إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / الحرب الأهلية اللبنانية






مواقع المخيمات الفلسطينية
مواقع المخيمات الفلسطينية
لبنان - التوزيع الطائفي
الجمهورية اللبنانية
تعداد الفلسطينيين بلبنان
جنوب لبنان



المبحث الثالث

8. تداعيات الغزو الإسرائيلي للبنان، عام 1982

عقب توقيع اتفاقية السلام المصرية ـ الإسرائيلية، عام 1979، اختل توازن القوى العربي ـ الإسرائيلي، بخروج مصر من دائرة الصراع، ورفْض العرب أسلوبها في تحقيق التسوية. ومن ثَم، انقسموا، خاصة بعد قمة بغداد، وتوقيع العقوبات على مصر. إلا أن معارضي النهج المصري، لم يستطيعوا أن يقدموا بدائل جديدة لمعالجة الموقف، فبدا أن المنطقة، ستعود إلى مرحلة جديدة من مراحل اللاسلم واللاحرب. وازداد دور المقاومة الفلسطينية، التي تركزت في الأراضي اللبنانية. وقامت السياسة الإسرائيلية في المنطقة، على أساس توجيه ضربة إلى معارضي التسوية من الجانب العربي، وفي الوقت عينه، توجيه ضربة وقائية إلى المقاومة الفلسطينية. فكان الغزو الإسرائيلي للبنان (1982)، الذي أدى إلى إخراج المقاومة الفلسطينية منه. وهو ما فرض عليها ضرورة تغيير أساليبها في القيام بمهامها. كما أن الآثار النفسية لعملية الغزو، وما صاحبه من ضعف ردود الفعل، العربية، الرسمية والشعبية، أدّيا إلى حالة من الضعف والإحباط لدى العرب. ولذلك، لم يكن غريباً أن يطرحوا، في قمة فاس، بعد انتهاء الغزو، المبادرة العربية للتسوية السلمية للصراع العربي ـ الإسرائيلي.

هدفت إسرائيل من هذا الغزو إلى تحقيق أمرين أساسيين:

  1. إبادة المقاومة الفلسطينية وحلفائها من القوى اللبنانية، ليس في الجنوب فقط، وإنما في لبنان بأسْره، بعد أن أصبح، خلال الثمانينيات، المكان الوحيد لتمركز الفلسطينيين، يتحركون منه، كقوة مستقلة، وكذلك، بعد اكتساب منظمة التحرير الفلسطينية شرعية دولية واسعة النطاق، بالاعتراف بها ممثلة شرعية وحيدة للشعب الفلسطيني، وصار لا بدّ أن تؤخذ في الحسبان، عند أي تسوية، تتعلق بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره.
  2. خلوّ الأراضي الملاصقة لإسرائيل من الفدائيين ومن أي جيش معادٍ، في كل تسوية نهائية، أي خلق واقع جديد في المنطقة، يمكِن، من خلاله، تمرير شكل من أشكال التسوية، بالشروط الإسرائيلية. وخلال أيام الغزو، وبعد اجتياح القوات الإسرائيلية للجنوب، ووصولها إلى بيروت، اتضح إصرار إسرائيل على عدم الانسحاب أو وقف إطلاق النار، ما لم يوافَق على التسوية التي تريدها. وتمثل الواقع الجديد، الذي سعت إلى خلقه في لبنان، تمهيداً لفرض التسوية، في الجوانب التالية:

أ. ضمان إخراج القوات، الفلسطينية والسورية، من لبنان، حتى لا يشكل الفلسطينيون عنصراً مشاركاً في أي تسوية.

ب. ضمان وجود إسرائيلي فعلي، ومباشر، في منطقة الجنوب اللبناني، يتجاوز الليطاني، في ظل سيطرة شكلية لسعد حداد.

ج. ضمان وجود نظام حكم في لبنان موالٍ لإسرائيل، قوامه الأساسي من المسيحيين، يمكِن، في ظله، نشوء شكل من أشكال التحالف الإسرائيلي ـ اللبناني.

لم تكُن حرب 1982 مفاجئة، على خلاف مبدأ المفاجأة، الذي بنِي عليه المذهب العسكري الإسرائيلي. إذ سُبقت بإنذارات متتالية، ومتكررة، من قِبل عدد كبير من المسؤولين الإسرائيليين. بل يمكـن تصنيف غزو إسرائيل جنوبي لبنان، عام 1978، تجربة مصغرة لغزو 1982، وتمهيداً له، ولا سيما أن المقاصد الإسرائيلية من الغزوَين (1978 و1982)، هي متشابهة، مع اختلاف في حجم تلك المقاصد، وعمق التأثير، ومساحة الاحتلال.

