إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / حزب البعث، نشأته وتطوره









المبحث الأول: المرحلة الأولى: (الحرس القديم للبعث)

المبحث الأول: المرحلة الأولى: (الحرس القديم للبعث)

       تبدأ تلك المرحلة من عام 1947 (تاريخ تأسيس الحزب)، حتى عام 1963 (الانقلاب العسكري البعثي). وقد ملك زمام الحزب، وأدار دفته السياسية، خلال تلك الفترة، خمسة من القيادات الفكرية والسياسية في سورية، وهم:

1. زكي الأرسوزي

يعد الأرسوزي هو المؤسس الفعلي لعقيدة "البعث" الفكرية والعملية معاً ؛ فهو الذي وضع الفكر المثالي لحزب البعث، وفي الوقت نفسه، قاد النضال الوطني ضد الاستعمار، وذلك عندما اقتطعت فرنسا "لواء إسكندرون" من سورية، وأعطته لتركيا قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية. ولواء إسكندرون هو مسقط رأس زكي الأرسوزي، فاستطاع بوطنيته الجارفة، وفكره الثاقب، أن يتحول إلى زعيم شعبي في منطقة إسكندرون، ثم في سورية عندما انتقل إلى دمشق عام 1934، ومعه مجموعة من الطلاب من إسكندرون. وبدأ يطرح أيديولوجية مثالية للمثقفين، الباحثين عن عقيدة للعمل السياسي. وقد أطاح بمراكز القيادات السياسية التقليدية في ذلك الوقت، التي خضعت لمساومات المستعمر الفرنسي، وانحازت ـ تقريباً ـ إلى صفه، بعد أن أغراها بالمراكز السياسية والاقتصادية. وكانت أدواته السياسية والفكرية، أقرب إلى المثالية منها إلى الواقعية. فقد كان يتسم بالوضوح والصراحة والمباشرة، والاستقامة الفكرية والسياسية، ولا يقبل المناورات أو المداهنة، أو المساومة. فكانت تلك هي التي أدت إلى انتهاء دوره القيادي في حزب البعث، من قبل أن يعلن رسمياً عن إنشاء هذا الحزب، وسيطرة كل من ميشيل عفلق وصلاح البيطار على مسار الحزب ومقدراته. وفي عامي 1945، 1946 بدأ عفلق والبيطار في إصدار منشورات، تحمل اسم حزب البعث، دون علم الأرسوزي، ولمّا وصله أحد تلك المنشورات، علق على ذلك قائلاً: "لقد بدأت دسائس الاستعمار، ليقطع علينا الطريق إلى الشعب، بحركة تحمل اسمنا فيه.

2. ميشيل عفلق

ولد عام 1910 م في دمشق، في زقاق الموصلي الرقم (9)، في حي الميدان. ووالده يوسف أفلق، يهودي الديانة، موطنه الأصلي منطقة "الأفلاق"، التي تقع بين مدينتي بوخارست وبلغراد. وقد نزح من تلك المنطقة إلى دمشق أواخر العقد التاسع عشر الميلادي. وأقام في منطقة حوران، جنوب مدينة دمشق، حيث عمل بتجارة بيع الحبوب، خاصة "القمح الحوراني"، الذي كان يصدّره إلى إيطاليا، لاستخدامه في صناعة المكرونة. ثم تحول من اليهودية إلى المسيحية، وفضّل الإقامة في حي معظم سكانه من المسلمين "السنة"، وهو (حي الميدان)، الذي كان يعد من الأحياء الدمشقية العريقة. كما غّير اسمه من يوسف أفلق، إلى يوسف عفلق، ذلك أن اسم "يوسف" من الأسماء الشائعة الاستخدام لدى اليهود والمسيحيين والمسلمين على السواء، ولكن اسم "أفلق" من الأسماء الغريبة على اللغة العربية، فاختار لنفسه اسماً عربياً قريباً من أفلق، فاختار كلمة "عفلق"، ويبدو أنه في ذلك الوقت لم يدرك مدلولها العربي السيئ! .. وتزوج من أسرة مسيحية كبيرة (أسرة زيدان)، وأنجب ثلاثة ذكور (فؤاد، وميشيل، ووصفي). وجدير بالذكر أن اسم (ميشيل) هو الشائع بين اليهود، أما النصارى من العرب فيسمون (ميخائيل) المحرف عن (ميكائيل)، ويندر أن يسموا (ميشيل) المحرف عن (ميكال).

