إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / حزب البعث، نشأته وتطوره









المبحث الأول: جذور النظام الحزبي في سورية

المبحث الأول: جذور النظام الحزبي في سورية

       تمتد جذور النظام الحزبي في سورية، إلى نهاية القرن الثامن عشر، وبداية القرن التاسع عشر. ولعل دوافع الحزبية في سورية، وأسبابها المباشرة، تعود إلى التنوع العرقي في سورية. فالمدن السورية كانت ـ على مر العصور ـ عامل جذب جغرافي واقتصادي، لكل الأجناس في المنطقة، إذ توافدت عليها في مختلف العهود، جماعات وقبائل من العبرانيين، والآشوريين، والبابليين، والمصريين، والحيثيين، والفرس، والرومان، واليونان، والأرمن، والترك، والأكراد، والتتار، والشراكسة. فضلاً عن قدوم العرب إليها ـ من قبل ـ في الألف الرابع قبل الميلاد. ولماّ كان العنصر العربي هو الغالب، استعربت معه كل الأقوام والأجناس، التي نزحت من كل حدب وصوب تجاه سورية. فأصبح سكانها شعباً عربياً، يتكلم اللغة العربية. وعضد الإسلام من عروبة سورية ولغتها العربية، لغة القرآن.

       وكانت دمشق عاصمة مُلْكٍ أيام الآراميين، والأمويين، والسلاجقة. كما كانت حاضرة قوية في عهود الآشوريين، والبابليين، والفرس، واليونان، والرومان، والعباسيين، والطولونيين، والإخشيديين، والفاطميين، والحمدانيين، والأيوبيين، والمماليك، والعثمانيين.

وتنتشر في سورية جميع الطوائف والمذاهب، التي عرفت في تاريخ الإسلام وهي:

       السنة ـ والشيعة ـ والخوارج ـ والنصيرية "العلويون" ـ والإسماعيليون. فضلاً عن مجموعة من الطوائف اليهودية، والمسيحية، من أبرزها طائفة "الدروز". كما توافدت إلى سورية، منذ أوائل القرن التاسع عشر، إرساليات النصرانية "التبشيرية". وفُتحت المدارس "اليسوعية" في كل من دمشق وحلب، بجانب بيروت. بل إن مجلس النواب السوري في حقبة الثلاثينات، كان يضم نائبين يهوديين، الأول يمثل اليهود في العاصمة دمشق، والثاني يمثل اليهود في حلب.

       ويوجد في سورية ـ حالياً ـ حوالي أربعة آلاف يهودي، منهم ثلاثة آلاف في دمشق، و850 في حلب، و150 في القامشلى. ويوجد في دمشق (21) معبداً يهودياً، وفي حلب معبدان، ومعبد واحد في القامشلي. وتقيم الجالية اليهودية في دمشق، في الطرف الشرقي من المدينة (حي الأمين)، الذي يُسمى حارة اليهود، ويقع داخل أسوار مدينة دمشق القديمة. وفي داخل هذا الحي نسيج سكاني متعدد، إذ تقطن فيه قوميات مختلفة، ففيه العرب والأرمن، وفيه أيضا المسلمون السنة والشيعة، والمسيحيون الكاثوليك والبروتستانت والأرثوذكس، إضافة إلى اليهود، وبعض العائلات الفلسطينية.

       وفي ظل هذه الأديان المختلفة، والجنسيات المتعددة، بدأت الفروق المذهبية والفوارق الطائفية تنمو في سورية بدوافع خارجية أو محلية، من شأنها تعزيز الاستقلال الذاتي والتميز العرقي، لكل طائفة تعيش، على أرض سورية.

