إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / الحرب الأهلية اللبنانية






مواقع المخيمات الفلسطينية
مواقع المخيمات الفلسطينية
لبنان - التوزيع الطائفي
الجمهورية اللبنانية
تعداد الفلسطينيين بلبنان
جنوب لبنان



المبحث الأول

المبحث الأول

الدور الأمريكي في الحرب الأهلية اللبنانية

أولاً: الأبعاد التاريخية للدور الأمريكي تجاه المسألة اللبنانية

       النفوذ الأمريكي في لبنان حديث العهد، وليس عميق الجذور، ولم يظهر واضحاً، إلاّ بعد استقلال البلد. وقد استطاعت الولايات المتحدة الأمريكية، أن تحظى بأفضلية على فرنسا، في سياسة لبنان، لسببَين:

  1. الصِّلات بين لبنان والولايات المتحدة الأمريكية، الناجمة عن الهجرة اللبنانية إلى أمريكا، منذ حوالي قرن.
  2. المساعدات، المالية والاقتصادية، التي تقدمها واشنطن إلى لبنان، والتي مهدت السبيل للنفوذ الأمريكي في لبنان، المتمثل، أولاً، في النفوذ الثقافي. ومن مظاهر ذلك الإرسالية الأمريكية البرسبتارية (Presbyterian)، وتضم 63 مدرسة ومؤسسة تعليمية. جمعية الكويكرز (Quakers)، وتضم 14 مدرسة. فضلاً عن الجامعة الأمريكية في بيروت، التي أنشئت عام 1866، وكانت تعرف باسم "الكلية السورية الإنجيلية". وكان الهدف من إنشائها تبشيرياً محضاً، ثم تطور هدفها، ليشمل، إلى جانب الناحية التبشيرية، الدعاية لسياسة الولايات المتحدة الأمريكية، مستغلة إعلان الرئيس وودرو ولسونWoodrow Wilsonمبادئه الأربعة عشر، خلال الحرب العالمية الأولى. ثم تكليف أمريكي، هو المستر "تشالز كرينCharles R. Crane"، بترؤس لجنة لاستطلاع الآراء، حول إجراء استفتاء في سورية ولبنان، لتقرير مصيرهما. وكان لموقف اللجنة، التي يرأسها "كرين"، أثر طيّب في شعور الأهالي تجاه الولايات المتحدة الأمريكية، إذ أيدت اللجنة الأهداف الوطنية. وحينما أيقن المسلمون، أن هذه الأهداف لم تتحقق، طالب بعضهم بأن تكون أمريكا هي الدولة المنتدبة، في حالة عدم إمكان تحقيق الاستقلال التام.

       إلا أن السمعة الطيبة، التي اكتسبتها الولايات المتحدة الأمريكية، من خلال نشاطها الدبلوماسي، ومساندتها الشعوب الصغيرة، وسعيها إلى تحقيق مصالح تلك الشعوب وأمانيّها في الحرية والاستقلال، بدّدتها مساندتها اليهود على حساب العرب، ثم إسهامها بدور في الحرب الأهلية اللبنانية، عام 1958، ومساندتها الرئيس اللبناني، كميل شمعون وحكمه.

       وتعيش في الولايات المتحدة الأمريكية جالية لبنانية كبيرة، تقدر بنصف مليون لبناني، معظمهم من الموارنة. وهم يشكلون إحدى الأقليات المؤثرة في الانتخابات الأمريكية. ولذلك، حرصت واشنطن على علاقتها بموارنة لبنان، أثناء الحرب الأهلية الأخيرة، وذلك من خلال إرسال شحنات السلاح، خاصة أن الموارنة، قد أملوا أن تتدخل لمساندتهم في الحرب الأهلية، على غرار ما حدث عام 1958.

