إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / القومية العربية









الفصل الثاني

الفصل الثاني

فجر القومية العربية

       يمثل القرن التاسع عشر، فجر "القومية العربية"، بالمعنى الحديث لاصطلاح "القومية"، أي المعرفة والشعور والحركة، بين جماعة من الناس، بأنهم أمة متميزة ومختلفة عن غيرها من الأمم. والمعرفة والشعور والحركة هي جميعاً عناصر "ذاتية". فإذا كان العرب قد اكتسبوا كل المقومات الموضوعية "للأمة"، في القرون الميلادية العشرة الأولى، فإن المكمل الوظيفي، وهو "القومية" (أي المعرفة والشعور والحركة)، لم يتحقق إلاّ بعد ذلك بتسعة قرون.

       أمّا لماذا لم تتحقق العناصر الذاتية قبل ذلك؛ كما حدث في أوروبا، مثلاً، منذ القرن السادس عشر، واستمرت طوال القرون الثلاثة التالية؟، فلعل ذلك يرجع إلى أن الرابطة السياسية الأساسية، في البلدان العربية، كانت هي الرابطة الدينية، أي أن "الدين" كان هو الأساس والمعيار، الذي يحدد "المواطنة" أو العضوية في الجماعة السياسية. "فالأمة"، في هذا السياق، هي جماعة "المؤمنين" بالدين نفسه، ومن ثم فعليهم السمع والطاعة لأمير المؤمنين، ما داموا قد بايعوه خليفة، أو سلطاناً، أو أميراً. صحيح أن "البيعة"، بعد الخلفاء الراشدين، أصبحت بيعة صورية أو شكلية. وصحيح أنها، ابتداء من العصر الأموي، كانت السلطة تؤخذ "غلاباً"، ثم تورَّث لأبناء الأسرة نفسها. ولكن كان هناك حرص على الإجراءات الشكلية في أخذ "البيعة" حتى تكتمل الشرعية، ويُنادى باسم الخليفة، أو أمير المؤمنين، أو السلطان، أو الملك على المنابر في المساجد، أثناء صلوات الجمعة والأعياد؛ وتُسك العملة باسمه؛ ويتقدم عماله وجنده بفرض الضرائب والمكوس وتحصيلها؛ وفرض الأمن والنظام؛ وإقامة العدل.

الأول:

       المهم أنه، طالما كان أساس الرابطة، أو الجامعة السياسية هي الدين، فإن ذلك ظل، لأكثر من عشرة قرون، يعني أمرين:

أن العرب كان يمكن أن يدينوا بالولاء والسمع والطاعة لخليفة، أو سلطان، أو ملك غير عربي، ما دام مسلماً، وما دامت البيعة قد تمت له، حتى ولو كانت بيعة شكلية.

الثاني:

أنه، في ديار الإسلام، لم يتمتع المواطنون، أو الرعايا العرب غير المسلمين، بكل الحقوق، التي كان يتمتع بها المسلمون.

       وليس صعباً إدراك الاتساق المنطقي في هذين الأمرين. فما دام الدين هو أساس الجامعة السياسية، فإن العرب كانوا يقبلون حاكماً غير عربي، مادام مسلماً؛ وكذلك لم يكن للعرب، غير المسلمين، كل الحقوق المقررة للمسلمين، ولعل إحدى صور التفرقة، في المعاملة هذه، كانت الضريبة الخاصة على غير المسلمين، في ديار المسلمين، وهي المعروفة "بالجزية". صحيح كان هناك مبرر، أو تبرير شرعي، "للجزية"، على غير المسلمين، وخاصة في بداية الدولة الإسلامية، وهي أنها تُجمع، نظير إعفائهم من واجب الجندية، أو "الجهاد"، والذي كان "فرض عين" على كل مسلم قادر. ولأن "الجهاد" كان واجباً دينياً شرعياً، فلم يكن غير المسلمين مطالبين بهذا الجهاد، للدفاع عن المسلمين؛ فكانوا يدفعون الجزية عوضاً عن ذلك.

