إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / القومية العربية









الفصل الرابع

الفصل الرابع

القومية العربية بين الهزائم والانتصارات

القوميون العرب يلعقون جراحهم بين الحربين

       بانتهاء الحرب العالمية الأولى، أصبح العالم العربي كله، تقريباً، باستثناء المملكة العربية السعودية واليمن، تحت الاحتلال، أو الحماية الأجنبية. طبعاً كان جزء كبير من العالم العربي محتلاً فعلاً، قبل تلك الحرب، وهو: الجزائر، وتونس، والمغرب وتحتلها فرنسا؛ موريتانيا وسبتة ومليلة، وتحتلها أسبانيا؛ وليبيا وتحتلها إيطاليا؛ ومصر والسودان وعدن تحتلها بريطانيا. وما حدث في الحرب العالمية الأولى هو أن بقية العالم العربي في المشرق، والذي ظل، إلى عام 1918، جزءاً من الإمبراطورية العثمانية الإسلامية، وقع بدوره في براثن الاحتلال الغربي: الإنجليزي والفرنسي.

1. الحصاد المر

وكان ما حدث، خلال وبعد الحرب العالمية الأولى، درساً، أو صفعة مدوية، للقوميين العرب. فقد ألقوا بثقلهم إلى جانب الحلفاء ضد السلطنة ـ الخلافة العثمانية، وانتصر الجانب الذي تحالفوا معه. وانتظر العرب المشارقة ثمار النصر ولكن خاب رجاؤهم، ووجدوا أنفسهم تحت وصاية، أو استعمار شركاء، أو حلفاء الأمس. لقد سميت بلادهم في وثائق الحلفاء فجأة، لا "العالم العربي" أو "البلاد العربية"، وإنما "أراضي الأعداء المحتلة" (Occupied Enemy Territories. OET)! إن ما حدث خلال، وبعد الحرب، هو كما أطلق عليه أحد الكتاب الإنجليز المنصفين: "الخدعة الكبرى" (The Great Deception) والمفارقة المأسوية هي أن تركيا التي هُزمت، في الحرب الأولى، خرجت وهي أحسن حظاً من العرب، الذين كانوا في كفة الحلفاء المنتصرين.

على أي الأحوال، باستكمال الهيمنة الغربية على شؤون المشرق، تدهورت أحلام القوميين العرب من الوحدة العربية، والاستقلال، والدستور، للأمة العربية بأسرها، إلى أحلام، ونضالات قطرية من أجل "التحرير الوطني"، أي استقلال كل قطر من نير الاحتلال الغربي الجديد الذي ابتلى به. وتحرياً للدقة، أدت ترتيبات ما بعد الحرب العالمية الأولى إلى "بلقنة" وتجزئة المشرق العربي، فأصبح هناك خمسة أقطار جديدة، هي: سورية، ولبنان، وفلسطين، وشرق الأردن، والعراق. هذا إلى جانب شبه الجزيرة العربية واليمن، والمشيخيات العربية على ساحلي بحر العرب، والخليج العربي ـ الفارسي. وكانت جميعاً تحت الهيمنة البريطانية الصريحة أو الضمنية.

وقد حاولت بريطانيا أن تعوض أبناء الشريف حسين شيئاً، عن نكسها لوعودها، فعملت على تعيين أحد أبنائه وهو فيصل، ملكاً على سورية، فلما رفضت فرنسا، عينته ملكاً على العراق. واقتطعت بريطانيا أجزاء من شرق فلسطين، وجنوب سورية، وشمال شبه الجزيرة العربية، وخلقت منها كياناً سياسياً جديداً، أسمته "شرق الأردن"، وعينت أحد أبناء الشريف حسين الآخرين، وهو عبدالله، أميراً على هذا الكيان الجديد. وأصبح كل من العراق والأردن يحكمها اسمياً أسرة مالكة عربية، تحت الانتداب البريطاني. أما فلسطين، فقد وضعت مباشرة تحت الانتداب البريطاني. وعينت بريطانيا لذلك الغرض أحد اليهود البريطانيين، وهو السير هربرت صامويل، ليكون أول مندوب سامي لها في فلسطين؛ وكانت مهمته الأولى هي تنفيذ وعد بلفور، أي تسهيل إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين؛ على الرغم من أنهم، طبقاً لإحصاء سلطات الانتداب نفسها عام 1920، لم يتجاوز عددهم مائة ألف، من إجمالي السكان، البالغ عددهم ثمانمائة ألف نسمة.

