إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / القومية العربية









الفصل الثالث

الفصل الثالث

ضحى القومية العربية

       على الرغم من الشكوك المتزايدة في مؤسسة "السلطنة"، التي حوَّلها عبدالحميد الثاني إلى خلافة، أملاً في إنقاذها وإنقاذ آل عثمان، ومع السخط العربي المتزايد على السلطان، وكذلك على أعضاء الأحزاب التركية الجديدة، مثل "الاتحاد والترقي" و"تركيا الفتاة"، إلاّ أن القوى السياسية العربية الصاعدة، لم تفقد الأمل في إصلاح الإمبراطورية. ولذلك كان نضالها، طوال الربع الأخير من القرن التاسع عشر، يدور حول الحكم الذاتي للأقاليم العربية، وإصلاح أحوال الخلافة. أي أن الفصل أو الاستقلال بين ما هو "ديني ـ إسلامي" وما هو "وطني ـ قومي" كان مسألة قلقة، متأرجحة، غامضة، وأحياناً مضطربة ومذبذبة، في نفوس العديد من هذه القوى السياسية العربية الصاعدة. فالقيادات الفكرية المرموقة، في العقد الأخير من القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين، مثل عرابي، وجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ومصطفى كامل، لم يطالبوا أبداً بالاستقلال التام عن "الخلافة". وإنما طالبوا بإصلاحها، من خلال دستور وبرلمان منتخب؛ وبالحكم الذاتي للأقاليم العربية. وربما كان هذا التأرجح راجعاً إلى حداثة التميز، بين "الديني"، و"القومي" أو "الوطني"، وكذلك بسبب التحدي القائم، أو المحتمل، من الاحتلال الأجنبي للبلدان العربية. فالجزائر ومصر وتونس والسودان كانت قد اُحتلت، فعلاً، قبل نهاية القرن. وكانت المنافسة على أشدها، بين الدول الأوروبية، لاحتلال المغرب وموريتانيا وسبتة ومليلة وليبيا وبلدان المشرق العربي، في أوائل القرن العشرين.

       إلاّ أنه بين عامي 1900 و1914، كانت بعض القوى العربية الجديدة قد حسمت أمرها، وبدأت تنادي بالاستقلال التام عن الخلافة العثمانية. حتى أولئك الذين ظلت فكرة "الخلافة" تروق لهم، لمشاعر دينية ـ مثل رشيد رضا، وعبدالرحمن الكواكبي، من تلاميذ الأفغاني، ومحمد عبده ـ فإنهم طالبوا بأن تكون الخلافة الإسلامية للعرب. وكان عبدالرحمن الكواكبي الأكثر وضوحاً وصراحة في ذلك. ففي كل ما كتب، وأهمها "في طبائع الاستبداد"، عزا الكواكبي التأخر العربي ـ الإسلامي لإفلات قيادة الأمة (الإسلامية) من يد العرب، إلى العجم والأتراك. وفي رأيه، ورأي جيله من تلاميذ الأفغاني، وعبده، أن هؤلاء لم يفهموا الإسلام جيداً كنظام حضاري، ثقافي، اجتماعي، يقوم على "الشورى"، قبل أن يكون نظاماً يعتمد على السيف، والعسكر، والسلطة المستبدة.

1. نجيب عازوري: إحياء الأمة العربية

كان أول كتاب يحمل اسم "الأمة العربية" صراحة، ولأول مرة، هو كتاب نُشر أولاً بالفرنسية، لأحـد المسيحيين العـرب اللاجئين إلى باريس عام 1905، بعنوان "إحياء الأمة العربية" (La Revil de la Nationarabe). وفيه دعا مؤلفه نجيب عازوري، إلى انفصال العرب عن الدولة العثمانية، وتكوين مملكة عربية خاصة بهم، لأنهم أمة واحدة لها كل مقومات الأمة التي تحدث عنها المفكرون والفلاسفة الأوروبيون، مثل أرنست رينان (Ernest Renan)، في كتابه الشهير "ما هي الأمة؟" (Qu'est que c'est une natione?) الصادر عام 1882، والذي كان له تأثير على الجيل الأول من القوميين العرب. فتعريف رينان للقومية "كمشاعر مشتركة، تصدر عن ذاكرة جماعية واحدة، وتتوجه لأمال واحدة"، وجدت صدى لدى الطلاب، والمفكرين العرب، وخاصة أن رينان، اعتبر اللغة والثقافة هي الأساس والحدود الحقيقية للقومية، وأكَّد أن الآداب والأغاني والأشعار المكتوبة، باللغة نفسها، هي التي تخلق وحدة الوجدان، والروح، والضمير الجمعي للأمة.