وبعد أن نال (ميشيل عفلق) الشهادة الثانوية، من المدرسة الأرثوذكسية بدمشق، سافر إلى باريس بعد حصوله على منحه دراسية. وأتم دراسة التاريخ واللغة العربية في جامعة "السوربون" بباريس. وتأثر بالموجة الشيوعية الفرنسية، وانضم لصفوف الحزب الشيوعي الفرنسي. وبعد أن أنهى دراسته في السوربون، عاد إلى دمشق عام 1933 م، وعين مدرسا للتاريخ في مدرسة دمشق الثانوية. ولكن تلك العودة لم تكن مباشرة من باريس إلى دمشق، إذ غاب لمدة من الزمن قبل عودته إلى دمشق، لم يعرف المؤرخون أين قضاها!. وكان يبث أفكاره اليسارية بين طلابه وأصدقائه، ويحدد لهم لقاءات أسبوعية في منزله "أيام الجمعة". وتلقف أفكار ومبادئ زكي الأرسوزي المثالية، وحولها إلى شعارات براقة جذبت إليه الطلاب. ومن غرائب الأقدار أنه كان يدرس مادة التاريخ الإسلامي، لطلبة مدرسة دمشق الثانوية. فكان يخلط بين أفكار الأرسوزي البعثية، ومبادئ الدين الإسلامي، وكان يتكلم عن البعث الإسلامي في بداية عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم) وبين البعث العربي الجديد في عهده، حتى أطلق عليه طلابه اسم " محمد ميشيل". وبدأ رجال الدين الإسلامي في سورية يتنبهون لأفكاره، ويهاجمونه بعنف، وفي مقدمتهم الشيخ على الطنطاوي. فقد كان عفلق يروّج بين طلابه لكتاب "الإسلام"، للمستشرق الفرنسي"هنري ماسيه"). وهذا الكتاب من الكتب الهزيلة والمغرضة، التي كتبت عن الإسلام. ويتضمن كثيراً من المغالطات والافتراءات على الإسلام، وعلى سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، إذ يتضمن في صفحة (24) ـ على سبيل المثال ـ العبارة التالية: ".. والرجل المطرود من قبيلته على إثر خطأ أو جرم يجد نفسه في وضعية يائسة، وهذه كانت حالة محمد في فترة ما " !!.

وفي تلك الفترة، انضم "البيطار" إلى عفلق، في الترويج لتلك الأفكار اليسارية والبعثية. وتعددت شكاوى الطلاب وأسرهم منهما، فصدرت الأوامر من وزير المعارف، الدكتور عبدالرحمن الكيالي، بمنعهما من مزاولة أي أنشطة ثقافية، أو سياسية، بالمدرسة. فقدم عفلق والبيطار استقالتيهما من المدرسة الثانوية. واتخذا مقهى " الطاحونة الحمراء " مقرا لهما، ولندواتهما الفكرية والسياسية. وتحول المقهى إلى منتدى سياسي، لأتباع عفلق والبيطار. وفي الفترة من 1934 حتى 1947م، رشحّ عفلق نفسه للانتخابات النيابية، ولكنه أخفق في المرتين اللتين رشح نفسه فيهما (عامي 1943، 1947م).

