إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / الحرب الأهلية اللبنانية






مواقع المخيمات الفلسطينية
مواقع المخيمات الفلسطينية
لبنان - التوزيع الطائفي
الجمهورية اللبنانية
تعداد الفلسطينيين بلبنان
جنوب لبنان



المبحث الثاني

المبحث الثاني

الدور الفرنسي في الحرب الأهلية اللبنانية

أولاً: أبعاد العلاقة التاريخية بين فرنسا وموارنة لبنان

       حظي الموارنة، على مدى فترات طويلة، بعطف فرنسا ومساعدتها. وخير دليل عليهما، ما جاء في رسالة لويس التاسع Louis  IX ، ملك فرنسا، عام 1250م، إلى موارنة لبنان: "إننا موقنون، أن هذه الأمة، التي قامت تحت اسم القديس مارون، هي جزء من الأمة الفرنسية".

       ويُعيد المؤرخون، الفرنسيون واللبنانيون، تاريخ العلاقات الفرنسية ـ المارونية، إلى الحروب الصليبية، بل إلى شارلمان Charlemagne. ولكن من المسلَّم به، أن حق فرنسا في حماية الكاثوليك في لبنان، يعود إلى معاهدة 1535. وترسخت الحماية الفرنسية بتعهد لويس الرابع عشرLouis XIV، عام 1649، حماية الكنيسة المارونية وطائفتها، إذ يقول، في رد على رسالة من البطريرك: "ليكن معلوماً، أننا نضع تحت حمايتنا ورعايتنا بطريرك ورعايا وإكليروس المارونية المسيحية، الذين يعيشون ويعملون في جبل لبنان". وقد جدَّد الملوك الفرنسيون اللاحقون هذا التعهد، حتى أصبح، في القرن الثامن عشر، تقليداً محدد الأُسُس.

       وفي عام 1840، حينما أصبح لبنان حجراً أساسياً في "المسألة الشرقية"، اعترف معظم الدول، وخاصة الكبرى منها، بحق فرنسا في حماية الموارنة. وهذه المرحلة شهدت بدء السعي الماروني، داخل فرنسا، إلى كسب مساعدة حكومة فرنسا ومؤسساتها التشريعية ورأيها العام. أما في عام 1860، فقد تحولت الحماية الفرنسية المعنوية، إلى حماية صريحة، حينما نزلت في لبنان، قوة فرنسية، مؤلفة من ستة آلاف جندي، لحماية الموارنة والمسيحيين، ضد الدروز والمسلمين. وظهرت الحماية الفرنسية، كذلك، خلال انعقاد اللجنة الدولية في بيروت، حين تبنّى المندوب السامي الفرنسي المطالب المارونية؛ وكان لفرنسا الدور الأساسي في إنشاء متصرفية جبل لبنان. وعلى الرغم من أن التسوية الشاملة، عام 1861، منحت الدول الأوروبية، ومنها فرنسا، حق حماية المسيحيين في لبنان، إلاّ أن الموارنة تشبثوا بالحماية الفرنسية. وجانسوا الفرنسيين، حتى لقبوا أنفسهم بفرنسيي الشرق. وكان الاحتلال الفرنسي، بل اتحاد لبنان وفرنسا، مطلباً قومياً مارونياً؛ إذ يخلصهم من السيطرة العثمانية الإسلامية، التي طالما قاوموها، ويضعهم تحت حكم قوى مسيحية، تربطهم بها علاقات، ثقافية ودينية واقتصادية، متينة.

       "لبنان أُنشئ لأسباب دينية"، هي خلق ملجأ لمسيحيي الشرق، كما يرى المفكرون الفرنسيون. وهذا هو السبب الأساسي، الذي دعا القوى الأوروبية لإنشاء متصرفية جبل لبنان، ذي الحكم الذاتي، عام 1860. وهو عينه، ما دعا فرنسا إلى إنشاء دولة لبنان الكبير، عام 1920. وتزامن ازدياد الطموحات المسيحية اللبنانية، مع سرعة انهيار الدولة العثمانية، خصوصاً بعد هزيمتها في حروب البلقان، التي هددت وجودها بالخطر. فشعر الموارنة أن وقت تحقيق آمالهم قد حان، وأذكته في نفوسهم السياسة الفرنسية في المشرق، الساعية إلى مواكبة السرعة في انهيار الإمبراطورية، وازدياد تنافس الدول الأوروبية. وأسرعت فرنسا إلى إظهار وجودها في المنطقة، فازدادت تحركات مبعوثيها بين السكان، وتوالت زيارات سفنها الحربية إلى الموانئ اللبنانية، وتواترت زيارات ضباطها إلى مقر البطريرك الماروني.

