إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / القومية العربية









الفصل الرابع

 5. الفكر القومي بين الحربين

انصرف العمل السياسي اليومي للوطنيين العرب، في فترة ما بين الحربين، إلى "النضالات" القطرية، ضد "الاحتلالات" المختلفة (البريطانية، والفرنسية، والإيطالية، والأسبانية) لأقطارهم، من أجل الحصول على الاستقلال القطري. وتوارى، إلى حين، العمل السياسي القومي العربي المشترك، عبر الأقطار، من أجل الوحدة العربية، التي حلمت بها أجيال ما قبل الحرب العالمية الأولى.

ومع ذلك، فقد ظل المفكرون القوميون العرب يحلمون بالوحدة العربية، ويؤصلون لفكرة القومية العربية، طوال فترة ما بين الحربين، وخلال الأربعينيات وما بعدها. بل ربما كان أفضل وأقوى ما كتب، عن القومية العربية، هو ما كتب، في تلك الفترة، التي توارى فيها العمل السياسي الوحدوي إلى خلفية مسرح الأحداث. ويبدو أن ذلك كان من قبيل تقسيم العمل الضمني التلقائي. فحينما يكون العمل السياسي الوحدوي الحركي في حالة مد، فان العمل الفكري القومي يأخذ مقعداً خلفياً، والعكس صحيح.

من الأسماء اللامعة التي برزت، في فترة ما بين الحربين، كل من أمين الريحاني، وأدموند رباط، وجورج أنطونيوس، وساطع الحصري، وسامي شوكت، وعبدالله العلايلي، ورائف خوري، وعبدالرحمن البزاز، وعبدالرحمن عزام، وجميل بيهم، ورائف خوري، ونبيه فارس، ويوسف هيكل، ونيقولا زيادة، وعبداللطيف شرارة، وخليل اسكندر قبرصي، وميشيل عفلق، وصلاح الدين البيطار.

وعلى يد هؤلاء، وغيرهم، تبلورت نظرية القومية العربية. ويمثل هذا الجيل الثاني من مفكري القومية العربية. وقد كتب بعضهم بالفرنسية أو الإنجليزية، ثم تُرجمت كتاباتهم إلى العربية، مثلما فعل نجيب عازوري، في أوائل القرن. وكان سبب ذلك، هو إثبات مشروعية القومية العربية للرأي العام الأوروبي، وللحكومات الأوروبية، التي كانت تشكك في وجود "أمة عربية". من ذلك كتاب إدموند رباط، المنشور في باريس 1937، بعنوان "الوحدة السورية والمستقبل العربي" (Unite Syrienne et Devinie Arabe)، والذي يتمحور حول مقولة رئيسية، فحواها أن العرب وحدهم الأصل المشترك من البابليين والآشوريين والفينيقيين والأجناس السامية الأخرى، كما وحدتهم لغتهم المشتركة، وتاريخهم المشترك، ووطنهم المشترك، الذي هو الهلال الخصيب. لذلك، فقد تولد، عن هذا كله، ثقافة واحدة، ومن ثم تبلورت منهم "أمة واحدة".

كان إدموند رباط، مثل معظم مفكري الجيلين الأول والثاني، من دعاة القومية العربية، من المسيحيين العرب. ولذلك، فقد اجتهد، في التمييز بين العروبة والإسلام. فالعروبة أساسها وجوهرها هو اللغة والثقافة، وهذا سابق على الإسلام، وعلى المسيحية. أي أن الأمة العربية كانت موجودة، بالفعل، قبل أن تهبط عليها رسالات السماء والأديان التوحيدية. ويقر إدموند رباط، كما أقر، قبله، ومعه، وبعده، مفكرون قوميون مسيحيون، بأهمية الإسلام، كعامل حاسم، في توحيد العرب، وإعطائهم هذا الإحساس بالعزة، وبأن لديهم رسالة واحدة، وهي نشر، الإسلام ونصرته.