ثانياً: الدور الدبلوماسي الأمريكي، والأزمة في لبنان

       يُعَدّ اهتمام الولايات المتحدة الأمريكية، ومشاركتها ودورها في المشاكل والأزمات، التي تنشب في العالم، إحدى أبرز حقائق العلاقات الدولية في عالمنا المعاصر، لقدرتها على استخدام أساليب دبلوماسية، تتراوح بين الضغط الدبلوماسي، لفرض حل أو لرفض آخر، والوساطة الدبلوماسية الهادفة إلى إيجاد مخرج لمشكلة ما. إضافة إلى استخدام العنف المسلح، كالتدخل في الحروب المحدودة، وإثارة القلاقل والاضطرابات الداخلية، لتفتيت طاقة نظام ما على المواجَهة. علاوة على أساليب الضغط الاقتصادي، والأساليب الدعائية.

الموقف الرسمي المعلَن للولايات المتحدة الأمريكية، وبداية الحرب الأهلية

       اتسمت التصريحات المعلنة، حول الموقف الرسمي للولايات المتحدة الأمريكية، خاصة في بداية الحرب، بالندرة النسبية. وفي هذا الصدد، لم يكن، في عام 1975، سوى تصريحين، من البيت الأبيض، ووزارة الخارجية الأمريكية، يعلنان مساندة واشنطن لاستقلال لبنان وسيادته. ففي أواخر أكتوبر 1975، صرح السكرتير الصحفي للبيت الأبيض، بأن "الموقف في بيروت يتدهور"، وأن "إدارة الرئيس جيرالد فورد، تتشاور مع المسؤولين اللبنانيين، لتقرر ما تستطيع الولايات المتحدة الأمريكية أن تقدمه من مساعدة".

       وفي الفترة عينها، صرح روبرت أندرسون، المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، بأن "الولايات المتحدة الأمريكية، تساند استقلال لبنان. لكنها لا تدرس التدخل في الحرب الأهلية اللبنانية". وأضاف أندرسون يقول: "حتى اليوم، ما زلت أرى، أن ليس هناك احتمال للتدخل الخارجي".

       إزاء اقتصار موقف الولايات المتحدة الأمريكية على هذين التصريحيَن، واتصافهما بعدم التحديد، تضاربت تفسيرات الأطراف المختلفة لحقيقة الموقف الأمريكي. فثمة من دافع عنه، ورأى أنه هدف، بالفعل، إلى الحفاظ على استقلال لبنان وسيادته، وأن ما يحدث في لبنان، لا يعدو أن يكون "مؤامرة شيوعية"، لتقسيمه. وهناك، على النقيض، من هاجم الموقف الأمريكي، واتّهم واشنطن بالتدخل في لبنان، من خلال سعيها إلى مزيد من الاستفزاز الكتائبي للفلسطينيين، مما يدفع المقاومة إلى صراع مسلح مع الجيش اللبناني، لإضعافها، ومن ثم، التمكن من فرض أي تسوية أمريكية في المنطقة. وقد ذكرت جريدة "البعث" السورية، أن الاتهامات، التي أُشيعت حول تدخّل سورية في الأوضاع اللبنانية، لا يمكن أن تفسر، "إلاّ بكونها شعارات للتضليل، أولاً، وذريعة تمهد لاحتلال جزء من الجنوب اللبناني، ثانياً، وهي الخطوة الأولى على طريق التقسيم". ورأى أصحاب هذا الرأي، أن ما يجري في لبنان، هو تنفيذ لمخطط أمريكي، يهدف إلى القضاء على الثورة الفلسطينية في الأردن، ثم في لبنان، وحصرها في سورية. وأن أولى حلقات هذا المخطط، تتمثل في مذبحة "أيلول الأسود"، عام 1970، في الأردن. وليست أحداث لبنان سوى الحلقة الثانية في المخطط، بدأ الإعداد لها منذ عام 1970، كذلك، بتقوية ميليشيا "الكتائب"، وتكوين ميليشيا "النمور"، التابعة لحزب "الأحرار"، إضافة إلى "جيش التحرير الزغرتاوي". ويستطرد أصحاب هذا الرأي، فيقولون إنه عندما تهيأ المناخ لطرد الثورة الفلسطينية من لبنان، انفجرت أحداث الحرب الأهلية، في أبريل 1975.

