إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / حزب البعث، نشأته وتطوره









المبحث الثاني: أوجه الخلاف بين البعث السوري، والبعث العراقي

المبحث الثاني: أوجه الخلاف بين البعث السوري، والبعث العراقي

       يمكن إجمال أوجه الخلاف، بين البعث السوري، من ناحية، والبعث العراقي، من ناحية أخرى، في العوامل التالية:

  1. انتقال بعض رموز الحرس القديم من البعث السوري، إلى البعث العراقي، وتحول الخلاف (الشخصي) بين الحرس البعثي القديم، والجديد في سورية، إلى خلاف (جغرافي) بين البعث السوري، والبعث العراقي.
  2. الخلاف على القيادة القومية البعثية.
  3. الزعامة العربية.
  4. الوحدة العربية.
  5. الخلافات التنظيمية لحزب البعث.
  6. الخلاف بشأن المشكلة اللبنانية.
  7. مشكلة هجرة اليهود العراقيين إلى إسرائيل.
  8. الموقف البعثي من الدين الإسلامي.

       وبداية، يمكن القول إنه لم تكن هناك خلافات على الإطلاق، قبل عام 1963، أي قبل وصولهما إلى الحكم، إذ نشبت بينهما الخلافات فور تقلدهما مسؤولية الحكم: يوم 8 فبراير عام 1963 م في العراق، ويوم 8 مارس من العام نفسه، في سورية ...

أولاً: انتقال بعض رموز الحرس القديم من البعث السوري إلى البعث العراقي

       وفقا للتطور السياسي والفكري، لحزب البعث السوري فإنه يمكن تقسيم تاريخ الحزب، إلى مرحلتين مهمتين:

الأولى: مرحلة الحرس القديم للبعث، وتبدأ من عام 1947 إلى عام 1963.

الثانية: مرحلة الحرس الجديد للبعث، وتبدأ من تاريخ تولي البعث للسلطة في سورية (منذ 8 مارس 1963).

       وفي المرحلة الثانية، تفرقت السبل برموز الحرس القديم. فاعتزل أكرم الحوراني السياسة، واختار الإقامة الدائمة في الأردن؛ ومارس صلاح البيطار، أعمالاً صحفية وإعلامية في بيروت، في حين انتقل إلى بغداد، عدد كبير من رموز الحرس البعثي السوري القديم، وفي مقدمتهم: ميشيل عفلق ـ ومنيف الرزاز ـ وأمين الحافظ ـ وشبلي العيسمي ـ ومصطفى حمدون ـ وعبدالفتاح الزلط.

       ويُعد ميشيل عفلق الشخص الوحيد، الذي شغل منصب أمين عام حزب البعث في سورية عام 1947، ثم في العراق عام 1985. فعندما طُرد من سورية، ومن حزب البعث عام 1966، استقر بعض الوقت في لبنان، وبدأ في ممارسة نشاطه السياسي من بيروت. ثم استقر به المقام في بغداد عام 1970، حيث أسهم مع زملائه في تطوير حزب البعث العراقي، وتولى منصب أمين عام حزب البعث بالعراق عام 1985، إلى أن توفي عام 1989.

       أمّا منيف الرزاز، فقد شغل منصب أمين عام حزب البعث السوري عام 1965، ولكنه بعدما فقد منصبه الحزبي في سورية، نقل نشاطه السياسي إلى العراق عام 1968، حيث انتُخب أمينا عاما مساعدا لحزب البعث العراقي عام 1977، ثم أُقصى عن منصبه عام 1979؛ واُعتقل في العام نفسه، حتى توفي في سجنه بالعراق، عام 1984.

       وفي الوقت نفسه، كان يوجد عدد كبير من البعثيين العراقيين في سورية، خاصة من المنشقين على حزب البعث العراقي. ولكن هؤلاء لم يكن لهم تأثير قوي، في الخلاف البعثي السوري ـ العراقي، مثلما كان الشأن مع رموز الحرس القديم للبعث السوري (عفلق وشركائه)، إذ إن الخلاف الشخصي داخل حزب البعث السوري، بين الحرس القديم والجديد، تحول إلى خلاف جغرافي، بين البعث السوري والبعث العراقي، بانتقال هذه المجموعة من سورية إلى العراق.

       ويثور السؤال حول أسباب انتقال تلك المجموعة، من البعث السوري إلى البعث العراقي، وفي الوقت ذاته، ما أسباب قبول صَدّام حسين لهم؟

* يمكن إجمال أسباب حركة الانتقالات الحزبية، من البعث السوري إلى البعث العراقي، فيما يلي:

  1. افتقاد تلك الشخصيات لمراكزهم السياسية المرموقة، داخل الحزب في سورية، فسعت إلى الاحتفاظ بهذه المراكز، لدى البعث العراقي.
  2. وجدت تلك الفئة في صَدّام حسين ضآلتها المنشودة، في تحقيق أهداف الحزب، لاسيما ما يتعلق بالوحدة العربية.
  3. كان لميشيل عفلق، على وجه الخصوص، أهداف أخرى غير معلنة، يمكن استخلاصها من مواقفه المتتالية، المشجعة للحرب العراقية الإيرانية، والمؤيدة للأطماع العراقية في منطقة الخليج، خاصة دولة الكويت.

* أما أسباب قبول صَدّام حسين، لتلك المجموعة السورية في حزب البعث العراقي، فهي:

  1. رغبة صَدّام في الاستفادة من خبراتهم السياسية والتنظيمية، لتطوير البعث العراقي.
  2. تحويل حزب البعث العراقي من فرع تابع للبعث السوري، إلى أصل بعثي يقود الحركة البعثية في العالم العربي، على أن يكون البعث السوري هو الفرع وليس الأصل.
  3. تجريد البعث السوري من الشخصيات، التي كان يرى صَدّام أنها تفقد البعث السوري قوته، بانشقاقها عنه.