وبعد ظهور كتاب إدموند رباط بعام وحد، ألقى المفكر القومي، أمين الريحاني، خطبة مشهورة في عام 1938، جاء فيها فقرة مهمة، اقتبسها كثير من المفكرين القوميين الآخرين، وهي "أن العرب وجُدوا، قبل الإسلام، وقبل المسيحية. فعلى المسيحيين أن يدركوا ذلك. وعلى المسلمين أن يدركوا ذلك. إن العروبة كانت قبل كل شيء، وهي فوق كل شئ". وقد حذا كثير من المفكرين القوميين الإسلاميين الحذو نفسه؛ وكان من أهمهم، في الثلاثينيات، المفكر العراقي سامي شوكت، الذي شغل مدير عام التعليم في العراق، لعدة أعوام، وكان تأثيره طاغياً في تشكيل المناهج الدراسية العراقية، وتزويدها بشحنات متصلة من الفكر القومي. ومن أقواله المأثورة، عام 1839، في هذا الصدد: "إننا إلى الآن، كنا قد أهملنا واحداً من أهم جوانب تاريخنا المجيد، حيث جعلناه يبدأ بالرسالة النبوية، وهذا تاريخ لا يتجاوز أربعة عشر قرناً. إن تاريخنا العربي العريق يمتد إلى آلاف السنين، ويعود إلى أزمان كانت فيها شعوب أوروبا تعيش في الغابات والمستنقعات…".

أ.  جورج أنطونيوس: اليقظة العربية

كان كتاب جورج انطونيوس (1891 ـ 1942)، هو أهم كتاب ظهر في الثلاثينيات عنوان "اليقظة العربية"، والذي  نشر أولاً بالإنجليزية (The Arab Awakening) عام 1938، وبأسلوب رصين جذاب، ومنطق قوي، ومعلومات تاريخية، وأنثروبولوجية، غزيرة. فقد كان أنطونيوس أول من تعقب البذور الأولى لحركة النهضة العربية، فيما سماه "بالبداية الجنينية" (False Start) في عهد محمد علي، وسنوات إبراهيم باشا، في بلاد الشام، وأواخر ثلاثينيات القرن التاسع عشر؛ والتي لم تنجب وليداً قابلاً للحياة وقتها. وكان لابد من الانتظار، إلى ثمانينات القرن نفسه، أي خمسين عاماً تقريباً، إلى أن تكونت بعض الجمعيات السرية العربية في بيروت، التي دعت في منشوراتها وكراساتها، التي وزعتها سراً، إلى تحرير سورية من "الاحتلال العثماني". وكان مجرد استخدام كلمة "احتلال" لوصف الوجود العثماني الإسلامي، باسم الخليفة، أو أمير المؤمنين، يمثل ما يشبه "الفتنة"، و"العصيان"، و"الردة". وفاقم من هذا الأمر أن معظم، الذين كانوا قائمين على أمر هذه الجمعيات، كانوا من المسيحيين العرب، الذين تلقوا تعليماً حديثاً في مدارس وكليات الإرساليات التبشيرية البروتستنتية والكاثوليكية. وطبقاً لجورج أنطونيوس، لم يكن مستغرباً، أن يكون المسيحيون العرب المثقفون، هم أول من يطرح ويروج للقومية العربية بلغة علمانية، وأن يميزوا بين العروبة والإسلام، مع التعبير عن احترامهم للإسلام كدين. ذلك أنهم، على الرغم من علمهم، وثقافتهم، ومهنهم المتطورة (الطب والهندسة والمحاماة والتعليم)، كانوا يُعاملون في ظل دولة "الخلافة الإسلامية العثمانية"، كمواطنين من الدرجة الثانية أو الثالثة. وقد لاحظ جورج أنطونيوس عدم حماس المسلمين للأفكار القومية العربية، التي انطوت على تفكيك للإمبراطورية العثمانية، على الرغم من كل تحفظاتهم، بل وسخطهم على فساد واستبداد حكامهم العثمانيين. ويذكر أنطونيوس أن موقف معظم المفكرين العرب لم يتغير جذرياً، إلاّ عندما انقلب عليهم أعضاء جمعية "تركيا الفتاة"، واستخدم ممثلوها، في السلطة، أعنف ألوان البطش، ضد "العرب"، لكون هم "عرباً"، سواء كانوا مسلمين، أو مسيحيين. ولكن غياب التأييد من زملائهم المسلمين، دفع عدداً كبيراً، من المثقفين القوميين المسيحيين العرب، إلى التخلي عن مشروعهم القومي، إلى حين، وهجرتهم إلى مصر، وتأسيس دور صحفية ودور نشر عديدة، ومنها المقطم التي أنشأها فارس نمر باشا، الذي صاهره جورج أنطونيوس نفسه. وتناول كتاب "اليقظة العربية" الرعيل الأول للقوميين العرب، بما في ذلك الذين كتبوا أو نظموا من أوروبا ـ مثل نجيب عازوري، وعبدالكريم الزهراوي؛ وكيف أنه مع نهاية العقد الأول للقرن العشرين أصبح المسرح ممهداً، تماماً، للخروج بالقومية العربية من الدهاليز الفكرية، والمخابئ السرية، إلى حركة شعبية علنية، هي تلك التي قادها الشريف حسين، أمير مكة، في ثورة عربية كبرى (1916 ـ 1920).