العوامل التي ساهمت في الولاءات، الطائفية والإقليمية والعشائرية

       يعزي بعض الباحثين العوامل، التي أسهمت في وجود هذا الكم من المجموعات الدينية والعرقية بالمنطقة، التي يطلق عليها اليوم "سورية"، إلى:

  1. انتشار الأديان الثلاثة التوحيدية - اليهودية والمسيحية والإسلام ـ من المنطقة الكبرى، التي تشمل سورية. وقد أدى تكوين المذاهب والمدارس المختلفة، داخل هذه الأديان، إلى اختلافات كبيرة في العقائد.
  2. إن الهلال الخصيب، الذي تشكل سورية جزءاً منه، قد تعرض بصفة منتظمة في الماضي، إلى غزوات من قِبَل مجموعات سكانية متعددة، مثل العرب والأكراد والمغول والأتراك، كما كان دائما مركزاً للحركات العشائرية والفردية.
  3. كان الشرق الأوسط في بعض الأحيان، ملجأً للمضطهدين سياسياً أو دينياً، من الأقاليم المجاورة، وقد تمكنت تلك المجموعات اللاجئة من الاستقرار في سورية، أو المناطق المحيطة بها.
  4. إن الاختلافات العشائرية والقومية، الناتجة عن كل هذه التطورات، كثيراً ما اتخذت طابعاً دينياً، وأسهمت في ظهور جاليات دينية مختلفة، ومن ثم كان طبيعياً أن تتطور الاختلافات الدينية، كجزء من هذه العملية.
  5. كثيرا ما تم الحفاظ على الاختلافات الدينية والعشائرية واللغوية، التي قويت نتيجة المحلية، أي نتيجة ولاء محلى مكثف ظهر وتركز في بعض المناطق، بسبب التكوين الجغرافي، لا سيما في جبال ووديان منطقة اللاذقية، وجبل الدروز، التي يصعب الوصول إليها.
  6. إن نقص سبل الاتصال في المناطق، التي يصعب الوصول إليها وعدم وجود سلطة مركزية قوية، ساعد على الحفاظ على الطابع المتميز والمستقل للمجموعات الدينية والقومية، واستطاعت الجاليات، التي لا ترغب في الخضوع لرقابة الدولة المركزية، أن تنسحب إلى مناطق يصعب الوصول إليها إلى حد ما، وتمكنوا من العيش دون قلق نسبياً.

إن سلطة الدولة المركزية كانت قلما تمتد أبعد من الساحل، وأودية الأنهار والوديان، والسهول التي يسهل الوصول إليها. وبالتالي كانت الغالبية التقليدية السائدة من المجموعات الدينية أو القومية، تقطن هذه المناطق، بخاصة العرب السّنيون. ومن ناحية أخرى، فإنّ الأقليات الدينية، خاصة أولئك الذين اضطهدوا بشدة في الماضي، كالعلويين والدروز والإسماعيليين، قد أقاموا في مناطق يصعب الوصول إليها.

  1. ازدادت الاختلافات الدينية والعرقية واتسعت، نتيجة للتسامح الذي أبداه الإسلام تجاه المسيحيين واليهود، وبسبب المساواة الرسمية، بين المجموعات القومية داخل الإسلام.

       وقبل انتشار القومية في العالم الإسلامي، كانت أهم المجموعات القومية، كالعرب والأتراك والفرس والأكراد، متسامحة، إلى حد ما، في سلوكها تجاه بعضها بعضاً. ولم يكن التفكير قد تطرق بعد للاتجاهات القومية، فكان سكان سورية الحاليون يعتبرون أنفسهم إما سنيين، أو علويين، أو دروزاً، أو إسماعيليين، أو مسيحيين روم أرثوذكس، أو يهود .. وغير ذلك، وكان معظمهم يتحدثون العربية.

       ويرى " نيقولاس فان دام" أن المجتمع السوري في عهد الإمبراطورية العثمانية، كان مجزأً بشكل كبير، إلى عدد من الجاليات المغلقة. فقد كانت الإمبراطورية العثمانية تتألف، من عدد كبير من المجموعات العشائرية واللغوية والدينية، التي تشكل في مجموعها جاليات مغلقة. كان كل منها بمثابة "عالم" يقتصر على أعضائه، ويطالبهم بالولاء المطلق له. وقد تعايشت هذه العوالم دون أن تختلط بعضها ببعض. فكان كل منها ينظر إلى الآخر بعين الشك والريبة، وربما الكراهية. وكان معظمها يغلب عليه الركود، وعدم التغيير والمحدودية.