وفي أول مؤتمر رسمي لحزب البعث في مقهى الرشيد، من 4 إلى 6 أبريل عام 1947، حضره مائتا عضو من حزب البعث، انتُخب ميشيل عفلق أمينا للحزب. وتكونت اللجنة التنفيذية للحزب من "صلاح البيطار، وجلال السيد، ووهيب الغانم". ووضح منذ البداية انقسام أعضاء المؤتمر إلى فريقين، معتدل ويساري. ومن بين القضايا، التي ناقشها هذا المؤتمر: موقف حزب البعث من الدين (وهو ما كان يطلق عليه عفلق "الرجعية الدينية") ـ مفهوم الوحدة السياسية الخارجية في العالم العربي ـ فكرة الحرية الفردية – قضية تحرير المرأة ـ مفهوم الاشتراكية العربية. وبدأ عفلق في الاتصال بضباط القوات المسلحة، الذين يشغلون مواقع استراتيجية، للانضمام إلى حزب البعث. وعلى إثر ذلك اعتقل في 20 سبتمبر عام 1948 م، وأفرج عنه بعد انقلاب 30 مارس 1949 م، ثم اعتقل مرة أخرى عام 1949. وأفرج عنه بعد انقلاب أغسطس 1949. وتولى منصب وزارة المعارف في حكومة انقلاب 1949، وكانت فرصة لعفلق ـ من خلال هذا المنصب الخطير ـ في دعم حزب البعث، وذلك عن طريق إسناد الوظائف المهمة في وزارة المعارف لأنصار حزب البعث وأعوانه. وقد اضطرب التعليم في عهده، إلى درجة أنه كان يسند تدريس مادة الدين الإسلامي إلى مدرسين مسيحيين، وهو ما حدث ـ على سبيل المثال ـ في إحدى مدارس محافظة السويداء المتوسطة، إذ كان يُدرّسْ مادة الدين الإسلامي مدرس مسيحي، يدعى "إلياس بطحيسن".

عقب انتهاء المرحلة السياسية الأولى لحزب البعث السوري، وتحول القيادة البعثية من المدنيّة إلى العسكرية، وتولي القادة البعثيون العسكريون زمام الحزب، طُرِدَ ميشيل عفلق من سورية عام 1966. فوصل إلى لبنان، وأخذ يمارس نشاطه السياسي من بيروت. وبدأ في تجميع بعض القيادات البعثية معه، ومنهم: أمين الحافظ، وشبلى العيسمى، وإلياس فرح، وحمود الشوفي. وبدأ عفلق يستثمر الخلافات الفلسطينية ـ اللبنانية، وفي الوقت نفسه، أخذ يتقرب إلى البعث العراقي وإلى صَدّام حسين. وكان يحرض على الثورة في العالم العربي، خاصة في الخليج العربي، ويدعو إلى تطبيق الاشتراكية بالقوة ـ كما كُتب في جريدة (الأحرار) اللبنانية ـ خاصة في عام 1970. ثم استقر به المقام في العراق، اعتبارا من هذا التاريخ، حيث أسهم في تطوير حزب البعث العراقي، مع مجموعة من القيادات البعثية السورية، من بينهم أمين الحافظ، وشبلي العيسمى، ومصطفى حمدون، وعبدالفتاح الزلط. وتوطدت العلاقة بين ميشيل عفلق، والرئيس العراقي أحمد حسن البكر، ثم وقعت بينهما خصومة شديدة، بسبب إيداع عفلق خمسين مليون دينار عراقي، باسمه في أحد بنوك سويسرا، كانت مسلمة إليه من أحمد حسن البكر لإيداعها باسم حزب البعث. ولكن صَدّام حسين نائب الرئيس ـ في ذلك الوقت ـ أصلح بينهما!. وبدأ عفلق يتقرب من صَدّام حسين كثيراً، إلى أن أصبح من المقربين إليه. وأصبح عفلق في بداية الثمانينيات، هو المُنظِّر لحزب البعث، والموجه الفكري له. وكان من أشهر المؤيدين والمحرضين لصَدّام حسين، على إعلان الحرب على إيران في 22 سبتمبر1980. وتولى عفلق منصب أمين عام حزب البعث العراقي عام 1985. وقد توفي في باريس في 23 يونيه 1989، عن عمر يناهز التاسعة والسبعين.

