إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / حزب البعث، نشأته وتطوره









المبحث الثالث: الخلاف بين البعث السوري الجديد، والبعث القديم

المبحث الثالث: الخلاف بين البعث السوري الجديد، والبعث القديم

  • وجهة نظر الحرس الجديد، في رموز الحرس القديم لحزب البعث

       كانت مقررات المؤتمر القومي التاسع لحزب البعث، في سبتمبر 1966، تنص على: (إن الاستعمار المخطط الذكي، الذي يقيّم الأمور، ويضع لها الحلول العملية، أدرك بثاقب نظره، ومن خلال تجاربه الطويلة مع الشعوب، التي خاضت معارك التحرر والخلاص، أن حركة ثورية أصيلة، تعبر عن تطلعات جماهيرها، وتعبر عن مصلحة طبقاتها الواسعة الكادحة فيها، لا يمكن أن ينال منها تآمر خارجي، أو معركة مباشرة، أو تصدى مباشر، لأن مثل هذا التصدي والنزال، سيُكسبها ويدعمها، ويقوي عودها، ويجعلها تحرز الانتصار تلو الانتصار، وذلك لأن الثورات لا تشتد وتصلب، إلا‍ّ من خلال المعاناة والمعارك النضالية، والمجابهة. وعلى هذا يلجأ الاستعمار وزبانيته، إلى التفتيش عن مقتل مضمون النتائج ... فحركة التفاف بارعة، وعملية مناورة خفية مستورة تحت أسماء وأغلفة، وواجهات خداعة براقة، يمكن أن تحقق للاستعمار، مآربه، وللرجعية مقاصدها، بشكل أضمن، وخسارة أقل، وتتحقق تلك الحركة البارعة من جانب الاستعمار بأساليب متعددة. فتارة يعمد إلى تدريب عناصر خاصة، لفترات طويلة، ويلبسها من الأردية، ويحيطها بهالات، ويسلط عليها من الأضواء، ما يجعلها تظهر وكأنها تعيش في قلب هذا الشعب، وتكافح في سبيل قضاياه، وتدافع عن مصيره، إلى أن يحين وقت استثمارها، وعندها تتحرك بالاتجاه، الذي يرسمه لها الاستعمار، لتحقق الأغراض المنشودة. فإذا فشلت وانفضحت، لجأت إلى حاميها وسيدها، لتبدأ العمل على نحو جديد، وطريقة أخرى مُعلنة، بعد أن فشلت الطريقة الأولى المغلّفة المستترة.

       ذلك هو حال المتآمرين، من زمرة "عفلق"، و"الرزاز"، و "البيطار"، و "حاطوم"، و"خالد الحكيم"، .. أمّا "عفلق"، وتاريخه الحافل بالمخازي والتآمر على هذا الحزب، والدور المرسوم له في حزب هذه المنظمة، وإبقائها ضمن الإطار المحدد والمرسوم لها، فأمره معروف لكل حزبي قديم، عاش أحداث هذا الحزب، واطلع على تاريخه).

*  وفي موضع آخر، صدر بيان من القيادة القطرية لحزب البعث، عقب انقلاب نوفمبر عام 1970، وصف قيادات الحرس القديم، بما يلي:

(إن حزبنا، الذي جسّد بمنطلقاته واستراتيجيته، طموح جماهيرنا العربية الكادحة، كان يُبتلى بعقليات قيادية مناورة وعاجزة عن التطور، وتمثل كل رواسب الواقع المتخلف، الذي تعيشه أمتنا، مما يجعلها عامل كبح دائم، لنضالات قواعده وجماهيره، الأمر الذي كان يخلق هوة كبيرة، بين ما يصبو إليه مناضلو هذا الحزب وجماهير الشعب، وبين ما يسمح بتحقيقه قصور وتسلط تلك العقليات القيادية المتعاقبة والمناورة، مما سبب التناقض والشلل والانقسام، في صفوف حركتنا الثورية الأصيلة. وفي كل مرة تصدت فيها قواعد الحزب، لتلك العقلية القيادية، كان ينقسم الحزب على نفسه، بفعل ما تمتلك تلك العقلية من قدرة على ممارسة الديمانموجية والتزييف، والتستر وراء شعارات لا تؤمن بها، وكانت كل تلك الانقسامات بعيدة عن أن تكون انقسامات، لها أسس ومنطلقات وأساليب عمل متميزة، بحيث يتحقق فرز علمى صحيح للشوائب، التي قد تعلق بجسم أية حركة ثورية نامية ومتطورة، بل كان الانقسام يشطر الحزب إلى مجموعات، فيها الغث والسمين. وهكذا كانت الكوارث تتوالى على الحزب بفعل هذه العقلية المتخلفة، ثم كانت حركة شباط (فبراير) عام 1966، التي أضافت صفحة جديدة مشرقة، إلى صفحات نضال قواعد الحزب ضد التخلف، ووصاية العقلية القيادية اليمينية، وكانت في منطلقاتها توضيحا رائعا للنهج الثوري، الذي هو مسار حزبنا منذ فجر ميلاده).

