بشرية للوحدات الإسرائيلية، المتحركة أو الثابتة. إضافة إلى رعاية إسرائيل الميليشيا اليمينية في الشريط الحدودي.

7. الأطماع الإسرائيلية في مياه جنوبي لبنان

مثلت الحرب الأهلية اللبنانية فرصة سانحة لاستغلال إسرائيل مياه جنوبي لبنان، التي طالما طمعت بها. ويتبدّى هذا الطمع في تصريح ليفي أشكولLevi Eshkol، رئيس وزراء إسرائيل الأسبق، بأن "هناك نصف مليار م3 من مياه نهر الليطاني، تضيع، سنوياً، في البحر. ويجب استغلالها في مصلحة شعوب المنطقة. ولا يَسَع إسرائيل، الظامئة، أن تقف مكتوفة اليدين، وهي ترى مياه الليطاني، تتدفق إلى البحر. إن القنوات باتت جاهزة في إسرائيل (1967)، لاستقبال مياه نهر الليطاني".

وتفاقمت أزمة المياه العذبة في إسرائيل، بعد أن استنفدت نحو 95 ـ 98 % منها؛ وهي المقدرة بنحو 1610 ـ 1650 م3:

950 مليون م3.

 

مياه جوفية

 

600 مليون م3.

 

نهر الأردن وبحيرة طبرية

 

60 ـ 100 مليون م3.

 

مياه الفيضانات

 

1610 ـ 1650 مليون م3.

 

المجموع

 

وبلغ استهلاك المياه في إسرائيل، عام 1978، أي أثناء الحرب الأهلية اللبنانية، نحو 1950 مليون م3، موزعة على الأغراض التالية:

(80 %).

 

1200  مليون م3

 

الزراعة

 

(15 %).

 

330  مليون م3

 

الاستهلاك الحضري

 

(5 %).

 

70    مليون م3

 

الاستهلاك الصناعي

 

 ويزداد استهلاك إسرائيل للمياه، سنوياً، بمقدار 15 ـ 20 مليون م3، أي حوالي 1% من استهلاكها السنوي. وبناء عليه، فإن استهلاكها من المياه، ازداد، منذ عام 1949، من 17 % من مواردها المائية القابلة للتجدد، إلى 90 %، عام 1968، وإلى حوالي 95 ـ 98%، عام 1978. ولهذا، فإن النمو الاقتصادي المستقبلي في إسرائيل، سيعتمد اعتماداً أساسياً، إمّا على تأمين مصادر جديدة للمياه، من خارج إسرائيل، وإمّا على تطوير تقنيات جديدة. وهكذا، فإنه إذا لم يجرِ، عاجلاً، تطوير سريع للموارد المائية الموجودة، فسيحدث نقص بمقدار 400 ـ 450 مليون م3 من المياه، خلال العقد التالي، كنتيجة لتزايد عدد سكان المدن. إضافة إلى أن تزايدهم، مستقبلاً، وارتفاع مستويات معيشتهم، سيستدعيان توفير ما يقرب من 400 مليون م3 إضافية من المياه، مع أوائل القرن الواحد والعشرين. وإذا تعذر ذلك، فستضطر إسرائيل إلى تحويل كمية من ثروتها المائية إلى الاستهلاك المنزلي، تعادل ثلث ما تستهلكه الزراعة، اليوم. وهو ما سيسفر عن انحسار، اقتصادي واجتماعي، فضلاً عن الإضرار بسياسة توزيع السكان (أي سيؤثر في سياسة إسرائيل في تهويد المناطق الداخلية، واستيعاب الهجرة إليها).

ولبيان أبعاد أزمة المياه، الحالية والمقبلة، في إسرائيل، يبيّن الجدول التالي كمية المياه المتوافرة في إسرائيل، والطلب، الأقصى والأدنى، على المياه، بين عامَي 1970 و2000، وذلك بملايين الأمتار المكعبة.

العجز الأدنى

الطلب الأدنى

الطلب الأقصى

الكمية المتوافرة

السنة

ـ

1450

1450

1620

1970

ـ

1514

1587

1650

1975

ـ

1665

1825

1665

1980

150

1900

2100

1750

1985

300

2100

2300

1800

1990

350

2200

2500

1850

1995

550

2400

2700

1850

2000

 ومـن ثم، فإن إسرائيل، عانت، بالفعل، منذ عام 1985، عجزاً في المياه، بحدّ أدنى 150 مليون م3. وعلى ذلك، فإنه من الأسهل أن تبحث إسرائيل عن مصادر مياه خارجية. وهكذا، انبرت تطالب بتحويل 400 مليون م3، على الأقل، من مياه نهر الليطاني (أي حوالي 55 % من طاقته الكلية)، وذلك عبْر نفق، يبدأ من نقطة انعطاف النهر 90 درجة، نحو الغرب، بالقرب من قلعة الشقيف، القريبة من الحدود الإسرائيلية، وذلك خلال ممر عميق، ضيق، يمكن عنده تركيب أنبوب، طوله 6 أميال، يحمل المياه إلى المتولا، في شمالي إسرائيل.

ويمكن أن تزداد كمية مياه الليطاني إلى أكثر من 700 مليون م3، إذا ما أبطل عمل السد اللبناني، في أعلى نهر الليطاني. فتزداد ثروة إسرائيل المائية ما بين 25 و45 %.

ولم تكتفِ إسرائيل بأطماعها، بل أفسدت على لبنان، في أوائل السبعينيات، بناء سد، يستغل نحو 300 مليون م3 من مياه الليطاني، تنساب إلى البحر، هدراً. بل هي تحتفظ بالجولان، كنقطة إستراتيجية، تضمن لها السيطرة على منابع أنهر الأردن والليطاني والحصباني.