* ولكن .. هل تحققت هذه الأسباب لكلا الجانبين؟

لعل الواقعة التالية تفصح في الإجابة، عن هذا السؤال:

       (قام أحد رجال الإعلام العرب، بزيارة إلى ميشيل عفلق في بغداد عام 1988، للتوسط في السماح لسيدة عربية ـ من بلد شقيق ـ في مغادرة العراق، بعد وفاة زوجها العراقي في ظروف غامضة، فأجابه عفلق قائلاً:

هل تعتقد يا أستاذ أن تكون كلمتي مسموعة في العراق؟

       فقال له الإعلامي: إنك تتمتع بمنصب رسمي كبير، وهو منصب الأمين العام لحزب البعث، الحزب الحاكم.

       فرد عفلق عليه: لا يغرك هذا المنصب، الذي أتولاه، فهو منصب صوري، ليس أكثر من ذلك، ولا يخولني هذا المنصب أن أتعرض لأمر ما مهما كان شأنه، كبيرا أو صغيراً).

ثانياً: الخلاف على القيادة القومية البعثية

القيادة البعثية داخل حزب البعث نوعان:

  1. القيادة القومية: تضم القيادات القطرية البعثية في البلدان، التي لديها تنظيم بعثي.
  2. القيادة القطرية: وهي القيادات البعثية، في التنظيمات البعثية العربية، وهي: سورية، والعراق، ولبنان، والأردن، وفلسطين.

       وبدءاً من عام 1952، اعترفت القيادة القومية للبعث في سورية، بالقيادة القطرية لحزب البعث العراقي، ولم تكن هناك مشكلة حول الزعامة "القومية البعثية"، إذ كان مستقراً أن حزب البعث السوري، هو الحزب الأم، الذي تفرعت عنه بقية الأحزاب البعثية في الدول الأخرى. ولكن بدءاً من عام 1970، بدأ حزب البعث العراقي، ينافس حزب البعث السوري، في تلك الزعامة البعثية، وذلك للأسباب التالية:

  1. انتقال رموز الحرس القديم لحزب البعث السوري إلى العراق، وتزكيتهم لانتقال القيادة القومية البعثية من سورية إلى العراق، باعتبار أنهم فلاسفة الحزب ومؤسسوه الأوائل.
  2. رئاسة صَدّام حسين للعراق، وميله الحاسم إلى أن يكون حزب البعث العراقي هو الحزب الرائد، وليس فرعا لحزب البعث السوري.

       ومن هنا نشأ الخلاف الشخصي بين "صَدّام" العراق، من جانب، و"أسد" سورية، من جانب آخر، على زعامة الحزب للقيادة القومية، إذ يعتبر كل منهما أنه هو الحزب الرائد في المنطقة العربية، وأن الثاني هو الحزب التابع.

       وفي الذكرى الخامسة والعشرين للحركة التصحيحية لحزب البعث السوري، نشرت القيادة القطرية لحزب البعث السوري تقريرها السنوي، وفيه ذكرت العبارات التالية عن العراق:

       (... ويتابع التنظيم العراقي لحزبنا نضاله، في مواجهة النظام الفاشي الحاكم في بغداد، والدفاع عن القضايا الوطنية والقومية، لشعب العراق بكل فئاته 0 وسواء كانت ساحة هذا النضال داخل العراق، أو بين تجمعات العراقيين في الخارج، فإن التنظيم العراقي ينطلق في نشاطه وحركته، من إستراتيجية الحزب القومية، ومن المبادئ والأسس، التي تشكل النهج العام للحزب. ويبذل هذا التنظيم جهودا كبيرة، من أجل وحدة القوى العراقية المعارضة، وتشكيل تحالف وطني وقومي عراقي واسع وفعّال، يكون باستطاعته إنقاذ شعب العراق من مأساته الطويلة، التي لم يعد تحملها ممكناً. ويواصل الحزب المبادرة تلو الأخرى، من أجل توطيد حوار هادف وجاد بين قوى المعارضة، للتوصل إلى قواسم مشتركة يبنى عليها برنامجاً متكاملاً لإنقاذ العراق، وتوطيد نظام ديموقراطي تعددي يحقق المصالح الوطنية والقومية لشعب العراق، وتشارك عبره فعاليات هذا الشعب، في تحمل مسؤولية بناء مستقبل العراق).

ثالثاً: الزعامة العربية

       بعدما اشتد الخلاف السوري (حافظ الأسد)، والعراقي (صَدّام حسين)، على "الزعامة القومية البعثية"، تطور الخلاف بينهما إلى تنازع الزعامة العربية. فكلا الجانبين يتفقان على تقسيم الدول العربية ـ سياسياً ـ إلى:

ـ مجموعة الدول التقدمية:

وتضم ـ من وجهة نظرهما معاً ـ سورية، العراق، ليبيا، اليمن، الجزائر، السودان.

ـ مجموعة الدول الملكية، أو التقليدية، أو الرجعية:

وتضم ـ أيضاً من وجهة نظرهما ـ جميع دول الخليج العربي، والأردن.

ـ باقي دول المغرب العربي:

المغرب، تونس، موريتانيا، وهي ليست ذات تأثير فعال في المنطقة العربية.

ـ مصر:

تارة يتم تصنيفها من الدول التقدمية، وتارة أخرى من الدول التقليدية " وفقاً لطبيعة العلاقات السياسية السائدة، مع كل من العراق أو سورية".