       وفي فرنسا عينها، ازداد الاهتمام بالمسألتين السورية واللبنانية، وواكب ذلك حملات دعاية لدعم النفوذ الفرنسي في المشرق. وجاءت تصريحات السياسيين الفرنسيين، خاصة خطبة رئيس الوزراء، ريموند بوانكاريهRaymond Poincare، أمام مجلس الشيوخ الفرنسي، في 21 يناير 1912، لتبرهن للبنانيين المسيحيين، أن فرنسا تمهد الطريق لاحتلال سورية ولبنان. مما دفع الموارنة إلى حثّها، جهاراً وسراً، على تعجيل احتلال لبنان، وإقامة دولة مسيحية فيه، تحت حماية فرنسية. وعملوا على إقناع المسيحيين الآخرين به، خاصة الروم الأرثوذكس المترددين. وغشَّوا مطامحهم بأقنعة حديثة ومبادئ وطنية، بعيدة عن التعصب الديني واللغة الطائفية. وبات كثير من المسيحيين اللبنانيين، يرون أنفسهم جزءاً من أُمّة، تطالب بدولة مستقلة، أقلية، تطالب بالحكم الذاتي والحماية الأجنبية.

       في 31 أغسطس عام 1920، أعلن الجنرال جورو، المندوب السامي الفرنسي في سورية ولبنان، نشوء دولة لبنان الكبير، التي ضمت المنطقة الساحلية ووادي البقاع، بأغلبيتهما السكانية الإسلامية، إلى جبل لبنان، الذي يهيمن عليه المسيحيون الموارنة، بنزعاته الاستقلالية، وروابطه الوثيقة بالغرب. فتحقق حلم الموارنة القديم. وتلاشت آمال المسلمين، الراغبين في دولة عربية موحدة. ونشطت الإرساليات الدينية الفرنسية، مثل الآباء اليسوعيين، الذين كانت لهم مؤسسات تربوية في لبنان، كجامعة القديس يوسف في بيروت. كذلك أسسوا المستشفيات ودُور الأيتام، وغيرها من المؤسسات الخيرية. وكان لمؤسسات فرنسية مدنية أنشطة أخرى في المنطقة، مثل "التحالف الفرنسي". وقُدِّر أن نحو أربعين ألف تلميذ، درسوا، قبل الحرب، في 80 مدرسة فرنسية في لبنان، وأن الحكومة الفرنسية، كانت تدفع مليون فرنك، سنوياً، لدعم هذه المدارس. وأصبحت اللغة الفرنسية لغة كثير من مسيحيي لبنان.

       وأدى إنشاء دولة لبنان الكبير إلى انقسام اجتماعي عميق، عملت فرنسا، من خلاله، على تغذية الطائفية، وبث روح الفرقة بين المسيحيين والمسلمين، سياسة "فرق تسد". كما كانت المناطقية عنصراً آخر، عاق اندماج السكان المختلفين في بوتقة واحدة: الموارنة في شمالي لبنان ووسطه، والدروز في شرقيّه وجنوبيّه، في حاصبيّا وراشيّا، والشيعة في صور وجبل عامل وشمالي سهل البقاع ووسطه، والسُّنة في المدن الساحلية الرئيسية وسهل عكار، والروم الأرثوذكس في الكورة وبيروت وطرابلس، والروم الكاثوليك في جنوبي البلاد وزحلة. وتَوزَّع بيروت، المركز، السياسي والاقتصادي، للبلاد، كافة الطوائف، بأعداد متساوية.

       أسهمت السياسة، التي اتّبعها المندوبون السامُون الثلاثة الأُوَل، في سورية ولبنان، خلال ست سنوات من الانتداب الفرنسي، في تكوين الوجه، السياسي والاقتصادي والاجتماعي، للبنان، وتحويله إلى دولة مستقرة، نسبياً، بنظام سياسي، تستطيع الطوائف المختلفة، أن تتعايش في ظله، على الرغم من أن الوجود الفرنسي، زاد في حجم التناقض بين المسيحيين والمسلمين، وشجع المواقف المعادية تجاه الدولة اللبنانية. وواجه الفرنسيون مصاعب كبيرة، أثناء محاولتهم وضع نظام، سياسي وإداري، للبنان؛ إذ إن الهوّة بين المسيحيين والمسلمين، كانت واسعة، وكلٌّ منهما كان مقسماً إلى مذاهب مختلفة، يحاول كلٌّ منها تحقيق مصالحه على حساب مصالح الفئات الأخرى. وكل مذهب، كان منقسماً على نفسه، تبعاً لمصالح عائلية، وشخصية. بيد أن هذه الصعوبات، لم تحُل دون نجاح الفرنسيين واللبنانيين أنفسهم، خلال عام 1920، في إرساء نظام، سياسي وإداري، استطاع، على ثغراته، البقاء أكثر من نصف قرن.