       كما يرى "نيقولاس فان دام" أن التصدع القديم، عبر القرون بين الجاليات الدينية المختلفة، وبين السُّنيين والأقليات الدينية، بصفة خاصة قد اتسع خلال القرن التاسع عشر والقرن العشرين، نتيجة عدة عوامل، هي:

  1. خلال القرن التاسع عشر، تأثر وضع الأقليات الدينية بصورة قوية، نتيجة التدخلات السياسية في الشؤون الداخلية للإمبراطورية العثمانية، من قِبَل فرنسا وإنجلترا وروسيا، الذين فرضوا أنفسهم حماة للأقليات الدينية. فادعت فرنسا لنفسها حق حماية المسيحيين الموارنة في لبنان، وادعت الحكومة الروسية لنفسها حقا مماثلا، في حماية المسيحيين الروم التابعين للسلطان العثماني، بينما استأثرت بريطانيا بعلاقات طيبة، خاصة مع الدروز واليهود. وقد تحسن وضع هذه الأقليات الدينية بصفة عامة نتيجة لهذه الحماية، إلاّ أنه حدث تأثير سلبي، لأن هذه الحماية جلبت لهذه الأقليات، كراهية الحكومة العثمانية المركزية، وغالبية السكان من المسلمين السنيين، الذين اعتبروهم "خونة محتملين، ومصدر ضعف، وعملاء للسياسة الأوربية، وخطراً على الإمبراطورية والأمة الإسلامية بوجه عام". ونتيجة لذلك، ساءت بالفعل العلاقات بين السنيين والأقليات الدينية، بجانب تأثير آخر للتدخل السياسي من قبل القوى الأوربية، هو تدعيم مهمة الأقليات الدينية كوحدات سياسية، مع تنمية وعيها الجماعي
  2. وفي عهد الانتداب الفرنسي، تم تحريض الولاءات الطائفية عمداً، لكي تمنع، أو تحد، من ظهور القومية العربية. ومن ناحية أخرى، تشجيع ظاهرة الانفصالية والتخصصية بين الأقليات الدينية والقومية، عن طريق منحهم حكماً ذاتياً في المناطق، التي كانت تشكل فيها تلك الأقليات الغالبية المحلية. وبناء على هذه السياسة، فإن منطقة اللاذقية، والغالبية فيها من العلويين، وجبل الدروز والغالبية فيه من الدروز، كانت لهما حكومتهما لفترة ما أثناء الانتداب، وكانا يعدان رسمياً مستقلين بحكم ذاتي عن الجمهورية السورية. أما منطقة الجزيرة في الشمال الشرقي، حيث مثلت الجاليات المسيحية قوة لا يستهان بها، وحيث كان الأكراد بالنسبة لهم أغلبية محلية، فلم يحصلوا على حكم ذاتي رسمياً تحت الانتداب الفرنسي، بل وضُعت المنطقة تحت حكم الإدارة الفرنسية المباشرة، وشُجعت تطلعات الأكراد، نحو تحقيق حكم ذاتي.
  3. وكجزء من سياسة "فرق تسد"، شجع الفرنسيون تجنيد فصائل خاصة من العلويين والدروز والأكراد والشراكسة والأقليات الأخرى، الذين شكلوا، بعد ذلك، ما عرف باسم "القوات الخاصة للشرق الأدنى" التي استخدمت لحفظ النظام وقمع الفتن الداخلية. ونظراً لأن هذه القوات كانت مشكلة من الأقليات، فقد زاد هذا من شعور الاستياء بين السنيين، المتحدثين بالعربية. كما أثيرت الخلافات بين الأقليات الدينية والعرقية عن طريق الفرنسيين، الذين كانوا يناصرون قائداً عشائرياً ضد الآخر.
  4. ظل نظام "المجتمع المغلق" سارياً، خلال النصف الأول من القرن العشرين، وقد لاحظ ذلك (جاك ويلرس) خلال الأربعينات وأسماه بعقدة الأقليات كالآتي:

... حساسية جماعية مرضية، تجعل أي تحرك لجالية مجاورة، يبدو وكأنه خطر محقق أو تحد لهذه الجالية، فتقوم بتوحيد كل مجموعة بالكامل أمام أدنى هجوم أو تعدٍ، يرتكب ضد أي من أعضائها.