* ومن أمثلة هذا التصنيف، تقرير المؤتمر القومي التاسع لحزب البعث (سبتمبر 1966)، فقد نص على:

       (... والرجعية العربية تقف في جبهة واحدة، مع الاستعمار والصهيونية. وتعمل معها وفق مخطط مشترك ومتكامل، لتنفيذ الإستراتيجية المرسومة للوطن العربي. والتي تتمثل بصورة رئيسية في الدعوى، لإقامة الحلف الإسلامي، وتصفية قضية فلسطين. ويقوم حكم "بورقيبة" في تونس، وفي تحد سافر لأماني الشعب العربي ووجوده، بمهمة التبشير وطرح الحلول الاستعمارية، التي تستهدف إنهاء قضية فلسطين، كالدعوة إلى التعايش والتفاوض، ومن ثم الصلح بين العرب وإسرائيل. وفي الوقت نفسه، يتولى الحكم الملكي الرجعي، في كل من المملكة العربية السعودية والمملكة الأردنية الهاشمية، زمام المبادرة لتنفيذ السياسة الاستعمارية، في الوطن العربي، وفي منطقة الشرق الأوسط، من جانب آخر. ونظراً لأن الحكم الرجعي العميل في المملكة الأردنية الهاشمية، يشكل ركيزة أساسية في استمرار وجود إسرائيل، للترابط المصيري بينهما، وإيماناً من الحزب بوحدة نضال الجماهير العربية، في حرب التحرير الشعبية، وأهمية الدور الطليعي، الذي يقوم به الشعب العربي في الأردن، في انتصار هذه المعركة. فإن المؤتمر يرى في قيام جبهة تقدمية، في هذه المرحلة في القطر الأردني، تضم الحزب والفئات التقدمية والمنظمات الشعبية الفلسطينية المناضلة، خطوة أساسية، وانسجاماً علمياً مع خطة التحرير الشعبية، وتقوم القيادة القومية، مع قيادة قطر الأردن، بتحديد أطراف هذه الجبهة، التي سيكون هدفها الأساسي ـ بلا شك ـ النضال الدؤوب، ضد الحكم العميل، لتهيئة الجماهير وإمدادها وزجها في معركة التحرير الشعبية).

* وفي موضع آخر يرى ذات التقرير أن:

       (... مؤتمرات القمة العربية، هي استمرار في العمل التقليدي إزاء تحرير فلسطين، وتضليل للشعب العربي وامتصاص نقمته، وهي تمييع للقضية الفلسطينية، ومحاولة لإجهاض الأسلوب الثوري الصحيح، لتحرير فلسطين).

* ويؤكد أحد منشورات حزب البعث، على الزعامة السورية للمنطقة العربية، فيما يلي:

       (عندما يهبط الظلام الصهيوني، بين النيل والفرات، ليلقى بظله وثقله وجبروته إلى ما بعد النيل والفرات، كما تقول وثائق صهيون، فالسلام الإسرائيلي يعنى تماماً الاستسلام العربي. فالسلام في عرف المعتدين، هو إيجاد حالة استرخاء في المنطقة، مفروضة بقوة سلاحهم، ومترافقة مع خضوع المنطقة لسيطرتهم، وهذا هو الاستسلام، الذي رفضناه ونرفضه، ولن نسمح أن ينبت وينمو فوق ثرى أرضنا الطاهرة. وبكل أسف، فقد هرول العديد من الحكام العرب لمصافحة هذا العدو، واستقباله، وإقامة العلاقات الدبلوماسية، وعقد الصفقات التجارية والصناعية معه، بينما بقيت سورية "الأسد"، راسخة في مواقفها رسوخ الجبال، ورفضت حضور العديد من المؤتمرات، لمجرد أن إسرائيل تشارك فيها ... لم تعد إسرائيل وحدها أداة التنفيذ، بل انضمت إلى فندق المؤامرة أنظمة عربية، تنكرت للقيم العربية، وللمصالح القومية، أصابها الوهن، أو الخوف، أو سقطت في مستنقع الخيانة، فامتدت أيديها إلى رأس المؤامرة تعرض عليه عمالتها، وتطلب منه حمايتها ... لقد استطاعت إسرائيل فرض شروطها في كامب ديفيد، وكذلك استطاعت أن تحّول المفاوضات الجماعية، مع أبناء الأمة الواحدة إلى مفاوضات ثنائية، ونجحت بتوقيع اتفاقيتي أوسلو الأولى والثانية، مع بعض الرموز الفلسطينية اللاهثة وراء الحصول على الفتات، وإن أدى هذا الفتات إلى التفريط بالحق الفلسطيني ... وفي غياب التضامن العربي، في مفاوضات السلام مع إسرائيل، الذي يتمسك به الرئيس حافظ الأسد، استطاعت إسرائيل أن تعقد الاتفاقات الثنائية المنفردة .. ففي (إعلان واشنطن ـ 1994)، كان العالم كله شهود عيان، على إنهاء حالة الحرب بين إسرائيل والأردن، ووضع خطة لتطبيع كامل بين الدولتين، يتجاوز كل ما هو قائم بين مصر وإسرائيل، وبذلك تكون إسرائيل قد استفردت بدولة عربية أخرى، ودفعتها باتجاه الاستسلام بعد مصر كامب ديفيد، وبعد اتفاقية أوسلو الإسرائيلية الفلسطينية … إن موقف سورية أقوى مما كان، تعبيرا عن المصالح الوطنية والقومية العليا للعرب، ومصالح جميع شعوب المنطقة … لقد نسيت إسرائيل، أو تناست، أن لسورية من القوة المادية والمعنوية، والسياسية والعسكرية والاقتصادية، ما يمكنها من الوقوف بمفردها شامخة كالطود، في وجه التحديات الإسرائيلية في جنوب لبنان، وفي غير جنوب لبنان).

* وعن زعامة حافظ الأسد للأمة العربية، يرى حزب البعث:

       (... في الفترة التي رحل فيها "جمال عبدالناصر"، كانت الأمة العربية على موعد مع "قائد جديد"، وبطل جديد ليتسلم قيادة النضال العربي ضد الإمبريالية والصهيونية، وهو القائد المناضل "حافظ الأسد"، الذي جسّد ظهوره في القطر العربي السوري، حيوية الأمة العربية وقدرتها على إنجاب القادة الكبار في " الزمن الصعب "، وأثناء الأخطار المصيرية، التي تهدد الأمة العربية).

* وفي موضع آخر:

       (... يوجد في سورية قائد عربي، تاريخي شهد بقيادته (الاستثناء) الشرق والغرب، والشمال والجنوب، الرئيس القائد حافظ الأسد، الذي أكدت الأحداث والوقائع حكمته الصائبة، وشجاعته النادرة، في اتخاذ القرارات الحاسمة في المواقف الصعبة، وهو الذي ما زال إلى الآن، يقود السفينة إلى شاطئ الأمان العربي، وهو الذي يشكل المرجعية السياسية، في قرارات الحرب والسلم في المنطقة).