  • وجهة نظر الحرس الجديد في النظام الحزبي البعثي خلال المرحلة الأولى (السابقة على ثورة مارس 1963):

ترى القيادة البعثية الجديدة، أن نشأة وتطور حزب البعث ـ من وجهة نظرها ـ ينقسم إلى:

1. ظروف نشأة الحزب

تزامنت مع نشوء الحزب، عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية، هي:

  • انقسام الأمة العربية إلى دويلات.
  • التخلف الاجتماعي والثقافي والاقتصادي.
  • الاستعمار واغتصاب الشعوب وسلب ثرواتها.
  • تشتت الفكر القومي والشخصية العربية.
  • بزوغ الوعي السياسي، والقومي، وتعاظم دور البورجوازية العربية.

2. الأزمة الفكرية لحزب البعث

غموض مفاهيم شعارات الحزب: (الوحدة، والحرية، والاشتراكية).

وعناصر هذا الغموض تشمل:

أ.  نادى مؤسسو الحزب بالوحدة والحرية والاشتراكية، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو:

ما الوحدة، التي كانت تدور في أذهان قادة الحزب آنذاك.

ما الحرية، التي كانت تدور في أذهان قادة الحزب آنذاك.

ما الاشتراكية، التي كانت تدور في أذهان قادة الحزب آنذاك.

إن عدم وضع نظرية كاملة للحزب، عند بداية نضاله، ترك الحزب مفتوحاً للانفعال، الذي لا يحدد مداه، ولا تضبطه النظرية. لقد جاء دستور الحزب، الذي أقره المؤتمر التأسيسي الأول للحزب نفسه، في السابع من نيسان (أبريل) عام 1947، متأثرا بالطرح الوحدوي الكلاسيكي، الذي طرحه بعض المفكرين القوميين، أثناء الثورة العربية الكبرى عام 1916. ومتأثرا بالتفكير الليبرالي، ومنطبعا بطابع الديمقراطية الغربية.

ب.  اعتمد الدستور الثوري، على الأسلوب الانقلابي في النضال الشعبي، إلاّ أنه لم يشر صراحة إلى القوى الشعبية، التي ستكون أداة النضال، بمعنى أنه لم يتعرض لموضوع الصراع الطبقي، الذي يعتبر "ألف باء" التفكير الاشتراكي العلمي، والعلامة الفارقة للنظرية الثورية، عن النظرية الإصلاحية.

ج. عدم التعرض لموضوعية الصراع الطبقي، ودور التناقضات الاجتماعية الجدلية، في تفسير الأحداث وتطويرها.

د. عدم اعتماده أسلوب التحليل العلمي للظواهر الحياتية، وإيجاد الحلول المنطقية لها مما ساق الفكر الحزبي في متاهات الغيبية والمثالية، وحجب عنه الحقائق العلمية.

3. الأزمة التنظيمية لحزب البعث

ترى القيادة البعثية الجديدة، في تقرير المؤتمر القومي التاسع، أن الأزمة التنظيمية للحزب تتمثل فيما يلي:

أ.  عدم وضوح النظرية في التنظيم، وغياب المهمات الأساسية للتنظيمات، إذ إن الحزب بقى منذ نشأته عام 1947، حتى عام 1954، بلا نظام. ويُستشهد على ذلك، ببعض عبارات وتصريحات لرموز الحرس القديم، في هذا الصدد، منها:

  • مقولة لميشيل عفلق: "إن حزبنا رسالة لا سياسة".
  • مقولة أخرى لعفلق: "إن المأساة التي يعيشها حزبنا في السنوات الأخيرة، هي ذاتها المأساة الشخصية التي أعيشها أنا".
  • مقولة لصلاح البيطار: "حزبنا، يمكن أن نسميه دعوة، أكثر من أن نسميه حزباً. دعوة قائمة على التوحيد القومي، وعلى محاربة كل ما يعرقله".