ويبدو أن العديد من المفكرين، والكتاب الفرنسيين، قد تبنوا نظرة رينان الرومانسية للقومية، وبدأوا يبشرون بميلاد قوميات بالمعنى نفسه في الشرق، وخاصة في العالم العربي. من ذلك ما كتبه أحدهم عن أن إبراهيم باشا، ابن محمد علي، قد صرَّح لمستشاريه الفرنسيين: "أنه على الرغم من مولده خارج مصر، إلاّ أنه قضى حياته كلها في مصر، وشرب من نيلها، وتدفأ بشمسها، وتعلم لغتها وثقافتها العربية، وأنه يشعر أنه مصري عربي، وليس ألبانياً أو عثمانياً، وأنه سوف يتوقف بفتوحاته حيث يتوقف اللسان العربي، وان هدفه هو تأسيس دولة عربية خالصة، لإعطاء العنصر العربي جنسيته، ووجوده السياسي من جديد. كذلك كان فرنسي آخر، هو الذي كتب، وتكهن، بميلاد القومية العربية في عام 1884، أي بعد ظهور كتاب أرنست رينان (ما هي الأمة؟) بعامين فقط. لقد كان هو الرحالة الفرنسي، دينيس دي ريفور، الذي كتب بعد جولة طويلة في البلاد العربية:

"في كل مكان ذهبت وجدت مشاعر مشتعلة بالكراهية للأتراك، وإن فكرة العمل العربي المشترك للتخلص من نيرهم البغيض، تختمر يوماً بعد يوم، وإن حركة عربية على وشك الانبثاق في الأفق، وإن الجنس الذي طال استبعاده وإذلاله، على وشك أن يأخذ مكانه اللائق في تحديد مقدرات الإسلام".

لقد كانت مثل هذه الكتابات من ناحية، والتعسف التركي السائد في ذلك الوقت، من ناحية أخرى، وراء تكوين عدد من الجمعيات العربية السرية في بيروت، والقاهرة، وباريس، في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين، مثل "العربية الفتاة" و"القحطانية الفتاة"، ووراء حركة بعث، وإحياء التراث العربي، واللغة العربية، والمطالبة بجعلها لغة التخاطب الرسمي، في الولايات العربية داخل الإمبراطورية العثمانية في المشرق. ولكن الجمعيات السرية العربية لم تتحول إلى حركة سياسية محسوسة؛ حتى العقد الثاني من القرن العشرين.

ومع ذلك فكتاب نجيب عازوري، بما سبقه من مقدمات، وما تلاه من تحركات للشباب العربي، سواء في الشام، أو العراق، أو المدن الأوروبية، حيث كانوا يدرسون، كان يمثل روافد لهذا النهر الجديد الذي يشق طريقه ببطء، وصعوبة، في الواقع العربي المتخلف والمقهور. ردد نجيب عازوري، في كتابه، جميع المقولات الأساسية التي تثبت وحدة الأمة العربية، وجدارتها بأن يكون لها دولة مستقلة. واقترح عازوري لهذه الدولة، حدوداً تمتد من جبال طوروس شمالاً، والعراق شرقاً، وقناة السويس غرباً، وبحر العرب جنوباً. أي أن المشروع المقترح كان يضم ما أصبح، فيما بعد، يعرف بالعراق وسورية وفلسطين والأردن والسعودية واليمن وبلدان الخليج (الكويت والبحرين وقطر والإمارات وعمان). ولم يدخل، في خارطة نجيب عازوري، كل من وادي النيل (مصر والسودان) أو المغرب العربي (ليبيا وتونس والجزائر والمغرب الأقصى). وربما كان ذلك راجعاً إلى عدم رغبة نجيب عازوري، ومن كان يمثلهم، في ذلك الوقت، في استعداء بريطانيا (التي كانت تحتل مصر والسودان)، أو فرنسا (التي كانت تحتل المغرب العربي). ومع ذلك فقد كان جزءاً من المشروع، الذي اقترحه عازوري أن تكون هذه الدولة العربية الجديدة مملكة، يحكمها أحد أفراد الأسرة المالكة المصرية، من سلالة محمد علي باشا الكبير. وقد ناقش الشباب العربي في أوروبا الأفكار الواردة في كتاب نجيب عازوري، وتبنوا معظمها في المؤتمر القومي العربي الأول، الذي عقدته في باريس، جمعية "العربية الفتاة" وغيرها من الجمعيات العربية، عام 1913، ورأسه اللبناني عبدالحميد الزهراوي. ووصلت أصداء هذا المؤتمر الأخير إلى بلدان المشرق، وتلقفها مجموعة من الشباب والرجال، الذين كانوا قد أسسوا جمعيات سرية قومية، منذ عدة سنوات. وبدأوا يروجون لهذه الأفكار بين الأعيان والأمراء العرب. وكان أكثر هؤلاء تهيؤاً لاستقبال الفكرة والعمل بمقتضاها هو الشريف حسين بن علي، والي مكة؛ والذي كان قد عاد للتو من إستانبول إلى مكة عام 1909، بعد خمسة عشر عاماً من المنفى، أو الحجز التحفظي عليه بأمر، السلطان عبدالحميد.