وفي المقابل، خلعت أجهزة الإعلام العراقية صفة "الزعيم العربي"، على صَدّام حسين، فيما وصفته بالعديد من الأوصاف منها: (فارس الأمة العربية ـ عز العرب ـ هبة العراق للأمة العربية ـ هبة السماء في الزمان الصعب ـ باعث النهضة العربية ـ ذخر العراق والأمة العربية ـ صانع المجد العربي ـ المعجزة القومية للأمة العربية ـ القائد النادر بين القادة العرب).

* وعندما تحدث صَدّام عن نفسه، قال:

       (إن صَدّام حسين ولد في محافظة صلاح الدين، لكنه ليس ابن محافظة صلاح الدين وحدها، بل هو ابن محافظة إربيل وابن السلمانية، وابن الأنبار، وهو ابن القادسية وذى قار، وهو ابن دجلة والفرات، ابن بردى والأردن والنيل، ابن دمشق وعمان والقاهرة والدار البيضاء، وهو ابن كل المدن العراقية، وابن الشعب العراقي جميعاً .. ابن الأرض العراقية والهواء العراقي .. وهو ابن الوطن العربي والأمة العربية).

       "وفي أثناء انعقاد مؤتمر القمة العربية، في بغداد في نهاية شهر مايو عام 1990، بدا واضحا أن صَدّاماً يتصرف وكأنه السيد، ويخاطب الزعماء العرب وكأنهم مرؤوسون له !، كان متعاليا شاعراً بالتفوق، وكان واضحاً أنه لا يعد الملوك والرؤساء المجتمعين، أندادا له".

       ".. إن صَدّام حسين، كان يطمح أن يصبح الناطق الأول باسم العرب لدى أمريكا، أي أن يكون الرجل الذي تستطيع أن تسوى معه مشاكل المنطقة، بما فيها المشكلة الفلسطينية. وبعبارة أخرى، كان يطمح في الهيمنة على المنطقة بكاملها، والتفوق على "جمال عبدالناصر"، الذي كان يتمتع بشعبية كبيرة، قائداً وبطلاً عربياً".

رابعاً: الوحدة العربية

       يتفق كل من البعث العراقي، والبعث السوري، على اعتبار "الوحدة العربية"، من أهم الأهداف القومية العربية، وإحدى شعارات حزب البعث (العراقي والسوري) الأساسية.

       ولكن تختلف أيديولوجية تنفيذ هذا الهدف بينهما، فالوحدة العربية لابد أن تتحقق ـ ولو بالقوة ـ من وجهة نظر البعث العراقي، وعلى العكس من ذلك فهي تتحقق ـ بالدعوة السلمية ـ من وجهة نظر البعث السوري.

       وفيما يلي أمثلة مرجعية وعملية لهذا الخلاف، "أسلوب تنفيذ هدف الوحدة العربية عن طريق القوة وفقا لوجهة نظر البعث العراقي، وعن طريق الدعوة السلمية وفقا لوجهة نظر البعث السوري":

* البعث السوري والوحدة العربية

       (إن الوحدة العربية هي العامل الهام، والأساسي في القضاء على مظاهر التجزئة والضعف، وقيام قوة عربية فاعلة، مساحتها حدود الوطن العربي، وأدواتها إمكاناته المادية والبشرية الاقتصادية، وعمل على تحقيق الوحدة العربية، من خلال محاولات مختلفة مع دول عربية متعددة، ليجعل من أي وحدة عربية نواة ومنطلقا لتحقيق الوحدة العربية المنشودة .. وفي إطار الظروف القائمة، واستمرار مظاهر التجزئة، وغياب مظاهر التنسيق والتعاون العربي، فإن الوسيلة الوحيدة، والأداة الأساسية، لتحقيق هدف الوحدة العربية، هي "التضامن العربي" .. إن التضامن العربي ـ من وجهة نظر الأسد ـ ليس بديلاً إستراتيجياً للوحدة العربية، بل خطوة أساسية وهامة، من أجل تهيئة المكانات المختلفة لإقامة الوحدة العربية، على قاعدة التضامن، الذي يستند ويقوم على مظاهر التعاون والتنسيق).

       كما جاء في توصيات المؤتمر القومي التاسع الاستثنائي، لحزب البعث عام 1967 في شأن الوحدة العربية:

       (.. إن هدف " الوحدة العربية يقتضي بذل المزيد من الاتصالات، والعمل في مختلف المجالات، بغية دفع شعار الوحدة إلى حيز التنفيذ، مع الأخذ بعين الاعتبار، على أن يكون أسلوب عملنا، لتحقيق هذه الخطوات، بعيداً عن المواقف الاستفزازية، حيثما أمكن ذلك. وأن يدرس الحزب مختلف الصيغ العملية، التي يمكن بحثها مع الدول العربية المستعدة لذلك، وانطلاقاً من ذلك لابد من السير في طريق التنسيق الجدي، في المجالات العسكرية والسياسية والاقتصادية، مع الدول التقدمية، سواء كان ذلك بشكل ثنائي أو أكثر، حسب الاستجابة المتحققة عند هذه الدول).

* البعث العراقي والوحدة العربية

       يقول صَدّام حسين، عن الوحدة العربية:

       (.. إن الوحدة لكي تتحقق، فإنها تحتاج إلى عمل ثوري رفيع المستوى، ليس عملاً فنياً رفيع المستوى فحسب، وإنما عمل ثوري نضالي، وفي التضحية رفيع المستوى كذلك، بل هو عملية سمو في الفكر، وفي التصرف، إلى مستوى الارتقاء. والوحدة يجب أن تقترن بالنضال، وهي إن تحققت بسهولة، فهذا يعني أنها غير مهمة كثيراً في حياة العرب، وغير مهمة في حساب الإستراتيجيات الدولية، وانطلاقاً من هذا الفهم، نسمى العمل لتحقيق الوحدة، نضالاً وجهاداً لتحقيق الوحدة).