ب. تحول تاريخ الحزب ـ في تلك الفترة ـ إلى تاريخ هؤلاء الأشخاص، فانسجام الحزب يعنى انسجامهم، وانشقاقه يعنى اختلافهم وانقسامهم. فقد أضحت إقامة هيكل تنظيمي للحزب، أمراً في غاية الصعوبة والتعقيد، وعملاً موجهاً ضد بعض الأشخاص.

ج. التناقض بين البنية الاجتماعية للحزب، وبين شعاراته:

كانت أداة الحزب الأولى، مجموعة من الرفاق انسلخوا عن واقع بنيتهم الاجتماعية، بقدر متفاوت، ليلتزموا خط الحزب الرافض لواقع تلك البنية وتطلعاتها. ولكن كل واحد من هذه المجموعة، كان يحمل كثيراً من الرواسب والمفاهيم في منبته الاجتماعي. ولذلك تسربت هذه الرواسب والمفاهيم في العلاقات والمهمات، إلى التنظيم الحزبي. فبدا في بعض ملامحه متناقضا مع شعاراته ... لقد كانت أزمة ثورية التنظيم في الحزب، جزءاً حقيقيا من أزمته العامة، في صراعه مع العقلية اليمينية. هذه العقلية، التي حاولت جهدها حجب هذه الحقيقة ؛ وذلك لأنها تخشى أن يحوّل الحزب تنظيمه إلى حزب طبقي، يتناقض بشكل حقيقي مع تطلعاته البورجوازية، وإزاء ذلك سوف تتحول إلى عدوة للحزب، شاءت أو لم تشأ، وسوف ينتزع الحزب قضيته من بين أيديها، التي عبثت بها، وهذا ما حدث بالضبط.

د.  الوصاية على الحزب

من أخطر أسباب الأزمة التنظيمية في حزب البعث، هو سيادة منطق الوصاية، في ذهن القادة التاريخيين لهذا المنطق، في سلوك التنظيم مرحلة طويلة من حياة الحزب. إن النظرة الغيبية أملت عليهم، النظر إلى أهداف الحزب وشعاراته، وكأنها من إبداعهم الشخصي. وليس خافيا على الرفاق مزالق تلك النظرة، التي تسئ حتى للأهداف نفسها. فشعارات الوحدة والحرية والاشتراكية، قد أملاها واقع النضال العربي، في احتكاكه مع معطيات العصر الحديث منذ مطلع هذا القرن، وحتى الحرب العالمية الثانية. ولم تكن اختراعا لمفكرين أو فلاسفة، يمكن لغيرهم أن يأتوا بغيرها كمضمون تقدمي للقومية العربية ... وقد وصل الأمر بهم، إلى حد النظر إلى الحزب كملكيات خاصة لهم، فحزبنا ككائن اجتماعي خاضع في نشوئه وتطوره لعملية نمو طبيعى، يتسارع بالمعارك، التي يخوضها، وبالتحديات التي يواجهها، ولم يعد ممكنا للحزب، الذي ألهب حماس الجماهير بطرحه لشعاراتها، أن يقف عند الحدود، التي جمد عندها القادة، لأنه بذلك ينحرف حتى عن مبرر وجوده، كحزب مؤهل للبقاء في مواقع القدرة على قيادة الجماهير. فأمام النمو المتصل لقواعد الحزب، وأمام الآفاق القومية الواسعة التي انفتحت أمامه، كان القادة التاريخيون يعمدون إلى قهر الحزب، ليكون مفّصلاً على تكوينهم. ويدأبون، من خلال الارتباطات المدمرة، ليوقفوا الحزب في المواقع، التي تمكنهم من استمرار قياداتهم، ويستخدمون الولاءات الشخصية لتمزيق وحدة الحزب. إن القادة التاريخيين للحزب، لا يعترفون بفكر ليس من نتاجهم، كما أنهم لا يعترفون ببطولة أو إنجاز، إلاّ إذا كان من إبداعهم. والخطر يكون محدداً، لو أنهم كانوا ينتجون ويبدعون، ولكن الخطر الذي تعرض له حزبنا، هو جمود قادته الأوائل، عند حدود قاتلة بالنسبة لمتطلبات المرحلة الحاضرة، والمراحل المقبلة. والسبب الرئيسي للصراع المتأزم، هو إصرارهم على إبقاء التنظيم، عند حدود إرادتهم ومفاهيمهم الخاصة، والحيلولة بينه وبين أن يكون المؤسسة الثورية المتفاعلة، مؤسسة الديمقراطية.