وفي الوقت نفسه، كان عدد من المفكرين الشوام قد استقروا في القاهرة، في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين، وأسسوا العديد من المجلات والصحف. وكان أشهر هؤلاء كل من: سليمان البستاني (ابن الرائد التربوي القومي بطرس البستاني)؛ وخليل اليازحي (ابن ناصيف اليازحي، أحد رواد مجددي التراث العربي في بيروت؛ والأخوان سليم، وبشارة تقلا، مؤسسا صحيفة الأهرام، وكان من بين إصداراتهم "مرآة الشرق"، التي بدأها خليل اليازحي (1882)؛ و"الراوي" التي أسسها خليل زينية (1888)؛ و"الهلال" التي أسسها جورجي زيدان (1892)؛ و"الكنانة" التي أصدرها شاكر شقير (1897)؛ و"البيان" التي أصدرها إبراهيم اليازحي (1897)، وهو الذي أصدر "الضياء"، كذلك في العام الذي يليه (1898). كما أصدر الشاعر خليل مطران "المجلة المصرية" (1899). وأصدر محمد كرد علي "المقتبس" (1905)، وأصدر أنطون الجميل مجلة "الزهور" (1910)؛ والتي عملت، مثل الهلال، على أن تكون همزة وصل، بين الكتاب والمبدعين العرب، من كل الأقطار. بدأ يظهر تأثير هذا الوجود الفكري المكثف للمثقفين العرب الشوام، والمتحمسين للفكرة القومية، تدريجياً على الساحة المصرية، ابتداء من عام 1910، حيث شهدت صفحات الأهرام، والمقطم (فارس نمر) و"المنار" (رشيد رضا) سجالات حول القومية العربية، وحول عروبة مصر. ومن الذين لمعت أسماؤهم، في هذه السجالات، السياسي المفكر السوري، رفيق العظم، الذي كان قد لجأ إلى القاهرة، هرباً من تعسف حكومة "الاتحاد والترقي"، التي ظهرت أكثر استبداداً من عهد السلطان عبدالحميد.

ولكن هذه المقدمات القومية، في مصر، لم تؤت ثماراً سريعة. وكان لابد لها أن تنتظر جيلاً آخر، بعد حصول مصر على استقلالها الاسمي في العشرينيات.

2. سكة حديد الحجاز

كانت الإمبراطورية العثمانية من أطول الإمبراطوريات عمراً، في التاريخ (1300 ـ 1922). ولكن عوامل التحلل والتدهور بدأت تنخر فيها، في أواخر القرن السابع عشر، وخاصة بعد فشلها في حصار فيينا وفتحها (1683). وأصبحت الإمبراطورية، في القرنين الأخيرين من عمرها، تعرف باسم "رجل أوروبا المريض". فلقد وصلت إلى درجة من الضعف تمنعها من مزيد من الفتوح، التي تعودت عليها في قرونها الأربعة الأولى، بل ولا حتى الدفاع عن ممتلكاتها، في الأطراف العربية ضد الطامحين من الحكام المحليين (مثل علي بك الكبير في مصر، وأسرة القرمانلي في ليبيا)، ولا الطامعين الأوروبيين (مثل فرنسا في الجزائر وتونس، وبريطانيا في مصر والخليج). ولكن تنافس الدول الأوروبية نفسها، في "وراثة رجل أوروبا المريض"، هو الذي أخَّر موته الطبيعي، أو بالضربة القاضية، من إحدى القوى المحلية الطامحة، أو من إحدى القوى الخارجية الطامعة. وفي الثلث قرن الأخير من حياة "رجل أوروبا المريض"، قيض الله للإمبراطورية، سلطاناً داهية هو عبدالحميد الثاني، الذي استطاع أن يحكم أكثر من ثلاثين عاماً (1876 ـ 1909) متصلة، مستخدماً كل الحيل المتاحة في زمانه: بعض الأمل، وبعض الإصلاح، وكثير من الدسائس والمؤامرات، والتحالفات الداخلية والخارجية.