الإقليمية في سورية خلال فترة الاستقلال

       تزامنت ثلاثة عوامل، جعلت من الولاءات الإقليمية والالتزامات، قاعدة مهمة، للمشاركة السياسية، من قبل العديد من الشخصيات السورية، خلال فترة الاستقلال. وهذه العوامل هي:

  1. نمو الوعي السياسي الذي أظهر الولاء فوق الوطني (أي القومي العربي) والولاء تحت الوطني (أي الإقليمي)، وذلك على حساب الالتزام بالدولة الوطنية ككل. إن الاقتطاعات العديدة من سورية، منذ بداية هذا القرن، وقفت حائلا دون نمو أي ولاء متلاحم أو محدد، للدولة السورية كوطن. إن تأثيرات هذه التغييرات الحدودية على التكامل الوطني، ما زالت واضحة حتى الآن: فمن ناحية، نجد أنه يتم مراعاة هذه الحدود فقط، من الناحية الفنية، وأن الهوية العربية أقوى بكثير من الهوية السورية. ومن ناحية أخرى، نجد أن عدم وجود ولاء وسط، قد أدى إلى توجيه الصراعات السياسية الوطنية.

لذا فعندما نالت سورية استقلالها عام 1946م، كانت دولة في كثير من النواحي، من دون أن تكون أمة، فكانت كياناً سياسياً دون أن تكون مجتمعاً سياسياً.

  1. إن الاكتفاء الذاتي التقليدي لمختلف مراكز سورية الإقليمية، من جراء خطط التنمية الحديثة، لم يضعف كثيراً ... إن المدينة الزراعية العربية التقليدية، هي مركز الولاءات الإقليمية في بلدان، مثل العراق وسوريه. وقد كانت المدن الزراعية مركزاً للنشاط السياسي: ففي فترة الاستقلال كان ذلك يعنى، أن السياسة الوطنية كثيراً ما كانت تُعرف على أساس المصالح الوطنية، أو الإقليمية الفرعية. إن حلقة الاتصال بين دمشق، كعاصمة سياسية، وأي قرية سورية، عادة، ما تتم عن طريق المدينة الإقليمية، التي تقع في منطقتها، فالاتصال بين المدن الزراعية ضئيل للغاية.

وأهم المدن الزراعية السورية هي: دمشق والسويداء ودرعا والقنيطرة في الجنوب، وحلب ودير الزور في الشمال والشمال الشرقي، وحماة وحمص واللاذقية في الوسط والشمال الغربي. وكل واحدة منها تمثل مركزاً لشبكة من العديد من المدن والمئات من القرى بالمناطق الريفية النائية.

  1. وفي أواخر الأربعينات وأوائل الخمسينات، بدأ اهتمام الشباب السوري بالسياسة، وهو في مرحلة الدراسة الثانوية، أي، قبل أن يتفرغ هذا الشباب للعمل في شتى الميادين، أو يتحول للعمل بالقطاعات المختلفة.

وهذا يعني أن ولاءات الشباب السياسية والأيديولوجية، قد عكست الوضع السياسي المحلي الخاص، بمدنهم الزراعية. ونتيجة لذلك، كان لابد للأحزاب الوطنية أن تتأقلم مع المحلية السورية، مما أفقدها مركزيتها وجعلها ترتكز حول خليتها. وقد أدى هذا، أيضاً، إلى استمرار الأحزاب الوطنية، في إبراز المصالح الإقليمية.

وهكذا، عكست الأحزاب السياسية السورية المصالح الإقليمية، واستطاعت، بغض النظر عن إيديولوجياتها السياسية، أن تتوسع في مناطق محددة، أو بين شرائح معينة من السكان، بينما بقيت غير جديرة بالذكر، في مناطق أخرى.

التوزيع الإقليمي للمجموعات الدينية والعرقية

       إن المجموعات الدينية والعرقية، غير موزعة بالتساوي على كافة أنحاء سورية، بل إنها غالبا ما تتركز بنسب متفاوتة، في مناطق إدارية مختلفة. وعليه، فيجب التمييز بين الأقليات المتماسكة، والأخرى المتناثرة. فالأولى يتركز أعضاؤها أساساً في منطقة معينة، مشكلين أغلبية محلية. والثانية يتوزعون فيها على عدد من المناطق، دون أن ينطبق على أي منها، تعريف الأقليات المتماسكة.