هـ. التناقض بين شكل التنظيم القومي، ومضمونه العملي

إن الوجود القومي للحزب حقيقة أساسية، تنطلق من نظريته الثورية المتكاملة، في الإيمان بوحدة الوطن العربي. ولذلك، فإن أي منطلق قُطْري، أو انعزالي، هو منطلق غريب عن منطلق الثورية في التنظيم، ولا بد أن يفقد هذا التنظيم ثوريته دفعة واحدة، ذلك لأن حزبنا بتنظيمه القومي قد تحدى كل الرواسب القطرية والإقليمية، التي عششت في نفوس العرب، نتيجة الظروف التاريخية الطويلة، التي مرت على الوطن العربي.

ولكن إلى أي حد نجح حزب البعث في مجال هذا التنظيم؟.

(1) اتسمت المرحلة الأولى للحزب ـ عندما كانت التشكيلات الحزبية صغيرة في عددها، بسيطة في تنظيمها ـ بالتعلق الشديد بثقافة الحزب، والحماس القومي الصوفي، والتطلع لقطر سورية؛ لأنه مكان قوته. وبجانب هذا الانغماس في فكرة الحزب، كان هناك شبه انقطاع بين المنظمات الناشئة، والوضع الإقليمي الذي نشأت فيه، وإن هي شاركت في السياسة المحلية، كانت مشاركتها، غالباً، من قبيل تسجيل المواقف والمناوشة، أو تكون ـ في بعض الأحيان ـ مقصورة لاحتلال مكان بين الأحزاب التقليدية.

(2) بعد أن توسعت تشكيلات الحزب، وازدادت فعاليتها الحزبية في أقطارها، زاد وزنها السياسي، وأصبحت ذات تأثير فعال في السياسة المحلية؛ ففي العراق أسهم الحزب في انتفاضة 1953، وفي حوادث 1956، عندما قاوم حلف بغداد، وانضم إلى الجبهة الوطنية مع الأحزاب الأخرى. وفي الأردن دخل حزبنا محيط السياسة العملية، عندما قاوم جر الأردن لحلف بغداد، وخاض معركة تطهير الجيش.

إن الذي حدث في هذه المرحلة من نضال الحزب، هو تشابك نشاطه بالسياسة العملية للأقطار، التي كان يعمل ضمنها. وكانت نتيجة هذا التشابك مزدوجة، حيث أثر حزبنا في الواقع الإقليمي بعض الشيء، وطعّمه بالنظرة القومية. إلاّ أنه في مقابل ذلك، لم ينجح في أن يتأثر بذلك الواقع. فازداد اهتمام منظمات الحزب بالقضايا القطرية. وكان ذلك في غياب التوجيه المركزي، الذي لم يكن موجودا ليحد من هذا الاتجاه، ويُرجع الحزب لوحدته، ويطرح منه رواسب الواقع الفاسد، التي تسربت إليه، حتى إن القيادة القومية نفسها، لم تسلم من هذا الداء. فقد جذبها واقع سورية، فانغمست فيه، وأصبحت في معظم نشاطها متجهة نحوه. وسمحت لنفسها بأن تمتد سلطة التنظيمات القطرية، إلى خارج أقطارها جغرافيا ؛ لتشمل كل من يحملون هوية ذلك القطر، حتى ولو كانوا يقطنون خارجه، كفرقة اللاجئين الأردنيين في دمشق، وكشعبة العراقيين في دمشق.

(3) لقد انعكس ذلك على النظام الداخلي للحزب، فبدلا من أن يكون لدى الحزب نظام داخلي واحد معمم، في ضوء دراسة شاملة دقيقة للأوضاع المتبادلة في الأقطار، بحيث يكون مرنا يستوعب التباين في الظروف، ويحقق الوحدة التنظيمية، في الوقت نفسه، بدلا من ذلك أخذت منظمات الحزب، تتكيف هي للأوضاع المحلية، وتسير بالنظام الداخلي شطر ذلك التكييف. وقد انفتح باب الاجتهاد، في تفسير النظام الداخلي على مصراعيه، بل وأصبح تجاوزه أمراً شائعاً ومعروفاً، تمارسه أغلب التشكيلات الحزبية.