أمّا فرنسا، التي كانت تهيمن على أقصى الجناح الغربي، للوطن العربي، منذ ما قبل الحرب العالمية الأولى، فقد أصبحت، بعد تلك الحرب، تهيمن على الجناح الشرقي لهذا الوطن، ممثلاً بسورية الكبرى. وكان من أول ما فعلته الحليفتان الاستعماريتان هو الاتفاق على فصل الجزء، الذي وعدت به بريطانيا الحركة الصهيونية والهاشميين، وهو جنوب سورية الكبرى؛ وهو الذي أصبح فيما بعد فلسطين وشرق الأردن، ولكن ما تبقى من سورية الكبرى، جزأته فرنسا، مرة أخرى، إلى أربعة كيانات، وهي لبنان، وسورية، وجبل الدروز، وجبل العلويين. وباستثناء الكيان اللبناني، فقد رفضت الكيانات الثلاثة الأخرى أن تكون بلداناً، أو أقطاراً مستقلة عن بعضها البعض. حتى الكيان اللبناني، كما حددته فرنسا، كان يضم أغلبية مسيحية، قبلت هذا الترتيب على أمل أن يكون لها الهيمنة السياسية؛ ولم تقبله الأقلية المسلمة في لبنان، عقوداً عدة؛ كما لم يقبله السوريون، إلى الوقت الحاضر (1998).

باختصار، في عشرينيات القرن التاسع عشر، كانت أقطار الوطن العربي إما مستقلة (المغرب، وشبه الجزيرة العربية، واليمن)، أو هي جميعاً أجزاء من إمبراطورية إسلامية واحدة هي الدولة العثمانية. في غضون القرن التالي، ومع عشرينيات القرن العشرين أصبحت كل بلدان الوطن العربي محتلة، وتحت هيمنة أربع دول إمبراطورية، بدلاً من واحدة. لقد تم استبدال الإمبراطورية العثمانية بكل من الإمبراطوريات البريطانية، والفرنسية، والأسبانية، والإيطالية.

وقد أخذ النضال، ضد الاستعمار الغربي، من أجل الاستقلال القطري، أو الوطني، صوراً مختلفة؛ وتحقق الاستقلال في نقاط زمنية مختلفة. فالوطن العربي يضم، في أواخر تسعينيات القرن العشرين، 22 دولة، تتمتع بالعضوية في كل من الجامعة العربية، والأمم المتحدة. اثنتان من هذه الدول لم تستعمره أبداً قوى غربية، وهما المملكة العربية السعودية، واليمن. أما البقية فقد استغرقت مسيرة الاستقلال فيها أكثر من سبعين عاماً. فبينما حصلت مصر على هذا الاستقلال، ولو اسمياً، في عام 1922، حصلت عليه جيبوتي عام 1977، وجزر القمر عام 1992؛ وما زالت فلسطين تناضل من أجل دولتها المستقلة إلى الآن.

2. بذور الصراعات الممتدة

كان ما فعلته فرنسا، في سورية ولبنان، وما فعلته بريطانيا في فلسطين، ومن قبلها العراق، هو باختصار، بذر بذور الصراعات الدموية الممتدة في المشرق العربي. فالتكوينات البشرية والعرقية والدينية والطائفية المتنوعة، والمتناقضة، في هذه الكيانات الجديدة، كان من شأنها أن تخلق صراعات داخلية طويلة الأمد. وقد حدث الشيء نفسه مع فرنسا في لبنان، أعقاب الانتصار الكبير، في الحرب العالمية الأولى، حيث أعلن القوميون العرب فيصل ملكاً على سورية الكبرى، بما فيها لبنان وفلسطين، وعلى العراق، ورفض هؤلاء القوميون اتفاقيات سايكس بيكو، ووعد بلفور، ونظام الانتداب، الذي كثر الحديث عنه في ذلك الوقت. وحدث ذلك في مؤتمر حافل صاخب في دمشق نظمه حزب جديد للقوميين العرب، هو حزب الاستقلال العربي، في خريف 1919. وهنا توجست بريطانيا وفرنسا معاً، من مغبة هذا الحماس القومي العربي، خاصة أن بريطانيا كانت قد واجهت ثورة شعبية عارمة، في مصر، قبل ذلك بعدة أشهر. واستدعت الدولتان "الملك فيصل" إلى باريس على عجل في نوفمبر 1919؛ وفيصل مع الرئيس الفرنسي كليمنصو، ووصلا معاً إلى حل وسط، يترك، بمقتضاه، كلاً من لبنان والساحل الممتد من اللاذقية إلى صور تحت السيطرة الفرنسية، بينما يكون الداخل السوري تحت سيطرة الملك فيصل؛ وعلى أن تكون فرنسا هي القوة الخارجية الوحيدة، التي تقدم المعونة، والمشورة للسلطة في الداخل السوري. وحينما وصلت أخبار هذه الاتفاقية إلى شباب حزب الاستقلال العربي (أعضاء جمعية العربية الفتاة، وكوادر الثورة العربية الكبرى سابقاً) غضبوا ورفضوا، وأعدوا لمؤتمر كبير، عُقد في دمشق في مارس 1920، وأكدوا قراراتهم السابقة، مع شجب وإدانة لكل من فرنسا وبريطانيا معاً.