9. الحرب الأهلية مناخ مؤاتٍ لغزو عام 1982

أدى اتفاق وقف إطلاق النار، في 24 يوليه 1981، بين المقاومة الفلسطينية وإسرائيل، إلى:

  1. تنامي قوة منظمة التحرير الفلسطينية ومكانتها، في لبنان. وهو ما نجم عنه تنامي دورها في الحرب الأهلية اللبنانية.
  2. تقييد إسرائيل دون مواصلة "حربها الوقائية"، ضد المقاومة الفلسطينية.
  3. إتاحة الفرصة للمقاومة الفلسطينية، كي تعيد تنظيم صفوفها في لبنان، استعداداً لجولة قادمة.
  4. تساوي المقاومة الفلسطينية وإسرائيل، في فرص خرق الاتفاق.

بيد أن المكاسب، التي حازتها المنظمة الفلسطينية، عام 1981، هي نفسها، كانت سبباً كامناً لحرب 1982، وهو القضاء على منظمة التحرير الفلسطينية. وساعد على ذلك مسار الحرب الأهلية، إذ هيأت مناخاً مؤاتياً لتصاعد العمليات الإسرائيلية. فضلاً عن الخطر الإستراتيجي، الذي رأته إسرائيل متمثلاً في وجود القوات السورية في لبنان، وتصريح رئيس وزرائها، مناحم بيجنMenachem Begin، في خطابه أمام الكنيست، في 11 مايو 1981، بأن من يسيطر على جبل صنين والأجواء اللبنانية، سيسيطر على لبنان كله، حتى الحدود اللبنانية ـ الإسرائيلية. وعندئذٍ، ستواجه إسرائيل خطراً يهدد وجودها.

وانتهزت إسرائيل فرصة الحرب الأهلية اللبنانية، وانهيار التضامن العربي انهياراً كبيراً، ذلّل عدة معضلات عسكرية إستراتيجية، كانت تواجهها، أبرزها:

  1. القتال على جبهتَين أو أكثر، في وقت واحد.
  2. انتقال القوات العربية من العمق الإستراتيجي إلى منطقة التحشد العسكري، والتفوق الكمّي العربي.

وفي ظل رياح الحرب الأهلية اللبنانية، المؤاتية للغزو الإسرائيلي، وفي ظل الخلل في ميزان القوى العربي ـ الإسرائيلي، غزت إسرائيل لبنان، عام 1982 وهي مطمئنة إلى أن النار لن تفتح عليها من مكان آخر، غير الجبهة، فحصرت معاركها في النصف الجنوبي من لبنان، ودفعت إليه معظم قواتها المسلحة، البالغة، من دون تعبئة القوات الاحتياطية، حين بدء الحرب، 600 169 فرد. والجيش الإسرائيلي مزوّد بنحو 3200 ـ 3500 دبابة، و4 آلاف عربة مصفحة، ونحو 950 مدفعاً ـ 1100 مدفع، من عيارات مختلفة، و550 ـ 600 طائرة مقاتلة وقاصفة، و140 ـ 160 طائرة استطلاع، و100 طائرة ـ 110 طائرات نقل، و100 ـ 190 طائرة عمودية، و 24 زورقاً صاروخياً، و3 غواصات، و145 منصة لإطلاق صواريخ بحر ـ بحر، و24 أنبوباً لإطلاق الطوربيد، و42 زورق دورية صغيراً، و6 زوارق إنزال، ومجموعات من الصواريخ المختلفة، برية وبحرية وجوية. وانتظم الجيش الإسرائيلي في 26 ـ 28 لواء مشاة آلياً، 9 ألوية ـ 12 لواء مشاة، و15 لواء مدفعية، و6 ـ 7 ألوية مظلية. فضلاً عن القوات الجوية والبحرية.

اشترك في عملية غزو لبنان نحو 100 ألف ـ 125 ألفاً من القوات البرية، وجميع تشكيلات القوات الجوية، ومعظم القوات البحرية. ويقدر مجموع ضباط وأفراد القوات المسلحة الإسرائيلية، المشتركة في العملية، بنحو  125 ـ 150 ألفاً.