3. صلاح البيطار

وُلد صلاح البيطار عام 1912 م في دمشق، من أسرة سورية عريقة، ذات جذور تاريخية وإسلامية. فجد الأسرة هو "الشيخ سليم البيطار" والذي كان يلقب بـ "الفرضي". وقد أنجب أربعة ذكور هم: الشيخ خير (والد صلاح)، والشيخ محمد وكان يشغل منصب أمين الفتوى بدمشق، والشيخ عبدالغني، وكان فقيهاً حتى أطلق عليه "الشافعي الصغير"، والرابع: الشيخ عبدالرازق وكان أيضا فقيها، وهو مؤلف كتاب (حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر الهجري). وكان للشيخ خير البيطار خمسة أولاد هم: صلاح، وحمدون، وسعيد، وفهمي، وخليل. إلاّ أن صلاح البيطار عندما درس في فرنسا، انجرف إلى الفكر اليساري، متأثرا بصديقه الحميم ميشيل عفلق، مما أدى إلى استياء أسرته المتدينة بسبب أفكاره الجديدة اليسارية. ولهذا السبب كان لا يحصل على أصوات عائلته الانتخابية، في الانتخابات النيابية، التي فشل فيها غير مرة.

وفي عام 1933 عاد صلاح البيطار إلى دمشق، بعد تخرجه في جامعة السوربون، وعين مدرسا لعلم الفلك والفيزياء، مع صديقه عفلق، بمدرسة دمشق الثانوية. وبعد طرده من المدرسة الثانوية هو وزميله عفلق، اصدرا معاً مجلة "الطليعة". واشترك معهما في تحريرها الدكتور كامل عياد، وصلاح الدين المحايرى، ويوسف إبراهيم يزبك، ورشوان عيسى، ورئيف خوري، والأخيران عضوان في المكتب السياسي للحزب الشيوعي، الذي مارس نشاطه السري في سورية ولبنان. وفي شهر مارس عام 1948، أصدر البيطار منشوراً يهاجم فيه رئيس الجمهورية شكري القوتلي، ويحرض فيه الناس على عدم تجديد انتخابه لرئاسة الجمهورية. فاعتُقل لهذا السبب، وأفرج عنه بعد انقلاب مارس 1949. ثم اعتقل مرة أخرى في نوفمبر عام 1953، في ظل حكم (أديب الشيشكلي)، مع رفاقه في حزب البعث (عفلق، والحوراني)، ثم أفرج عنهم بعد استقالة الشيشكلي في 25 فبراير عام 1954م. وفي ظل حكم شكري القوتلي ـ قبل الوحدة مع مصر ـ شغل البيطار منصب وزير الخارجية، في وزارة (صبري العسلي ـ يونيه 1956م). وكان البيطار أحد أعضاء الوفد السوري، برئاسة القوتلي، في مباحثات الوحدة المصرية ـ السورية، التي جرت بالقاهرة، في شهر فبراير 1958. وبعد إعلان الوحدة، عينه جمال عبدالناصر وزيراً للدولة للشؤون الخارجية، في وزارة "الجمهورية العربية المتحدة"، في 6 مارس 1958م. وفي 7 أكتوبر 1958، أعاد عبدالناصر تشكيل حكومة الجمهورية العربية المتحدة، حيث عين صلاح البيطار وزيرا للثقافة والإرشاد القومي، في (الحكومة المركزية). ثم تقدم صلاح البيطار باستقالته من منصبه الوزاري، في سبتمبر 1959 عقب بدء الخلافات السورية ـ المصرية، التي كانت مقدمة لانفصال الوحدة في سبتمبر 1961م. وفي 2 أكتوبر 1961 شارك صلاح البيطار " ممثلا عن حزب البعث"، القيادات السورية، في إصدار بيان يؤيد الانفصال السوري، عن الجمهورية العربية المتحدة. وبعد انقلاب 8 مارس 1963، الذي دبره وخططه حزب البعث، تولى صلاح البيطار منصب رئيس الحكومة السورية، في 30 نوفمبر 1963، مع احتفاظه بمنصب وزير الخارجية. وفي ظل الصراعات السياسية داخل حزب البعث، عقد حزب البعث مؤتمره القومي القطري السابع، خلال الفترة من (14 إلى 17 فبراير 1964) برئاسة ميشيل عفلق. وجرى انتخاب القيادة القطرية الجديدة (وأغلبها من العسكريين) المكونة من: (أمين الحافظ ـ ومحمد عمران ـ وصلاح جديد ـ ونور الدين الأتاسي). كما اتخذ المؤتمر قرارا بفصل كل من: صلاح البيطار، وأكرم الحوراني، ومجموعة أخرى من القيادات البعثية المدنية، وذلك لانحرافهم عن مبادئ الحزب. وعقب انقلاب 23 فبراير عام 1966، رحل صلاح البيطار عن سورية، وأعلن اعتزاله للحياة السياسية.