       وللإنصاف، فقد كانت الرابطة الدينية هي أساس المجتمع السياسي، في معظم البلدان والأمصار غير الإسلامية كذلك، إلى أن بزغت "القومية" بمعناها الحديث، وأصبح "الوطن" أو "الوطنية" هو الجامعة السياسية. ولم يكن سهلاً على العرب أن يستبدلوا، بسهولة، الرابطة الدينية برابطة "وطنية"، كأساس أول للعضوية في المجتمع السياسي. إن الرابطة الدينية كانت تعني أولوية للإندونيسي المسلم، وأن له الحقوق والواجبات نفسها، التي للسوري، أو للمصري المسلم في دار الإسلام، وإنكار ذلك على العرب المسيحيين من البلد نفسه، الذي ولدوا فيه. وبلغة العصر الحالي، كانت الرابطة الدينية نفسها تعني "مواطنة من الدرجة الأولى"، بالنسبة للأغلبية من المسلمين، ما دامت لهم السلطة السياسية. أمّا أبناء الديانات الأخرى، فهم مواطنون من الدرجة الثانية، أو الثالثة، أو مجرد "رعايا".

       أمّا القومية، أو الوطنية، فقد جعلت أساس الجامعة السياسية وحدة الأرض، واللغة، وأسلوب العيش، والمشاركة في الثقافة نفسها، حتى ولو اختلفت الأديان، أو الألوان بين البشر. ولا يعني ذلك بالطبع أن "الدين"، وفي حالة العرب، هو الإسلام وهو دين الأغلبية، ليس له دور أو مكانة. فالشاهد، في الحالة العربية، أن الإسلام هو ثقافة الجميع مسلمين ومسيحيين، قبل أن يكون ديانة الأغلبية. ولهذا قال مكرم عبيد، الزعيم المصري في العصر الليبرالي (1919 ـ 1952)، "أنا مسلم ثقافة، وإن كنت مسيحياً قبطي الديانة"، كل ما هنالك أن الدين لم يصبح هو أساس المواطنة أو الجنسية أو القومية.

       وقد مر العرب بمراحل متتالية قبل أن يتخلوا عن الرابطة الدينية، كأساس للاجتماع السياسي. فإلى القرن التاسع عشر، كان معظم العرب يعيشون في بلدان تدين، للسلطان العثماني، بالولاء والسمع والطاعة، بصفته خليفة للمسلمين. ولكن بدأت بلدان وشعوب عربية تتمرد على هذا الخضوع للسلطان، وذلك للأسباب التالية:

1.  فساد أو انحلال أولى الأمر عن جادة الإسلام القويم

ومن ثم فلا طاعة لحاكم في معصية الله. وكان هذا هو النموذج "الوهابي ـ السعودي" في أواخر القرن الثامن عشر، وطوال القرن التاسع عشر، وهو النموذج الصحيح، المستند إلى النصوص الشرعية، من كتاب الله، وسُّنة رسوله، صلى الله عليه وسلم، ودارت معارك وحروب بين قوات السلطان العثماني، أو تلك التي أمرها بذلك من ولايات السلطنة، وبين الدعوة السلفية البازغة في شبه الجزيرة العربية. ولم يكن صدفة، مع نصر الله للدعوة الوهابية، في مسعاها في أوائل القرن العشرين، وتكوينها لدولة، أن وضعت الصفة "العربية" في اسم الدولة (المملكة العربية السعودية). أي أننا هنا بصدد نموذج لحركة دعوة أصولية شرعية توافق، بعد نجاحها، على ضم رابطة العروبة إلى رابطة الدين؛ لأنها رأت أن هذه الرابطة لا تسيء إلى الدين في شيء، ولا تمنع من التمسك به، والاعتماد الأساسي عليه. وما حدث مع الدعوة الوهابية في شبه الجزيرة العربية، في مواجهة السلطان العثماني، حدث مثله في شمال أفريقيا، تحت أعلام الحركة "السنوسية"؛ وفي السودان، تحت أعلام الحركة "المهدية". أي أن لسان حال هذه الحركات كان هو أنه "إذا كان لرابطة الدين أن تكون هي الأساس، فنحن أكثر فهماً للدين واعتصاماً بحبله، ونحن أعلم بشعاب مكة، وأقدر على تصريف شؤون دنيانا".