ومرة أخرى كان رد الفعل البريطاني ـ الفرنسي سريعاً، فقد رفضت الدولتان الاعتراف بقرارات المؤتمر العربي في دمشق؛ ودعتا المجلس الأعلى لعصبة الأمم، الذي اجتمع وأصدر قراره في سان ريمو في 5 مايو 1920، الذي قضى بتقسيم سورية الكبرى إلى دولتين: لبنان وسورية، ووضعهما تحت الانتداب الفرنسي صراحة؛ وكذلك وضع فلسطين والعراق تحت الانتداب البريطاني. وأخذت فرنسا هذا القرار، كرخصة للتدخل العسكري السريع، في سورية. وكل ما هنالك أنها كانت بحاجة إلى عذر. وقد قدم الشباب العربي هذا العذر، بهجومهم على حامية حدودية فرنسية، على الحدود الإدارية، بين جبل لبنان وسورية. وعندها أرسل الجنرال الفرنسي جورو، قائد حامية بيروت، إنذاراً إلى السلطات العربية، في سورية، بالقبول غير المشروط بقرارات عصبة الأمم، وقبول الاحتلال العسكري الفرنسي لمدينة حلب، والمدن الرئيسية الأخرى، في الداخل السوري. وعلى الرغم من أن فيصل نجح، في إقناع المؤتمر القومي العربي، بقبول الإنذار الفرنسي، إلاّ أن الجنرال جورو كان قد قرر الزحف على سورية، حيث وصل بحشوده ودباباته وطائراته، إلى ضواحي دمشق، يوم 24 يوليه، ثم استولى عليها يوم 25 يوليه، بعد معركة دامية، وغير متكافئة مع القوات العربية. وكانت المفارقة المأسوية هي أن معظم قوات الجنرال الفرنسي جورو كانت من عرب شمال أفريقيا، ومن مسلمي السنغال، الذين جندتهم فرنسا للخدمة في قواتها الضاربة وراء البحار.

وكان من القرارات المبكرة، لسلطة الاحتلال الفرنسية، تغيير الحدود الإدارية للبنان، ومضاعفة حجمه ثلاث مرات، بقرار إداري يوم 31 أغسطس 1920، أي بعد معركة دمشق بشهر واحد. وبمقتضى هذا القرار الإداري، أُضيف إلى جبل لبنان مدن طرابلس شمالاً، وصيدا وصور جنوباً، وسهل البقاع شرقاً. وعلى الرغم من أن غالبية السكان، في لبنان الكبير، كانت مسيحية، إلاّ أنها كانت أغلبية طفيفة للغاية. وبمعدل مواليد المسلمين العالية، كانت المسألة مجرد وقت، قبل أن يصبح المسلمون أغلبية في لبنان. وهو ما حدث في ستينيات هذا القرن، وأدى إلى صراع أهلي مسلح من أجل إعادة توزيع السلطة، والثروة بين الطوائف، دام حوالي خمسة عشر عاماً (1975 ـ 1990).

وهذا ما حدث في العراق كذلك، الذي تنازعته الصراعات الطائفية المسلحة، وخاصة بين الأكراد، والسلطة المركزية، من بداية ستينيات هذا القرن إلى أواخره. أمّا الصراع، في فلسطين، فقد بدأ صراحة بين اليهود الصهاينة الوافدين، وعرب فلسطين الأصليين، في فترة ما بين الحربين. ولكنه تحول إلى صراع عربي ـ إسرائيلي إقليمي، دولي، طوال النصف الثاني من القرن العشرين، أي بعد إعلان قيام دولة إسرائيل، على أشلاء فلسطين، عام 1948.