كان جورج أنطونيوس هو الذي أرخ بالوثائق، للقارئ الأوروبي، كيف تمت الخديعة الكبرى للعرب أثناء الحرب العالمية الأولى، على يد الغرب، وخاصة بريطانيا وفرنسا والحركة الصهيونية (الأوروبية المنبت). وكانت اتفاقية "سايكس ـ بيكو"، وما سبقها، من مفاوضات، قد كشفتها روسيا البلشفية بعد الثورة، التي تعمدت كشف تواطؤ النظام القيصري الروسي القديم، مع الإمبريالية الإنجليزية ـ الفرنسية، ضد الشعوب لتمزيقها، واستغلالها. المهم أن كتاب جورج أنطونيوس كان مليئاً بالمعلومات، ولهذه الأسباب لقي الكتاب رواجاً هائلاً في أوروبا، قبل أن يذيع صيته، ويترجم إلى اللغة العربية، وقبل أشهر قليلة، من رحيل مؤلفه، الفلسطيني المولد، وهو في ريعان الشباب، عام 1942. ولأن جورج أنطونيوس كان حركياً نشيطاً، إلى جانب تميزه الفكري، ورحيله المبكر، فقد اكتسب كتاب "اليقظة العربية" أبعاداً رومانسية إضافية. وفي هذا الكتاب صاغ جورج أنطونيوس الأدلة، والشواهد، والقرائن التاريخية، والأنثروبولوجية ـ السوسيولوجية، التي تثبت أن العرب أمة واحدة، وأن القومية العربية هي تعبير صادق عن هذه الأمة؛ وأن الوحدة العربية هي قدرها المنتظر. وأن العالم، عموماً، والغرب خصوصاً، سيكسب كثيراً في استقراره، ورخائه إذا احترم هذه الحقيقة وتعاطف معها؛ أو على الأقل، لم يقف في طريقها. واسترجع أنطونيوس، بأسلوب مؤثر، كيف أن الغرب خدع العرب، على امتداد قرن من الزمان، وخاصة في الحرب العالمية الأولى. وأن هناك حصاداً مراً لابد أن يجنيه الغرب والعالم من جراء تلك الخدعة الكبرى. ومع ذلك، كما ذهب أنطونيوس، فما زال أمام الغرب متسع للتكفير عن أخطائه، وخطاياه التاريخية ضد الأمة العربية.

ويعتقد كثيرون، ومنهم فرد هاليداي، وبيتر مانسفيلد، ووليام كليفلاند، أن كتاب جورج أنطونيوس كان ذا تأثير عظيم على الرأي العام الأوروبي عموماً، والإنجليزي خصوصاً. وقرأه طلاب، وممارسو السياسة، في بريطانيا، باهتمام شديد، وخاصة لتزامنه مع انفجار الحرب العالمية الثانية، وحاجة الغرب إلى حلفاء في كل أنحاء العالم، وفي مقدمتهم العرب، ولأن أنطونيوس كان قد بين بالوثائق "الخداع الغربي الكبير"، في الحرب الأولى، فقد حرص الجيل الجديد، من السياسيين البريطانيين، على أن يكونوا أقل برجماطية وانتهازية، وأن يكونوا أكثر نزاهة. ويعتقد المراقبون أن حرص بريطانيا على دعم مشروع تأسيس جامعة الدول العربية (1945) كان تكفيراً جزئياً عما شعرت به من خطايا، ارتُكبت في حق العرب في الحرب الأولى، وفترة ما بين الحربين؛ خاصة، وأن كتاب جورج أنطونيوس جاء متناغماً، مع النقد الشديد، الذي وجهه تي. إي. لورانس لحكومته البريطانية، في كتابه ذائع الصيت "أعمدة الحكمة السبعة" (Seven Pillars of Wisdom).

وباختصار كان كتاب جورج أنطونيوس قفزة نوعية هائلة، في تأصيل، وعرض عن القومية العربية والدفاع عنها، وعن حق الأمة العربية في الاستقلال والوحدة والحرية. وقد نسج كل من كتبوا بعده في الأربعينيات على المنوال نفسه.