(4) إن هذا التباين في التنظيم، قد غذى نفسه وولدّ قوة تدفع لمزيد من الإقليمية، وأوجد بداية لتيارات واجتهادات متباينة، بعضها عفوي، وآخر مصمم، منها بروز التأكيد على التكتيك بمعناه التقليدي الانتهازي، القائم على التآمر والتكتل والتوسل بشتى الوسائل، لتحقيق النجاح، وظهرت بوادر اتجاهات متباينة ترشح من الظروف المحلية، وتؤكد القطرية. إن غياب التنظيم العلمي للحزب، وغياب القيادة المركزية، والتوجيه المركزي، قد ساعد على قيام مثل هذه الأفكار الغريبة عن الحزب، التي علينا أن ندينها جميعاً، ونؤكد إصرارنا على وحدة الحزب العضوية، تنظيمياً وفكرياً ونضالياً، لأن الاتجاه القطري في الحزب:

  • يطعن فكرة الحزب الأساسية، بل ويزيل مبرر وجوده.
  • يشجع على ظهور الانتهازية، ويفسح المجال أمام بروز الأفراد، وانغماسهم في السياسات القطرية، ووقوعهم في أحابيلها.
  • يساعد على التغلب على التفرد، لضرب منظماته القطرية وإنهائها واحدة بعد الأخرى، ما لم تكن تعمل ضمن إطار قومي متماسك ومتناسق، وتخضع لتخطيط قومي شامل ومتكامل.

       لقد كان تاريخ المؤتمرات القومية ملحمة حقيقية، بين عقلية اليمين الحزبي ـ العفلقية البيطارية ـ وبين قواعد الحزب المتطلعة، نحو حزب ثوري متطور، إلاّ أننا يكفى أن نشير بشكل عريض، إلى أن معركة المؤتمرات القومية، كانت معركة بين القيادة والقاعدة، إذ كلما حققت القاعدة نصراً تنظيمياً، أو فكرياً، على عقلية القيادة المتخلفة، بادرت القيادة، أو أمينها العام "عفلق"، إلى تجميد هذا الانتصار، ثم دعوة مؤتمر آخر، تحاول استجراره إلى مقررات تنسف المقررات، التي لم تناسبها من المؤتمر السابق. فعندما أدانت قواعد الحزب، عملية حل التنظيم في القطر السوري عام 1958، سارع الأمين العام بنفسه إلى دعوة المؤتمر القومي الثالث عام 1959، وبغياب قطري العراق (حضر مندوبان فقط) وسوريه، ليوافق على حل الحزب في الجمهورية العربية المتحدة (واتخذ إلى جانب ذلك قرارات إيجابية كبيرة)، بينما جاء المؤتمر القومي الرابع عام 1960، لينتصر لإرادة القواعد في إدانة صريحة. وكذلك، عندما اصطدم الأمين العام مع معظم القواعد الحزبية في القطر السوري، حول إعادة تنظيم الحزب ـ وليس حول الوحدة ـ دعا إلى المؤتمر القومي الخامس عام 1962، ليجعل من الخلاف التنظيمي معه، خلافاً حول الوحدة، بل حول فكرة الوحدة، وليتهم كثيرا من الرفاق والمناضلين بصلتهم بعقلية أكرم الحوراني، التي هم أول من أدانها في الحزب.

       وقد كان المؤتمر القومي السابع، الذي استغل الأمين العام إصرار القواعد الحزبية على ضرورة انعقاده، ليحوله إلى حملة تشكيك بمقررات المؤتمر السادس، ما لبثت أن تحولت إلى هجوم صاعق على المنطلقات النظرية، التي أقرها هذا المؤتمر. وقد استخدم ميشيل عفلق ـ هذه المرة ـ سلاحاً جديدا في المعركة، نظرا لضراوتها وشدتها، استخدم (منيف الرزاز)، الذي تظاهر بخلافه مع عفلق، لينفّذ بأمانة وحرفية "العفلقية في الحزب"، ولكن المؤتمر القومي الثامن، خذل الطرفين عندما رفض التقرير العقائدي، الذي قدمه الرزاز للمؤتمر.

4. أزمة الحزب في التطبيق (أسلوب تنفيذ الأهداف)

يرى تقرير حزب البعث، في مؤتمره التاسع، أنّ أزمة التطبيق في الحزب ناشئة من:

أ. تجاهل القوة الكامنة في الجماهير الكادحة

إذ لم يكن من أساليب العمل الحزبي، التركيز على تزكية الصراع الطبقي في المجتمع، والتوجه إلى العمال والفلاحين، ليكونوا أداة الحزب في التطبيق، عبر النضال اليومي للتنظيم الحزبي.

ب. تجاهل طبيعة المعركة الحتمية، مع أعداء النظرية

إن الأسلوب، الذي اعتمده الحزب في أول نشأته، كأساس في نضاله لتحقيق أهدافه، يتناقض وتحقيق هذه الأهداف، لأنه سلاح لصالح الوحدة والحرية والاشتراكية في هذه المعركة، وكذلك فإن أسلوب الثورة الشعبية عن إستراتيجية الحزب، حتى الآن، يؤكد لنا ضعف الأساليب المطروحة الموهومة لتحقيق الوحدة العربية، في ظل التجزئة والاستعمار والتخلف، وفي مواجهة القوى الرجعية والصهيونية والإمبريالية.

