إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / الوحدة اليمنية والحرب الأهلية (1994)






المناطق القابلة للانفجار العسكري
المرحلة الأولى
المرحلة الثالثة
المرحلة الثانية
انتشار بعض قوات الشطرين
اليمن الجنوبي
اليمن الشمالي
جغرافية مسرح العمليات اليمني



القسم الثالث: الإستراتيجيات العسكرية لطرفي الصراع:

القسم الثالث: الإستراتيجيات العسكرية لطرفي الصراع

اتسمت الإستراتيجيات العسكرية، المتبعة، في البداية من جانب الطرفين المتصارعين، بدرجة عالية من الارتباك، والغموض. وعلى أي حال، فإنه مع تسارع وتيرة الصراع المسلح، بين الجانبين، بدأ كل منهما، في بلورة أهدافه وإستراتيجياته، بصورة أكثر تحديداً. وقد ارتبطت الإستراتيجيات العسكرية المتبعة، في الحرب ارتباطا منطقيا بالأهداف، التي كان كل طرف من الطرفين المتصارعين، يرمى إلى تحقيقها. كما ارتبطت بالقدرات المتاحة لكل منهما، والى حد ما، بمواقف القوى الدولية والإقليمية، وقد تبلورت الإستراتيجيات العسكرية لطرفي الصراع في الآتي:

1. الإستراتيجية العسكرية للقيادة الشمالية:

أ.  تشير بعض التحليلات، أن القيادة الشمالية اتخذت قرار الحرب منذ ما لا يقل عن عام، قبل انفجار الصراع المسلح، في البلاد، وبدت آثار هذا القرار واضحة، بتكثيف الجانب الشمالي لأعمال البناء التسليحي ورفع مستوى الكفاءة، والاستعداد القتالي للألوية التابعة له، علاوة على محاولته، فرض قيود على القدرات العسكرية للجنوب.

وبشكل عام، فإن القيادة الشمالية تبنت منذ بداية الصراع، عدداً من الأهداف السياسية ـ العسكرية، التي تمحورت بصورة عامه حول ما يلي:

(1) الدفاع عن الوحدة، وفرض سلطة الحكومة المركزية، على الجنوب برمته.

(2) القضاء على النفوذ السياسي والعسكري، للحزب الاشتراكي في الجنوب، على أساس أن قادته زمرة صغيرة من المتمردين المحصورين داخل عدن، والمعزولين عن بقية مناطق الجنوب اليمني.

(3) السيطرة على المناطق الإستراتيجية في الجنوب، لا سيما حقول النفط، في حضرموت.

وفي إطار هذه الأهداف، انطلق التخطيط العسكري، للقيادة الشمالية، من افتراض أن الحرب ضد الجنوبيين، سوف تكون حرباً قصيرة وسريعة، وكان تصور هذه القيادة للحرب، أقرب إلى نمط العمليات التأديبية الحاسمة، ضد مجموعة من المتمردين. أضف إلى ذلك، أن القيادة الشمالية، راهنت على إمكانية إضعاف تماسك العناصر القيادية، في الحزب الاشتراكي، عبر محاولة إحداث شرخ داخله، والعمل في اتجاه إجراء تغيير جذري في قياداته، بما يؤدي، إلى تمكين القوات الشمالية، من فرض السيطرة على عدن سلمياً، من دون تحمل خسائر جسيمة. ويبدو أن القيادة الشمالية، كانت مدركة منذ البداية للأهمية الحاسمة، لإنهاء الصراع المسلح، في أقصر وقت ممكن، ذلك أن التأخير في الحسم، سوف يقود البلاد إلى حرب استنزاف طويلة، الأمر الذي يمكن أن يُدخل البلاد، في متاهات لا نهاية لها.