       وزاد الهوة بين اللبنانيين اتساعاً، التنافس بين بريطانيا وفرنسا، وصراعهما من أجْل النفوذ والسيطرة، إذ استعمل كلٌّ منهما الدعاية والتخريب لزعزعة مواقع الطرف الآخر. فآزر البريطانيون الصهاينة والعرب المسلمين، بقيادة الهاشميين، للتشدّد في شروطهم في اتفاق إنهاء الحرب مع فرنسا، واقتسام الشرق الأوسط. أمّا فرنسا، فقد دعمت المسيحيين اللبنانيين، من أجْل تقوية ادعاءاتها في سورية ولبنان.

       إن سياسة فرنسا في لبنان، غذت فيه الانقسام الطائفي، والتجزئة بمختلف أشكالها. لقد شعرت فرنسا بخطر التيار القومي العربي الوحدوي، فعملت على ضربه بشتّى الوسائل. ولم تكتفِ بسلخ مناطق عن سورية، وضمها إلى لبنان، الدولة التي يهيمن عليها المسيحيون، بل عمدت إلى تقسيم سورية نفسها دويلات، على أساس طائفي، عيّنت عليها حكاماً فرنسيين. فأنشأت دولة في جبل الدروز، وأخرى في اللاذقية وجبال العلويين، ودولة في لواء الإسكندرونة، وأخرى في الداخل السوري. وقد وجدت السياسة الفرنسية أرضاً خصبة في لبنان، ولا سيما بين زعماء المسيحيين، الذين استماتوا في المطالبة بالانتداب الفرنسي، مما أشعر سكان المناطق، التي سلخت عن سورية، وضمت إلى لبنان، بالظلم الذي سيلحق بهم، من جراء تسلط الانتداب الفرنسي، ومحاباته لفئة من أبناء وطنهم.

       ولم يترك الفرنسيون مجالاً لزرع الفتن بين الطوائف، إلاّ استغلّوه. فلم يترددوا في سياسة قهر المناطق الإسلامية، وحرمانها أبسط حقوقها الاقتصادية، في مقابل تنمية المناطق والقطاعات، التي تتلاءم مع أهدافهم التجارية، فحصل المسيحيون منها على نصيب الأسد. أمّا المسلمون، الذين رفضوا، منذ البداية، التعاون مع الانتداب، فاستغلّوا عيوبه، ونادوا بالانفصال عن لبنان. ولم تقتصر التفرقة على المسيحيين والمسلمين، بل تعدّتهما إلى المسيحيين أنفسهم، "فالروم الأرثوذكس، امتعضوا من العناية الخاصة، التي أظهرها الفرنسيون نحو الموارنة. وأحجموا عن إظهار الولاء الكامل لدولة، كان الموارنة فيها العنصر المسيطر".

       هكذا، قوّت سياسة التفرقة والتحيز، التي انتهجتها فرنسا في لبنان، الطائفية، وعمقتها، وهيأت المناخ، مبكراً، للحرب الأهلية اللبنانية. إضافة إلى أن فرنسا، عمدت إلى استعمال البنى التقليدية في المجتمع، بدل أن تساعد على القضاء عليها، وتحديث البلاد. فكان ذلك عاملاً من عوامل التخلف والتجزئة الطائفية.

