إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / القومية العربية









الفصل الأول

الفصل الأول

الجذور التاريخية للقومية العربية

       يمكن تعقب البدايات الأولى لوعي العرب بأنفسهم، كجماعة مختلفة عن غيرها، من الأقوام المجاورة، خلال القرنين السابقين على ظهور الإسلام، في القرن السابع الميلادي (610 ميلادية). فعلى الرغم من توزع سكان شبه الجزيرة العربية إلى قبائل، مشرذمة متصارعة، إلاّ أن تهديد جيرانهم الأقوياء، من ثلاث جهات، جعلهم يشعرون بروابطهم المشتركة، ويتضامنون في رد محاولات الغزو من هؤلاء الجيران: الإمبراطورية الساسانية الفارسية من الشرق، والإمبراطورية الرومانية البيزنطية من الشمال والغرب، والإمبراطورية الحبشية من الجنوب. وكانت أطراف شبه الجزيرة العربية، في ذلك الوقت، (عصر ما قبل الإسلام)، أكثر استقراراً وتحضراً من قلب الجزيرة، وذلك بحكم قربها وتفاعلها مع جيران أكثر علماً وقوة ومدنية، ونشأت فيها بالفعل ممالك، أو إمارات عربية صغيرة، ولكنها مستقرة نسبياً. وكانت هذه الممالك، مثل المناذرة (على الحدود بين فارس وشرق شبه الجزيرة العربية)، والغساسنة (بين بيزنطة وشمال شبه الجزيرة العربية)، وحمير وسبأ (بين جنوب غرب شبه الجزيرة العربية والحبشة)، بمثابة خطوط الدفاع الأولى في مواجهة الإمبراطوريات المجاورة. وفي حالة هزيمة إحدى هذه الإمارات، كان النظام الاجتماعي سرعان ما يرتد إلى فوضى قبلية وعشائرية، شأنها في ذلك شأن الحياة في قلب شبه الجزيرة العربية.

       ومع ذلك، ففي هذا السياق الذي يغلب عليه القبلية، والفوضى، والتشتت، والصراع، بدأت البذور الأولى للوعي "بالعروبة". ونمت هذه البذور، تدريجياً، من خلال عدة عوامل:

العامل الأول

       الإحساس بالأخطار الخارجية المشتركة من جيران أقوياء.

العامل الثاني

       توحيد اللهجات القبلية العديدة؛ فقد ظهرت لهجتان أو ثلاثة، كان لها الغلبة على بقية اللهجات، إمّا لأن القبائل، التي تتحدث بها، كانت هي الأكبر والأقوى؛ أو لأن بعض أبنائها تولوا تحويلها إلى "لغة مكتوبة". وروَّج هذه اللهجات المكتوبة تدوين الأشعار بها؛ بما في ذلك أشهر القصائد، التي عُرفت بعد ذلك "بالمعلقات". وأصبحت اللهجة القرشية، المكية المكتوبة، هي أحد القواسم اللغوية المشتركة، بين معظم قبائل شبه الجزيرة العربية. وهذه اللهجة المكية المكتوبة هي التي نزل بها القرآن الكريم، في القرن السابع الميلادي. وبذلك أصبحت هي اللغة العربية المعتمدة، وأصبحت العمود الفقري للهوية العربية منذ ذلك الوقت، وحتى الوقت الحاضر. وأصبح تعريف "الإنسان العربي" هو ذلك الإنسان الذي يتحدث اللغة العربية كلغة أولى "أم".

       وتواكب، مع توحيد اللهجات، ما طرأ على شبه الجزيرة العربية من محاولات للنهوض السياسي، استعداداً لدفع الخطر الخارجي، أو في أعقاب معارك مع مصادر هذا الخطر شرقاً (الفرس)، وغرباً (بيزنطة)، وجنوباً (الحبشة). من ذلك تأسيس مملكة كنده، في أعقاب انتصار العرب على الفرس، في معركة "ذي قار".