ب. في ضوء ما سبق، تبنت القيادة الشمالية، إستراتيجية هجومية، تقوم على إعطاء اهتمام بارز، لتوفير عناصر الحشد والتفوق، في محاور الهجوم العديدة. فقد حرصت هذه القيادة، على حشد كافة القوى والأسلحة المتاحة لديها، والانقضاض في وقت واحد، على القوات الجنوبية، في كل الاتجاهات المختارة للهجوم، بما يتيح لها تحقيق التفوق الحاسم. وفي هذا الإطار، اتبعت القوات الشمالية، دائماً، شكل الهجوم المباشر الذي استهدف، اختراق جميع الجبهات، والمحاور، والمواقع الجنوبية الحيوية واكتساحها، بهدف الحفاظ على زمام المبادرة، وحرية الحركة، وضمان إنهاء الصراع المسلح، في أقصر وقت ممكن، مع الحرص على استغلال الانتصارات التكتيكية، التي تتحقق في محاور القتال، بما يساعدها، على تحطيم القوات الجنوبية، والالتفاف حولها لتطويقها، وتجزئتها إلى جيوب منعزلة، قبل القضاء عليها بصورة كاملة.

ج. وقد استفادت القيادة الشمالية، عند تنفيذ هذه الإستراتيجية، بما تمتلكه من كثافة بشرية عالية، حيث اتبعت في بعض مراحل القتال، تكتيك الموجات البشرية الكثيفة، الذي انطوى على دفع أعداد ضخمة، من المجندين الأقل تدريبا وكفاءة، تجاه الخطوط الدفاعية الجنوبية، في موجات متوالية، مع الاحتفاظ بالقوات الضاربة الرئيسية، ذات الكفاءة القتالية الأعلى، مثل ألوية الحرس الجمهوري، لدفعها إلى الجبهة، في توقيتات محددة، لحسم الصراع المسلح، لصالحها وفي هذا الإطار نفسه. عملت القيادة الشمالية، على تعزيز أوضاع قواتها، الموجودة في الجنوب، واهتمت بتنسيق العمليات، بين مختلف القوات، وبات الهدف الأكثر إلحاحاً للعمليات العسكرية الشمالية، في المراحل الأولى، هو تحقيق الالتحام، مع قواتها العاملة، في الشطر الجنوبي من البلاد.

د. ومن ثم انقسمت عمليات القوات الشمالية، إلى ثلاث مراحل رئيسية كالآتي:

(1) المرحلة الأولى:

كان التركيز المبدئي الرئيسي، للقوات الشمالية، هو تدمير القوات الجنوبية، الموجودة في الشمال، وحرمانها من فرصة المشاركة، في الدفاع عن جنوب اليمن، وركزت القوات الشمالية تحديداً على تدمير لواء بأصهيب، المدرع الجنوبي، الرابض في منطقة ذمار، وكذا اللواء الرابع مدفعية الجنوبي المتمركز في منطقة بريم، وقامت بإخراجهما مبكراً، من دائرة الصراع المسلح، بينما خرج لواءان جنوبيان آخران، هما لواء المظلات، ولواء المشاة الخفيف، المرابطان في مناطق حرف سفيان والعرقوب، من دائرة القتال أيضاً، حينما بسطت القبائل الشمالية المجاورة لهما، حمايتها عليهما، شريطة عدم مشاركتهما في القتال. ومن ناحية أخرى، كلفت القيادة الشمالية، قواتها التي كانت موجودة أصلاً في الشطر الجنوبي، بالتحرك فور بدء الحرب، لفرض السيطرة، على أكبر رقعة ممكنة، من الأراضي الجنوبية، ودخلت تلك القوات، في معارك عنيفة ضد القوات الجنوبية المناوئة لها.

(2) المرحلة الثانية:

كانت عبارة عن(وقفة تعبوية) قصيرة، عملت خلالها القيادة الشمالية، على تجميع الحشود الرئيسية من قواتها المسلحة، في مراكز محددة، تمهيداً للاندفاع في اتجاه الشطر الجنوبي من البلاد، حيث جرى إخراج تلك القوات، من مختلف قواعدها في الشمال، مع تجميعها في اتجاهات مختلفة، استعداداً للزحف، على جنوب البلاد. وتمثلت نقاط التجمع هذه، في ذمار، وبريم، ومكيراس، والبيضاء. وقد استهدفت هذه العملية، توفير أكبر حشد ممكن، من القوات الشمالية، بقصد الإسراع بأحكام القبضة، على جنوب اليمن بأسره، في أسرع وقت ممكن، وقدّرت القيادة الشمالية، أن قواتها يمكنها الالتحام سريعاً، مع الوحدات الشمالية، الموجودة في محافظتي ردفان وأبين الجنوبيتين.