       والواقع أن كلاًّ من الرأيَين السابقَين، يتضمن تطرفاً، يبتعد به عن حقيقة المشكلة، إذ صوّراها على أنها نتاج لإرادة إحدى القوّتين العظمَيَين وتأثيرها، مع تجاهل تأثير القوى المحلية، والقوى الإقليمية فيها.

ثالثاً: الخيارات الأمريكية

1. التدخل المسلح، المباشر

عندما سئل السكرتير الصحفي للبيت الأبيض، عمّا إذا كانت واشنطن، قد تلقت أي طلب، لكي ترسل قوات أمريكية إلى لبنان، "لتساعد الحكومة هناك"، كما فعل الرئيس الأسبق دوايت أيزنهاور، أثناء أزمة 1958 ـ كانت إجابته: "لم أسمع قَط بمثل هذا الطلب". أمّا الأسباب، التي منعت الولايات المتحدة الأمريكية من اللجوء إلى هذا البديل، فترجع إلى "شدة المخاوف" من إنزال مشاة البحرية الأمريكية على السواحل المجاورة لبيروت. ناهيك أن التدخل الأمريكي المسلح، لم يكن ليحافظ على المصالح الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، فضلاً عن تنميتها، في ظل الظروف السائدة، أمريكياً ولبنانياً وإقليمياً ودولياً. ففي داخل الولايات المتحدة الأمريكية، بات الشعب الأمريكي يرفض أن يكرر تجربته الأليمة في فيتنام وكمبوديا. زد أن الحرب الأهلية اللبنانية، لا مكان لها في أولويات القيادة الأمريكية.

ومن العناصر الداخلية لأزمة لبنان، ما حال دون التدخل الأمريكي المسلح، المباشر. لعل أبرزها:

  1. أن الأزمة اللبنانية عرفت، في مراحل متقدمة منها، انفجاراً للصراع السياسي، بين رئيس الجمهورية اللبنانية، سليمان فرنجية، ورئيس الوزراء اللبناني، رشيد كرامي. وهو الصراع الذي حرم النظام السياسي اللبناني من وحدة الصف والرأي، ومن ثم، منع أي احتمالات للجوء إلى جهة أجنبية، لكي تتدخل، عسكرياً، إلى جانب السلطة اللبنانية.
  2. أن معظم الأطراف الداخلية للصراع، لم ترِد تدخلاً أجنبياً مسلحاً.
  3. أن المشكلة في لبنان، عكست، في بنيانها المعقد، الكثير من ملامح التشابه مع مشكلة الشرق الأوسط؛ فهي مثقلة بتاريخ من الصراع بين جماعاتها وأطرافها المتنوعة.
  4. أن التدخل الأمريكي المسلح، قد يكتل معارضة، لها وزنها، من الدول المساندة للمقاومة الفلسطينية أو اليسار اللبناني أو المسلمين، الأمر الذي يمكن أن يسيء إلى علاقات الولايات المتحدة الأمريكية بهذه الدول.

إضافة إلى ذلك، حالت الظروف النابعة من الإطار الإقليمي للمشكلة، دون تدخّل أمريكي مسلح. فالأزمة في لبنان، أثّرت وتأثّرت بمشكلة الشرق الأوسط، حتى استحال الفصل بينهما، أو بين   تأثير كل منهما في الأخرى. وظهر تأثّر أزمة لبنان وتأثيرها في مشكلة الشرق الأوسط، في إحجام الولايات المتحدة الأمريكية عن التدخل العسكري في لبنان، وذلك لحرصها على استمرار المكاسب، التي حققتها دبلوماسيتها في الاقتراب من مشكلة الشرق الأوسط، بعد حرب أكتوبر 1973.

2. الإحجام عن التدخل غير المباشر

رأت واشنطن، في بداية الأزمة اللبنانية، أنه إذا تدخلت سورية، عسكرياً، في لبنان، فإنه سيكون من حق إسرائيل، أن تتدخل، عسكرياً، كذلك، وبمساندة أمريكية. بيد أن تدخّل الولايات المتحدة الأمريكية، غير المباشر، عبْر تدخّل إسرائيل، سينسف الجهود، التي بذلتها وتبذلها الدبلوماسية الكيسنجرية، من أجْل الحفاظ على المصالح الأمريكية وتنميتها، في منطقة الشرق الأوسط.