4. جلال السيد

من مواليد "دير الزور" على نهر الفرات، وهي المنطقة المتاخمة للحدود السورية العراقية. ويقترب فكره وخُلقه من فكر زكي الأرسوزي وخلقه. وكان على خلاف دائم مع كل من ثلاثي حزب البعث (عفلق، والبيطار، والحوراني). وكان الخلاف بينهم ينحصر في الآتي:

أ.  رفضه القاطع والمستمر، لمبدأ تدخل الجيش في السياسة. وكان يعارض محاولات الحوراني وعفلق، تجنيد ضباط الجيش في حزب البعث، حتى لو كان هذا التدخل يؤدى إلى وصول البعث إلى السلطة، وفق رؤية عفلق والحوراني.

ب.  تأييده لفكرة الوحدة العراقية السورية.

ج.  كان يرى أن "العنصر" و "الدم" العربيين، لم يعودا نقيين إلاّ في القبلية العربية. ولهذا كان ينتقد كل سياسة في حزب البعث، من شأنها "تفكيك" القبلية العربية. ولذلك نص في دستور حزب البعث، عند بدء تكوينه، على الإشادة بثورة (الشريف حسين بن علي) عام 1916 م في الحجاز. ولهذا، أيضاً، كان علم البعث، منذ أيامه الأولى، يحمل العلم العربي نفسه. وكان يؤيده في تلك الأفكار، الدكتور مدحت البيطار، أحد مؤسسي حزب البعث الأوائل.

د. كان يرى في دول العالم الإسلامي، بالنسبة للعرب، "قوى احتياطية"، ومصدر نفوذ كبير ينبغي استثماره. وناصب العداء لكل اتجاه تقدمي يساري، أو ليبرالي، أو غير ديني، ولأن هذا الاتجاه من شأنه، القضاء على المشاعر الودية تجاه العرب، من قبل المسلمين.

هـ. رفضه القاطع لاندماج حزب البعث، مع الحزب العربي الاشتراكي، بزعامة الحوراني، عام 1952. ولمّا لم يجد صدى لأفكاره داخل الحزب، وسيطر ثالوث الحزب (عفلق، والبيطار، والحوراني) على مقاليد الأمور بالحزب، قدّم استقالةً مكتوبة من الحزب، يوم 21 أغسطس عام 1955م لميشيل عفلق، جاء فيها:

(ظهرت بوادر خلاف بيني وبينكم، في وجهات النظر فيما يتعلق بالقضايا القومية والاجتماعية والخلقية. ولمّا لم أستطع تصحيح الخطأ، وفقاً لآرائي ومعتقداتي، فإني لم أجد بُداً من الانسحاب من الحزب، الذي ضحيت بكل شئ في سبيل صنعه ورعايته. فلمّا شب الحزب وترعرع، تبين لي أنه أتى على غير الصورة التي رسمتها، وعلى غير المثال الذي مثلته في خاطري. إن إنساناً متجاوباً مع حاجات أمته مرهف الحس، يستطيع أن يتصور ما يعتلج في نفسي من حرق الآلام لهذا الانسحاب، ولكن القدر لا يغالب).