3. مصر المستقلة تكشف عروبتها

توزعت الطاقة القومية خلال الربع قرن التالي، بين نضالات قطرية وطنية، متشوقة للحصول على استقلال وطني قطري؛ وبين التأصيل والتنظير لفكرة القومية العربية. فانفجرت ثورة 1919 في مصر، وحصلت مصر على استقلال منقوص، في 28 فبراير 1922، ثم أصدرت دستوراً ليبرالياً، سمح بتعدد الأحزاب، وحكومات منتخبة، في ظل النظام الملكي، والنفوذ الإنجليزي، الذي توارى عن الأنظار، ولكنه ظل وراء ستار، يحرك الأمور عن بعد، ويضبطها لصالحه. ولم يفت ذلك على المصريين حكاماً ومحكومين. لذلك واصلوا الكفاح من أجل استكمال "الاستقلال التام". ومثلت معاهدة 1936 محطة أخرى، نحو هذه الغاية. وكان على المحطة التالية أن تنتظر نشوب، وانتهاء الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، وإلغاء هذه المعاهدة، من طرف واحد، عام 1951، هو حكومة وفدية منتخبة بأغلبية شعبية. وشن الشباب الوطني المتحمس حرب عصابات، ضد القواعد البريطانية، في قناة السويس. وماجت مصر باضطرابات اجتماعية وسياسية وإقليمية، وقلاقل داخلية، كان أهمها حريق القاهرة (26 يناير 1952)، واستقالة وزارة حزب الوفد، وتبدل الوزارات ثلاث مرات، خلال الشهور الستة التالية، وحدوث انقلاب عسكري في 23 يوليه 1952، تطور بسرعة إلى "ثورة" أجبرت فاروق، ملك مصر، على التنازل عن العرش (26 يوليه 1952). ولم يكتمل عام على الانقلاب ـ الثورة، إلاّ وكان النظام الملكي قد أُلغي، وأعلنت مصر "جمهورية" لأول مرة في تاريخها المسجل الذي يمتد حوالي ستة آلاف عام.

خلال النصف الأول من القرن العشرين، كانت مسألة "القومية العربية" مسألة ثانوية، أو هامشية، في الوعي الجماعي الوطني. نعم كان هناك المثقفون والصحفيون الشوام، وصحفهم وكتاباتهم تروج للأفكار والمشاعر العروبية. وكان هناك تعاطف مصري شعبي، مع هموم الأقطار العربية. ووقف المصريون، متضامنين، مع كل الانتفاضات العربية، في فترة ما بين الحربين. وقال أكبر شعراء مصر أحمد شوقي أقوى قصائده تضامناً مع سورية، عندما هبت، في ميسلون، تقاوم قوات الاحتلال الفرنسية. وتذكر الأجيال السورية، بل والعربية، المتتالية بيت القصيد الذي ناجى فيه أحمد شوقي دمشق الباسلة:

وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يُدق

ومع ذلك فقد ظل الرأي العام المصري مشغولاً، أساساً، بقضيته المباشرة، وهي التخلص من الاحتلال البريطاني. أمّا زعماؤه السياسيون، الذين لمعوا في النصف الأول من القرن العشرين، مثل: مصطفى كامل، ومحمد فريد، وسعد زغلول، ومصطفى النحاس، فلم تكن العروبة، أو القومية العربية، أو الوحدة العربية، شاغلهم الشاغل. وينطبق الشيء نفسه، على كبار المفكرين المصريين، خلال الحقبة نفسها: محمد عبده، ومحمد حسين هيكل، وأحمد لطفي السيد، وطه حسين، وسلامة موسى.

بدأت هذه الصورة تتغير، تدريجياً، بعد معاهدة 1936، فالجيل الثاني من أبناء حزب الوفد الجماهيري، أظهر اهتماماً متزايداً بالقضايا العربية. وقام أحد النجوم الصاعدين في الحزب، وهو مكرم عبيد باشا، بزيارة طويلة لبلدان المشرق العربي، فلسطين وسورية ولبنان. واكتشف مكرم عبيد عمق الروابط الثقافية والدينية، وعاد إلى مصر يبشر بالأقطار العروبية. ولحقه في ذلك آخرون. كذلك تنبهت البرجوازية المصرية الصاعدة، ممثلة في مجموعة شركات بنك مصر، التي أسسها طلعت حرب باشا، إلى أن العالم العربي يمثل عمقاً اقتصادياً وتجارياً مهما لمصر، فتأسست فروع لبنك مصر، في معظم مدن المشرق. ثم تكثف الوعي المصري بالعروبة أثناء الحرب العالمية الثانية، مع تدفق الأخبار والمعلومات، عن الحركة الصهيونية، ومخططاتها لالتهام فلسطين. ثم قفز الوعي المصري بالعروبة، قفزة نوعية كبرى، باحتضان مصر المشروع البريطاني لتأسيس الجامعة العربية.. بل وبدا الأمر "طبيعياً" أن يجمع العرب على أن تكون القاهرة هي مقر الجامعة المرتقبة، والتي تأسست فعلاً في عام 1945؛ كما سيأتي.