(3) المرحلة الثالثة:

دفعت القيادة الشمالية، بكل ما لديها من القوات، والعتاد، والاحتياطي الإستراتيجي، في اتجاه عدن، بهدف الاستيلاء عليها، خلال فترة تراوح بين 2-3 أسابيع، استنادا إلى أن عدن تمثل نقطة الارتكاز الرئيسية، في الموقف العسكري الجنوبي بأسره، وإذا تم الاستيلاء عليها سريعاً، فإن ذلك، يمكن أن يؤدي إلى سقوط بقية جنوب اليمن، في وقت قصير. ولهذا السبب، فتحت القيادة الشمالية، ما لا يقل عن أربعة محاور مؤدية إلى عدن، في وقت واحد، ومواصلة الضغط، على القوات الجنوبية، في هذه المحاور في الوقت نفسه. ومع ذلك، فإن القوات الشمالية، لم تفلح في التقدم باتجاه عدن، بالسرعة والسهولة التي تصورتها. بل كان التقدم بطيئاً، ومكلفاً للغاية، بصورة فاقت كثيراً التوقعات الأولية، للقيادة الشمالية.

هـ. خلال المراحل المتقدمة، للصراع المسلح، أدركت القيادة الشمالية، أن مواصلة العمل، على اقتحام عدن، ربما يتطلب قتالاً بالغ الشراسة، لا سيما وأن الحزب الاشتراكي، قام بإجراء عملية تعبئة واسعة النطاق في عدن، وقام أيضا بتوزيع الأسلحة والمعدات، على معظم السكان. الأمر، الذي كان يعنى، أن اقتحام عدن، قد يتسبب في حدوث مذابح هائلة، بين الجانبين، علاوة على أن هذه الحالة، كانت تنبئ بأن القوات الشمالية قد لا تستطيع فرض سيطرتها الكاملة على عدن، حتى وإن نجحت في اقتحامها. ولذلك، بدأ القادة الشماليون، في الإعراب منذ التاسع عشر من مايو عن عدم رغبتهم في اكتساح عدن، وبدأوا في التخطيط لتطويق عدن وحصارها، وإرغامها على الاستسلام، من دون اقتحامها، فضلاً عن العمل، على تشديد الضغط العسكري، على القوات الجنوبية، في جميع محاور القتال، بما قد يرغم القيادة الجنوبية، على الاستسلام أو الفرار.

2 . الإستراتيجية العسكرية للقيادة الجنوبية

أ. افتقدت القيادة الجنوبية، منذ بداية الصراع المسلح، عنصر المبادأة. وكان السلوك العسكري، لهذه القيادة، مجرد سلسلة من ردود الأفعال، على مبادرات الجانب الشمالي. وعلى الرغم من أن القيادة الجنوبية، لم تفاجأ بانفجار الصراع المسلح، فإنها لم تكن مستعدة على الإطلاق، للدخول في حرب واسعة النطاق، ضد الشمال، لا سيما أنها كانت تعاني من حالة اختلال نسبي، في الميزان العسكري مع الشمال، في التعداد العام للقوات، وكميات الأسلحة والمعدات، وضعف الاحتياط البشري، المتاح لديها. علاوة على أن القوات الجنوبية، لم تكن تتمتع بانتشار جيد، على مختلف المحاور، ومن ثم، أقتصر الهدف الإستراتيجي، للقيادة الجنوبية، على الحفاظ على الوضع القائم، قبل اندلاع الحرب، ثم الحفاظ على الدولة المستقلة، التي أعلن قيامها في الجنوب، عقب اشتداد حدة الصراع المسلح.