رابعاً: الخطوط العامة للسياسة الأمريكية

       عُدَّت الولايات المتحدة الأمريكية، بالنسبة إلى كثير من أطراف الحرب الأهلية اللبنانية، طرفاً رئيسياً في إذكاء حِدّة الصراع، كلٌّ من وجهة نظر خاصة. إذ رأى ريمون إده، زعيم حزب "الكتلة الوطنية"، أن الاستخبارات الأمريكية، هي التي دبرت نشوب الحرب الأهلية في لبنان. أمّا شربل القسيس، رئيس الرهبانيات، فرأى، أن السياسة الأمريكية سياسة غير رشيدة. بينما اعتقد كميل شمعون، أن السياسة الأمريكية قاصرة، لأنها لم تتدخل بقوات الأسطول السادس، مثلما فعلت عام 1958، وهي لا تعرف حليفها من عدوها. واتَّهمت القيادات الإسلامية واشنطن بالتخطيط للحرب الأهلية اللبنانية، بينما تقلّل اليسار، اللبناني والفلسطيني، هذا الاتهام، ورأى فيه تبسيطاً للأمور. وساد لديه أن الولايات المتحدة الأمريكية، تحركت بعد الأحداث، للاستفادة منها.

       والواقع، أنه كان للولايات المتحدة الأمريكية مصالح واتجاهات، جعلتها تولِي لبنان بعض اهتمامها. فزيارة ريتشارد نيكسونRichard Milhous Nixonإلى المنطقة، والتي قيل إنها تهدف إلى إقرار السلام في الشرق الأوسط، وكانت إيذاناً ببدء سلسلة من الاعتداءات العسكرية الإسرائيلية على مخيمات الفلسطينيين في لبنان ـ ارتبطت بظاهرتين:

الأولى: وردت في البيان المشترك، الأمريكي ـ الإسرائيلي، ودعت الدول العربية إلى وقف تشجيع "الإرهاب" الفلسطيني ضد إسرائيل. وأنه يجب على كل دولة الامتناع عن تنظيم وتشجيع إنشاء قوات غير نظامية، أو عصابات مسلحة أو (فرق مرتزقة)، للإغارة على أراضي دولة أخرى.

الثانية: تُستشف من التصريحات الرسمية الإسرائيلية، التي تنمّ على أن ثمة اتفاقاً أمريكياً ـ إسرائيلياً، على تفويض ضرب الفلسطينيين، على أساس أنهم، في نظر الرئيس الأمريكي، إرهابيون و"عصابات" و"مرتزقة". ولذلك، أعلن إسحاق رابين، رئيس وزراء إسرائيل، أنه ما دام لبنان لا يضطلع بمسؤوليته، من منع تسرب الفلسطينيين، عبْر حدوده، فإن إسرائيل تشعر بحرية ضرب قواعد الفدائيين وتجمعاتهم.

       ويضاف إلى ذلك ارتباط الولايات المتحدة الأمريكية، بمجموعة من العلاقات، الاقتصادية والسياسية، بمراكز قوى، اجتماعية وسياسية وعسكرية، متنوعة ومتفاوتة، في لبنان.

       بعد مرور شهر واحد على حادث عين الرمانة، وقبل عام من تدخّل سورية في لبنان، اقترحت الولايات المتحدة الأمريكية إرسال قوات سورية إليه. غير أن مجلس الشيوخ الأمريكي، أقر، في 4 نوفمبر 1975، بأغلبية 12 صوتاً، مشروعاً تقدَّم به السيناتور اللبناني الأصل، جيمس أبو رزق، يمنع أي تدخّل أجنبي، من أي دولة كانت، في الصراع الدائر في لبنان.