*  ويضيف ـ التقرير نفسه ـ عن موضوع (مظاهر أزمة الحزب)، ما يلي: إن الأساليب الفكرية والتنظيمية، لأزمة الحزب، أبرزت ـ عبر نضاله ـ ظواهر متنوعة، تبعا للسبب الذي ولّدها، وهي:

1. التشتت الفكري عند الحزبيين

فإذا سألت عدداً من الرفاق، حتى من تنظيم واحد، عن قضية أساسية مطروحة على الصعيد الفكرى، ألقيت مجموعة من الأجوبة غير متجانسة، لا في المنطق، ولا في الاستنتاج، ولا في التحليل. وأحيانا يصل الأمر إلى درجة التناقض، في فهم القضية الواحدة، وفي تفسير النص الواحد. وكل ذلك بسبب عدم اغتناء فكر الحزب، بنظرية واضحة بالدرجة الأولى، وبسبب عدم تعميم المتوفر من منطلقات الحزب، تعميماً فعلياً على جميع الرفاق، لغياب المركزية في التوجيه، مما يؤدى إلى فهم أفكار الحزب وموقفه، من خلال الثقافة الذاتية.

2. بروز الآراء الفردية، والانشقاقات غير الموضوعية

إن هذا التشتت الفكري، أدى بدوره إلى بروز الآراء الفردية التي بدأ كل منها يستقطب ـ حسب الاجتهاد والأهواء، وغالبا حسب المصلحة الشخصية ـ مجموعات من الرفاق تدعي كل منها، على تناقضها، أن رأيها هو المنسجم مع فكر الحزب ؛ لأن فكر الحزب كان يتسع لها جميعاً، وكان كل منها يجد له سندا يبرره، حتى إذا دخلت هذه المجموعات عند موقف حاسم، في صراع بينها، من جهة، أو بين إحداهما والحزب، من جهة ثانية، تصلبت كل منها عند تبريراتها غير المستندة إلى أي أساس علمي. وكان يحدث الانشقاق، الذي كان ينتهي بقياداته إلى منزلقات العمالة والتزلف، لتعّوض فشلها.

وكانت اليمينية المسيطرة على الحزب، تدفع كثيراً من الرفاق القواعد، إلى سلوك سبيل الانشقاق غير الموضوعي. وبعد فترة تقف عناصرها عند حواجز اليأس والضياع، إلاّ أن المؤتمر القومي السادس، وضع الحزب أمام منطلقات نظرية جديدة، كأسس أيديولوجية مستقبلة للحزب.

مما جعل الصراع داخل الحزب، يأخذ طابعاً فكرياً نظرياً، أدى ـ من ثم ـ إلى خروج بعض المنشقين، لعدم إيمانهم بقدرة الحزب على تحقيق هذه المنطلقات. وكانت حركة 23 شباط (فبراير) تتويجا لانتصار إرادة الحزب، ضد العقلية اليمينية، وانتصارا لمقررات المؤتمر القومي السادس.

3. ضعف المبادرة، والتخلف عن تفسير الأحداث، والتناقض في المواقف

على الرغم من قيادة حزبنا، لنضال الجماهير العربية، في بعض الأقطار العربية، إلاّ أن تخلف الحزب عن وضع إستراتيجية للنضال القومي، أدى إلى انحسار دوره القيادي للجماهير العربية، في أكثر الأقطار الأخرى، وبدا منفعلا بالأحداث يتأثر بها، وأضعف مبادرته إلى قيادة هذه الجماهير، وبدا في بعض الأحيان، وكأنه يلهث وراء الأحداث.

وكذلك، فإن ظهور تحولات جديدة، وأحداث متعددة طرحت نفسها في الوطن العربي، بعد نشوء الحزب بفترة طويلة (تجربة عبدالناصر، ومشكلة الأقليات في الوطن العربي) وبقاؤها من دون تفسير، أو تحليل، ومن دون حلول وتقييم، وما يجرنا ذلك إليه من التردد في اتخاذ المواقف "مؤتمرات القمة"، والتراجع عن المواقع "عدم استلام الحكم عام 1954"، والانطلاق من الانفعال الآني في اتخاذ المواقف التاريخية، (توقيع عريضة الانفصال واستمرار العنف ضد الشيوعيين في العراق)، والقفز المفاجئ من موقف إلى نقيضه، تجاه القضية الواحدة (الاشتراك في حكم الانفصال، ثم الاستقالة وتوقيع عريضة الانفصال ثم توزيع بيان في اليوم التالي ضده).