ب. وقد التزمت القيادة الجنوبية، منذ بداية الصراع، بإستراتيجية دفاعية محضة، باستثناء بعض الهجمات الرمزية على الشمال بالطائرات، والصواريخ أرض ـ أرض، والقطع البحرية.

وبشكل عام، فإن الدفاع، كان يشكل الطابع الرئيسي، للعمل العسكري الجنوبي، على المستويين الإستراتيجي والتكتيكي، ذلك أن عدم التوازن في القدرات البشرية والتسليحية بين الجانبين، لم يكن يسمح للقيادة الجنوبية، بامتلاك القدرة على الهجوم. ومن ثم، كان الالتزام بالموقف الدفاعي العام من جانبها، بغرض اكتساب الوقت، والاحتفاظ بالأرض قدر الإمكان، وصد هجوم القوات الشمالية، واستنزافها وزعزعة تنظيمها. وقد اتخذت هذه الإستراتيجية، في الأغلب، شكل الدفاع السلبي، والذي اقتصرت بموجبه، القوات الجنوبية، على صد ومواجهة الهجمات الشمالية، من دون التفكير، في الكثير من الحالات، من التحول إلى الهجوم المضاد، نظراً للفارق العددي الشاسع، بين الجانبين. وقد جرى تنفيذ هذا الشكل الدفاعي، في أغلب الحالات، من خلال نظام الدفاع العميق. حيث قامت القيادة الجنوبية، بتوزيع شبكة من النقاط الدفاعية في العمق. وبالطبع، فإن هذه الأعمال لم تكن تطمح إلى وقف اختراقات القوات الشمالية في جميع المحاور، وإنما سعت إلى الحد من قوة اندفاعها، وتحطيمها إذا أفلحت في الاختراق، علاوة على إطالة خطوط إمدادها، ومواصلاتها، ومحاولة التقليص من قيمة وفاعلية التفوق العددي للقوات الشمالية، عبر إنهاكها واستنزافها. وفي الوقت نفسه، قامت القيادة الجنوبية، في بعض الحالات، بتنفيذ أعمال الدفاع الثابت، لا سيما للدفاع عن الأهداف، ذات القيمة الإستراتيجية العالية، مثل قاعدة العند، ومدينة عدن، ومحافظة شبوة، التي تمثل بداية الطريق إلى حضرموت، ألاّ أن أعمال الدفاع الثابت، في هذه الحالات، لم تأخذ بالضرورة شكل النقاط القوية الدفاعية المنظمة والمنسقة، وإنما ارتكزت، على التمسك بكل شبر من هذه الأراضي، والدفاع المستميت عنها، لأن هذه الأهداف، كانت تنطوي على أهمية حيوية، لضمان سلامة الموقف العسكري الجنوبي بأسره. وعلى أية حال، فإن القيادة الجنوبية أعربت، خلال مراحل تطور الصراع المسلح، عن قناعتها، بأنه حتى إذا نجحت القوات الشمالية في الاستيلاء، على جميع أراضي جنوب اليمن، فإنها سوف تستمر في المقاومة لتحول دون نجاح الشماليين، في الاحتفاظ بالأراضي التي استولوا عليها.

ج. وبشكل عام، اعتمدت القيادة الجنوبية، كثيراً، على عدد من المعطيات الإيجابية، في الموقف العسكري، لعل في مقدمتها، الارتفاع النسبي، في مستوى الكفاءة القتالية، للقوات الجنوبية بالمقارنة مع القوات الشمالية، فضلاً عن ارتفاع درجة الاستعداد لدى الجنوبيين، وتمرسهم الشديد، على فنون الحرب الصحراوية، وحرب العصابات، وهى الكفاءة التي كان مقاتلو القوات الجنوبية، قد أجادوها، من خلال المساعدات العسكرية السوفيتية، في السبعينات والثمانينات، ومن خلال خبرتهم، التي اكتسبوها أثناء النضال ضد الاحتلال البريطاني، الأمر الذي أتاح للجنوبيين، قدرة أكبر، على الدخول في حرب محدودة النطاق، طويلة المدى، في مواجهة القوات الشمالية، وفق إستراتيجية (الكر والفر). وانعكس ذلك تحديداً، في اضطرار القوات الشمالية إلى استنفاذ مجهود عسكري أكبر، ومدى زمني أطول، نسبياً، لتحقيق نجاحات جزئية، ضد القوات الجنوبية، على الرغم من التفوق العددي والتسليحي، للقوات الشمالية، إلاّ أن القوات الجنوبية، استخدمت طائراتها القتالية، وقطعها البحرية في جميع مراحل القتال، بكثافة عالية، وبأقصى قدرة متاحة لديها.