       وما لبثت السياسة الأمريكية أن تبدلت، إذ أعلن ناطق باسم الخارجية، في 8 يناير 1976، أن واشنطن تعارض أي تدخّل أجنبي في لبنان، سواء من جانب سورية أو إسرائيل. وهو ما أكده الرئيس الأمريكي، فورد، بعد ذلك بأيام. ولئن اعترف الناطق باسم الخارجية الأمريكية، في 29 يناير، بالدور البنّاء، الذي تؤديه سورية في لبنان (من خلال الوثيقة الدستورية)، بعد التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، فإن اعترافه لم يغيّر رفض واشنطن التدخل العسكري. إذ أعلن كيسنجر، في 19 مارس 1976، أن الولايات المتحدة الأمريكية، لا يمكنها أن تقوم بأي عمل مادي، للمساعدة على حل الأزمة. ولكنها، حذرت كل الأطراف، كذلك، بما فيها إسرائيل وسورية، من أي تدخّل في لبنان، لأنها لا تؤيد، بل هي تعارض أي تدخّل فردي. "وبعد ذلك بأسبوع، حذر بيان أمريكي سورية وإسرائيل، من التدخل العسكري في لبنان، لأنه ينطوي على خطر كبير، يجب تلافيه. ودعا إلى وقف إطلاق النار، وحل مسألة الرئاسة، دستورياً. وفي اليوم التالي، فسر الناطق الرسمي الأمريكي البيان، بأنه ليس ضد أي تدخّل مقبول من السلطات اللبنانية".

       وبادر الرئيس الأمريكي، في 31 مارس 1976، إلى إرسال مبعوثه، دين براون، إلى بيروت، الذي أعلن، فور وصوله، أنه ليس وسيطاً، وإنما يؤدي مهمة السفير الغائب. وأنه سوف يقدِّم تقريراً إلى الرئيس الأمريكي، بعد أن يتصل بجميع الأطراف. واللافت أن دين براون، كان هو نفسه سفيراً لواشنطن إلى عَمان، وقت مذابح "أيلول الأسود"، في الأردن، عام 1970.

       وبينما كان براون يقابل، في بيروت، أطراف الأزمة اللبنانية، عدا الفلسطينيين، اقترح، من واشنطن، زعيم الأغلبية الديموقراطية في مجلس الشيوخ الأمريكي، مانسفيلد، في 6 أبريل 1976، إرسال قوة دولية إلى لبنان، مكونة من وحدات، عربية وإسرائيلية. وفي اليوم نفسه، أعلن جوزيف سيسكو، مساعد وزير الخارجية الأمريكية، في شهادة أمام الكونجرس، أن استمرار التوتر في لبنان، يهدد جهود السلام، التي تبذلها الولايات المتحدة الأمريكية. وأكد أن دور سورية، يُعَدّ دوراً بناءً، لأنه يهدف إلى تحقيق أمرين: وقف إطلاق النار، وإجراء إصلاحات سياسية.

       واقترح براون، لحل مشكلة الأمن، تشكيل ميليشيا موحدة، متطوعة من جميع الأحزاب، والاعتماد عليها، كقوة ردع، ريثما يُنظّم الجيش اللبناني. وأشار براون، طبقاً لوثيقة الصاعقة، إلى أنه "يمكن الاستعانة بخبراء أجانب، من باكستان والنرويج والولايات المتحدة الأمريكية، لإعادة بناء مؤسسات الدولة. ولكن جنبلاط، رفض اقتراحات براون". وفي 2 مايو 1976، أي قبل إجراء انتخابات الرئاسة اللبنانية الأولى، اجتمع براون بكل من المرشحَين، ريمون إده وإلياس سركيس، مما عَدّته القيادات اللبنانية، من الطرفين، خطأ دبلوماسياً، كشف عن التدخل في عملية الانتخابات، بينما حرص المبعوث الفرنسي على الحياد فيها، فرفض مقابلة المرشحَين.