10. أثر الغزو الإسرائيلي في المقاومة الفلسطينية والقوات السورية

استهدف الغزو الإسرائيلي للبنان المقاومة الفلسطينية والقوات السورية، اللتين عُدّتا من أهم الأطراف الفاعلة في الحرب الأهلية اللبنانية.

ففي 4 يونيه 1982، عقدت الحكومة الإسرائيلية اجتماعاً، اتخذت فيه قرارها ببدء العملية، التي تحمل الرمز العسكري "أورانيوم"، والرمز السياسي الإعلامي "سلام الجليل". ونص على "تكليف الجيش الإسرائيلي مهمة إبعاد مستوطنات الشمال عن مدى نيران الإرهابيين، المتمركزين، وقياداتهم وقواعدهم، في جنوبي لبنان". وأشار القرار إلى ضرورة "إيجاد حل سياسي للأزمة اللبنانية، يتفق والمصالح الإسرائيلية، وأمن المستوطنات الشمالية".

بدأ التمهيد لعملية "أورانيوم" بقذف جوي وقصف مدفعي، كثيفَين وواسعَين، شملا جنوبي لبنان كله، حتى بيروت.

انطلقت القوات البرية في غزوها للبنان، في 6 يونيه 1982، عبْر ثلاثة محاور رئيسية:

المحور الغربي: بمحاذاة الساحل اللبناني، ويتجه نحو مدينتَي صور ثم صيدا، متابعاً تقدُّمه على الساحل نحو بيروت.

والمحور الأوسط: ينطلق من الحدود إلى قرية الطيِّبة، فنهر الليطاني، نحو النبطية، في اتجاه الشمال.

والمحور الشرقي: ينطلق إلى منطقة العرقوب، ويتقدم إلى بلدة حاصبيّا، عبْر السفوح الغربية لجبل الشيخ، ثم يتابع سيره نحو الشمال.

في اليوم السادس (11 يونيه)، أعلنت إسرائيل موافقتها على اقتراح المبعوث الأمريكي، الخاص بوقف إطلاق النار. وبعد ذلك، أعلنت سورية موافقتها على الاقتراح، على أساس انسحاب جميع القوات الإسرائيلية من لبنان. ولكن، لم يتوقف القتال، لأن إسرائيل، وهي التي طلبت وقف إطلاق النار، تابعت عمليتها العدوانية، لتحقيق هدفَين عسكريَّين: السيطرة على طريق بيروت ـ دمشق، ومحاصرة بيروت. وهكذا عاد القتال، مرة ثانية، ضارياً، وعنيفاً، سواء ضد القوات الفلسطينية ـ اللبنانية المشتركة ـ السورية، المحاصَرة في بيروت، أو ضد القوات السورية، في البقاع، وعلى محور طريق بيروت ـ دمشق.

11. مواقف أطراف الحرب الأهلية من الغزو الإسرائيلي

وفي 25 يونيه 1982، أعلن وقف ثانٍ لإطلاق النار. غير أن القوات الإسرائيلية، لم تلتزم به، وتابعت عمليات المواجَهة والاقتحام، ضد القوات الفلسطينية ـ اللبنانية المشتركة والقوات السورية، وأحكمت حصار بيروت، براً وبحراً وجواً.

وكان المسؤولون الإسرائيليون، قد حددوا، في تصريحاتهم، في الأيام الأولى من بدء العملية الهجومية، أن هدف إسرائيل هو إبعاد المقاومة الفلسطينية عن الحدود اللبنانية ـ الإسرائيلية مسافة 40 ـ 45 كم. وتنطبق هذه المسافة على خط عرض، يمتد، تقريباً، من بلدة الصرفند، على الساحل اللبناني (بين مدينتَي صور وصيدا)، إلى بلدة حاصبيّا، شرقاً. ويقع هذا الخط العرضي في منتصف المسافة، تقريباً، بين الناقورة، في أقصى الجنوب على الساحل، وبين العاصمة بيروت. غير أن إسرائيل لم تتوقف عند هذا الخط، وتابعت قواتها المسلحة التوسع والاحتلال، حتى زادت المساحة المحتلة على ضعفَي المساحة المحددة كهدف للعملية.