       لم يقتصر هدف الاستعمار الفرنسي على السيطرة على الاقتصاد، ونهب خيرات البلاد، وتصريف المنتجات فقط، وإنما عمد إلى إعداد بنية اجتماعية، فيها من التناقضات، ما يسمح له بالبقاء فترة طويلة. وجاءت ظروف الانقسام الطائفي، لتشكل لهذا الاستعمار أرضاً خصبة، تمكنه من تعميق التباعد بين الطوائف، على الصعيد، الثقافي والاجتماعي والسياسي. وبذلك، تكون الطائفية سبب الاختلاف الاجتماعي ونتيجته، فالنضال ضدها، كان يفرض استعمال كل الوسائل لخلق جيل موحَّد، ذي وطنية حقة، وهو ما عملت عكسه الإرساليات والمدارس الأجنبية، إذ جعلت الولاء، أولاً، للطائفة، وليس للوطن! ثمّ لهذه الدولة الاستعمارية أو تلك. كذلك، المؤسسات التعليمية الوطنية الطائفية، التي كان معظمها يتلقى المساعدات الأجنبية، ويوفَد إليها أساتذة التعليم، كذلك. وكان تلاميذها يتقدمون لنيل الشهادات الأجنبية. وأغلبيتها الساحقة، كانت مسيحية، قدرت بنحو 650 مدرسة، عام 1900، موزعة كما يلي: 120 مدرسة إسلامية، مدرسة واحدة درزية، والباقية مدارس مسيحية (مارونية ـ أرثوذكسية ـ ملكية ـ بروتستانتية).

       كان التغلغل الثقافي، من طريق الإرساليات، وجهاً من وجوه الاستعمار. أدى إلى إرساء الطائفية وترسيخها في البنية الاجتماعية، حتى أصبحت عقيدة، لها أتباع ومدافعون، في جمعيات وأحزاب وتنظيمات، بل لها فلاسفة، يبررونها، ويعزون إليها وجود لبنان.

ثانياً: مراحل الدور الفرنسي في الحرب الأهلية اللبنانية

       تحركت الوساطة الفرنسية الفعلية، بعد حوالي ثمانية أشهر من بداية الحرب الأهلية اللبنانية، عام 1975، بعد أن اتضحت أبعاد الموقف، وظهرت قوة كل طرف من أطراف النزاع.

       غير أن فرنسا، كانت تتابع الأحداث، منذ البداية، وتحاول أن تجد مخرجاً، خاصة أن روابطها التقليدية بلبنان عامة، والموارنة خاصة، تُعَدّ إحدى حقائق الحياة السياسية في لبنان. فبعد شهر واحد من حادث عين الرمانة، وبالتحديد في 17 مايو 1975، أبلغ شارل حلو، الرئيس اللبناني السابق، سليمان فرنجية، رئيس الجمهورية اللبنانية، آنئذٍ، أن المسؤولين الفرنسيين، على كل المستويات، مهتمون بالوضع اللبناني، انطلاقاً من العلاقات التاريخية، التي تربط لبنان بفرنسا.

       وكانت أول خطوة، للتعبير عن استعداد فرنسا لتجاوز مرحلة القلق إلى دور أكثر إيجابية، في أول يوليه 1975، حين أعلن الرئيس الفرنسي، ديستان، أن الوضع في لبنان يثير قلق فرنسا، وأنها مستعدة لأن تشارك الحكومات الصديقة للبنان، في مساعدته على العودة إلى السلام والاستقرار. وبدأت فرنسا، بعد ذلك، من خلال النشاط الدبلوماسي، استطلاع رأي الدول، التي تهمها المشكلة، كي تحدد باريس خطوتها التالية. وإزاء تسارع الأحداث، أعلنت الحكومة الفرنسية، في 17 سبتمبر 1975، أنها تؤكد ضرورة الحفاظ على استقلال لبنان ووحدته وسلامة أراضيه، في وقت تزايدت فيه الصيحات الداعية إلى التقسيم، وهو ما كبح جماح "الجبهة اللبنانية"، فخفتت صيحاتها. وإضافة إلى الأطراف، المحليين والعرب، شملت اتصالات فرنسا الولايات المتحدة الأمريكية. إذ أعلن وزير خارجية فرنسا، في 9 أكتوبر1975، أنه بحث الأزمة اللبنانية، طويلاً، مع هنري كيسنجر. وأعلن المتحدث الرسمي باسم الرئيس الفرنسي، في 2 نوفمبر 1975، أن جيسكار ديستان مهتم بإعداد مبادرة فرنسية، من شأنها أن تسهل إيجاد حل سلمي في لبنان. وفي اليوم نفسه، اجتمع السفير الفرنسي إلى بيروت، بالرئيس فرنجية، وأبلغه أن فرنسا مستعدة لإرسال شخصية فرنسية، تتوسط بين جميع الأطراف.