ولعل أبرز ما اتَّسمت به السياسة الأمريكية، مع بداية الحرب الأهلية اللبنانية، ما يلي:

  1. ضرورة استمرار الحرب، حتى تحقق الهدف، وهو إجهاد الفلسطينيين، وتفتيت الموقف العربي؛ إذ إن مجرد الاستمرار، يكشف التناقضات بين الدول العربية ويعمقها. وهو ما يجعل أصوات المعتدلين فيها أكثر قبولاً، فيزيل عقبة من طريق الجهود الأمريكية لتسوية الأزمة في الشرق الأوسط، كما تتصورها واشنطن.
  2. رفض تقسيم لبنان رفضاً حاسماً. وهو أمر لو أخذ على ظاهره، لكان موقفاً حميداً للسياسة الأمريكية. إلاّ أن فلسفة القيادة الأمريكية فيه، تنطلق من أن التقسيم يعني قيام دولتَين، صحيح أن إحداهما مارونية، ولكن الأخرى، سوف تكون في أيدي اليسار، اللبناني والفلسطيني. وهو ما لا يمكِن أن تقبَل به واشنطن. ولما تأكدت قيادة "الجبهة اللبنانية"، أن فكرة التقسيم مرفوضة من كل الحلفاء، باستثناء إسرائيل، طلبت البحث عن بديل. فقدمت الولايات المتحدة الأمريكية فكرة الكانتونات أو المقاطعات، ذات الاستقلال الذاتي، على غرار سويسرا. وكان أول من طرح الفكرة، علناً، هو الدكتور شارل مالك، وزير خارجية لبنان السابق؛ إذ أعلن، في 5 يوليه 1976، أنه ليس لديه معلومات عن خطة أمريكية للتقسيم. ولكنه يتصور، بعد كل الذي حدث في لبنان، "أن الولايات المتحدة الأمريكية على استعداد للنظر في المساهمة في إيجاد نوع من التنظيم الداخلي، الذي يؤدي إلى الاستقرار. وهو ما قد يشمل شيئاً من الفيدرالية، أو نظام الكانتونات". وما لبث شارل مالك أن دعا إلى اعتماد نظام الكانتونات، والعمل باللامركزية، في مجالَي الاقتصاد والإدارة، ناعتاً لبنان بأنه سويسرا الشرق. فتلقفت قيادات "الجبهة اللبنانية" نظام الكانتونات، ولم تكفّ عن الحديث فيه، حتى أعلن كيسنجر تأييده لمشروع إعادة توحيد لبنان، من طريق الكانتونات. وقال إنه يجب أن يكون لكلٍّ من الطائفتَين، المسيحية والإسلامية، نمط حياة خاص، يتوافق مع تقاليدها.
  3. الحؤول دون تحوُّل لبنان إلى جبهة قتال ضد إسرائيل.
  4. إن الولايات المتحدة الأمريكية، أرادت أن تُطبِّق القاعدة اللبنانية العريقة: "لا غالب، ولا مغلوب"، إجهاضاً لانتصار "القوات المشتركة"، الفلسطينية واللبنانية.
  5. الإيحاء لسورية بإمكانية التدخل، عسكرياً، في لبنان، قبْل ما يزيد على العام من خروج الفكرة إلى حيّز التنفيذ، بلبلةً لفكر صانع القرار في سورية، تحت تأثير الضغوط: اقتراح مانسفيلد، طلب كميل شمعون تدخّل الأسطول السادس، ناهيك تصريح جيمس شلسينجر James R. Schlesinger، وزير الدفاع السابق، في 17 مايو 1976، بأن على الولايات المتحدة الأمريكية، أن تبعث بقواتها العسكرية إلى لبنان، مثلما فعلت عام 1958. فضلاً عن تصريح الرئيس فورد، في 20 مايو 1976: "أنه لن يرسل قوات أمريكية، للتورط في الحرب الأهلية اللبنانية.