       (.. حزب البعث ولد من رحم الأمة، ليعيد تكوين وبناء نسيجها الاجتماعي، وفي قدراتها الاقتصادية، وطريقة توزيع وتنمية الثروة فيها. فنجد، مثلاً، أن العراقي يرى أن العراق يضيق به، وعليه أن يتحرك خارجه ..).

       ويؤكد هذا المعنى ميشيل عفلق، في كتابه (عهد البطولة)، الذي نشره عام 1989 في بغداد، بقوله:

       (.. العرب اليوم ليسوا مخيّرين بين وحدة شعبية تقدمية، وبين وحدة تقوم على أيدي الملوك والإقطاعيين، بل هم مخيرون بين الوحدة الشعبية التقدمية، التي هي وحدها ممكنة التحقيق، وبين بقاء التجزئة، التي هي نفي لبقائهم ... لن تتحقق الوحدة العربية، إلاّ إذا كانت وحدة مقاتلة .. إلاّ إذا كان الشعب بأكثريته الساحقة مسلحاً، يدافع عنها بالسلاح، إلاّ إذ كانت وحدة حرب التحرير، فالطريق الطبيعي هو في الوحدة العربية، وحدة التحرير، وحدة لدخول المعركة، وحدة الجماهير المسلحة المقاتلة).

وفي موضع آخر من المؤلف نفسه، يضيف عفلق:

       (.. ويجب أن نذكِّر أن أصحاب الغرائز المنحطة هم أكثر عددا من أولئك الذين يتمتعون بشعور نبيل، وبالتالي فإن أفضل طريقة للحكم هي العنف والإرهاب وليس النقاش الأكاديمي)!!

وفي موضع ثالث يقول:

       (.. إننا ننظر إلى الأمة العربية، ونؤمن بأنها أمة واحدة، وهذا الإيمان يدعونا إلى إعلان الانقسام فيها، لأنها لن تسترد وحدتها، ولن تبلغ هذه الوحدة، إلاّ إذا انقسمت على نفسها)!!

ويروي عبدالله الأصنج، وزير خارجية اليمن السابق، في مذكراته هذه الواقعة:

       (.. عندما عُقد مؤتمر القمة العربية في بغداد، وهي التي سميت قمة الصمود والتصدي، حضرت القمة بصفتي وزيراً لخارجية اليمن. وفي الجلسات التحضيرية لاجتماع الرؤساء والملوك، أعلنت موقف اليمن، الذي رفض، يومها، اتفاق كامب ديفيد، ولكني تحفظت على القرار الداعي لعزل مصر. ودافعت عن موقف اليمن، في عدم وجوب عزل مصر عن المجموعة العربية، مما آثار حفيظة الوفد العراقي. وعندما رجعت إلى اليمن، استدعاني الرئيس "علي عبدالله صالح"، وأبلغني أن الرئيس العراقي مستاء جداً من موقفي، ودفاعي الحار عن بقاء مصر في الجامعة. وطلب منى السفر إلى بغداد لتسوية الأمور مع صَدّام حسين. وعندما اجتمعت به في بغداد، حاولت أن أوضح له موقف اليمن النابع من إيمانه القومي، ومن حرصه على الحفاظ على مصر ضمن المجموعة العربية، قاطعني صَدّام ـ بحدة ـ قائلاً: "اسمع يا عبدالله، كفانا كلاماً وشعارات، إن العراق يبنى شعبا وجيشاً قوياً، وإنني إذا وقفت اليوم في الجيش مخاطبا وأدعوه للتحرك، فإنه سيصل غداً مساءً إلى مسقط).

* واقعة غزو العراق للكويت، التي كان من بين دوافعها ـ المتعددة ـ فرض الوحدة العربية بالقوة، وزيادة رقعة العراق السياسية، على حساب الكويت. وكانت هناك مقدمات سياسية لتلك الواقعة الغريبة، سعى إليها صَدّام حسين، لتجنب وقوف كل من المملكة العربية السعودية، ومصر، إلى جانب الكويت:

  • في سبيل تحييد موقف "المملكة العربية السعودية"، سعى صَدّام إلى توقيع معاهدة" عدم اعتداء بين العراق والسعودية " بتاريخ 20 شعبان سنة 1409 هـ، الموافق 27 مارس (آذار) عام 1989. وهي من أربعة مواد، وتنص على عدم استخدام القوة في العلاقات القائمة بينهما، وفض أية منازعات يمكن أن تنشأ بينهما، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدولة الأخرى، ووقعها عن العراق: رئيس الجمهورية العراقية (صَدّام حسين)، وعن المملكة العربية السعودية خادم الحرمين الشريفين (فهد بن عبدالعزيز آل سعود)، ملك المملكة العربية السعودية.
  • سعى العراق إلى تكوين "مجلس التعاون العربي"، الذي أعلن في 16 فبراير عام 1989. ويضم: العراق ـ ومصر ـ والأردن ـ واليمن، وذلك لتطويق السعودية جغرافيا من ناحية، وتوريط مصر في عملية غزو الكويت، من ناحية أخرى. ولكن عند وقوع جريمة غزو العراق للكويت، وقفت كل من المملكة العربية السعودية ومصر إلى جانب الحق الشرعي للكويت، وأعلن "حسني مبارك" انسحابه من هذا المجلس، وأطلق عليه ـ ساخراً ـ مُسمى "مجلس التآمر العربي".

* بعد إعلان "مجلس التعاون العربي"، كان صَدّام يلوّح بقوته غمزاً ولمزاً، ففي إحدى تصريحاته قال:

       (.. الثروة في السعودية تستثير أطماع كثيرين، وجيش قوى في العراق يستثير مخاوف كثيرين)!!..

* وعن الوحدة العربية يقول صَدّام، في مقال له بعنوان " إنجاز الثورة الأعظم":

       ( .. إننا لا نعتبر الرقعة، التي نقف عليها، هنا في العراق، هي نهاية المطاف، في نضالنا، بل إنها جزء من أرض وأهداف أوسع منها، وهي الوطن العربي، وأهداف الوطن العربي، والعمل الوحدوي).