لقد كانت مظاهر الانحلال والفساد، في قمة الإمبراطورية العثمانية، في تزايد مستمر. ووصلت إلى حالة "رجل أوروبا المريض" مرحلة حرجة، في الربع الأخير من القرن التاسع عشر. ويكفي للتدليل على ذلك أنه، في غضون عام واحد (1876)، تغير السلطان ثلاث مرات: حيث أُطيح بالسلطان عبدالعزيز في شهر مايو، وحل محله السلطان مراد الخامس، وأُطيح بهذا الأخير، في شهر أغسطس، من العام نفسه، ليخلفه السلطان عبدالحميد الثاني. لقد كانت دسائس القصر على أشدها. وكان الأخوة يقتلون أو يسجنون بعضهم بعضاً، في سباق محموم نحو السلطة، والثروة، وحياة الجواري والنساء، بينما تسير شؤون الإمبراطورية من سيئ إلى أسوأ. ولم يتوقف هذا التدهور والانحلال، طوال حكم السلطان عبدالحميد، الذي امتد أكثر من ثلاثين عاماً (1876 ـ 1909). فعلى الرغم من بدايته الواعدة، إلاّ أن السوس والعفن كانا قد امتدا، ونخرا في جسد الإمبراطورية الهزيلة، كما سيظهر في الفقرات التالية.

2. الضعف والخذلان في حماية أطراف دار الإسلام

كان أحد أسباب الخضوع، والسمع والطاعة لأمير المؤمنين، أو الخليفة السلطان العثماني، هو الحرص على وحدة "دار الإسلام"، في مواجهة "دار الحرب"، بلغة الفقهاء. ولكن القرن التاسع عشر شهد سلسلة من هزائم الدولة العثمانية، على أيدي الدول الأوروبية. كما شهد غزوات واحتلالاً لأراضي المسلمين من جانب هذه الدولة الأوروبية، أو تلك، من دون استعداد، أو قدرة لدى الدولة العثمانية على رد هؤلاء الغزاة. وبدأ هذا الاختراق الأوروبي تحت مسميات مختلفة، بالحملة الفرنسية على مصر (1798)، ثم احتلال الجزائر (1830)، ثم تونس (1879)، ثم مصر (1881)، ثم بقية البلدان العربية، في أوائل القرن العشرين، أي والخلافة العثمانية ما زالت على قيد الحياة.

3. تمرد الأتراك أنفسهم على السلطنة والخلافة

لم يكن بعض العرب، في بعض الأقطار، هم وحدهم الذين تمردوا على الخلافة، أو السلطنة العثمانية، طوال القرن التاسع عشر، بسبب انحلالها الأخلاقي، أو ضعفها العسكري، في مواجهة الغرب، وإنما امتد التململ، ثم التمرد إلى الأتراك أنفسهم، على الخليفة، أو السلطان، على الرغم من كونه، يعتمد في الأساس على أبنائهم. وأخذ هذا التململ، في البداية، شكل حركة سلمية أطلقت على نفسها اسم "التركية الفتاة"، في أواخر القرن التاسع عشر. وحينما تولى الشاب، السلطان عبدالحميد، السلطة (1877) استبشر أعضاء الحركة خيراً في إصلاح وتطوير شؤون الإمبراطورية. ولكن سرعان ما خاب أملهم، حيث كان عبدالحميد، كغيره من سلاطين آل عثمان، أكثر اهتماماً بتكريس سلطته المطلقة منه، بأي إصلاحات ديمقراطية، وإدارية، عميقة، أو شاملة، مثل تلك التي كانت تحتاجها الإمبراطورية، التي كان يُطالب بها شباب حركة "التركية الفتاة"، ومعهم الشباب العربي، من رعايا السلطنة. وعاد التمرد إلى صفوف التركية الفتاة، والشد والجذب بينهم وبين الباب العالي. وبدأ أعضاء التركية الفتاة يظهرون العداء لفكرة "الخلافة" نفسها، سواء كان يتولاها آل عثمان أو غيرهم، على أساس أن الدولة الدينية، في رأيهم، هي أهم أسباب تخلف "الأمة الطورانية"، أي أنه، مع نهاية القرن التاسع عشر، بدأت تظهر أفكار جديدة، ومضادة، لكل من مؤسسة الخلافة، والدولة الدينية، ولفكرة الإمبراطورية، التي تضم أجناساً وأمماً مختلفة. ومن هنا كان اسم "التركية الفتاة" نفسه يوحي باستبعاد غير الأتراك من حركتهم الثورية. أكثر من ذلك، في لحظات الوفاق بين أعضاء التركية الفتاة والسلطان، وتوليهم مناصب حكام الولايات العثمانية العربية، أظهر أعضاء الحركة تعصباً شديداً ضد العرب، وكانت ممارساتهم الاستبدادية القمعية غير مسبوقة. وكان النموذج الدرامي لهذه الممارسات هو جمال باشا، والي سورية، الذي أصبحت مشانقه، في دمشق، مضرب الأمثال. والخلاصة، في هذه النقطة، هي أن تبرم الأتراك أنفسهم بفكرة الخلافة والدولة الدينية، من ناحية، وتأكيدهم على تميز واستعلاء العرق "الطوراني ـ التركي" على بقية الشعوب في الإمبراطورية، من ناحية أخرى، أدى بالشباب العربي المثقف، تدريجياً، إلى تأكيد عروبتهم، وبلورة فكرة القومية العربية.