ثم أكدت إسرائيل أهدافها من هذا الغزو، وهي الأهداف التي كان لها أعمق الأثر في مسار الحرب الأهلية اللبنانية، ومن أهمها:

  1. إخراج القوات الفلسطينية والسورية من الأراضي اللبنانية، واتخاذ ترتيبات، تضمن عدم عودة المقاومة الفلسطينية إلى الأراضي اللبنانية.
  2. إنشاء منطقة منزوعة السلاح، تبعد 40 ـ 45 كلم عن الحدود اللبنانية ـ الإسرائيلية.
  3. إقامة حكومة قوية في لبنان، تكون مستعدة لتوقيع معاهدة صلح مع إسرائيل، وذلك بعد سعيها إلى تفجير الأوضاع الداخلية في لبنان، وإذكاء حدّة الحرب الأهلية.

ثم أردف شارون، في 11 أغسطس 1982، تعديلاً لهذه الأهداف، ومفاده أن إسرائيل لن تخرج من لبنان، إلا بعد خروج جميع القوات السورية منه.

12. إستراتيجية الغزو الإسرائيلي، وآثارها في الحرب الأهلية

اتبعت إسرائيل، في حرب 1982، أحد أهم مبادئ توجهها العسكري، وهو "نقل الحرب إلى أرض العدو"، متذرعة بغياب العمق الإستراتيجي، وقرب الحدود اللبنانية ـ الإسرائيلية من مراكز التجمعات السكانية. وهو ما كان له أعمق الأثر في مسار الحرب الأهلية اللبنانية. وكانت إسرائيل قد تلقت درساً قاسياً، في حرب أكتوبر 1973، حين فاجأها الجيشان، السوري والمصري، وقاتلا على أراض، تحصن بها الجيش الإسرائيلي. لهذا، أرادت في حرب 1982، أن يكون زمام المبادرة في يدها، وأن تبدأ هي الحرب، وأن تنقلها إلى "أرض العدوّ"، تحقيقاً للعمق الإستراتيجي الذي تفتقده. وأدى انتقال الحرب إلى الأراضي اللبنانية إلى تأثيرها في مسار الحرب الأهلية اللبنانية، نتيجة تأثير طرف إقليمي في النزاع الداخلي، وسعيه إلى إعادة تشكيل الأوضاع في لبنان.

وطورت إسرائيل هدفها، في حرب 1982، في شأن المقاومة الفلسطينية في لبنان، التي تُعَدّ أهم أطراف النزاع في الحرب الأهلية اللبنانية. فبعد أن كان الهدف هو إبعادها إلى الشمال من الحدود اللبنانية ـ الإسرائيلية، أصبح الهدف خروجها من لبنان كله. واستغلت ظروف حرب 1982، وبخاصة الحرب الأهلية في لبنان، وغياب المواجهة العربية، وهزال الموقف الدولي، في إطار الأمم المتحدة، وعون الولايات المتحدة الأمريكية ودعمها وحمايتها، لكي تسعى إلى تحقيق بعض متطلبات عمقها الإستراتيجي. ولعل بعض هذه "المتطلبات"، تتجسد في مدّ إسرائيل عمقها الإستراتيجي، بدءاً من الحدود اللبنانية ـ الإسرائيلية حتى حدود لبنان في الشمال. أي أن يصبح لبنان كله امتداداً لعمق إسرائيل الإستراتيجي.

13. اتفاق 1983، بين إسرائيل ولبنان

سنحت الفرصة لإسرائيل، وبعض حلفائها اللبنانيين من الموارنة، في فترة الثمانينيات، لإرجاع التقدم السوري ـ الفلسطيني في لبنان إلى الوراء، وإيجاد نظام، تهيمن عليه إسرائيل. وأخذ كلا الطرفين، وهو مدرك توجُّه الولايات المتحدة الأمريكية، ونزوع إدارة الرئيس رونالد ريجان Ronald Wilson Reagan، إلى النظر إلى المشاكل في العالم الثالث، كامتداد للحرب الباردة، يعرض قضيته في إطار الصراع الأمريكي ـ السوفيتي.