العامل الثالث

       التجارة فقد كانت قوافل التجارة، بين الشام واليمن، ومصر والعراق، تصادف بلداناً وأقواماً مختلفين. وكان التجار العرب، بصرف النظر عن قبائلهم، يشعرون بالألفة مع العرب الآخرين، على طول امتداد طرق القوافل. كانت حياة "البداوة"، وحياة "التجارة"، على ما بينهما من فروق، تساعد العربي على اكتشاف اللمسات المشتركة في أسلوب الحياة، والثقافة، فيمن سيعرفون، فيما بعد، باسم "العرب".

العامل الرابع

       الحج إلى مكة، حيث توجد "الكعبة"، التي أحاطها أهلها بهالة من التقديس والتعظيم، على أساس أنها بيت إبراهيم عليه السلام. وفيها مارس عرب ما قبل الإسلام دياناتهم الوثنية، والتي اقترب بعضها من الديانتين اليهودية والمسيحية. فعلى الرغم من عبادتهم للأصنام، إلاّ أنها كانت ترمز إلى آلهة محلية قبلية، وكان يتوسطها إله مشترك أكبر، يسمى "اللات" وهو اسم محرف عن اسم "الله" تقدسه كل قبائل غرب شبه الجزيرة العربية، واليه يحجون في الكعبة بمكة. وكان هذا الإله المشترك، والحج إلى بيت "الله" الحرام، أحد عوامل الوعي المشترك بين قبائل شبه الجزيرة العربية "بعروبتها".

       ولكن هذا الوعي "بالعروبة" ظل وعياً هلامياً غامضاً، لم يدفع العرب إلى الوحدة، أو إقامة دولة محددة إلى أن ظهر النبي محمد، صلى الله عليه وسلم (570 ـ 632م)، وظهر الإسلام، كخاتم الرسالات السماوية. وأعطى الدين الجديد، للقبائل العربية المتناحرة، عروة وثقى مكنتهم من الارتقاء بحياتهم الجماعية، وحمل الرسالة إلى كل بقاع الأرض المعروفة وقتذاك. وفي غضون قرن واحد، من ظهور الدين الجديد، كان عرب شبه الجزيرة العربية قد شيدوا أكبر إمبراطوريات التاريخ، التي امتدت من سور الصين شرقاً إلى جبال البرانس، على الحدود الإيبيرية  ـ الفرنسية غرباً.

       ومع الإسلام، نشر عرب شبه الجزيرة العربية لغتهم، خلال القرون الثلاثة التالية، وبذلك شهدت المنطقة الممتدة من العراق إلى المغرب الأقصى أكبر عمليتين شهدهما العالم القديم إلى ذلك الوقت، وهما عملية "الأسلمة" أي دخول الناس في الإسلام أفواجاً، وعملية التعريب: أي تعلم الشعوب للغة العرب، باعتبارها لغة القرآن، وشعائر الإسلام، مما أدى إلى ارتفاع شأن العروبة والاعتزاز بها.

       وما كان "للأسلمة" و"التعريب" أن يتما بالسرعة والعمق، اللذين حدثا بهما، إلاّ من خلال التفاعل والتزاوج بين عرب الجزيرة، وسكان البلاد التي فتحوها، وخاصة في العراق والشام ومصر والمغرب. وساعد على هذا التفاعل والتزاوج القيم، التي أتت وتعمقت مع الدين الجديد، والتي ناهضت التعصب العرقي، حيث لا فضل لعربي على أعجمي إلاّ بالتقوى. وكذلك صلات نسب وقرابة بعيدة بين عرب الجزيرة وسكان تلك البلدان. فمن الثابت تاريخياً، أن شبه الجزيرة العربية كانت دائماً منطقة طاردة للسكان، نتيجة شح مواردها الطبيعية، مقارنة بالأقاليم المجاورة: بلاد الرافدين، والهلال الخصيب، ووادي النيل. وخلال القرون السبعة السابقة لظهور الإسلام تدفقت موجات هجرة متتالية من الجزيرة إلى تلك البلدان. ويقول المؤرخ فيليب، حتي: إن أولى هذه الموجات توجهت إلى وادي النيل؛ بينما توجهت ثانيتهما إلى بلاد الرافدين؛ والثالثة إلى بلاد الشام (الهلال الخصيب)؛ والرابعة إلى الحبشة. وقد سجل علماء اللغة العربية أن لغات تلك البلدان قد تفرعت جميعاً من جذور سامية ـ حامية، وهو الأمر الذي سهل عملية التعريب.