وكان ضمن ما حاوله عبدالحميد هو الحصول على مساعدات ألمانية لتقوية جيشه، بتدريب حديث؛ وتقوية اقتصاده، باستثمارات ألمانية كبيرة؛ وإحكام قبضته على ما بقي من أقاليم الإمبراطورية، من خلال نظام إداري مركزي جديد، ساعده عليه مد شبكة من خطوط السكك الحديدية، بمساعدات فنية ومالية ألمانية. وكان أهم هذه الطرق على الإطلاق، هو سكة حديد الحجاز، التي امتدت من دمشق إلى مكة، مع شبكة فرعية، إلى كل المدن الكبرى، سورية ولبنان وفلسطين وشرق الأردن. وقد مكنته هذه الشبكة فعلاً من إحكام القبضة الإدارية المركزية على الأقاليم العربية، في أوائل القرن؛ ثم ورثها عنه، بعد إقصائه (1909) أعضاء جمعيته "التركية الفتاة"، ونواتها الداخلية الصلبة "لجنة التقدم والترقي".

ولكن كما هو الحال عادة، فان كل تقدم أو ابتكار يمكن أن يكون سلاحاً ذا حدين. وقد ينتج عنه توابع، لم تكن في ذهن، أو قصد، من بدأ استخدام هذا الابتكار. فشبكة المواصلات الحديثة نفسها، التي أدخلها السلطان عبدالحميد، في الأنفاس الأخيرة من عمر رجل أوروبا المريض، لكي تمد في أجله، استخدمتها أيضاً القوى العربية، وغير العربية المناوئة للإمبراطورية العثمانية عموماً، ولحكم "السلطان ـ الخليفة" عبدالحميد، من ناحية أخرى، كما سيظهر عند الحديث عن "الثورة العربية الكبرى".

3. عزيز باشا المصري: من القحطانية إلى العهد

على الرغم من أن مصر والمصريين كانوا قد حسموا معظم أمرهم مع السلطان، والإمبراطورية العثمانية، منذ استقلال مصر الفعلي، إن لم يكن الاسمي، في عهد محمد علي بك الكبير، ومعاهدة لندن (1840)، إلاّ أن الاحتلال البريطاني لمصر (1882) خلق قوى متعارضة، بل ومتناقضة، حيال السلطان. فمن ناحية، عاد المصريون يستنفرون علاقاتهم الاسمية، والرمزية، بدار "الخلافة" في استنبول، على أمل دعمها، ضد الاحتلال البريطاني. ومن ناحية ثانية، كان هناك نفور شديد من انحلال، وفساد، واستبداد السلطان، وحاشيته. ومن جراء هذه القوى المتضادة، لعبت مصر والمصريون، أدواراً معقدة خلال الثلث قرن الأخير، من حياة الإمبراطورية العثمانية:

  • كانت مصر ملجأ للكثير من المثقفين، والتجار الشوام، الفارين من التعسف العثماني، سواء كان ذلك في ظل الخديوي إسماعيل (1860 ـ 1879)، أو بعد الاحتلال البريطاني (1882). وقد رحب بهم الخديوي، في سعيه لتحسين وتحديث الأحوال المصرية. وأسهموا في النهضة الفكرية، والصحفية البازغة، منذ أوائل القرن. وضمن ذلك تأسيس صحيفة الأهرام (عائلة تقلا)، ودار الهلال (عائلة زيدان)، والمقطم، وغيرها. وكان أبرز من وفدوا إلى مصر، في تلك الفترة من أواخر القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين، كل من رشيد رضا، وعبدالرحمن الكواكبي، ومحي الدين الخطيب، الذين تتلمذوا على كل من: جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده. وقد شجع البريطانيون هؤلاء الشوام، وغيرهم، على مناوئة الإمبراطورية العثمانية، خاصة حينما اشتد تقاربها مع ألمانيا، وبدأ هذا التقارب يهدد المصالح البريطانية في الخليج، وطريق الملاحة إلى الهند، مع إنشاء سكة حديد "خط الشرق السريع" (Oriental Express). وفي مصر، سُمح لمعظم الجمعيات العربية السرية، التي تكونت في بيروت، أو دمشق، أو باريس، أن يكون لها مقرات، أو فروع، في القاهرة والإسكندرية. ويذكر الكاتب البريطاني بيتر مانسفيلد أنه في القاهرة تم التخطيط "للثورة العربية الكبرى"، التي قادها الشريف حسين، أمير مكة عام 1916. ومن القاهرة، كانت تأتيه الإمدادات، والمراسلات مع كبار المسؤولين البريطانيين، وعلى رأسهم وزير الخارجية مكماهون وضابط اتصال المخابرات البريطانية تي. أي، لورانس.
  • ومن ناحية أخرى انخرط عدد من الشباب المصري، الوطني، المتحمس، للتخلص من البريطانيين، وإصلاح، وإنقاذ دار الخلافة، في الجيوش العثمانية. وكان ضمن هؤلاء الضابط عزيز المصري. أثناء تدريبه، وخدمته، واختلاطه بزملائه، من الضباط العرب، وكان معظمهم من العراقيين (مثل رشيد عالي الكيلاني، ونوري السعيد، وجميل المدفعي)، وأعضاء جمعية تركيا الفتاة ولجنة الاتحاد والترقي. وكان عزيز المصري، وعدد من الضباط العرب، في الجيش العثماني، قد أسسوا جمعية "القحطانية الفتاة" السرية، بهدف النضال من أجل الإصلاح السياسي الدستوري في الإمبراطورية، واللامركزية أو الحكم الذاتي للأقاليم العربية. ولكن بعد سنوات من المحاولات مع الزملاء، من جمعية تركيا الفتاة، ومن لجنة الاتحاد والترقي، من جمعية الإخاء العربي ـ العثماني، اتضح لعزيز المصري، وزملائه العرب، في القحطانية الفتاة، أن هؤلاء أكثر شوفينية، وتعصباً لتركيتهم، وللعنصرية الطورانية، منهم إلى الحرص على الإصلاح الشامل، الذي ينطوي على المساواة، ليس بين العرب والأتراك فحسب، ولكن كذلك بين المسلمين، وغير المسلمين. لذلك قرر عزيز المصري وزملاؤه التخلي عن اسم القحطانية الفتاة وبرنامجها، وتأسيس جمعية سرية أخرى، أطلقوا عليها اسم "العهد"؛ وكانت مناهضة تماماً للأتراك، وتطالب باستقلال العرب عن الإمبراطورية العثمانية وعن القوى الأجنبية الأوروبية، على حد سواء.

وفي فبراير 1914، قبيل نشوب الحرب العالمية الأولى بأشهر (يوليه 1914). قبضت السلطات العثمانية على عزيز المصري، ولفقت له تهمة العمالة لإيطاليا، وبيع إقليم "برقة" الليبي لهم؛ وقدمته للمحاكمة السرية، وحكمت عليه بالإعدام. ولكن قبيل تنفيذ الحكم، تسرب الخبر، فخرجت المظاهرات، وحركات الاحتجاج ضد الأتراك في العديد من المدن العربية. وانتهزت بريطانيا الفرصة، وأرادت أن تظهر تعاطفها مع الرأي العام العربي، فوجهت بدورها احتجاجاً شديد اللهجة إلى تركيا. وأدى ذلك، في النهاية إلى إلغاء حكم الإعدام، والإفراج عن عزيز المصري. لقد كانت بريطانيا تستعد فعلاً للحرب العالمية الأولى؛ وكانت تدرك أن الإمبراطورية العثمانية ستقف إلى جانب ألمانيا والنمسا، في المعسكر المعادي لها. لذلك كانت تتودد للعرب في المشرق وشبه الجزيرة العربية، اللذين بقيا إلى حين ضمن دائرة النفوذ العثماني المباشر، والقريب جداً من قناة السويس. كانت بريطانيا تريد فعلاً من عرب المشرق أن يثوروا على تركيا، ويحرروا بلادهم من الاحتلال العثماني. وجاءت حادثة الضابط عزيز المصري لتقدم فرصة التودد هذه، التي انتهزتها بريطانيا بلا تردد.

4. الثورة العربية الكبرى

على الرغم من نصيحة السلطان عبدالحميد لحكومة تركيا الفتاة، التي أجبر على تشكيلها، فقد سمحت الحكومة الجديدة للشريف حسين، وأولاده الأربعة (علي وفيصل وعبدالله وزيد) بمغادرة استنبول، والعودة إلى ديارهم في مكة بعد خمسة عشر عاماً. واستأنف الشريف حسين موقعه كأمير للحجاز. ومع بداية عام 1914، كانت نذر حرب كبرى متعددة الأطراف تتزايد في الأفق، وتسارعت كل الأطراف تستعد لها بالعتاد، والتحالفات المحلية، والإقليمية، والدولية. وفي تلك السنوات كانت المصالح أساساً، وليس الأيديولوجيات بعد، هي التي تحكم تحركات الدول والقوى السياسية.