لقد وجد الإسرائيليون، بعد غزوهم لبنان، عام 1982، فرصة ذهبية لخلق نظام جديد فيه، آملين أن توافق الولايات المتحدة الأمريكية، وأن يهاجم الموارنة الائتلاف الفلسطيني ـ اليساري. بيد أن هذا الوضع، سيشكل خطراً سياسياً على رئيس الجمهورية، آنذاك، بشير الجميل، قائد الميليشيات المسيحية. ومع أن الجميل، اعتمد على إسرائيل للحصول على السلاح والتدريب والمعونات الأخرى، ومع أنه رجا أن تهزم إسرائيل أعداءه السابقين، فإنه لم يستطع أن يقاتل إلى جانب الإسرائيليين. كان مدركاً، إدراكاً تاماً، القيود، المحلية والعربية، التي لا يسعه تجاهلها، إلا بتعريض نفسه للأخطار. وسرعان ما فشل الخيار الإسرائيلي باغتيال الجميل، في 14 سبتمبر 1982. كذلك، أدرك الموارنة، وهم الفئة المؤمنة بخصوصية لبنان، عيوب الاعتماد على الولايات المتحدة الأمريكية أو إسرائيل، لتغيير ميزان القوى، محلياً وإقليمياً.

ومع ذلك، زار عدد من الزعماء اللبنانيين واشنطن، وحاولوا التودّد إلى إدارتها الجديدة، فوعدوا المسؤولين الأمريكيين بأن من الممكن أن يصبح لبنان، بدعم من واشنطن، قاعدة إستراتيجية للغرب، وجسراً إلى الوطن العربي، في حالة السلام مع إسرائيل. وكان هؤلاء يطمحون إلى إعادة تركيب الخريطة السياسية في لبنان، ومنهم بشير الجميل، الذي عقد ميثاقاً تكتيكياً مع إسرائيل، ثم توجه إلى الأمريكيين، مقترحاً عقد حلف إستراتيجي معهم، بمعزل عن الإسرائيليين.

وأوضح الرئيس ريجان للمسؤولين اللبنانيين، "أن الولايات المتحدة الأمريكية مستعدة لمساعدة لبنان، لكي تنتهي الحرب، ويسترد استقراره". وإزاء تشجيع الولايات المتحدة الأمريكية ودعمها، أحس أمين الجميل بالارتياح، لوجود دولة عظمى صديقة، ستساعده على دحر أعدائه. فكانت ثقته بالتزام واشنطن "لا حدود لها". لهذا، صار أقلّ اندفاعاً إلى إجراء إصلاحات جادّة، وأكثر شجاعة على التفاوض مع إسرائيل، متجاهلاً السوريين وحلفاءهم اللبنانيين. كان الجميل، كشمعون في عام 1958، يؤكد صلاحية جهاز الدولة في اتِّباع سياسة خارجية مستقلة. وفي إطار هذا السياق، أعلن وزير خارجيته، إيلي سالم: "كان القرار بالتفاوض قرارنا. كنا نتناول أمر الأرض اللبنانية فقط. وشعرنا أن من غير الضروري إشراك السوريين إشراكاً تاماً، قبْل إحراز تقدم في المحادثات مع الأمريكيين والإسرائيليين".

وتمخضت سياسة الجميل نحو الولايات المتحدة الأمريكية، بتوقيع اتفاق 17 مايو 1983، بين إسرائيل ولبنان. وأبلغ الإسرائيليون الحكومة الأمريكية، أنهم لن ينسحبوا، إلاّ إذا انسحب السوريون ومنظمة التحرير الفلسطينية. وهكذا، وجدت سورية في الاتفاق المذكور تهديداً مباشراً لمصالحها. فحذرت الجميل من توقيعه؛ وإذا لبنان بين حَجَرَي الرحى. بيد أن الرئيس اللبناني، واصل اعتماده على إدارة ريجان، وعلى دعمها جهود لبنان، في التخلص من القوات الأجنبية كلها، الموجودة على أراضيه. إلا أنه اكتشف أنها ليست مستعدة للمضيّ في لبنان أكثر مما ينبغي. بل قيل لإيلي سالم، بصراحة تامة: "إن لبنان ليس مهماً، بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأمريكية. وما من أحد في واشنطن، اعتقد أن لبنان مثّل حجر الزاوية، في نجاح فشل السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط أو فشلها". وحين سحبت حكومة الولايات المتحدة الأمريكية مشاة البحرية من بيروت، في أوائل عام 1984، أيقن الجميل بالهزيمة، فمزق اتفاق 17 مايو، وعيّن حكومة جديدة، دخلها وزراء مؤيدون لسورية.