4. المؤثرات الثقافية الفكرية الغربية

كان من العوامل الحاسمة، في بلورة الفكرة القومية العربية، الاحتكاك الثقافي والفكري بين الشرق والغرب. وقد بدأ ذلك في المشرق العربي، جزئياً من خلال البعثات التبشيرية في لبنان وسورية، وبشكل أكبر، مع قدوم الحملة الفرنسية، بقيادة نابليون، إلى مصر (1798)؛ ومنها إلى بلاد الشام. فقد أتى مع الحملة، كما هو معروف، عدد كبير من المفكرين والعلماء الفرنسيين، ومعهم أول مطبعة حديثة عرفها الشرق، ونشروا مفاهيم وأفكار عصر التنوير الأوروبي، والثورة الفرنسية (1789) ومبادئهما، مثل "الحرية"، و"المساواة"، و"الإخاء"، و"العدالة"، و"المواطنة"، و"الوطنية"، و"القومية"، و"حقوق الإنسان". وأهم من ذلك، رأى الواعون من العرب وأدركوا، أن هذه المفاهيم والأفكار والمبادئ تكوّن معاً حزمة واحدة متسقة، وأنها كانت وراء تقدم الغرب؛ وكان غيابها وراء تخلف المسلمين. واستمر الاحتكاك والتفاعل مع أوروبا عموماً، وفرنسا خصوصاً، طوال القرن التاسع عشر، من خلال البعثات التي أرسلها محمد علي (والي مصر)، وتلك التي أرسلها داود باشا (والي العراق)، وخير الدين التونسي (الوزير الأول في تونس) فيما بعد، إلى أوروبا. هذا فضلاً عن تأثير الكلية البروتستنتية السورية، التي أصبحت الجامعة الأمريكية في بيروت فيما بعد، والتي أُنشأت في ستينيات القرن التاسع عشر، وعمقت التأثير الغربي الليبرالي الحقوقي، والقومي، في عقول الأجيال العربية الجديدة من أبناء الأعيان والتجار. أي أن الشباب العربي الأكثر تعليماً ووعياً، قد تشرب الأفكار التحررية الحديثة، سواء من خلال الدراسة في أوروبا، أو من خلال المدارس، والكليات الجامعية الحديثة، في أراضي الوطن. وكان يتابع باهتمام ما يحدث، ليس في الدول القومية (Nation-States) الناشئة في أواخر القرن التاسع عشر، مثل ألمانيا وإيطاليا، وحدها، وإنما في مقر الخلافة نفسه.