       وبعد موافقة الحكومة اللبنانية على المبادرة الفرنسية، بعث ديستان، في 18 نوفمبر، برسالة إلى الرئيس اللبناني، يُعلِمه فيها بإرسال "بعثة صداقة" إلى بيروت، يرأسها موريس كوف دي مورفيل Maurice Couve de Murville، ومهمتها استقصاء الآراء، وجمع المعلومات. وهي لا تُعَدّ تدخلاً في شؤون لبنان، وإنما هدفها مساعدته. وفي اليوم عينه، الذي سلمت فيه رسالة ديستان، اجتمع سفيرا فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية إلى بيروت، بعد أن أعلن كيسنجر تأييده لبعثة فرنسا. وفي اليوم التالي، 19 نوفمبر، وصل كوف دي مورفيل، رئيس وزراء فرنسا السابق، إلى العاصمة اللبنانية، مبعوثاً من الرئيس الفرنسي. وبدأ، فور وصوله، اجتماعاته إلى كل القيادات اللبنانية. وخلال مقابلاته، حرص المبعوث الفرنسي، أن يؤكد، في تصريحاته الصحفية، أن التقسيم كارثة على جميع الأطراف، وأن الحل في يد اللبنانيين، والمصالحة تبدأ بمصالحة قادتِهم.

       وحاولت جماعة الكسليك، أو الرهبانيات، إقناع المبعوث الفرنسي بوجهة نظرها. فقدَّمت إليه مذكرة، تنص على أن "كل الدول العربية دول إسلامية، تعامل المسيحيين كأهل ذمة، محرومين من حقوق المواطَنة الفعلية. وأن المسيحيين، خاصة الموارنة، يفضلون الموت على العيش كأهل ذمة. وأن لبنان هو، في الواقع، ملجأ الأقليات الهاربة من الخطر السُّني". والخروج من الأزمة، حسب تصور الرهبانيات المارونية، هو العودة إلى صفة لبنان القديمة، بضمانة الدول الكبرى، وأن الخطر في لبنان، يرجع إلى الوجود الفلسطيني فيه.

       ونجح المبعوث الفرنسي، في 29 نوفمبر1975، في إقناع الرئيسين فرنجية وكرامي، بإصدار كلٍّ منهما بياناً يفتح الطريق نحو المصالحة، بعد ما رفض رئيس الجمهورية مشاركة رئيس الوزراء في إصدار بيان واحد. واقترح كوف دي مورفيل، أن تكون المصالحة على أساس اتفاق ضمني على إجراء بعض الإصلاحات. وفي المقابل، تتعهد فرنسا بضمان موافقة سورية والمقاومة على الاتفاق. وغادر المبعوث الفرنسي بيروت، في اليوم التالي، متجهاً إلى دمشق، ومنها إلى باريس.

       وعلى أثر تجدد القتال، تسلمت وزارة الخارجية اللبنانية، في 27 مارس 1976، رسالة من سفارتها في باريس، مفادها أن فرنسا، لن تقف مكتوفة اليدين، وتقترح، في حالة فشل سورية، دعوة مجلس الأمن، أو الدول الكبرى، إلى إرسال شخصية دولية للوساطة، على أن يكون واضحاً، أن فشل هذه الوساطة، يمكِن أن يؤدي إلى تدخّل عسكري دولي.

       وكان رد الرئيس فرنجية عليها، أنه ينتظر نتائج الوساطة السورية، وأن الظروف لا تسمح بانتظار نتيجة وساطة جديدة، وأن دعوة قوات دولية، بقرار من مجلس الأمن، يصبح ضرورياً، إذا فشلت الوساطة السورية. كما أن لبنان، بوضعه الحالي، يصعب عليه اتخاذ قرار في شأن اللجوء إلى مجلس الأمن. ولذلك، لا بدّ أن تبادر دولة أخرى إلى دعوة مجلس الأمن، بصورة عاجلة. وذكر الرئيس اللبناني في رده، أنه أعلم الرئيس السوري بأنه في حالة فشل سورية، سوف يلجأ إلى الوسائل الدولية الممكنة. وأن مصر عرضت فكرة إرسال قوات مشتركة.

       أمّا مجلس الأمن، فكانت الدولة المرشحة لدعوته هي إسرائيل. ولكن إسحاق رابين رفض، وأبلغ كلاًّ من فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، أنه لا يرى أي مصلحة لإسرائيل في أداء هذه المهمة.