4. استقلال بلدان المشرق

على الرغم من أن الوعي العروبي كان أسبق، وأرسخ، في بلدان المشرق العربي، إلاّ أنها شُغلت كذلك، مثل مصر، بقضية استقلالها القطري، خلال فترة ما بين الحربين (1918 ـ 1939). وبلدان المشرق المعنية هنا هي تلك، التي اصطنع الاستعماران الإنجليزي والفرنسي لها حدوداً، وفرضا عليها انتدابهما: فلسطين، الأردن، العراق؛ وسورية ولبنان. أما بلدان شبه الجزيرة العربية فيأتي الحديث عنها في فقرة لاحقة.

  • كان العراق هو أول بلدان المشرق حصولاً على استقلاله الاسمي، بمقتضى معاهدة، وقعتها الحكومة البريطانية، مع حكومة الملك فيصل عام 1930 (أي بعد مصر بسبع سنوات)؛ بالشروط نفسها، التي تُبقي بريطانيا متحكمة في مقاليد الأمور العراقية، من وراء ستار. وكان الحرص البريطاني على النفوذ في مصر هو "قناة السويس". أمّا في العراق، فقد كان الأساس "البترول"، الذي تدفق، بكميات هائلة، من حقول الموصل، وكركوك، والسليمانية (شمال العراق). ومرة أخرى كان على العراق أن يواصل نضاله، من أجل استكمال مسيرة الاستقلال، وهو الأمر الذي لم يتم إلاّ بعد انقلاب عسكري في عام 1958، مشابه لذلك الذي وقع في مصر عام 1952.

ضم العراق، شأنه شأن عدد من الكيانات القطرية، التي صنع الاستعمار حدودها، ضمت خليطاً اجتماعياً، وثقافياً، وعرقياً ودينياً غير متجانس. أي أن الاستعمار الإنجليزي، في حالة العراق، لم يراع، في تخطيط الحدود، وإدماج، واستبعاد، الجماعات، الداخلة في تكوين كل قطر، إلاّ مصالحه فقط. والعراق يمثل نموذجاً درامياً لذلك. فقد كونته بريطانيا بحدوده، عشية الانتداب، من ثلاث ولايات عثمانية سابقة، كانت كل منها وحدة إدارية قائمة بذاتها، وهي الموصل في الشمال، وبغداد في الوسط، والبصرة في الجنوب. كانت بريطانيا تريد الشمال من أجل البترول فقط؛ وتريد الجنوب (البصرة)، كميناء على الخليج، لشحن هذا البترول، وكمرتكز إستراتيجي لحماية "المحميات"، و"المشيخات" العربية المتصالحة معها. ولم تكن بالضرورة تريد الوسط (بغداد ومناطق العشائر والقبائل المحيطة بها). هذا على الرغم من أن الشمال كانت تقطنه أغلبية كردية، غير عربية، وكانت جزءاً من كيان كردي أكبر، يمتد بشرياً وجغرافياً في كل من تركيا وإيران. وكان الجنوب تقطنه أغلبية شيعية، ذات امتدادات بشرية في إيران والبحرين وشمال شرق شبه الجزيرة العربية.
لم تراع بريطانيا كل اعتبارات التنوع هذه. وأخمدت، بالقوة، كل محاولات الاحتجاج على فرض "الهوية العراقية" الجديدة على بشر لم يشعروا بها، تلقائياً، أو يتم تعليمهم، وإعدادهم لها. على أي الأحوال، حينما استقلت العراق، على مراحل، كان آخرها بعد ثورة 14 تموز 1958، كان الكيان العراقي مليئاً بالمتناقضات، التي أرسى الاستعمار البريطاني بذورها، عشية احتلاله لأراضيها. وقاست العراق كثيراً من تفاحل هذه المتناقضات طوال النصف الثاني من القرن العشرين.