خامساً: الموقف الأمريكي من الغزو الإسرائيلي

       في خضم الحرب الأهلية اللبنانية، غزت إسرائيل لبنان، عام 1982، مما أسهم في إذكاء حدّة الصراع فيه. وأجمع معظم المراقبين على علم واشنطن المسبق بالغزو الإسرائيلي، وإقرارها إياه، ما يجعلها "شريكاً" مباشراً فيه. ونمّ على ذلك اللامبالاة الأمريكية بالغزو، ثم التأييد الأمريكي المباشر له. فبعد الغزو مباشرة، عقد ألكسندر هيج Alexander Megis Haig، وزير الخارجية الأمريكي، مؤتمراً صحفياً، في أوروبا، صرح فيه بأن الولايات المتحدة الأمريكية، لم تحدد موقفاً واضحاً، بعد، من الغزو، إذ ليس من الواضح ما إذا كانت التحركات الإسرائيلية، تجري في إطار "الدفاع عن النفس" أم لا. وأضاف أن "من حق جميع الدول، أن تمارس حق الدفاع عن النفس، مثلما تمارسه بريطانيا، الآن، في فوكلاند. ونحن نؤيد ذلك". وفي الوقت عينه، أعلن رونالد ريجان ضرورة التكاتف، من أجل استئصال الإرهاب من الشرق الأوسط. إضافة إلى أن واشنطن استخدمت حق النقض (Veto)، الشهير في مجلس الأمن، للحيلولة دون اتخاذ قرار، يدين إسرائيل، ويدعو إلى انسحاب قواتها الغازية من لبنان. وأخيراً، اتضح جوهر الموقف الأمريكي، بدعوة المسؤولين الأمريكيين إلى "انسحاب كل القوات الأجنبية من لبنان، كشرط لتسوية الأزمة.

سادساً: تطور الموقف الأمريكي، بعد غزو 1982

       منذ منتصف الثمانينيات، اعترفت الولايات المتحدة الأمريكية، ضمناً، بدور سوري متميز في لبنان، مقابل إبداء الدبلوماسية السورية بعض المرونة، إزاء التحركات الأمريكية السياسية في المنطقة.

       وفي هذا الإطار، زار جورج شولتز George Pratt Shultz، وزير الخارجية الأمريكية، في 13 أبريل 1988، الشرق الأوسط، حيث اتفق مع الرئيس السوري حافظ الأسد على أن تضطلع سورية، عبْر السيطرة على القوى المناصـرة لهـا، بالحدّ من الوجـود الفلسطينـي المناصـر لعرفات، وضبط الأوضاع في لبنان، ولا سيما الأمن في بيروت الغربية والمطار اللبناني، على أن تتكفل واشنطن بالسيطرة على الأوضاع في المنطقة الشرقية، من خلال الاتفاق مع الرئيس اللبناني، الجميل، على أن يتولى الجيش اللبناني مسألة الأمن في بيروت الشرقية، ومحاصرة نفوذ "القوات اللبنانية"؛ وهو ما كان شولتز والجميل قد اتفقا عليه، في مطار لارناكا، في قبرص.

       وفي حين نفذت سورية ما التزمت به، لم تفِ الإدارة الأمريكية بما تكفلت به؛ إذ إن الرئيس الجميل، بدلاً من مواجَهة "القوات اللبنانية"، مستخدماً الجيش، لجأ إلى التحالف معها، بل حاصر نفوذ الجيش، محاولاً إبعاده عن أي تدخّل في شأن الاستحقاق الدستوري. وهو ما أزعج السياسة السورية، وأثبت نكوص الإدارة الأمريكية عمّا تعهدت به، بل أيدت التحالف بين الرئيس الجميل وسمير جعجع. وانحازت إليه، إذ أبلغ المبعوث الأمريكي، ريتشارد ميرفي Richard Murphy، الرئيس الأسد، في الخامس من أغسطس 1988، أسماء سبعة مرشحين للرئاسة اللبنانية: ميشال الخوري ـ ميشال إده ـ رينيه معوض ـ بيار حلو ـ مانويل يونس ـ داني شمعون وجان عبيد؛ وهم الذين اقترحهم الرئيس الجميل و"القوات اللبنانية"، على أن تختار سورية أحدهم. كما أبلغه معارضة الإدارة الأمريكية لترشيح فرنجية، الذي أيدته سورية، بقوة.