       وفي نهاية مارس 1976، أصدرت الحكومة الفرنسية نداءً إلى كل الأطراف، تناشدهم وقف إطلاق النار، وأعلنت استعدادها لمبادرة جديدة. وأعلن كوف دي مورفيل، أن إطلاق النار في لبنان، لن يتوقف، إلا إذا فُرض من الخارج. كما أن الدعوة إلى وقف القتال، لا بدّ أن ترتبط بسرعة الحل السياسي. وبدلت فرنسا مبعوثها، فاختارت جورج جورس، الذي وصل إلى بيروت في 8 أبريل، وأعلن أنه سوف يلتقي ياسر عرفات؛ على عكس دين براون، المبعوث الأمريكي الذي رفض ذلك. وسعى المبعوث الفرنسي إلى تحقيق قدر من النجاح للوساطة السورية. وبعد خمسة أيام، غادر إلى دمشق، حيث اجتمع بالرئيس الأسد، وعرض عليه فكرة تنسيق سوري ـ فرنسي في لبنان.

       لم يستطع بيار الجميل إعلان تأييده الصريح للفكرة، واكتفى بالقول إنه من الخطأ معارضة دخول قوات غير لبنانية إلى لبنان. أما كميل شمعون، ففضّل أن يتمكن اللبنانيون من حل مشاكلهم، من دون حاجة إلى دولة أجنبية، مهْما بلغت صداقتها. وإذا كان لا بدّ من قوات أجنبية، فلا بأس أن تكون فرنسية. والتزمت إسرائيل الصمت، تجاه الاقتراح الفرنسي. ولكن الرئيس اللبناني المنتخَب، سركيس، طلب تعليق الاقتراح.

       كان الاقتراح فرنسي الدور، أمريكي الفكرة. إذ ليس إعلان الرئيس الفرنسي اقتراحه من مدينة أمريكية، ليس هو من باب الخطأ أو المصادفة. ومن خلال هذا الاقتراح، أوحت فرنسا بأن هناك مَن يفكر في إرسال قوات إلى لبنان، بعد أن أصابت خيبة الأمل "الجبهة اللبنانية"، التي كانت تتوقع حدوث ذلك منذ البداية.

       وأرادت واشنطن من إيعازها إلى باريس بالاقتراح، أن تظهر فرنسا بمظهر الدولة الطامعة في استعادة نفوذها، فتفقد ما كسبته، في عهد ديجول، من صداقة العرب، فتنفرد الولايات المتحدة الأمريكية، بترتيب الأوضاع في لبنان. ومصداق ذلك أن هنري كيسنجر، صاحب الفكرة، هو نفسه، صرح، يوم أعلنها، أن الاقتراح موضع دراسة، شرط موافقة العرب والدول الأخرى، وإنْ كان يعارض، أصلاً، فكرة تدخّل خارجي.

هكذا، أخفقت فرنسا في مبادرتها، وأعلنت أنه إذا ما أدت الظروف إلى خلق موقف، يرجى فيه إسهامها في تهدئة الوضع في لبنان، فإنها سوف تردّ على مثل هذا الطلب بالإيجاب، أي أن الظروف، لم تساعدها على تحقيق إقرار الأمن.

       وفجأة، أعلن أن كيسنجر بحث مع ديستان، في 7 مايو 1976، الموقف في لبنان، وأن البحث تطرق إلى موضوع إرسال قوات فرنسية إلى لبنان. وذلك قبل يوم واحد من عقد جلسة مجلس النواب اللبناني، لانتخاب سركيس رئيساً. وفي 12 مايو 1976، قرر مجلس وزراء فرنسا، إرسال جورج جورس إلى لبنان، في مبادرة فرنسية ثالثة. وسارع المبعوث الفرنسي إلى الإعلان، أن سورية أدت دوراً إيجابياً في عملية انتخاب الرئيس الجديد، وتدخلت لمنع المذابح. وفي 16 مايو 1976، أعلن جيسكار ديستان، من نيوأورليانزNew Orleans، في الولايات المتحدة الأمريكية، استعداد فرنسا لإرسال قوات إلى لبنان، في غضون 48 ساعة، بشرطين: الأول، هو طلب السلطات اللبنانية. والثاني، هو موافقة الأطراف المعنيين. وقال إن مهمتها هي توفير الأمن. ولكنه لم يستبعد احتمال أن يكون على هذه القوة أن تقاتل، في بعض المناطق الحرجة. وإنها لن تكون تحت راية الأمم المتحدة. ويمكِن ذكر عدد من الملاحظات، في خصوص الاقتراح الفرنسي، أهمها:

  1. أن الاقتراح أعلن، إبّان زيارة الرئيس الفرنسي إلى الولايات المتحدة الأمريكية. وكان كيسنجر قد طرح هذه الفكرة، من قبْل، ولم تجد أي رد فعل في باريس. وهو ما أثار الشك في أن يكون اقتراحاً أمريكياً، أو على الأقل بإيحاء أمريكي.
  2. أنه أعلن وجود بعثة فرنسية ثالثة في لبنان، تلتقي القيادات اللبنانية، أي أن فرنسا، كان لديها فكرة جيدة عن موقف كل قيادات لبنان والمقاومة.
  3. أن ظروف الحرب الأهلية اللبنانية وطبيعتها، يجعلان من الصعوبة البالغة، نزول قوات، من دون أن تخوض معارك حقيقية، قد تواجه، خلالها، خطأً، أطرافاً حليفة.
  4. أن باريس لم تكن، من الناحية العسكرية، قادرة، آنذاك، على إرسال قوات فرنسية إلى خارج فرنسا.

       واتّسمت ردود الفعل، إزاء الاقتراح الفرنسي، بالرفض الحاسم من زعيم "الحركة الوطنية"، كمال جنبلاط. وهو الموقف نفسه، الذي اتخذته المقاومة. كما عارض الاقتراح رشيد كرامي، رئيس وزارء لبنان، بدعوى أنه لا بدّ من الانتظار، ريثما يتولى الرئيس الجديد السلطة، لإقرار مثل هذا الطلب.

ثالثاً: السياسة الفرنسية تجاه الغزو الإسرائيلي للبنان

       أثناء الحرب الأهلية، تعرض لبنان للغزو الإسرائيلي، خلال عامَي 1978 و1982،  مما أثر في مسارها، وحمل فرنسا على الاضطلاع بدور أساسي، نظراً إلى:

  1. المصالح الاقتصادية الفرنسية في المنطقة، إذ يزيد حجم الارتباطات الاقتصادية الفرنسية بدول المنطقة، على حجم ارتباطات أي دولة أوروبية أخرى بها.
  2. العلاقات التاريخية بين فرنسا والعالم العربي.
  3. سعي فرنسا إلى تمييز سياستها عن السياسة الأمريكية، في المنطقة.
  4. تميّز علاقات فرنسا، الثقافية والتاريخية والاقتصادية، بلبنان.

       والخلاف داخل الجماعة الأوروبية، في شأن الموقف من غزو إسرائيل لبنان، حمل فرنسا على التحرك منفردة، مدفوعة بعاملَين رئيسيَّين: الأول، هو حماية المصالح الفرنسية في المنطقة. والثاني، الاستجابة للتوقعات العربية بدور فرنسي ناشط، يوازن الدور الأمريكي المنحاز إلى إسرائيل. فضلاً عن خوفها من انتصار أمريكي ـ إسرائيلي ساحق، قد يؤدي إلى الاستغناء عن أي إسهام أوروبي مستقل في تحقيق السلام في المنطقة، وإطفاء نار الحرب الأهلية، ومن ثم، فرض تسوية، لا تراعي المصالح الأوروبية. ومن ثم، فإنه يجب محاولة الاستفادة من الوضع الشائك، الذي نجم عن غزو إسرائيل لبنان، لإيجاد حل دائم في المنطقة. وتجلى هذا المفهوم الفرنسي في عدد من المواقف، التي تبنّتها فرنسا، خلال الأزمة، والتي دارت حول مسألتَين أساسيتَين:

أولاهما، العمل على الحفاظ على منظمة التحرير الفلسطينية، لكونها عنصراً مهماً من عناصر حل الأزمة. وظهر ذلك في:

  1. دعوة فرنسا، في مشروعها، الذي قدم إلى مجلس الأمن، إلى الفصل بين القوات المتحاربة، وانسحاب الإسرائيليين عدة كيلومترات من حول بيروت. بينما كان المطلب الإسرائيلي ـ الأمريكي إخراج قوات منظمة التحرير الفلسطينية، نهائياً، من بيروت، وهو ما سيؤثر في مسار الحرب الأهلية.
  2. اقتراح فرنسا أن يقتصر دور القوى الدولية، المتجهة إلى بيروت، على الفصل بين القوات المتحاربة، وليس الإشراف على ترحيل الفلسطينيين.
  3. معارضة فرنسا نزع سلاح المقاومة الفلسطينية، أو القضاء على منظمة التحرير الفلسطينية، لأن ذلك، كما رأى شيسون، سيؤدي إلى زوال جهة، تمثّل الشعب الفلسطيني، ويمكن أن يؤدي إلى نشوء وضع غامض، لا يمكن التكهن بنتائجه.
  4. تكثيف الاتصالات مع منظمة التحرير الفلسطينية. فالتقى كلود شيسون فاروق القدومي. كما تحدث الرئيس فرانسوا ميتران Francois Maurice Marie Mitterand، هاتفياً، مع ياسر عرفات، وهو أول اتصال بين مسؤول أوروبي رفيع المستوى، والزعيم الفلسطيني، الأمر الذي يُعَدّ دعماً دبلوماسياً للمنظمة.