ولكنه لم يعتزل السياسة، ومارس نشاطه السياسي مستقلاً عن الأحزاب السياسية، متعاوناً معها بقدر توافق مواقفها، مع آرائه ومعتقداته.

وانتخب عضواً بالمجلس النيابي أكثر من مرة. وفي ديسمبر عام 1961 رشح نفسه رئيساً لمجلس النواب السوري، أمام مأمون الكزبري، الذي استطاع أن يحصل على (114) صوتاً من مجموع أصوات المجلس النيابي (170) بينما حصل جلال السيد على (47) صوتاً فقط.

5.أكرم الحوراني

من مواليد عام 1912 م، من مدينة "حماه"، واسمه (حسن أكرم الحوراني). انُتخب لعضوية المجلس النيابي السوري مرات كثيرة، بدأت عام 1943م. أنهى دراستة الثانوية في مدينة حماه، ثم حصل على شهادة الحقوق من جامعة دمشق، في سن الرابعة والعشرين. وبدأ ممارسة العمل السياسي مبكراً، بأسلوب العنف والاغتيالات، إذ قرر هو وجماعته اغتيال صبحي بركات رئيس المجلس النيابي عام 1932، وأجريت قُرعة بينه وبين زميله عبدالباسط البنى لتنفيذ عملية الاغتيال. فوقعت القُرعة على البني، الذي أخفق في المحاولة. إذ أطلق عليه صبحي بركات رصاص مسدسه الخاص، فأرداه قتيلاً.

طاف أكرم الحوراني بأكثر من حزب سياسي، منذ اشتغاله بالسياسة. فانتسب ـ في بادئ الأمر ـ إلى "الحزب القومي السوري"، الذي كان يتزعمه أنطون سعادة، وأسس له فرعا في مدينة حماة عام 1936م. وعندما أسس عثمان الحوراني (عم أكرم)، "حزب الشباب"، انسحب أكرم من الحزب القومي، وانتسب لحزب الشباب. وبعد وفاة عمه انتقلت رئاسة الحزب إلى أكرم، الذي عدل الاسم إلى (الحزب العربي الاشتراكي).

المناصب السياسية، التي تولاها أكرم الحوراني:

  • عين وزيرا للزراعة في حكومة الانقلاب الثاني، الذي قاده اللواء سامي الحناوي في 14 أغسطس عام 1949م، في حين عين عفلق وزيرا للمعارف، في الوزارة ذاتها.
  • عين وزيراً للدفاع في عهد الانقلاب الثالث (الذي قاده العقيد أديب الشيشكلي في 19 ديسمبر عام 1949م) وذلك في عهد رئاسة هاشم الأتاسي، وكان رئيس الحكومة في ذلك الوقت خالد العظم.
  • عقب إعلان الوحدة بين مصر وسورية، في 22 فبراير عام 1958، عينه جمال عبدالناصر نائبا لرئيس الجمهورية (من بين أربعة نواب: اثنين من مصر "عبداللطيف البغدادي، وعبدالحكيم عامر"، واثنين من سورية: "الحوراني، وصبري العسلي").
  • بتاريخ 7 أكتوبر عام 1958م، أعاد عبدالناصر تشكيل حكومة الجمهورية العربية المتحدة، وأعيد تعيين الحوراني نائبا لرئيس الجمهورية، وأضاف إليه منصب وزير العدل في الحكومة المركزية (وأصبح نواب رئيس الجمهورية ثلاثة فقط في هذا التشكيل، بعد استبعاد صبري العسلي). واستقال الحوراني من منصبيه في 24 سبتمبر عام 1959، ضمن الاستقالات الجماعية، التي قدمها الوزراء السوريون في ذلك الوقت، في شكل مظاهرة احتجاج ضد سياسة عبدالناصر، الذي انفرد بالحكم، ولم يتح لأي منهم الدور السياسي الذي كان يقوم به قبل الوحدة، أو الذي كان يطمح فيه بعد الوحدة.