وضمن هذا السياق، كان واضحاً أن تركيا تميل إلى جانب ألمانيا، في أي صراع دولي مرتقب، فقد كان التعاون بينهما قد دخل عقده الثاني. وكان الإنجليز، الذين يحكمون بلداناً إسلامية عديدة يتوجسون، ليس من هذا الاحتمال فحسب، ولكن من إعلان السلطان "للجهاد الإسلامي" ضد أعدائه، بما فيهم بريطانيا، التي ستكون بالضرورة في المعسكر المعادي (أي ضد ألمانيا وتركيا). ونصح خبراء بريطانيا من المستشرقين، أن تركز على الشريف حسين في مكة، وتستقطبه إلى جانبها، كحليف، في أي حرب ضد تركيا. وفي هذه الحالة، سواء كان "الجهاد" مسألة واردة من عدمه، فان مجرد شق الصف الإسلامي سيكون كفيلاً بتحاشي أي استقطاب ديني في الصراع المرتقب. وهذا ما أخذت به الحكومة البريطانية فعلاً؛ ولم تضيِّع أي وقت.

وشهدت الشهور العشرة، السابقة على نشوب الحرب، التي سميت "بالعالمية"، اتصالات مكثفة بين الشريف حسين وأولاده من ناحية، واللورد كيتشنر، المندوب السامي البريطاني في القاهرة، ثم خليفته، في المنصب، السير هنري مكماهون، وكبار ضباط الاستخبارات البريطانية وعلى رأسهم تي. أي. لورانس، من ناحية أخرى. وعلى الرغم من عدم توقيع معاهدة صريحة محددة المواد والبنود، إلاّ أن المراسلات المكتوبة والمحفوظة، أوضحت، بما لا يترك مجالاً للشك، أن بريطانيا وعدت الشريف حسين بتأييد مطالب العرب في دولة مستقلة. وفي خطاب الشريف حسين الأول إلى مكماهون، اقترح أن تضم هذه الدولة "سورية ولبنان والأردن والعراق وكل الجزيرة العربية، ما عدا عدن"، التي أدرك الشريف حسين أنها ميناء إستراتيجي مهم لبريطانيا، يديره المندوب السامي البريطاني من بومباي بالهند، وليس من القاهرة. وعلى الرغم من حدوث خلاف فيما بعد على "فلسطين"، التي تصور الشريف حسين أنها جزء من جنوب سورية، حيث لم تكن وحدة إدارية مستقلة، في الإمبراطورية العثمانية؛ إلاّ أن مكماهون لم يعترض على هذا التحديد صراحة أو ضمناً. وكل ما هنالك، أنه طلب، في المراسلة التالية لخطاب الشريف حسين، "أن يسعى العرب لبريطانيا وحدها من أجل المشورة، ولا يستعينون، في الدولة الجديدة، بأي مستشارين أو خبراء من أي دولة أوربية أخرى، لاستكمال الأنظمة الإدارية المطلوبة.

وتمت هذه المراسلات الخطية، بين شهري يوليه 1915 ويناير 1916؛ أي قبل ما سيحدث، فيما بعد، من وراء الشريف حسين، والحركة العربية القومية، وهو الاتفاق الإنجليزي الفرنسي المعروف باسم "سايكس ـ بيكو"، في مايو 1916، والذي يرتب اقتسام مناطق النفوذ بينهما، في الأقاليم العربية المشرقية بعد هزيمة تركيا؛ وقبل عام، وعشرة أشهر، من وعد بلفور للحركة الصهيونية في نوفمبر 1917.

لم يكن التحالف بين الشريف حسين وبريطانيا مؤكداً. فأولاد الشريف حسين أنفسهم، كانوا منقسمين بين مؤيد لبريطانيا (فيصل وعبدالله) ومؤيد لتركيا، لاعتبارات دينية وثقافية، (علي وزيد). ولكن تركيا سهلت حسم هذا التردد، حينما أقبل جمال باشا، حاكم سورية القوي، وأحد الأقطاب الثلاثة الكبار، في لجنة الوحدة والترقي (Committee of Union & Progress (COP))، على استخدام أساليب البطش الوحشية، ضد احتجاجات سياسية، من جانب الجماعات السياسية العربية في بلاد الشام، وفر المئات، من بطشه، إلى مصر، أو مكة، أو بلاد الغرب، بعد أن سجن الآلاف، وأعدم العشرات شنقاً، في ميادين دمشق وبيروت، حتى يرهب الجميع. وفي أغسطس عام 1915، وحده، أعدم جمال باشا أحد عشر زعيماً محلياً؛ ثم، في يناير 1916، أعدم واحد وعشرين آخرين. وعُرف الرجل باسم "جمال باشا الجزار".