14. العلاقة الخاصة بين إسرائيل والموارنة

في 29 يوليه 1937، قال بن جوريون، تعليقاً على لجنة بيل: "إن إحدى الميزات الأساسية في الخطة الصهيونية، هي أنها تجعل لنا حدوداً مشتركة مع لبنان. فهو الحليف الطبيعي لفلسطين اليهودية. وهو محاط، مثلنا، ببحر إسلامي. وهو، مثلنا، جزيرة حضارية في صحراء بدائية. ولذلك، فلبنان في حاجة إلى دعمنا وصداقتنا، قدر ما نحن في حاجة إلى دعمه وصداقته. وسوف تجد الدولة اليهودية فيه حليفاً وفياً، منذ اليوم الأول لوجودها. ولن يكون مستبعداً أننا سنجد، عبْر لبنان، الفرصة لتوسيع عملنا مع جيراننا".

ناهيك مطامع إسرائيل المعروفة في جنوبي لبنان حتى نهر الليطاني، التي تحدث عنها حاييم وايزمانChaim Weizmann، في مؤتمر باريس. فضلاً عما كشفته الرسائل المتبادلة بين بن جوريون وموشي شاريتMoshe Sharettوإلياهو ساسون، موضحة أن بن جوريون اقترح، عام 1954، العمل على إنشاء دولة مارونية مستقلة في لبنان، وأن ذلك يخدم مصالح إسرائيل. ولكن موشي شاريت، عارض الفكرة. أمّا ساسون، فأبدى شكوكه في إمكانية تحقيق ذلك.

إذا كان هذا هو الموقف في الماضي، فإن الموقف، قبْل الحرب الأهلية مباشرة، عبرت عنه جريدة "هاآرتس" الإسرائيلية، في يناير عام 1975، حين رأت أنه يجب على إسرائيل، أن تدرس الوسائل الفاعلة، لدفع نظام الحكم في لبنان إلى العمل على تقليص عمليات "المخربين" من أراضيه. وأوضح تعليق لحاييم هرتسوجChaim Herzog، من إذاعة إسرائيل، بعد خمسة أيام، أن هناك شعوراً بأن النشاط العسكري الإسرائيلي في جنوبي لبنان، ليس فاعلاً. ولذلك، كان لا بدّ من البحث عن وسيلة أخرى. ويذكر إسحاق رابين، بعد اندلاع الحرب الأهلية، وكان رئيساً للوزارة الإسرائيلية، "أن الحرب اللبنانية، قد تركت المستعمرات الإسرائيلية على الحدود اللبنانية تحس بالأمان".

وذلك يعني:

  1. أن إسرائيل ترى في موقف الموارنة حليفاً طبيعياً، منذ البداية.
  2. أن نشوء دولة للموارنة في لبنان، هو في مصلحة إسرائيل، التي سعت إلى تحقيقه.
  3. أن إسرائيل تفهمت جيداً سلبيات تجربة الحكم في لبنان، فأمكنها التعامل معها.
  4. أن استمرار أزمة لبنان، يحقق لإسرائيل الراحة والأمان من العمل الفدائي.
  5. أن ما طرحه بيار الجميل، في يناير 1975، على الساحة اللبنانية، هو عينه ما طالبت به إسرائيل.

ودحضت حقائق عدة نفي إسرائيل لأي دعم أو تنسيق، بينها وبين "الجبهة اللبنانية". لعل أولاها الاجتماعات بين قيادة الجبهة وإسرائيل، إثر زيارة شربل القسيس، رئيس الرهبانيات، إلى إسرائيل، في 5 أبريل 1975، والتي انتهت مساء 13 أبريل، أي بعد ساعات من مذبحة عين الرمانة. ثم متابعة الاجتماعات، من طريق البحر، في إسرائيل، أو في ميناء جونيه، البلدة التي عدتها "الجبهة اللبنانية" عاصمة لها. وقد أعلن عبدالحليم خدام، وزير خارجية سورية، أن كميل شمعون، اتصل بإسرائيل أربع مرات، حتى 10 يناير 1976، وأن شيمون بيريزShimon Peres، وزير دفاع إسرائيل السابق، زار جونيه 3 مرات، آخرها كان في 10 أغسطس 1977، واجتمع خلالها بكميل شمعون. وكانت أولاها في مايو 1976، حين تحركت ثلاث سفن صاروخية، من ميناء حيفا إلى جونيه، وكانت إحداها تحمل إسحاق رابين، رئيس وزراء إسرائيل، وشيمون بيريز، وزير الدفاع. وانضم إليها سفينتان، تحمل الأولى كميل شمعون، وكان وزيراً للداخلية. والأخرى تحمل بيار الجميل، ويقودها رجال الضفادع البشرية الإسرائيليين. كما أن الزعيمين رفضا التقاء رابين معاً. وقد طلب كلٌّ منهما التدخل الإسرائيلي المباشر في الحرب الأهلية.