  • وبهذا المنطق التدرجي نفسه، استقلت لبنان عام 1944، وسورية عام 1946. وكانتا أول جمهوريتين في الوطن العربي. وجاء نظام الحكم فيهما على شاكلة الدولة الاستعمارية التي كانت مهيمنة عليهما، وهي فرنسا (الجمهورية). مع العلم بأن هاتين الدولتين كانتا في الأصل إقليماً واحداً، ومعهما فلسطين وشمال الأردن. وكان يطلق على هذا الإقليم تاريخياً اسم "بلاد الشام"، وعاصمته دمشق. وهو الإقليم نفسه، الذي كان يطلق عليه، إلى الحرب العالمية الأولى، اسم "سورية الكبرى" (Great Syria). وقد كانت بلاد الشام، أو سورية الكبرى، هي الموطن الأصلي لفكرة القومية العربية، كفكرة وكحركة سياسية، على الرغم من أنها لم تكن أصل العروبة. فهذا الأصل هو شبه الجزيرة العربية. وقد تم تعريب بلاد الشام، شأن تعريب كل من العراق ومصر، وبلاد شمال أفريقيا (المغرب الكبير) بين القرنين السابع والعاشر الميلاديين.
  • يُعد ظهور ونمو القومية العربية، بمعناها الحديث، في بلدان لم تكن في الأصل "عربية"، أبلغ دلالة على أن مفهوم "العروبة" ليس إرثياً أو عرقياً، وإنما هو مفهوم "لغوي ـ ثقافي ـ حضاري" مكتسب أساساً. بل أن غلبة غير المسلمين في لبنان (50% أو أكثر وقت الاستقلال)، ووجودهم بنسبة كبيرة في سورية (حوالي 25%)، وبروز بعض المفكرين المسيحيين، كمتحدثين، ومنظرين، ودعاة، للقومية العربية، لهو أبلغ دليل، كذلك، على أن العروبة والإسلام ليسا شيئاً واحداً، وإن كان أغلبية العرب يدينون بالإسلام. والمهم هو أن مواطني "سورية الصغرى" أثناء، وصبيحة الاستقلال، لم ينسوا أن بلدهم، الذي حصل على استقلاله من فرنسا، هو أصغر مما كان، عندما احتلته فرنسا كدولة استعمارية غازية (1920). وهو أصغر كثيراً من الدولة العربية القومية الكبرى، التي كانوا يحلمون بها، قبل الحرب العالمية الأولى، وخلال الثورة العربية الكبرى (1916 ـ 1918) ضد الدولة العثمانية (التركية). ومن ثم حرصت الدساتير السورية المتتالية، منذ أول دستور لها، على تأكيد عروبة سورية، وأنها جزء لا يتجزأ من الأمة العربية، وأن هدفها هو إنجاز وحدة هذه الأمة. وقد سارت على نهجها معظم الدساتير العربية، منذ الخمسينيات.

ومن الجدير بالتنويه، أنه، على الرغم من الانتداب الفرنسي، وقبضته على السلطة العليا في البلاد، إلاّ أن كل من سورية ولبنان مارستا حياة دستورية، شاركت فيه القوى السياسية والأحزاب المحلية. من ذلك أن سورية شهدت ما لا يقل عن عشرة إعلانات دستورية، بين عامي 1921 و1946، بما في ذلك تلك، التي صدرت لتنظيم الحياة السياسية، في كل من جبل العلويين وجبل الدروز. وعلى الرغم من أن هذه الإعلانات الدستورية كانت تصدر عن سلطة الانتداب، إلاّ أن القوى المحلية أخذتها مأخذ الجد، وسمحت، على الرغم من انتقاص الاستقلال والسيادة، بتنشئة طبقة سياسية ليبرالية مدربة. وكانت هي الطبقة، التي قادت المرحلة الأخيرة من النضال، ضد سلطات الانتداب نفسها، إلى أن حصلت كل من سورية ولبنان على استقلالهما. ومن الأسماء التي لمعت، في هذا الصدد في سورية، سلطان باشا الأطرش، ومحمود أبو فخر، وجميل مردم، وفارس الخوري، وشكري القوتلي، وخالد العظم. كما لمع، في لبنان خلال الفترة ما بين الحربين، أسماء مثل رياض الصلح، وبشارة الخوري، وحميد فرنجية، وعبدالله اليافي، ومجيد أرسلان، وشارل دبوس، وصائب سلام، وكمال جنبلاط، وكميل شمعون.

وجدير بالذكر أن السوريين أحبطوا كثيراً من محاولات التجزئة، التي حاولتها سلطات الانتداب الفرنسي، التي لم تنجح منها إلاّ محاولات فصل لبنان وفلسطين وشمال الأردن، عن سورية الكبرى. فقد كانت هناك مخططات، صدرت بها إعلانات دستورية، بإنشاء أربعة كيانات إضافية وهي: دولة العلويين، وعاصمتها اللاذقية؛ ودولة الدروز، وعاصمتها دير الزير؛ ودولة حلب، وعاصمتها حلب، ودولة دمشق وعاصمتها دمشق. وكان هذا التقسيم إلى دويلات يتم على أساس عرقي ـ طائفي. ولكن مواطني هذه الدويلات أنفسهم هم الذين رفضوها، وفضلوا أن يكونوا محافظات، ضمن كيان سوري عربي موحد، مع بداية الأربعينيات.