وقصدت الوفود، من عرب الشام، مكة مستجيرة بالشريف حسين، تستحثه على قيادة الحركة العربية القومية المتعطشة للتحرر من الاستبداد التركي. وفي ذلك، كان القوميون العرب يدركون الأهمية الرمزية لقيادة شخص مثل الشريف حسين، الذي ينحدر من البيت النبوي الهاشمي؛ والذي تدفع قيادته لهم أي شبهة يمكن أن يلصقها "السلطان ـ الخليفة" بهم، كعُصاة مارقين (كما فعل مع عرابي وثورته عام 1882، مثلاً). وكل ما طلبه المثقفون العرب من الشريف حسين، الذي لابد أن يكون قد لمَّح لهم بمفاوضاته مع الإنجليز، هو أن يأخذ حذره، وأن يحصل على أكبر قدر ممكن من المزايا، وأن يؤكد ذلك مع بريطانيا كتابة.

وهكذا أصبح المسرح معداً تماماً للشريف حسين: وعود بريطانيا بالمساعدة أثناء الثورة، وبعد انتهاء الحرب؛ وعقد لواء القيادة له من الجمعيات والقوى العربية في الشمال، وخاصة سورية؛ وزيادة الكراهية الشعبية لتركيا ولكل ما هو تركي، على الأقل في بلاد الشام.

واستدعى الشريف حسين أولاده إلى مكة، من تلك الأماكن، التي كان يمكن أن تطولهم فيها أيادي الأتراك، وعبأ مؤيديه من القبائل والقوات المحدودة، ذات التدريب الحديث، وأعلن "الثورة"، في العاشر من يونيه 1916. وبدأت الثورة، رمزياً، بإطلاق النار على الثكنات العسكرية التركية في مكة، ومحاصرة الجنود الأتراك فيها فاستسلموا؛ وأُنزل العلم العثماني، ورُفع علم الثورة. وانتقلت قوات الثورة، بقيادة هذا الابن، أو ذاك، من أولاد الشريف حسين، إلى جدة، والمدينة، وبقية مدن الحجاز. ولكن بقيت قوات، ومعاقل تركية، في الشمال (سورية وفلسطين والأردن)، وفي الجنوب (عسير وتهامة). وكان يمكن للأتراك أن يشنوا هجوماً مضاداً، بطريقة "كماشة"، من الشمال والجنوب، خاصة وأن سكة حديد الحجاز، التي كانت قد استكملت، وبدأ تسيير القطارات عليها، بالفعل، منذ عدة سنوات، كان يمكن أن تسهل هذا الأمر. ومن ثم كان أحد الأعمال الدرامية للثورة هو نسف القطارات، التي كانت تحمل قوات، وإمدادات لبعض المواقع المحاصرة، بامتداد الساحل، وسكة حديد الحجاز. وزحف الثوار شمالاً، فاحتلوا مدينة العقبة أقصى جنوب فلسطين ومخرجها بحرياً إلى البحر الأحمر (يوليه 1917). وسار بعدها، بعدة أشهر، الجنرال أرنولد أللينبي بجيشه، من مصر، عبر سيناء، حيث دخل القدس (9 ديسمبر 1917)، ثم دمشق (1 أكتوبر 1918) وهناك رتب لورنس أن يدخل فيصل بقواته أولاً، لينعقد له لواء النصر والتأييد من السكان أولاً، وقبل ظهور القوات الأجنبية. وفعلاً، بدخول فيصل، أُعلنت له البيعة ملكاً على سورية، على الرغم من احتجاجات فرنسا، التي كانت قد اتفقت مع بريطانيا، على أن تكون سورية من نصيبها.

ونجحت الثورة، التي سمت نفسها "بالعربية الكبرى"، وتم اقتلاع الأتراك من شبه الجزيرة العربية. لقد كانت المساعدات التي قدمتها هذه الثورة العربية الكبرى لبريطانيا، وحلفائها، إستراتيجية وجليلة. وما كان لبريطانيا أن تحقق ما حققته من نصر وهيمنة، في المنطقة، إلاّ بسبب هذه الثورة. فقد أدت إلى شل تحركات ثلاثين ألف جندي تركي على امتداد الطريق الحديدي من عمان للمدينة المنورة.

وعاقت القوات الألمانية ـ التركية، المتمركزة في سورية، الاتصال بالحامية التركية في اليمن، والسيطرة على الجانب الشرقي من البحر الأحمر، وتهديد خطوط الملاحة الإمبراطورية للحلفاء عبر قناة السويس. وكان يمكن للأمر أن يزداد سوءاً، بالنسبة للحلفاء، لو استطاعت القوات الألمانية، من اليمن، أن تتواصل مع القوات الألمانية، التي كانت متمركزة في شرق أفريقيا في ذلك الوقت. وما كانت جيوش اللينبي لتستطيع العبور من مصر، والقناة، إلى سيناء إلى فلسطين وسورية، لولا تأمين قوات الثورة العربية الكبرى للعقبة، والشواطئ الجنوبية لخليجها، فضلاً عن الساحل الشرقي للبحر الأحمر، كما سبق.