د. وترافق مع ما سبق، أن القوات الجنوبية، عملت على إنهاك القوات الشمالية، في معارك فرعية، لا تحقق لها مكسباً إستراتيجياً يعتد به، مع تكبيدها أعباء تسليحية، وبشرية عالية في مقابل الانتصار فيها. كما أولت الإستراتيجية الجنوبية، اهتماماً بالغاً، لإطالة أمد العمليات، إلى أطول فترة ممكنة، ولم تتح للقوات الشمالية فرصة التقدم في أراضي الجنوب، بمعدل يزيد عن ميلين ونصف الميل في اليوم الواحد للعمليات، الأمر الذي حرم القيادة الشمالية، من تحقيق انتصار خاطف وسريع. والأكثر أهمية من ذلك، أن القيادة الجنوبية، بدأت منذ أواخر الأسبوع الثاني للقتال، في تنفيذ سلسلة من عمليات إعادة الانتشار التكتيكي، بهدف الاستفادة من العمق الجغرافي الذي يتمتع به الجنوب، ويفتقر إليه الشمال، حيث جرى نقل معظم المجهود الحربي، إلى المناطق الشرقية، لا سيما محافظتي شبوة وحضرموت، التي تقع على بعدد 400 ميل، تقريباً، شرقي عدن، وعملت في هذا الإطار على بناء خطوط دفاعية متقدمة، لحماية حضرموت، وحقول النفط بها، واستعدت القوات الجنوبية، لاجتذاب الشماليين، لمسافات طويلة جداً، بعيداً عن قواعدهم. واستفاد الجنوبيون، في هذا الصدد، من المزايا الجغرافية للمحافظتين المذكورتين، علاوة على اعتمادهم، على تأييد القبائل ومساندتهم هناك. وقد اتضحت معالم هذه الإستراتيجية الجديدة، بصورة أكثر تحديداً، مع انتقال الزعيم الجنوبي، علي سالم البيض. وبعض قياداته، إلى حضرموت، في العشرين من مايو، فيما جاء بمثابة نقل كامل، لمركز إدارة المجهود الحربي الجنوبي، إلى تلك المدينة، لاسيما، أن القوات الشمالية كانت قد أوشكت على الاستيلاء، على قاعدة العند الجوية، وباتت أكثر قرباً إلى عدن.

هـ. ومع استمرار الانتصارات التكتيكية، للقوات الشمالية، بدأت القيادة الجنوبية، في الاعتماد بصورة متزايدة، على أعمال (الاستنزاف)، وارتكزت هذه الأعمال، على تنفيذ القوات الجنوبية، سلسلة من الضربات المستمرة، والمتصاعدة، ضد القوات الشمالية، بما يلحق بها خسائر متتالية، ويَخْلِق لديها أثراً تراكمياً سلبياً، الأمر الذي يمكن أن يفضي إلى إنهاكها، مادياً وبشرياً، ويزيد من صعوبة تحقيق الأهداف السياسية ـ العسكرية، التي تسعى إليها. وقد استهدفت أعمال الاستنزاف هذه، كسب الوقت، وحشد الدعم الخارجي العربي، والدولي، للموقف الجنوبي، علاوة على انتظار حدوث تحولات، في موقف القيادة الشمالية، أو تغييرات، في هيكل القيادة داخلها، حسبما كانت تعلن بعض المصادر الجنوبية المسؤولة.