وقدرت المساعدات الإسرائيلية لـ "الجبهة اللبنانية" بما قِيمته 35 مليون دولار، مساعدة مباشرة، ترتفع إلى 100 مليون، بالمساعدات غير المباشرة. ومنها نفقات فرض الحصار على الساحل اللبناني. وضمت قائمة الأسلحة، التي قدمتها إسرائيل إلى الجبهة، 110 دبابات، مع 5 آلاف بندقية آلية، علاوة على 12 ألف بندقية، إضافة إلى الملابس والمأكولات. ودربت إسرائيل في معسكراتها 1500 من متطوعي الجبهة. فضلاً عن أن ضباط إسرائيل، كانوا على اتصال هاتفي مباشر مع قوات الجبهة.

وقد بلغ تدفق الأسلحة إلى "الجبهة اللبنانية" حدّاً، أقفل معه ميناء جونيه، في أول يوليه، لأسبوعين، أفرغت، خلالهما، سفينتا شحن إسرائيليتان حمولتهما من الأسلحة؛ إذ لم يقتصر دور السفن الإسرائيلية على شحن الأسلحة الإسرائيلية، بل تعداه إلى شحن أسلحة حلف شمال الأطلسي، المرسلة إلى الموارنة، وشاركتها في الشحن منظمة إيوكا EOKA القبرصية. وأكد دين براون، المبعوث الأمريكي إلى لبنان، أن إسرائيل قدمت المساعدات العسكرية إلى "الجبهة اللبنانية"، التي وجّه قادتُها خطاب شكر إلى وزير الدفاع شيمون بيريز، لدعمه قرى الجنوب اللبناني المسيحية. بل تشكلت في إسرائيل "لجنة مساعدة جنوبي لبنان"، التي تقنعت بتقديم الأغذية والأدوية. وأسقط قناعها نقلها، مثلاً، 40 طناً من الأسمنت، لبناء تحصينات عسكرية لقوات "الجبهة اللبنانية".

طالما سعت إسرائيل إلى "تعويد" اللبنانيين، في الجنوب، شيعة وموارنة، التعامل معها، في مجالات مختلفة، حتى ترتبط مصالحهم بإسرائيل. فلم يتردد جيشها في تقديم مساعدات طبية إلى عدد من اللبنانيين، في مستشفاه على الحدود، وفي توفير الملجأ المؤقت أو الدائم لهم، إلى جانب المساعدات الغذائية، وتسويق منتجاتهم الزراعية. فضلاً عن التنسيق بين الجنرال أرييل شارون، قائد الاحتياطي الإسرائيلي، في القطاع الجنوبي، وسعد حداد، قائد قوات "الجبهة اللبنانية" في الجنوب.

15. مواقف القيادات اللبنانية من إسرائيل

لعل من أهم النتائج، التي أفرزتها حرب 1967، تأجيج التوترات الداخلية اللبنانية، في شأن دور لبنان في الصراع العربي ـ الإسرائيلي.

إذ نادى بعض القيادات اللبنانية، المؤيدة لخصوصية لبنان، بالحياد في هذا الصراع. في حين ارتأى بعض الفئات، ذات التوجه القومي العروبي، أن تمنح منظمة التحرير الفلسطينية أقصى قدر من الحرية، للعمل داخل لبنان، وأن تقطع بيروت روابطها بواشنطن. وأخفق جهاز الدولة في مواجَهة تصاعد المقاومة العسكرية، وفي إيجاد سياسة أمنية لمعالجة هذا الوضع، وأصبح لبنان، بعد أن تحطمت البنية العسكرية لمنظمة التحرير الفلسطينية في الأردن، مسرح المنظمة الرئيسي، لشن عملياتها ضد إسرائيل، وأمست المواجهة فلسطينية ـ إسرائيلية، فتقوّضت وحدة لبنان السياسية، كدولة ذات سيادة، وتفاقمت من حدّة التوترات الداخلية.