4. الحلول الوسطية والتوفيقية، في كثير من الأحيان

إن اشتراك الحزب في الحكم، في ظل الملكية في الأردن عام ـ 1957 ـ وإرسال الحزب في العراق البرقية المشهورة، إلى كل من الجزائر والمغرب أثناء حوادث الحدود عام 1963، ومباركته اتفاقية جدة والسكوت عنها، كل هذه المواقف، وما يرجى من ورائها بنتائج إيجابية، ما هو إلاّ كزرع الغرسة في النار وانتظار الثمار، وما كنا لنشهد مثل هذه المظاهر التوفيقية البالية، لو أن العمق الفكري في الحزب بلغ مستوى المصارحة العلمية، وتصور النتائج، في مثل هذه المواقف.

والأخطر من ذلك، أن تبنى هذه المواقف الوسطية التوفيقية جعل العقلية اليمينية في الحزب قادرة على التشكيك بجدية التحويل الاشتراكي، والتشكيك بالتأميم، واختلاق الأعذار للبورجوازية، ومحاولة مهادنتها، والتنازل لها عن بعض المواقع، كلما اشتدت حشرجتها وهي تحتضر.

مظاهر الأزمة في التنظيم

1. ضعف العلاقات الموضوعية، في الحزب

       بسبب عدم وضوح النظرية في التنظيم، وغياب المهمات اليومية، التي تلف الجهاز الحزبي، وتحدد علاقاته ببقية الأجهزة، والعلاقات الموضوعية لأفراده فيما بينهم، وبسبب سلوكية القيادة العليا، التي تنطلق من توكيد سلطاتها عن طريق الاتصالات الجانبية، لفقرها الفكري، منطلقه في ذلك، لتغطية هذا الفقر بإحلال الولاء الشخصي، محل الولاء للحزب. بسبب كل ذلك تحول التنظيم إلى خلايا، تتمركز وسط كل منها ظاهرة "الفردية المرضية"، التي تستقطب عددا من الموالين والمعجبين والكسالى، الذين يتبادلون الحماية والتبرير. إذن كانت الولاءات الشخصية، لا العلاقات الموضوعية، هي مقياس الولاء للحزب والارتباط به. ونظراً لتنوع المناخ الاجتماعي، الذي تبرز فيه هذه الظاهرة، تتسلل للحزب العلاقات الإقليمية والطائفية والعائلية البرجوازية. ولذا فإن في الحزب أناساً لا يرون حرجا في تبرير أعمال "بطلهم"، ولو كانت موجهة ضد مبادئ الحزب ونظامه، ويجارونه في محاولة إنقاذ كبريائه، ولو بتهديم الحزب والقضاء على ثورته.

2. ضعف المركزية والديموقراطية

إن ضعف المركزية في العمل، وضعف الديموقراطية في التنظيم، أديا إلى ظهور ونمو ظاهرة القطرية، على حساب وحدة التنظيم القومي (ظاهرة الانقطاع عن الاتصال بالقيادة). وكان، أيضاً، من مظاهر ضعف المركزية في الحزب، افتعال صراعات فيما بين المنظمات الحزبية، وتجاوز المؤسسات الحزبية، وتجاهل إرادة القواعد الحزبية (عدم السماح بانعقاد المؤتمر القطري السوري، والهرب من المؤتمر القومي، وحل القيادة القطرية السورية).

3. استبدال مركزية القيادة، بسلطة الفرد ونفوذه

إن الشعور بتضخيم الشخصية، والإصرار على فهم الحزب بأنه مرتسم وظل لشخصية القائد المؤسس (عفلق)، الذي عبر عنه بصراحة في كلمته في اجتماع القيادة القومية، حيث يقول: (إن مأساة الحزب تتمثل بالمأساة الشخصية التي أعيشها).

ذلك الشعور، وذلك الإصرار، قد جعلا من الطبيعي للقادة التاريخيين، أن يفهموا القرار الحزبي على أنه رأيهم الشخصي، حتى يمكن القول إن هذا القرار يتمتع بالشروط الضرورية، للحياة والنفاذ.

إن القائد المؤسس، الذي انقطع عن حضور الاجتماعات الحزبية ستة أشهر، استطاع أن يجر القيادة كمؤسسة إليه، كبديل للحزب، يملك مشروعية تجاوز المؤسسات الحزبية؛ لأن الحزب قد أضحى تكوينا مزيفا في نظره، لأنه قد تجاوز في نموه الحدود المرسومة، التي تبغي الوصاية في مواقع القدرة على القيادة.