ويلخص خادم الحرمين الشريفين، "الملك فهد بن عبدالعزيز"، تلك الحقيقة، بعبارة موجزة عن صَدّام:

       (.. أنا سمعت بأذني، من بضع سنوات، قول صَدّام في أحد أحاديثه لمجتمعه، وفي الإذاعة، إنه لا يطمئن أبدا إلاّ أن يحكم "البعث" جميع البلدان العربية .. إنه إنسان أراد أن يبتلع دولة، ويبتلع الدولة التي تليها).

خامساً: الخلافات التنظيمية لحزب البعث

* يمكن إيجاز أوجه الخلافات التنظيمية، بين البعث السوري والعراقي، فيما يلي:

  1. حزب البعث السوري من التنظيمات الحزبية المدنية، بمعنى أنه يسمح بالعضوية المتساوية لكل مشارك في الحزب، شأنه شأن كل الأحزاب السياسية.

ولكن حزب البعث العراقي يستخدم أسلوب التنظيم العسكري، إذ تبدأ بنية الحزب من (الخلية)، وهي تمثل وحدة الحزب الصغرى، وتتكون من ثلاثة أشخاص، ثم تليها (الفرقة) وهي تتكون من (2 ـ 7) خلايا حزبية، تليها (الشعبة)، التي تتكون من فرقتين على الأقل، ثم (الفرع)، الذي يتكون بدوره من شعبتين، على الأقل. ويتكون حزب البعث العراقي من (22) فرعاً، فرع لكل محافظة من المحافظات (18 محافظة)، إضافة إلى ثلاثة فروع، في بغداد العاصمة.

  1. التدرج في العضوية: تتكون عضوية حزب البعث، من خمسة مستويات هي: عضو تحت التمرين ـ نصير درجة ثانية ـ نصير درجة أولى ـ مؤيد ـ صديق، في حين أن عضوية حزب البعث السوري من مستوى واحد (عضو).
  2. استخدام حزب البعث العراقي القوانين العسكرية في النشاط الحزبي:

* تم تعديل قانون العقوبات العراقي عام 1974، ليتضمن العقوبات التالية:

  • يعاقب بالإعدام كل من انتمى إلى حزب البعث العربي الاشتراكي، وأخفى انتماءاته وارتباطاته الحزبية السياسية السابقة.
  • يعاقب بالإعدام كل من انتمى، أو ينتمي، إلى حزب البعث العربي الاشتراكي، وهو على علاقة ما بأي جهة حزبية، أو سياسية أخرى.
  • يعاقب بالإعدام كل من انتمى، أو ينتمي، إلى حزب البعث العربي الاشتراكى، ثم ينتمى ـ بعد قطع علاقته بحزب البعث ـ إلى أي جهة حزبية أو سياسية، أو يعمل لحسابها، أو مصلحتها.

       وفي عام 1978، أصدر مجلس قيادة الثورة العراقية قانوناً، يقضي بفرض عقوبة الإعدام على كل عسكري أحيل للتقاعد ـ بعد 18 يوليه 1968 ـ وكذلك كل عسكري متطوع (من رجال الجيش والشرطة والأمن العام والمخابرات)، سُرّح من الخدمة بعد التاريخ المذكور، لأي سبب من الأسباب، في حالة ثبوت انتمائه إلى حزب، أو جهة سياسية، عدا حزب البعث.

       كذلك الأمر بشأن أسلوب الاختلاف، في وجهات النظر. فخلال الحرب العراقية ـ الإيرانية، أعلن الإمام "الخميني" أن إيران ستوقف الحرب، إذا خرج صَدّام حسين من الحكم. فاجتمع حاكم العراق بمجلس قيادة الثورة العراقية، وأعضاء الوزارة، وطلب رأيهم فيما قاله الخميني، وسكت الجميع خوفاً من إبداء وجهات نظر تغضب الحاكم، إلاّ أن وزير الصحة (رياض إبراهيم) قال:

       ـ سيدي الرئيس، هذه ستكون تضحية منك لصالح العراق.

       فكان جواب صَدّام حسين، أن أخرج مسدسه وأطلقه على الوزير ـ رياض إبراهيم ـ فأرداه قتيلاً، أمام زملائه على منضدة الاجتماعات!!..

سادساً: الخلاف في شأن المشكلة اللبنانية

       عمدت فلول الحرس البعثي القديم، الذين نزحوا من سورية إلى لبنان عامي 1965، 1966 إلى نشر الفرقة العربية وتأليب القوى السياسية العربية، بعضها على بعض، مستغلين وجود القضية الفلسطينية، على المسرح السياسي اللبناني، وخلافات الفلسطينيين مع الحكم اللبناني، خاصة عندما انتهت فترة رئاسة (سليمان فرنجيه)، وانتخاب (إلياس سركيس) خلفاً له. وقامت القوات الفلسطينية ببعض التجاوزات داخل لبنان، بما يمس السيادة اللبنانية. وكذلك، تدخل القوى الخارجية المتعددة ـ سواء كانت عربية أو غير عربية ـ في الساحة اللبنانية. ولهذه الأسباب مجتمعة، عُقدت القمة العربية السداسية في الرياض، برئاسة الملك (خالد بن عبدالعزيز)، وأصدرت قرارها الشهير، الذي يؤكد حق الجيش السوري في الوجود بلبنان. وحظي هذا القرار بتأييد دولي واسع. وعقب ذلك، عقُدت اجتماعات الطائف بين السياسيين والنواب اللبنانيين، تنفيذا لقرار قمة الرياض العربية، لإنهاء الأزمة اللبنانية، وتكليف الجيش السوري بمهمة فرض الأمن والنظام في لبنان. ولكن صَدّام حسين، الذي كان يعارض هذا القرار العربي، بدأ في التدخل العلني في سورية ولبنان. ووقعت سلسلة من الاغتيالات السياسية، ومحاولات الاعتداء على قادة حزب البعث في سورية. وكان معظم، الذين تم اغتيالهم من "البعثيين العلويين". واتهمت إذاعة دمشق، ما أسمته صراحة "الزمرة الفاشية العشائرية التكريتية"، الحاكمة في بغداد، بتدبير تلك الاغتيالات. ونشبت منذ ذلك الوقت ـ عام 1976 ـ حرب إعلامية شرسة بين البعث السوري، من جانب، والبعث العراقي، من جانب آخر.