       وقد نظرت القيادة الفلسطينية إلى ذلك الموقف الفرنسي بعين التقدير، فأرسل ياسر عرفات برسالة إلى كلود شيسون، وزير الخارجية الفرنسي، شكر له فيها الموقف الفرنسي، المؤيد لحقوق الفلسطينيين، وجهود فرنسا لإنهاء الأزمة، من طريق تسوية، تحفظ للكفاح الفلسطيني شرعيته، وحقه في النضال المسلح.

       وثانيتهما، ربط فرنسا، في كل خطواتها وسياساتها المعلَنة، بين تسوية الأزمة اللبنانية والتسوية الشاملة لأزمة الشرق الأوسط. فقد دعا المشروع الفرنسي في مجلس الأمن، إلى بدء مفاوضات، تكفل الوجود والأمن والحقوق الشرعية، لجميع الدول والشعوب المعنية، وذلك بعد تسوية الأزمة الناتجة من غزو إسرائيل الأراضي اللبنانية. كما دعت فرنسا، في مبادرتها المشتركة مع مصر، إلى تأكيد الحقوق الوطنية الشرعية للشعب الفلسطيني، بما فيها حقه في تقرير المصير، وتمثيله في المفاوضات كافة، المتعلقة بالشرق الأوسط، واشتراك منظمة التحرير الفلسطينية في تلك المفاوضات، وحثّ الطرفَين الرئيسيَّين في الصراع، على الاعتراف المتبادل بينهما.

       أدت المواقف الفرنسية إلى تأزم العلاقات الفرنسية ـ الإسرائيلية، وتبادُل الطرفَين الاتهامات. وقدَّمت إسرائيل مذكرة رسمية إلى الخارجية الفرنسية، احتجاجاً على مقترحات الرئيس ميتران، الذي لم تَعُدّه صديقاً لها. كما عارضت إسرائيل اشتراك فرنسا في القوة الدولية، المشْرفة على ترحيل رجال المقاومة من بيروت الغربية، أو أن تكون القوة الفرنسية طليعة هذه القوات. ولم تتخلّ عن معارضتها، إلاّ بعد أن تعهدت فرنسا، في رسالة بعث بها الرئيس ميتران إلى بيجن، بأن قواتها ستعمل ملتزمة بالاتفاق، الذي شكلت القوة على أساسه، وأنها ستنسحب، من الفور، إذا رفضت المقاومة مغادرة بيروت.

رابعاً: اشتداد المعارك، وتنامي الدور الفرنسي (1989)

       إثر تفاقم الصراع، عام 1989، بين قوات العماد ميشال عون النظامية، وحليفتها "القوات اللبنانيـة"، التابعـة لسمير جعجع، وبين ميليشيات الأحزاب اليسارية والأحزاب المؤيدة لسورية، ولا سيما بعد معركة سوق الغرب، أرسلت فرنسا وحدات من أسطولها إلى السواحل اللبنانية. وعلى الرغم من إعلانها، أن مهمة قواتها هي مهمة إنسانية، فقد أثارت جماعات المختطفين، الذين يحتجزون العديد من الرهائن الأمريكيين، وجعلتهم يستخدمون الرهائن كورقة سياسية للضغط. الأمر الذي دفع فرنسا إلى تقديم مبادرة سلمية لحل الأزمة اللبنانية، أعلنها، في 28 أغسطس 1989، رولان دوماسRoland Dumas، وزير خارجيتها. وتدعو إلى وقف إطلاق النار، وفرض حظر على وصول الأسلحة إلى الفئات اللبنانية المتصارعة. يلي ذلك إجراء إصلاحات سياسية. وفي النهاية، انسحاب القوات، السورية والإسرائيلية، من لبنان، على أن يكون انسحاب القوات السورية على مراحل. إلاّ أن نجاح هذه المبادرة، كان مرهوناً بتخطي أزمة الثقة بين مختلف الأطراف المعنية. وهو ما كان يصعب تحقيقه.