5. البذور الأولى للمواطنة الحديثة

كان لهذه العوامل الأربعة الرئيسية، وغيرها من عوامل ثانوية، أو متفرعة عنها، آثار تراكمية، طوال القرن التاسع عشر، أهمها:

  • خلخلة الرابطة الدينية كأساس للمواطنة، والجامعة السياسية، وشرعية نظام الحكم.
  • التبلور التدريجي لفكرة القومية العربية بالمعنى الحديث لمصطلح القومية.
  • الاستقلال التدريجي لما هو "وطني" أو "قومي"، عما هو "ديني" أو "إسلامي"، من دون أن يخالفه أو يتناقض معه بالضرورة.

ربما بالغ بعض المعلقين الفرنسيين في الدور القومي العربي، الذي قام به إبراهيم باشا، ابن محمد علي والي مصر، كما سيرد في فقرة تالية. ولكنه هو أول من سوى بين جميع المواطنين، في بلاد الشام، بصرف النظر عن الدين، وأرغم الجميع على الاعتراف بحقوق غير المسلمين، في الوظائف المختلفة، في دوائر الحكومة. وأصدر هذا القائد الشاب، الذي كان يفخر بمصريته وعروبته، على الرغم من انحداره من أصول ألبانية، منشوراً ذائع الصيت عام 1839، يقر فيه بالمساواة الكاملة بين أفراد كل الطوائف أمام القانون. وأهم من إصدار القرار، كان حزم إبراهيم باشا في تطبيقه. ولم يتردد في استعمال القوة مع مسلمي دمشق وصفد، الذين اعترضوا على تغيير حالة مواطنيهم "الذميين"، وأرغمهم على قبول النظام الجديد. وكما يقول المؤرخ فيليب حتي: "وبينما لم يستطع القنصل الإنجليزي نفسه أن يدخل دمشق راكباً (وهو الأمر الذي كان محظوراً على غير المسلمين) من دون حرس لحمايته، قبل صدور المنشور بأربع سنوات، أصبح بعد صدوره بسنة يركب حيثما شاء، ويدخل دمشق ويتجول فيها من دون أي حراس".

وبصرف النظر عن وعي، أو قصد إبراهيم باشا بهذه الإجراءات الإصلاحية، إلاّ أنها كانت إحدى البذور المهمة في نشأة الفكرة القومية، والحماس لها، وخاصة بين مسيحيي المشرق العربي. كما أن الإجراءات نفسها، مهدت وشجعت على افتتاح الكليات الجامعية الأمريكية للبنات (1830) وللبنين (1866)، وجامعة القديس يوسف (1874). وتزعمت هذه المؤسسات العلمية الثلاثة، حركة التحديث الفكري والاجتماعي، ونشرت أفكار التقدم والحرية والمساواة، مما مهد لفكرة القومية العربية، بمعناها الحديث. وواكب هذه النهضة التعليمية التنويرية، إنشاء الصحف العربية، التي بدأت "بالوقائع" في مصر (1828)، وتلتها، بعد ثلاثين سنة، في سورية، جريدة "حديقة الأخبار" (1858)، ومجلة "الجنان" في بيروت (1870). وتولَّت هذه الأخيرة اختيار شعار له رنين خاص، وهو "حب الوطن من الإيمان". وكان مفهوم "الوطن" نفسه جديداً في اللغة السياسية العربية. كان رئيس تحرير "الجنان" هو بطرس البستاني، الذي لعب أدواراً متعددة، في عملية البعث القومي العربي. فقد بدأ الرجل، عام 1876، نشر أول موسوعة عربية، وأصدر منها، في حياته، المجلدات الستة الأولى. وكما يقول المؤرخ فيليب حتي: "لقد مهدت كتابات هذا الكاتب، الماروني الأصل، الطريق لتنبه الوعي القومي، وبدء ظهور حركة القومية العربية". وهكذا مع العقد الثامن للقرن التاسع عشر كان الفكر القومي العربي قد بزغ، على استحياء، وتردد، شديدين. وهي مرحلة يمكن تسميتها فجر القومية العربية، تعبيراً عن المرحلة الأولى من ظهورها، التي استغرقت نحو قرن كامل، هو القرن التاسع عشر.