       ويشكل السنيون الأغلبية، في كافة المحافظات السورية، باستثناء اللاذقية والسويداء. ففي محافظة اللاذقية يشكل العلويون الأغلبية (62.1%)، ويشكل المسيحيون الروم الأرثوذوكس، المقيمون أساساً في المناطق الريفية على شكل تجمعات إقليمية، نسبة 8 .12%، بالمقارنة بنسبتهم على المستوى الوطني وهي 4.7%. أما في محافظة السويداء (جبل الدروز، أو جبل الروم الأرثوذكس، وغيرهم من الطوائف المسيحية)، نجد أن نسبة السنيين في السويداء تقل عن 2% من عدد السكان، وهي أقل نسبة بين باقي المحافظات.

       وفي محافظة حماة، حيث يشكل السنيون غالبية السكان بنسبة 64.6%، نجد الإسماعيليين (13.2%)، والمسيحيين الروم الأرثوذكس (11%)، يتركزون في المناطق الريفية المحيطة بعاصمة المحافظة، التي يقطنها أساساً السنيون. ومعظم الإسماعيليين السوريين، يتركزون في منطقة السلمية ومنطقة مصياف، حيث يشكلون غالبية السكان هناك، وبذلك يمكن تصنيفهم كأقلية متماسكة، شأنهم شأن الدروز والعلويين. أما معظم الأكراد السوريين، فيقطنون المناطق الشمالية المتاخمة لتركيا، ويمكن اعتبارهم أقلية عرقية متماسكة.

الأقليات الدينية المتماسكة

       منذ تولى حزب البعث زمام السلطة في سورية عام 1963، لعب أعضاء الأقليات الدينية المتماسكة، المتحدثين بالعربية، كالعلويين والدروز والإسماعيليين، دوراً سياسياً مرموقاً. وفيما يلي عرض مجمل، لكل طائفة من هذه الطوائف:

1. العلويون

يقطن حوالي 75% من العلويين السوريين منطقة اللاذقية، حيث يشكلون الأغلبية المحلية هناك. ويعمل معظمهم في قطاع الزراعة، ممثلين بذلك الأغلبية الساحقة من سكان اللاذقية الريفيين. أما في المدن الساحلية، فقد كانوا أقلية مقارنة بالسنيين والمسيحيين. وعليه، فإن التباين الريفي المدني، والتباين الطبقي، بمنطقة اللاذقية، عادة، ما يتوافق مع الاختلافات الطائفية.

وعلى مر الزمان، نما لدى العلويين شعور بعدم الثقة تجاه السنيين، الذين كثيراً ما كانوا يضطهدونهم، إلاّ أن هذا الشعور كان أقل حدة تجاه المسيحيين، وربما يرجع ذلك لكون المسيحيين، أيضا، في وضع ضعف، وعدم يقين.

أمّا بالنسبة للتنظيم الاجتماعي، فيمكن الفصل، بشكل تقريبي، بين العلويين، الذين يقطنون المناطق الجبلية، وأولئك القاطنين سهول سورية والمناطق الساحلية. فالروابط العشائرية أقوى بين سكان المناطق الجبلية، وتكاد تختفي بين سكان المناطق الساحلية، حيث تشكل الأسرة أهم وحدة اجتماعية. ولذا، نجد الروابط بين أفرع الأسرة المختلفة، قوية للغاية.

وبينما نجد العلويين، القاطنين المناطق الساحلية والسهول المنخفضة، مسيطر عليهم ومستغلون اقتصادياً، من قبل أعضاء الطوائف الدينية الأخرى ـ وفي مقدمتهم السنيون والمسيحيون ـ نجد أن سكان المناطق الجبلية، التي يصعب الوصول إليها، قد استطاعوا أن يتطوروا باستقلال أكبر. إن الوضع الاجتماعي والاقتصادي للفلاحين العلويين، كان متشابهاً في كلتا المنطقتين. بيد أن الفارق الوحيد هو، أن الفلاحين العلويين بالمناطق الجبلية، كانوا مستغلين من قبل أبناء طائفتهم الدينية، بينما لم يكن هذا هو الوضع، دائماً، بالنسبة للآخرين.