       ومع اكتمال عمليات "الأسلمة" و"التعريب" و"التفاعل" و"التزاوج"، بزغت ثقافة تأليفية بالغة الثراء: منبعها، ومجراها الرئيسي هو العربية من الجزيرة وروافدها، من كل البلدان المفتوحة، من الهند إلى الأندلس، مروراً بفارس والعراق والشام ومصر والمغرب. لذلك كانت "الثقافة العربية ـ الإسلامية) مع القرن العاشر الميلادي (الثالث الهجري)، قد أصبحت الثقافة الرائدة والقائدة في العالم. وأصبحت اللغة العربية هي لغة العلوم والفنون والآداب. ومنها، وإليها، تُرجمت أمهات الكتب والمراجع، ووفد إلى بلادها طلاب العلم، من كل مكان خارج العالم العربي ـ الإسلامي، ممَّا أعطى العرب إحساساً إضافياً بذواتهم وقدراتهم وإنجازاتهم.

       ومع ذلك لم يخل الأمر من تحديات معاكسة للعرب والعروبة. وكان، من أهم هذه التحديات، الحركة التي عرفتها الدولة العباسية، والتي عرفت "بالشعوبية". نشأت هذه الحركة في أوائل الدولة العباسية، بين الشعوب المغلوبة، ولاسيما الفرس. وكانت الحركة تقاوم الاعتداد العربي والهيمنة العربية على مقدرات المجتمع والدولة، في الإمبراطورية الإسلامية. وبدأت الحركة بداية مشروعة تطالب بإعمال نصوص الإسلام في التسوية بين جميع المسلمين، بصرف النظر عن أصولهم وأجناسهم. ولكنها سرعان ما تحولت إلى السخرية من العرب، من ادعاءاتهم بالتفوق العقلي والأدبي، وخاصة في الشعر. ثم سرعان ما بدأت تُحِقِّر من شأن العرب، وتتهمهم بالبداوة والخشونة والتخلف. وفي المقابل بدأ كل فصيل، من فصائل الحركة الشعوبية، يظهر مآثره وأفضاله ومفاخره، قبل الإسلام، وبعد دخول الإسلام.

       وكان تأثير الشعوبية على الوعي القومي، لدى العرب، سلبياً في البداية، وإيجابياً على المدى البعيد. فقد أجبرت الشعوبية العرب على الدفاع أو رد الفعل المضاد، وفي هذا الصدد، عمقت الوعي الجماعي للذات العربية ومآثرها، وخاصة في حمل لواء الإسلام في قرونه الأولى، وفي أن الله، سبحانه وتعالى، اختار "العربية" لينزل بها قرآنه الكريم، فضلاً عن أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، الذي جاء بالرسالة كان نبياً عربياً.

       والخلاصة هي أنه، مع القرن الثاني عشر الميلادي "الخامس الهجري"، كانت قد اكتملت كل المقومات "الموضوعية" للقومية العربية: لغة واحدة، وثقافة واحدة، ودين للأغلبية العظمى، وأنظمة اجتماعية واحدة أو متقاربة، ووعي جماعي مشترك بالعروبة، والاعتزاز بها.

       ولولا أن الإمبراطورية العربية ـ الإسلامية، ككل الإمبراطوريات التي سبقتها، أو لحقتها، دخلت دور التفكك والانحلال، بين القرنين الثالث عشر والخامس عشر، لكانت القومية العربية قد ظهرت، بالمعنى الحديث، الذي ظهرت به في أوروبا بعد ذلك بقرن واحد، أي ابتداء من القرن السادس عشر. ومن ثم كان لابد للقومية العربية أن تنتظر أربعة قرون أخرى، إلى القرن التاسع عشر، على الأقل، قبل أن تعلن عن نفسها كحركة فكرية سياسية ذات مشروع توحيدي.