ب. ساطع الحصري: عروبة مصر

كان المؤرخ والتربوي الكبير ساطع الحصري، من أهم المفكرين القوميين، في فترة ما بين الحربين، امتد عطاؤه إلى الخمسينيات. ولد في سورية، في أواخر القرن التاسع عشر، وتعلم في استنبول، وخدم في اليمن، والعراق، وسورية، ومصر. وكتب ما يزيد على الثلاثين كتاباً، في القومية، والتربية، والإصلاح الاجتماعي، والسياسي، فضلاً عن مئات المقالات في الدوريات، والصحف العربية، من المحيط إلى الخليج.

والذي يميز إسهامات ساطع الحصري، في الفكر القومي العربي، هو تحديده الواضح القاطع لجوهر "القومية العربية"، وهو اللغة العربية؛ "فالأمة العربية تتكون من كل أولئك الذين يتحدثون العربية كلغة أم، لا أكثر ولا أقل". فاللغة عنده هي روح الثقافة، ووسيلتها، وأداتها التعبيرية. والثقافة هي التي تخلق الهوية والضمير؛ ومن ثم المشاعر الجماعية المشتركة.

وأهمية هذا الطرح هو أن ساطع الحصري، على غير عادة المفكرين القوميين، ممن كتبوا قبله أو عاصروه، كانوا يقصرون حدود الأمة العربية في شبه الجزيرة العربية والمشرق العربي. وكانوا يستبعدون، صراحة، أو يسكتون عن مصر وبلدان المغرب (تونس والجزائر والمغرب الأقصى)، وكذلك بلاد شنقيط (موريتانيا)، والسودان. وفي أفضل الكتابات، كان الكتاب القوميون ينوهون بأن مصر يمكن أن تلتحق "بالأمة العربية المتحدة"، فيما بعد، إذا رغبت في ذلك. وجاء الحصري في أواخر الثلاثينيات وطوال الأربعينيات، فأدخل مصر في تعريف وتحديد الأمة العربية، بل وضعها في قلب الأمة. وأكد أن أي مشروع وحدوي، من دون مصر، سيظل "هشاً ضعيف القلب"… وفي عام 1936، كتب ساطع الحصري تميزت مصر بالصفات والمميزات، التي تجعلها مؤهلة ومسؤولة، عن مهام القيادة في إحياء القومية العربية".

وقد انطوى هذا الطرح على فتح جبهتين للسجال مع ساطع الحصري: جبهة أولئك، الذين يستبعدون مصر، من المفكرين العرب المشارقة؛ وجبهة أولئك المصريين، الذين لا يرون، أو يريدون أن تكون مصر جزءاً من الأمة العربية. وكان من الأسهل، نسبياً، على ساطع الحصري، أن يحسم السجال الأول مع المفكرين المشارقة. فما دامت المقدمات مقبولة، بأن اللغة والثقافة هي أساس القومية؛ وما دامت مصر لا لغة ولا ثقافة لها، منذ عشرة قرون، إلاّ العربية؛ فإن مصر لابد أن تكون عربية. وقد ساعد الحصري على كسب هذه الجولة، أنه كان موسوعي الثقافة من ناحية، والترحيب التلقائي لدى الرأي العربي المشرقي بأن تكون مصر منهم وبينهم، من ناحية أخرى. فمع ذلك الوقت، كان الشعراء والأدباء والفنانون المصريون هم الأكثر حضوراً، ولمعاناً، على المسرح الإقليمي كله.

ولكن السجال، على الجبهة المصرية، كان هو الأصعب. فقد اختار ساطع الحصري واحداً من أهم المثقفين المصريين ليتحاور معه، وهو طه حسين، الذي كان لتوه، قد خرج من معركتين كبيرتين وهما معركة كتاب "الشعر الجاهلي" (1928)، ومعركة كتاب "مستقبل الثقافة في مصر" (1937). وكان طه حسين يؤمن بقدر، ومستقبل مصر "متوسطياً"، أي التوجه والتفاعل مع الشمال عبر البحر الأبيض المتوسط، وكان كغيره، من أبناء جيله، أكثر اعتزازاً "بالوطنية المصرية" التي وصلت إلى ذروتها في ثورة 1919. وقد بدا الأمر لطه حسين، وأمثاله، أن الالتزام بالقومية العربية ينطوي على نفي "للوطنية المصرية" أو تقليصها؛ ومن ثم ظل ساطع الحصري يكتب، في الصحافة المصرية، ويساجل من دون أن يجتذب أنصاراً كثيرين. ولم تبدأ الكفة في الميل إلاّ بتبني حزب الوفد لتأسيس الجامعة العربية، واتخاذها القاهرة مقراً، ونشوب حرب فلسطين، وثورة يوليه 1952.