وخلال المراحل الأولى من القتال، كانت أعمال الاستنزاف، التي تقوم بها القوات الجنوبية تتم وفق أسلوب نظامي تقليدي، تمثل، في الأساس، في توسيع نطاق أعمال القصف الجوي، والصاروخي على العاصمة الشمالية صنعاء، وتنفيذ العمليات التكتيكية المحدودة. ضد القوات الشمالية، حول عدن، ومحافظة شبوة، علاوة على الاستمرار في تبادل القصف المدفعي، مع القوات الشمالية، في خطوط التماس، حتى بعد صدور قرار مجلس الأمن، الداعي إلى وقف إطلاق النار، بين الأطراف المتصارعة في اليمن. وامتداداً لهذه الإستراتيجية، أبدت القيادة الجنوبية، عدداً من المؤشرات، الدالة على إمكانية التحول، إلى شكل الاستنزاف، من خلال حرب عصابات طويلة الأمد، وذلك إذا ما أفلحت القوات الشمالية، في الاستيلاء على عدن، وفرض سيطرتها على جنوب اليمن بأسره، واعتمدت القيادة الجنوبية، في هذا الصدد على ما تتمتع به من مساندة شعبية، في الجنوب بأسره، الأمر الذي يمكن أن يتيح لها، قاعدة صالحة، لشن حرب عصابات، ضد القوات الشمالية، إذا اقتضى الأمر.

3. تطور الموقف الإستراتيجي:

أ. استمر الصراع المسلح في جنوب اليمن، وبدأت الحرب تفرض منطقها الخاص على الأطراف المتصارعة. ولم يعد أي منهما، يمتلك القدرة الكاملة، على التحكم في وتيرة الصراع المسلح، على الرغم من نجاح الجانب الشمالي، في تحقيق انتصارات واضحة. فعقب حوالي شهر كامل، من بدء القتال، لم تستطع القيادة الشمالية، تحقيق هدفها، المتمثل في الاستيلاء على عدن، في مدى زمني يتراوح بين 2-3 أسابيع، في الوقت الذي احتفظت فيه القوات الجنوبية، بتماسكها، وبقدرتها على تنفيذ عمليات دفاعية، واسعة النطاق، وطويلة المدى، حتى وإن كانت قد اضطرت، إلى التراجع عن العديد من الأراضي والمواقع، في مواجهة القوات الشمالية، أضف إلى ذلك، أن الإستراتيجيات العسكرية، التي اتبعها الجانبان، أدت إلى نشوء حالة من الجمود، والثبات النسبي في ساحات القتال، مع بداية الأسبوع الرابع للعمليات. فالإستراتيجية الهجومية الشمالية، الرامية إلى تحقيق انتصار سريع اضطرت في النهاية ، إلى إبطاء وتيرة الاندفاع، بفعل قوة الدفاع الجنوبي وتماسكه، جنباً إلى جنب، مع بدء ازدياد الضغوط الدولية، والإقليمية الداعية إلى وقف القتال في البلاد.

ب. بدت هذه الحالة، واضحة، بصفة خاصة، في الأسبوع الرابع، حينما بدأت حدة القتال تهدأ كثيراً، في ساحات العمليات. وما اتضح خلاله، من أن الطرفين المتصارعين، أصبحا يجابهان صعوبات عديدة، في مواصلة الحرب، فيما دفع إلى الاعتقاد، وقتذاك، بأن الحرب بدأت تدخل مرحلتها النهائية. ولهذا السبب، اتخذت الحرب في تلك الفترة، شكل الاشتباكات من بُعْد، التي اقتصرت على استمرار عمليات التراشق المدفعي، والصاروخي، والجوي بين الجانبين. وإن كان ذلك، لا يلغي أن الشماليين والجنوبيين، كانا لا يزالان يحتفظان بقدرات عسكرية كافية، لمواصلة القتال، إلاّ أن توظيف تلك القدرات، ارتبط على ما يبدو، خلال تلك الفترة، بترقب الجانبين لمسارات التطور في الجهود السياسية، الجارية على هامش الصراع المسلح.