  • استقل الأردن، كذلك على مراحل، مثله مثل بقية دول المشرق العربي. فقد فُرض عليه نظام الانتداب الرسمي بصك من عصبة الأمم، في 16 سبتمبر 1922. وهو صك مشابه تماماً لذلك الذي كان يخص فلسطين. بل إن هذا الأخير صدر أولاً، في 24 يوليه 1922، وشمل شرق الأردن ضمن حدود فلسطين. لذلك سارعت بريطانيا، حينما قررت ترضية أبناء الشريف حسين، بعد حنثها بعهودها لوالدهم، وتنصيب ثاني أبنائه، عبدالله بن الحسين، أميراً حاكماً على الضفة الشرقية لنهر الأردن، بطلب رسمي لعصبة الأمم بإخراج تلك المنطقة، واستثنائها من صك الانتداب على فلسطين. وهو ما كان. وكانت صكوك الانتداب تعطي دولة الانتداب كل الحقوق السيادية، على البلد الواقع تحت انتدابها، مقابل أن تقوم الدولة المنتدبة بإعداد هذا البلد للاستقلال، في مدة زمنية معقولة. وكان المندوب السامي، لدولة الانتداب، هو الحاكم الفعلي وصاحب السلطة الأعلى في البلد. حتى مع وجود ملك أو أمير أو رئيس جمهورية، أو رئيس وزراء، أو برلمان. وقد كان للمندوب السامي البريطاني، في الأردن، نفوذ غير عادي، على الرغم من كفاءة الأمير عبدالله، وذكائه الشديد لعدم وجود تقاليد الدولة في شرق الأردن، ولحداثة ولادة الكيان، ولشح موارده، واعتماده شبه الكلي على معونة بريطانية سنوية. وكان مطلوباً بناء كل مؤسسات الكيان، وخلق رابطة، بين أجزائه، تضفي عليه الحد الأدنى من الهوية القطرية الوطنية المتميزة، التي كان يفتقدها تماماً. وبدأت هذه العملية، بمساعدة دولة الانتداب، بناء الجيش، والذي سُمي في البداية بالفيلق العربي، من بقايا القوات، التي حاربت مع الأمير فيصل، والأمير عبدالله، ضد الأتراك، في الثورة العربية الكبرى.

ومع تبلور شخصية شرق الأردن تدريجياً صدر لها دستور، سُمي في البداية، باسم القانون الأساسي، في 17 أبريل 1928. وكغيره من دساتير الأقطار العربية، في فترة ما بين الحربين، نصت إحدى مواده المتقدمة (في حالة الأردن المادة 5) على أن جميع المواطنين، أمام القانون، سواء، "ولو اختلفوا في العرق، والدين، واللغة". ويمثل ذلك تقنيناً فعلياً لمفهوم المواطنة، في ظل "الوطنية القطرية"، و"القومية العربية". كذلك أكد القانون الأساسي الأردني "الدستور"، مثله مثل الدساتير العربية، الأخرى، في تلك الحقبة، كل الحريات الأساسية وحقوق الإنسان، واستقلال القضاء، والفصل بين السلطات. وعُدَّل الدستور الأردني في عام 1939، لينص على استحداث مجلس للوزراء؛ ثم في عام 1940، بعد نشوب الحرب العالمية الثانية، ليعطي للأمير جواز مد فترة المجلس التشريعي النيابي، من أربع سنوات إلى خمس سنوات؛ ثم في عام 1946، غيرت مواد الدستور اسم الكيان من "إمارة شرق الأردن" إلى "المملكة الأردنية الهاشمية"؛ وتغيير لقب "الأمير" إلى "ملك" ـ وكان ذلك كله أسوة بجارتي الأردن، المملكة العربية السعودية، والمملكة العراقية؛ كما كان التعديل تطوراً بالكيان الأردني، نحو استكمال استقلاله، وهو ما تم صراحة، في قرار تاريخي "بإعلان البلاد الأردنية دولة مستقلة استقلالاً تاماً"، في 25 مايو 1946؛ وصدر "دستور" (وليس قانون أساسي)، بهذا المعنى، في الأول من فبراير 1947.