سابعاً: مشكلة هجرة اليهود العراقيين إلى إسرائيل

       في عام 1920 م كان بالعراق حوالي 87 ألف يهودي. وكانت التجمعات والنوادي اليهودية في بغداد، مركزاً رئيساً للحركات الصهيونية في تلك المنطقة. وفي مارس 1921، أسس "أهارون ساسون إلياهو"، جمعية صهيونية في مدينة البصرة. واستمر نشاط تلك الجمعية حتى عام 1935، حيث أوقفت السلطات العراقية نشاطها، وأُبعد أهارون عن العراق. ثم أصبح عدد اليهود بالعراق عام 1948، حوالي مائة وعشرين ألف يهودي. والغريب في الأمر أنه عند إعلان إنشاء دولة إسرائيل في ذلك الوقت (1948)، سمحت السلطات العراقية لهؤلاء اليهود بالهجرة إلى إسرائيل ولم يبق منهم في العراق سوى عدد قليل جدا (يراوح بين 4 : 5 آلاف يهودي)، كان يسكن معظمهم في بغداد والبصرة، وكان أكثرهم يعمل في التجارة، خاصة "أعمال الصاغة".

       وفي عام 1975 (في عهد أحمد حسن البكر)، سمحت العراق لليهود من أصل عراقي، المقيمين في إسرائيل، بالعودة مرة أخرى إلى العراق!. وقد ذكر الفريق الركن "حردان التكريتى"، في مذكراته عن أسرار "عودة اليهود إلى العراق" ما يلي:

       (عقد لقاء مهم في باريس عام 1968، ضم كلاً من ميشيل عفلق، واللورد سيف (إسرائيلي عربي)، حيث تم الاتفاق على السماح لليهود العراقيين بالهجرة إلى إسرائيل، عن طريق قبرص، وبقاء الجيش العراقي في الأردن، بعد انقلاب 30 يوليه عام 1968. وهذا البقاء ليس تحسبا لهجوم إسرائيلي على العراق، إذ تم الاتفاق على عدم اعتداء إسرائيل على العراق، مقابل عدم اشتراك العراق في أي عملية ضد إسرائيل، أو حتى المشاركة، في الدفاع عن الأردن.

       وعندما نشر "حردان التكريتي" تلك المذكرات، (التي نشرها شقيقه عبدالله طاهر التكريتى في شهر أغسطس عام 1971)، وجه البعث السوري اتهامات كثيرة للبعث العراقي منها: "خيانة قضية فلسطين ـ والتآمر التكريتي ضد الأمة العربية ـ وشبهة الاتفاق العراقي الإسرائيلي".

ثامناً: الموقف البعثي من الدين الإسلامي

       يمكن القول إن الفلسفة الفكرية للبعث، تتناقض مع الدين الإسلامي جملة وتفصيلا. وفيما يلي بعض المواقف الفكرية، والاتجاهات العقائدية البعثية، بالنسبة للدين الإسلامي:

* في مقال "معالم الاشتراكية العربية" لميشيل عفلق، يقول:

       (إن النظريات الاشتراكية لا تعترف بالوطن، منفصلة عن كل رابطة تاريخية واجتماعية، متمردة على الدين السائد، والأخلاق المعروفة، بالجملة كانت ثورية إلى أبعد حد ... واليوم المحرك الأساسي للعرب، التي هي كلمة السر، التي تستطيع وحدها أن تحرك أوتار قلوبهم، وتنفذ إلى أعماق نفوسهم، وتتجاوب مع حاجاتهم الحقيقية الأصيلة .. لا يمكنهم أن يفهموا لغة غير لغة القومية).

* في عام 1982، أصدر المؤتمر القطري التاسع لحزب البعث، بيانا من 304 صفحة، جاء فيه بخصوص الدين الإسلامي:

       (إن الظاهرة الدينية ظاهرة انقسامية، وليس توحيدية للشعب العربي، في حين أن حركة القومية العربية أثبتت قدرتها، في الخمسينات والستينات، على حشد كل الشعب العربي، بكل أديانه وطوائفه في النضال، ضد القوى والدوائر الاستعمارية، في بلدان العالم الثالث، والمصالح الاستعمارية، والأخطار الصهيونية. كذلك، فإن الظاهرة الدينية في العصر الراهن، ظاهرة سلفية ومتخلفة في النظرة وفي الممارسة، وهي تأتى في عصر سمته الأساسية، وشروط التقدم والقوة فيه، هي العلم والتكنولوجيا، وخلق الثروة واستخدامها استخداما كاملا، وتوزيعها على أسس عادلة).

ويضيف البيان ـ بكل أسف ـ صراحة:

       (.. بعد سيادة الظاهرة الدينية على الوطن العربي، والتي لا يمكن أن تكون بالنتيجة إلا طائفية تعصبية، أو على المشرق العربي على أقل تقدير ... ومن النواحي العلمية والتقنية والعسكرية، بين هذه المجموعة من الدويلات المتناحرة والمتخلفة، التي تسيطر عليها قوى سلفية ... إن النضال ضد انحرافات الظاهرة الدينية، هو اليوم في مقدمة المهمات، التي يتعين على حركة الثورة العربية خوضها، وإن الذي لا يدرك هذه المهمة، إما سطحي وعاجز عن التحليل العميق للأمور، وبالتالي لا يصلح للقيادة، أو مشبوه ومتآمر، يريد تقويض الكيانات العربية، وتقسيمها بين الكتل الدولية. لذلك، وقياساً على هذه الحالة، وحالات أخرى، قد يصلح التيار الديني في حالة، أو حالات خاصة، لإسقاط الأنظمة المعادية للشعوب، ولكنه لا يصلح في قيادة الشعب، من خلال ناحية السلطة السياسية، وفي إدارة شؤون البلاد، وبخاصة عندما ينفرد بالسلطة ويفرض سيطرته، بالقوة والإرهاب).