وما يقال عن الحزب، يقال عن حكم الحزب في أعلى مستوياته.

وهناك عدة ظواهر أساسية، لا ضرورة للتفصيل فيها، لوضوحها ووجود الدلائل العديدة عليها، ونكتفي بتعدادها.

4. ضعف الارتباط الحزبي، ونمو الاتصالات الجانبية.

5. انعدام المصارحة الحزبية، وفقدان الثقة بين القيادات والقواعد.

6. التجاوزات المتكررة للنظام الداخلي، وعدم تطبيقه في أحيان كثيرة.

7. استبدال التنظيم الحزبي، بتجميع المؤيدين الشخصيين.

8. انعدام المحاسبة الجذرية، وانعدام الجرأة في محاسبة المنحرفين.

مظاهر الأزمة في الأسلوب

1. نمو المناورة، و"التكتكة" بين الحزبيين

هذا المظهر، الذي تسلل إلى الحزبيين في القواعد، كان من طبيعة العمل في القيادات العليا في الحزب، وبين أفراد هذه القيادات. كل يناور الآخر، ويستقطب عدداً ضد الآخر، فإذا أكثرية القيادة موزعة الولاءات، بين عدة أشخاص.

وهذا المظهر يعطل أية فعالية ويؤدى إلى انعدام الربط والضبط الحزبيين.

إن نمو أسلوب المناورة، كان نتيجة عدم إيمان القيادة بالحزب، كمؤسسة متكاملة متماسكة. وأصبح هذا الأسلوب بديلا للكفاءة الحزبية، والسلوك النضالي. وانتقل هذا الأسلوب إلى عدد من الرفاق في القواعد، بحيث يوزع ولاؤها بين أشخاص القيادة. مما عطل العمل الحزبي، وزّيف إرادة القواعد، في تطلعها نحو منظمة ثورية، تسودها علاقات النضال والموضوعية.

2. مهادنة الفئات المعادية

إن دعوات التروي والتعقل، التي كانت ترمى إلى تأخير عملية التحويل الاشتراكي، وإلى الإبقاء على البرجوازية محتفظة ببعض نقاط القوة، ما هي إلاّ مظهر من مظاهر التمييع لطبيعة المعركة، وللأسلوب، الذي يجب أن نخوضها به. كذلك، ما كان يدور في مؤتمرات القمة، من مخططات مع الرجعية العربية لتحرير فلسطين.

وهناك مظهران آخران أساسيان، نشاهدهما في العمل الحزبي، ونلمس أثرهما في تحويل المؤسسة الحزبية، إلى خلية عقيمة، وهما:

أ.  عدم الجرأة في الإفصاح عن المواقف.

ب.  طرح الآراء خارج المؤسسة الحزبية، والعمل على تكوين قناعات مخالفة لرأى الحزب.

       إن تعاظم أزمة الحزب، التي ذُكرت سابقاً، بين قواعده المناضلة، وقيادته اليمينية المتحجرة، أخذ اتجاهاً حاسماً بعد المؤتمر القومي السادس، وبعد تطور الثورة في القطر العربي السوري، مما جعل التعايش أمراً لا يحتمل، خاصة بعد أن عمدت هذه العقلية المتحجرة إلى تعطيل نظام الحزب الداخلي، وضرب مؤسساته، وتجاوزها واتهامها بالتزييف. وراحت تستعدى الرجعية والبرجوازية على الحزب، وتستغل تناقضات المجتمع وأمراضه، من عشائرية وعائلية وطائفية، لضرب الحزب وثورته، وإدانة أسلوبه النضالي، لبناء الاشتراكية. وكان لا بد من عمل، فتحركت قواعد الحزب المدنية والعسكرية، في 23 شباط (فبراير)، لتنهى هذه العقلية، وسيطرتها على الحزب، إلى الأبد.

       ومن هنا، فإن حركة 23 شباط (فبراير) تكتسب أهمية خاصة، من حيث إنها أتاحت للحزب، قدرة التحرك لبناء نفسه، وتخطى الجوانب السلبية، التي رافقت نشوءه. وعلى القيادة القومية المقبلة، أن تطور هذه الانطلاقة، لإغناء تجربة الحزب، وتطوير منطلقاته النظرية إلى إستراتيجية كاملة للنضال القومي، من المنطلقات التالية:

1. تعميق الصراع الطبقي.

2. حرب التحرير الشعبية.

3. تبني الديمقراطية المركزية في الحزب.