ويمكن تقسيم العلويين عشائرياً إلى أربعة اتحادات: الخياطين والحدادين والمتاورة والكلبية. وهم موزعون على منطقة اللاذقية بأكملها، والمناطق المحيطة بها. وكثير من القرى والأراضي التابعة لها، موزع بين عائلات من عشائر مختلفة، وأحيانا يكون للاتحادات العشائرية أكثر من قائد (رئيس أو زعيم)، حيث تنقسم هذه الاتحادات إلى عشائر، لكل منها مقدم، وعلى الرغم من أن زعامة العشيرة كانت تكتسب ـ عادة ـ بالوراثة، إلاّ أنه كان بالإمكان الحصول عليها عن طريق مميزات شخصية، ونفوذ في مراكز القوى السورية، على المستوى الوطني. وهكذا، استطاعت بعض العائلات العلوية الفقيرة من اكتساب نفوذ كبير على مستوى العشيرة في مناطق نشأتهم، وذلك بسبب وضعهم القوى الذي اكتسبوه، على المستوى الوطني في الجيش مثلاً، أو في مراكز قوى أخرى.

ولمعظم العشائر العلوية، رؤساء دينيون (الشيوخ أو رجال الدين)، يتمتعون بنفوذ ديني واجتماعي كبير على رجال العشيرة، إلاّ أنه أقل من نفوذ زعيم العشيرة. وفي بعض الحالات كان لبعضهم نفوذ قوي، يصل إلى حد إضعاف سلطة زعماء العشائر، وحرمانهم من مؤيديهم، بل، وأيضاً، استبدالهم. وكثيراً ما كان زعماء العشائر الدينيون والسياسيون، ينتمون لعائلة واحدة.

وقد استطاع زعماء العشائر أو الشيوخ، ممارسة سلطات عظيمة على الفلاحين، من أبناء دينهم، بسبب ما كانوا يمتلكونه من أراض. فعندما كانت السلطة العشائرية مصحوبة بملكية الأراضي، وكان الزعيم شيخاً، في الوقت نفسه، كان أبناء العشيرة من الفلاحين، لا يعدون أن يكونوا خداماً. وفي ظل الانتداب الفرنسي، كانت مثل هذه العلاقة الدينية العشائرية الإقطاعية، قائمة بين العائلات العلوية القوية (عباس، وكنج، ومرشد)، وبين أبناء دينهم الخاضعين لهم. وكانت سلطة هذه العائلات تمتد، لتفوق حدود ما يمتلكونه من أراضٍ.

وقد كانت جبال العلويين فيما مضى، من أكثر المناطق السورية حرماناً وتأخراً، بل كانت متخلفة عن بقية مناطق الدولة، في كثير من المجالات. وعلى الرغم من أن الظروف الاجتماعية والاقتصادية للفلاحين العلويين، تحسنت بشكل ملحوظ منذ استقلال سورية، وبالأخص منذ أن تولى حزب البعث زمام الحكم في عام 1963، إلاّ أن منطقة اللاذقية في السبعينات، كانت لا تزال فقيرة نسبياً، بالمقارنة مع المحافظات الريفية الأخرى.

وخلال العقد الماضي حدثت هجرة ملحوظة، بين علويى الجبال بمنطقة اللاذقية. ونتيجة لاستقرارهم في مناطق جديدة، تمكن العديد منهم من إجبار أقليات دينية أخرى كالإسماعيليين، على التقهقر جغرافياً. كما هاجر بعضاً منهم للسهول المنخفضة والمدن. ففي محافظتي حماة وحمص، على الأخص، تزايد عدد القرى التي يقطنها العلويون.

2. الدروز

يقطن أكثر من 90% من الدروز السوريين، محافظة السويداء الجنوبية، حيث تزيد نسبة تركيزهم الإقليمي عن نسبة العلويين في اللاذقية (87.6% و 62.1% على التوالي). ويعمل معظم الدروز قاطنو السويداء ـ مثلهم مثل المسيحيين ـ في القطاع الزراعي، وهم موزعون على المنطقة بشكل متوازن نسبيا، حيث نجد أن معظم سكان المناطق الريفية، وعاصمة المحافظة، من الدروز. أما التفاوت الريفي المدني، كالموجود في اللاذقية، فهو غير موجود بجبل الدروز. وهناك نقطة اختلاف مهمة أخرى، هي أن الصفوة التقليدية في محافظة السويداء كلها من الدروز، بينما تراوح في منطقة اللاذقية بين العلويين والسنيين (وأحياناً المسيحيين). ولذلك، فإن الشعور القوى بالهوية الإقليمية، الموجود في كلتا المنطقتين، لا بد وأن يكون مصحوبا بنقص نسبى في التكامل بمنطقة اللاذقية، من جانب، ووجود ترابط اجتماعي أقوى في السويداء، من جانب آخر. لذلك، توجد نسبة أكبر من التوترات الإقليمية الداخلية في اللاذقية. إذ لم يتم السيطرة على معظم السكان الدروز، من قبل أعضاء طوائف دينية أخرى، كما لم يصاحب الحكم الإقطاعي للعائلات الدرزية الشهيرة، تناقضات طائفية. وقد انحصرت التناقضات الاجتماعية الاقتصادية الطبقية أساساً، داخل طائفة واحدة (الدرزية) فقط. ولم تحدث بين الدروز علاقات دينية عشائرية إقطاعية، كتلك القائمة داخل المجتمع العلوي.