ويضيف البيان، في إلحاد ظاهر:

       (إن الظاهرة الدينية، ليست جديدة في الأقطار العربية. وكان العراق من بين الأقطار، التي شهدت نشوء أحزاب وحركات وتيارات دينية، وعلى أساس طائفي ـ طبعاً ـ أسوة بما حصل في الأقطار الأخرى ... وإن الخصم الأساسي، الذي استهدفته هذه الأحزاب والحركات والتيارات، كان دائما الحركة القومية العربية، وطليعتها الثورية الباسلة، حزب البعث العربي الاشتراكي).

وفي موضع آخر:

       (.. إذا كانت مفاهيم وممارسات التدين، قد اعتبرت من قبل بعض الرفاق، بديلاً أخلاقياً أو عقائدياً عن حزب البعث العربي الاشتراكي، وسبيلاً لحل المسائل الجوهرية في الحياة، فلماذا اختاروا حزب البعث العربي الاشتراكي؟ ولماذا بعد أن قطعوا شوطاً طويلاً في الحزب، يريدون فرضها عليه، أو إشاعتها فيه، من دون أن يكون لذلك أساس في عقيدة الحزب، وفي تقاليده).

ويقول صَدّام حسين، في كتاب له بعنوان "نظرة في الدين والتراث":

       (عندما نتحدث عن الدين والتراث، يجب أن نفهم أن فلسفتنا ليست التراث ولا الدين بحد ذاتهما، إن فلسفتنا ما تعبر عنه منطلقاتنا الفكرية، وسياستنا المتصلة بها، وأن من الأمور المركزية في مجتمعنا، والمؤثرة في خلقنا وتراثنا وتقاليدنا، هو الماضي بكل ما يحمل من عوامل الحياة وتقاليدها، وقوانينها، وكذلك الدين، ولكن عقيدتنا ليست حصيلة كل ما يحمله الماضي والدين، وإنما هو نظرة شمولية متطورة للحياة، وحل شمولي لاختناقاتها وعقدها، لدفعها إلى أمام على طريق التطور الثوري، إن حزبنا ليس حزباً دينياً، ولا ينبغي أن يكون كذلك ..).

وقد اعترف الدكتور سامي الجندي، في كتابه "البعث"، بتلك الحقيقة، حيث قال:

       (لقد ألحدنا بكل الطقوس والعلاقات والأديان، بحثا عن المعركة في كل مكان. كان في حكامنا عنف كثير، يضللنا في كثير من التفاصيل، مطلقة نرى الجهل والغفلة خيانة، مادامت نتائجها متساوية. اُتهمنا بالإلحاد، وكان ذلك صحيحاً أيضاً، رغم كل ما زعم البعثيون فيما بعد من مزاعم التبرير، نؤمن بالشعور الديني، بصوفية الأديان ونزعتها الكلية للإنسانية، أما دين الآخرين فقد كنا ضده، وعندما أصبح لدى حزب البعث العربي الاشتراكي فعالية في الحكم، أخذ ينشر علنا مبادئه العلمانية، لفرضها على مجتمع مسلم محافظ).

* كما أصدر شبلي العيسمي، كتاب، (العلمانية والدولة الدينية) عام 1986 بالعراق، وجاء به:

       (إن العلمانية هي مذهب من المذاهب السياسية الاجتماعية المعاصرة، وهي تعنى الفصل بين السياسة والدين، وإنها نظام من المبادئ والتطبيقات، يرفض كل صورة من صور الإيمان الديني، والعبادة الدينية، وبالأخص في التعليم العام).

ويضيف:

       (إن العلمانية مسؤولية فكرية، تقف في وجه من يحتكر الدين ويحكِّمه، في جميع مساعي الإنسان. والعلمانية الفلسفية ليست الكفر، إن أوروبا علمنت الفكر، ونحن لا نزال نستره بحجاب قدسى، وعلينا أن نقوم بكشف الحجاب. وهدف كل موقف علمي، هو فضح الثوب التنكري التمويهي، الذي ارتداه الفكر الإسلامي العربي).

ويضيف فيلسوف آخر، من فلاسفة البعث ما يلي:

       (إن الدين، كما يدخل في صميم حياتنا، وكما يؤثر في تكويننا الفكري والنفسي، يتعارض مع العلم، ومع المعرفة العلمية قلباً وقالباً، روحاً ونصاً. العلم والعصرية يعنيان، مثلاً، العلمانية وفصل الدين عن الدولة ؛ لأن عقلية الشعب العربي، تفضل الاستشارة الصحية الآتية من الشيخ والساحر، على مشورة الطبيب الأخصائي، وتهزه التمتات الدينية، أكثر بكثير مما يؤثر فيها اكتشاف علمي، أو أخطر اختراع صيني في العالم. كذلك، فإن وجود الأنظمة التقدمية والاشتراكية في الوطن العربي، هو الثورة على هذا العبء من التخلف، الذي حمله الإنسان العربي، وليس مهادنته ومسايرته، ومماشاته، والإحجام عن الإجراءات الثورية الاشتراكية الموجهة، بحجة مراعاة مشاعر الجماهير الدينية).

ـ ويرى فيلسوف الحزب (ميشيل عفلق) أن:

       (الدولة الدينية كانت تجربة في القرون الوسطى، وتجربة انتهت بالفشل، وكلفت البشرية كثيرا من الجهود، ومن الدماء، ومن المشاكل، وحدثت تقريبا في أوقات متفرقة في البلاد الإسلامية، وفي أوروبا المسيحية ... الإسلام كان المحرك للعرب، أما اليوم فالقومية وحدها هي الأساس، ولا يمكن أن يَفْهم العرب لغة غيرها).

* والفارق الدقيق بين البعث السوري والعراقي، فيما يتعلق "بالدين الإسلامي"، يمكن إيجازه فيما يلي:

  1. ظلت تلك الأفكار العلمانية تراود أذهان قيادات البعث السوري، ولكنها لم تخرج إلى حيز التنفيذ.
  2. يعيش في المجتمع السوري، كل الطوائف الدينية غير الإسلامية في سلام وأمان، مع المسلمين.
  3. يطبق نظام البعث العراقي تلك المبادئ، ويعمل بها.