واعتقل الحوراني مرتين: الأولى، عقب محاولة الاغتيال الفاشلة، التي قام بها العقيد عدنان المالكى، والمقدم عبدالله قنوت ضد أديب الشيشكلي، الذي اتهم حزب البعث بتدبير تلك المحاولة. واعُتقل عدد كبير من القيادات البعثية، من بينهم الحوراني والبيطار. وكان الاعتقال الثاني للحوراني في شهر نوفمبر 1953، في عهد الشيشكلي أيضاً، عندما تصاعد الرفض الشعبي لحكمه. وحرض حزب البعث على قيام المظاهرات الشعبية والطلابية ضده. وعقدت عدة اجتماعات سرية، ضمت قيادات أحزاب: (الشعب، والوطني، والبعث والشيوعي) وذلك على الرغم من تعارض أفكارهم ومبادئهم وبواعثهم. وأبرموا فيما بينهم ميثاقا من أجل التعاون للتخلص من حكم الشيشكلي، على أن تنطلق الشرارة الأولى للثورة الشعبية من جبل الدروز. وعندما اكتشف الشيشكلي أمرهم، أصدر أوامره باعتقال عدد كبير من تلك القيادات، كان من بينهم الحوراني، وعفلق، والبيطار.

النهاية السياسية لأكرم الحوراني

بدأ نجم الحوراني يأفل منذ انقلاب 8 مارس عام 1963، الذي يُعد بداية حكم حزب البعث في سورية. فقد شاءت الأقدار أن تكون نهايته السياسية من داخل الحزب، الذي كان يوجهه ويدير دفة أموره، إلى وقت قريب. ففي شهر أبريل 1963 م أصدر المجلس الوطني السوري، برئاسة الفريق لؤي الأتاسي عدة قرارات مهمة، من بينها فرض العزل السياسي على رجال الحكم السابق. وفي 24 أبريل صدر قرار بتشكيل محاكم الأمن القومي لمحاكمتهم، ووجهت إليهم الاتهامات التالية:

ـ  اغتصاب السلطة.

ـ  النيل من هيبة الدولة.

ـ  الشعور القومي، وتعكير الصفاء بين عناصر الأمة.

ـ  إساءة استعمال السلطة. وكان من بين المتهمين أكرم الحوراني.

*  وخلال المؤتمر القومي القطري السابع لحزب البعث، الذي عقد في الفترة من 14 إلى 17 فبراير عام 1964م برئاسة ميشيل عفلق، تم إحلال القيادة الجديدة (الحرس الجديد)، بدلاً من القيادة السابقة الحرس القديم. وقد انتخبت القيادة القطرية الجديدة لحزب البعث من: أمين الحافظ، ومحمد عمران، وصلاح جديد، ونور الدين التاسي. وأصدرت قراراً بفصل رموز الحرس القديم من الحزب، ومن بينهم الحوراني والبيطار، بسبب "انحرافهم عن مبادئ الحزب".