  • أمّا فلسطين، وهي الكيان القطري الخامس، الذي استحدثته ترتيبات ما بعد الحرب العالمية الأولى، التي هندستها بريطانيا، وحلفاؤها المنتصرون، وخاصة فرنسا (سايكس ـ بيكو)، نص صك الانتداب الخاص بها، والذي صدر عن عصبة الأمم، في 19 أغسطس 1922، صراحة على:

"أن تكون الدولة المنتدبة مسؤولة عن تنفيذ التصريح، الذي صرحت به حكومة جلالة ملك بريطانيا في 2 نوفمبر 1917، وصادقت عليه دول الحلفاء، بأن يُنشأ في فلسطين وطن قومي للشعب اليهودي، مع البيان الجلي ألاّ يترتب على ذلك شيء، يضير الحقوق المدنية والدينية، التي تتمتع بها الطوائف، غير اليهودية، المقيمة في فلسطين الآن، ولا الحقوق والمركز السياسي، الذي يتمتع به اليهود، في البلدان الأخرى".

ويبدو أن الحركة الصهيونية لم تكن تثق في بريطانيا، بما فيه الكفاية؛ أو أن بريطانيا نفسها، أرادت صكاً دولياً يبرئ ذمتها أمام أصدقائها من العرب، فيما بعد، فعملت الحركة الصهيونية أو بريطانيا، أو هما معاً، على أن يحتوي صك الانتداب كل ما يريده اليهود، عموماً، والحركة الصهيونية، خصوصاً، من ذلك الفقرات التالية في قرار عصبة الأمم:

"وحيث أن هذا الصك هو اعتراف بالصلة التاريخية، التي تربط الشعب اليهودي بفلسطين، والبواعث التي تبرر إعادة إنشاء وطنهم القومي في تلك البلاد...، وحيث أن درجة السلطة والسيطرة للدولة المنتدبة لم يتم الاتفاق عليها، بين أعضاء عصبة الأمم، فإن مجلس عصبة الأمم ينص على ذلك، نصاً صريحاً. فالمجلس، بعد تأييد الانتداب المذكور، يحدد شروطه، ونصوصه، في المواد المذكورة في هذا الصك...".

ثم تسرد وثيقة الانتداب الشروط في 28 مادة، ما كان للحركة الصهيونية أن تحلم بأفضل منها، ويكفي، على سبيل المثال فقط، فقرات ثلاث أو أربع من هذه المواد:

مادة 2: " تكون الدولة المنتدبة مسؤولة عن جعل البلاد في أحوال سياسية وإدارية واقتصادية تكفل إنشاء الوطن القومي اليهودي، كما جاء في ديباجة هذا الصك...".

مادة 4: "يُعترف بوكالة يهودية مناسبة، كهيئة عمومية مناسبة، لتنصح، وتعاون، في إدارة فلسطين، اقتصادياً واجتماعياً، وغير ذلك مما يمس إنشاء الوطن القومي اليهودي، ومصالح السكان اليهود في فلسطين، وتساعد، وتشارك، في ترقية البلاد تحت سيطرة حكومتها دائماً. ويُعترف بأن الجمعية الصهيونية هي هذه الوكالة المنصوص عليها فيما تقدم، ما دامت الدولة المنتدبة ترى أن نظامها، وتأليفها، يجعلانها صالحة، ولائقة لهذا الغرض. وعلى الجمعية الصهيونية أن تتخذ ما يلزم من التدابير، بعد استشارة الحكومة البريطانية، للحصول على معونة جميع اليهود، الذين يرغبون في إنشاء الوطن القومي اليهودي".

مادة 6: "على حكومة فلسطين (سلطة الانتداب).. أن تسهل هجرة اليهود (إلى فلسطين)، في أحوال مناسبة، وتنشط بمساعدة الوكالة اليهودية، المشار إليها في المادة 4، استقرار اليهود في الأراضي الزراعية، بما فيها الأراضي المشاع، والأراضي البور، غير المطلوبة للأعمال العمومية".

مادة 7: "يتعين على حكومة فلسطين أن تسن قانوناً، للجنسية يتضمن نصوصاً بتسهيل حصول اليهود، الذين يتخذون فلسطين مقاماً دائماً لهم، على المواطنة الفلسطينية".

وبهذه النصوص من المنظمة الدولية، وبقوة الانتداب من بريطانيا العظمى، كسبت الحركة الصهيونية ثلثي معركة اغتصاب فلسطين، قبل اكتمال هذا الاغتصاب، وإعلان إسرائيل، بثلاثين عاماً تقريباً. وجاء اضطهاد اليهود في ألمانيا النازية، في فترة ما بين الحربين، ليضيف، إلى قوة الإلحاح الصهيوني، التعاطف الدولي مع اليهود لبناء وطن قومي لهم، وفي التأريخ للقومية العربية، ربما كان اغتصاب فلسطين بعد الحرب العالمية الثانية، أعنف وأعمق من الضربة، التي تلقتها بعد الحرب العالمية الأولى.