ولا يقل عن هذه المزايا الإستراتيجية، التي حققتها الثورة العربية الكبرى، للحلفاء، المزايا المعنوية. فقد كان تحالف الهاشميين، مع بريطانيا، هو المضاد المعنوي الحاسم لأي استقطاب ديني لا تُحمد عقباه؛ والذي كان هاجساً عميقاً وحقيقياً، لدى كل صناع القرار البريطاني، في ذلك الوقت. وربما كان القياس (مع الفارق طبعاً) هو "أزمة الخليج"، بعد غزو العراق للكويت، في أغسطس 1990. فلولا وقوف مصر والمملكة العربية السعودية، وسورية، والتحالف الدولي، ضد العدوان العراقي، لبدا الأمر كما لو كان استقطاباً عربياً ـ غربياً، أو حتى إسلامياً ـ صليبياً، وهو ما كان يحرص الرئيس العراقي صدام حسين عليه خلال الأزمة، وبسببه أضاف عبارة "لا اله إلاّ الله، محمد رسول الله" إلى العلم العراقي.

كان الهدف من هذا الاستطراد حول دور "الثورة العربية الكبرى" أثناء الحرب العالمية الأولى، هو تأكيد عدة نقاط وثيقة الصلة بموضوعنا عن القومية العربية:

أولاً: مثلت الثورة في عام 1916 ـ 1918 تلاقى خيوط عديدة كان كل منها يُنسج منفرداً، في هذا الجزء أو ذاك، من المشرق العربي، أو على أيدي عرب، يعيشون خارج وطنهم في الغرب: من دمشق وبيروت والقاهرة إلى مكة والمدينة وجدة، ومن باريس ولندن واستنبول إلى بغداد والعقبة.

ثانياً: إن قيادة الهاشميين لتلك الثورة، أضفى عليها طابعاً "عربياً ـ مسلماً"، وهو أمر كان يحرص عليه رواد "الفكرة القومية" من آل البستاني، إلى آل تقلا، إلى آل زيدان، إلى نجيب عازوري. فقد كانوا جميعاً مسيحيين، وكان من السهل، قبل دخول الهاشميين إلى الحلبة، أن تثار الشبهات حول الدعوة القومية العربية، وأن تُلصق بها تهمة أنها "علمانية"، "مسيحية"، أو "غربية".

ثالثاً: إن تفصيل الدور الحاسم، الذي قامت به الثورة العربية الكبرى، وما سبقه، أو واكبه من عهود ووعود بريطانية بتأييد استقلال ووحدة المشرق، هو شرط ضروري لتقدير حجم وعمق خيبة الأمل والغضب، الذي شعر به القوميون العرب، بعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها. فقد تكشفت الاتفاقات والوعود السرية التي عقدتها بريطانيا مع قوى أخرى، من وراء ظهر القوميين العرب والقيادة الهاشمية وعلى حسابهم. وأهمها اتفاقية "سايكس ـ بيكو" مع فرنسا، ووعد بلفور للحركة الصهيونية. وباختصار، وعدت بريطانيا، التي لم تكن تملك، أو تحتل بعد، أي بلدان أو أراض في المشرق، وفرنسا بأن تطلق يدها في سورية ولبنان، ما عدا جنوب سورية، وهو فلسطين، في مقابل ألاّ تعارض فرنسا إطلاق يد بريطانيا في العراق وفلسطين وشرق الأردن. كما وعدت الحركة الصهيونية، ممثلة في اللورد البريطاني روتشيلد، بأن تساعد اليهود على "تأسيس وطن قومي في فلسطين، من دون أن يترتب على ذلك الافتئات، على حقوق الجماعات غير اليهودية، في فلسطين". وقد صدر الوعدان بعد مايو 1916، ونوفمبر 1917، على التوالي، أي بعد أكثر من عامين وستة أشهر تقريباً، من الاتفاق بين الشريف حسين والسير هنري مكماهون.

والمهم أن هذه المرحلة من مراحل القومية العربية، وهي مرحلة ضحى القومية العربية، قد بدأت بآمال كبار، وبُذلت فيها تضحيات جسام، ولكنها انتهت باحباطات عميقة لأبنائها، خاصة في المشرق العربي.