الأبعاد الشخصية، والمواقف السياسية للحوراني:

  • قام بدور المحرض لكل انقلاب عسكري وقع في سورية، بدءاً من الانقلاب الأول (مارس 1949)، حتى حركة الانفصال (سبتمبر 1961).
  • عارض مشروع الهلال الخصيب، والوحدة السورية العراقية، ولم يتحمس في بادئ الأمر للوحدة المصرية السورية. ورفض الاشتراك في الوفد السوري الرسمي في مفاوضات الوحدة، الذي تكون من: (شكري القوتلي، وصبري العسلي، وخالد العظم، وصلاح البيطار، ونور الدين الأتاسي، وحامد الخواجه، وفاخر الكيالي، ومأمون الكزبري، وأسعد هارون، وخليل الكلاس، وصالح عقيل، وعفيف البرزي، وعبدالرحمن العظم). وقد لاحظ عبدالناصر ذلك، ولعله تقبل اقتراب الحوراني منه وتودده إليه، بعدما أصبحت الوحدة وشيكة الوقوع. وأسند إليه منصباً رفيعاً من الناحية الشكلية، إلاّ أنه كان شرفيا من الناحية الموضوعية. ولمّا استشعر الحوراني بذكائه وخبرته السياسية، أن الانفصال أصبح وشيكا، دبر مظاهرة الاستقالة الجماعية من الحكومة المركزية، طمعاً في استمرار موقعه السياسي، فيما بعد الانفصال.
  • عندما أراد الانضمام لحزب البعث، وعارضه بشدة ميشيل عفلق، أوعز الحوراني للعقيد أديب الشيشكلي، الحاكم الفعلي لسوريه في ذلك الوقت، بالضغط على قيادات حزب البعث، لدمج الحزب مع الحزب العربي الاشتراكي، الذي كان يرأسه الحوراني. وبالفعل استجابت قيادات حزب البعث، لهذا الضغط العسكري على مضض. ودُمج الحزبان تحت مُسمى جديد هو "حزب البعث العربي الاشتراكي"، عام 1952. وعندما أصرت قيادات حزب البعث، على عدم تغيير دستور الحزب، الصادر عام 1947، رضخ الحوراني لذلك. وكان الدمج اسميا فقط، اقترن فيه مُسمى البعث بالاشتراكي. وتكونت اللجنة التنفيذية لحزب البعث العربي الاشتراكي من: ميشيل عفلق "أميناً عاماً"، وكل من: البيطار، والحوراني، وجلال السيد، ووهيب الغانم، "أعضاء".
  • كان يسعى دائماً لعسكرة حزب البعث، إذ عَمِل في كل وقت، على اجتذاب العناصر العسكرية إلى صفوف الحزب. لذا كان يطلق عليه "الجنرال المرتدي ثياباً مدنية"، وكان يدفع الطلاب للانتساب للكليات العسكرية، خاصة الطلاب الراسبين في المدارس الثانوية والجامعات، ويرغبهم بأن مدة الدراسة سنتان فقط، ولا تحتاج هذه الكليات إلى مجهود كبير في الدراسة.
  • أثمرت تلك السياسة، عن زيادة نفوذه السياسي خلال حقبة الخمسينات. فقد عُيّن وزيراً للزراعة في عهد الانقلاب الثاني، الذي كان هو المحرض الأساسي له. وفي عهد الانقلاب الثالث، الذي كان، أيضاً، هو المحرض الأساسي له، عينه الشيشكلي، في بادئ الأمر، مسؤولاً إعلامياً، ثم وزيراً للدفاع.

وبعد خروجه من التشكيل الوزاري الجديد، عاد وانقلب على حكم الشيشكلي. وبدأ في تنظيم المظاهرات، وتدبير المؤامرات، حتى اعتقله الشيشكلي!. وعمد الشيشكلي إلى وضع سياسة جديدة، للقبول بالكليات العسكرية، لا تسمح لأبناء الريف، أو الراسبين في الثانوية والكليات المختلفة، أو الموالين لحزب البعث، من الانتساب للكليات العسكرية. وأن يقتصر القبول على أبناء المدن، ومن العائلات الكبيرة، ليكون مستوى الجيش لائقا. وقد لاقت تلك السياسة ترحيباً كبيراً، من قِبل السياسيين الوطنيين، إلاّ أنه بعد الإطاحة بحكم الشيشكلي، عاد الوضع إلى ما كان عليه، بتوجيه من الحوراني وعفلق.