وينحدر معظم دروز منطقة السويداء الحاليين، من مهاجري القرن السابع عشر، وبالأخص القرن التاسع عشر من لبنان، أو فلسطين، أو منطقة حلب. وقد استقرت عائلات بأكملها، أو أجزاء من عشائر، في نواحٍ أو قرى معينة، حيث فرضوا بعد ذلك سيطرتهم عليها، نظراً لأنهم كانوا يشكلون الأغلبية العددية. وكانت بعض القرى تتكون بكاملها، من أعضاء عائلة واحدة ممتدة.

وقد مّر مجتمع الدروز بمرحلة طويلة، من وجود طبقة حاكمة من العائلات. وخضع هذا، بالطبع، لمعايير الأوضاع الاجتماعية والعائلية، وتم الالتزام به بشكل خاص أثناء الأحداث والأنشطة الاجتماعية. وقد استخدم الكثير من العائلات الشهيرة، مثل (الأطرش وأبو عسلي)، أوضاعهم التقليدية بين هذه الطبقات، في الصراع على السلطة السياسية، في الانتخابات المحلية، إلاّ أن سلطة هذه العائلات العريقة قد انحسرت الآن بصورة كبيرة، خاصة منذ الستينات.

وبالنسبة للغرباء، فإن مجتمع الدروز بمنطقة السويداء قد بدا، في العادة، متماسكاً، خاصة عندما حاولت الحكومة المركزية العثمانية، أو الحكومة السورية القائمة في دمشق، أن تفرض سيطرتها على جبل الدروز.

3. الإسماعيليون

يقطن حوالي ثمانين في المائة من الإسماعيليين المقيمين في سورية، محافظة حماة الوسط، حيث يتمركزون أساساً في منطقتى مصياف والسلمية، ويعمل معظمهم في القطاع الزراعي. وخلال القرنين التاسع والعاشر، كانت السلمية مركزا لطائفة الإسماعيليين، الذين كانوا مرهوبي الجانب بشكل كبير. وفي القرن الحادي عشر، فرّ معظم الإسماعيليين إلى جبال منطقة اللاذقية، حيث وجدوا الملجأ المأمون، واستقروا في مدينتي (مصياف وقدموس)، وما حولها. وعلى مر الزمان أجبروا على النزوح تدريجياً، من هذه الضواحي الريفية، لتلك المدن التي سيطروا عليها اجتماعيا واقتصادياً. وفي الأجزاء الريفية من منطقة اللاذقية، أظهر العلويون عداءهم بصفة عامة تجاه الإسماعيليين، الذين عاد معظمهم إلى مركزهم الديني السابق في السلمية، منذ أن منحهم السلطان عبدالحميد الثاني، جزءاً من ضيعة الإمبراطورية هناك، في عام 1845.

ومنذ استقلال سورية، تطور الإسماعيليون في منطقة السلمية اقتصاديا واجتماعياً، بصورة أكبر بكثير من إخوانهم في الدين بجبال العلويين، الذين بقوا فقراء ومتخلفين، إلى حد ما. وخلافاً للعلويين والدروز، نجد عدداً كبيراً من الإسماعيليين، الذين يشغلون مناصب حكومية على مر العقود، في مجال التعليم والمهن الحرة. ومنذ أن تولى حزب البعث زمام السلطة في عام 1963، نزح كثيرٌ من الإسماعيليين إلى المدن.