ج. أنطون سعادة: القومية السورية

لم يكن طه حسين وحده، الذي يدافع عن هوية محلية وطنية، أي مرتبطة برقعة جغرافية محددة، بدلاً من الارتباط بجماعة ثقافية مثل الأمة. فقد ظهر في الثلاثينيات، مفكر وزعيم كاريزمي مؤثر، هو أنطون سعادة، الذي كتب وتحدث، لا عن القومية العربية، ولكن عن "القومية السورية"، وهي توصيف ما سماه أنطون سعادة "بالأمة السورية العظمى"، التي عاش شعبها في سورية الكبرى، وانحدر من الكنعانيين، والأكاديين، والكلدانيين، والآشوريين، والآراميين، والحيثيين. وهذا الخليط الغني من الحضارات المتتابعة، على أرض سورية الكبرى، هو الذي تبلورت منه "الأمة السورية"، السابقة في وجودها للأمة العربية. فحينما أتى العرب الفاتحون، في القرن السابع الميلادي، كانت هناك "أمة سورية" مكتملة العناصر، والشخصية، بالفعل. وقد دعا أنطون سعادة إلى إحياء الاعتزاز بهذه الأمة، وبوحدة أراضيها، واستقلالها، ووحدتها، في معظم المناطق المعروفة الآن باسم الهلال الخصيب، أي سورية، ولبنان، وفلسطين، والأردن، وقبرص. ولم يدخل سعادة، في نطاق الأمة السورية، هذه أياً من البلدان العربية الأخرى، في شبه الجزيرة العربية. كما لم يُدخل فيها مصر، التي اعتبرها أمة قائمة بذاتها في أرضها.

وقد لاقت أفكار وآراء أنطوان سعادة قبولاً واسعاً، بين أبناء الأقليات، في المشرق، وخاصة من المسيحيين الأرثوذكس، والدروز، والعلويين، والأكراد. وقد كان الرجل علمانياً، مناهضاً للطائفية، والانقسامات الدينية، والقبلية، والعشائرية. وكان يدعو إلى الوحدة، والقوة، والانضباط والطاعة الكاملة للزعيم، كفضائل في حد ذاتها، ولذلك كوسائل لبعث الأمة السورية من رقادها، وتحقيق استقلالها، ووحدتها وعظمتها.

كما تضمنت كتابات أنطون سعادة جرعة واضحة، وغير مسبوقة، من أفكار المساواة، والعدالة الاجتماعية، ومناهضة الاستغلال والظلم. أي أن المقولات القومية اختلطت في فكر سعادة بمقولات اجتماعية اشتراكية، لذلك، فانه حينما أسس حزباً سياسياً، أسماه بالحزب القومي السوري الاجتماعي. (Parti Populaire Syrien (PPS).).

قضى أنطون سعادة عدة سنوات، في صباه وشبابه، مهاجراً مع أسرته، في أمريكا اللاتينية قبل العودة إلى لبنان وسورية، في الثلاثينيات. وقد تواكبت أعوام وعيه السياسي، مع صعود الفاشية في إيطاليا، وأسبانيا، والنازية في ألمانيا. ومثل كثيرين من أبناء جيله، تأثر سعادة بهذه الحركات الفاشية، وبفكرها تأثراً شديداً. وكان لابد لهذه الأفكار، والحزب الذي احتضنها، أن تصطدم بقوى عديدة؛ قوى الاحتلال الفرنسي، وقوى القومية العربية؛ وبالقوى الإقطاعية القديمة، وبقوى البرجوازية الجديدة الصاعدة. وهو الأمر الذي كان من شأنه التعجيل بالاصطدام بين الحزب القومي السوري، والحكومات المستقلة الجديدة، في سورية ولبنان، في منتصف الأربعينيات، والتي أودت في النهاية بحياة أنطون سعادة نفسه، بعد محاولة انقلابية ضد الحكومة اللبنانية، وحكم عليه بالإعدام عام 1949. ولكن أفكار سعادة وأنصاره ظلوا على المسرح الإقليمي، طوال العقود التالية، وتطورت تلك الأفكار واقتربت، في الستينيات وما بعدها، من الأفكار القومية العربية والاشتراكية الجديدة.

د. ميشيل عفلق: أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة

في عام 1944 ظهرت أول كتابات مفكر سوري كان يعمل بالتدريس الثانوي، هو ميشيل عفلق، تحت عنوان "البعث العربي"، وهو الاسم الذي تحول بعد ذلك إلى حزب سياسي، أسسه عفلق، مع زميل له في التدريس، هو صلاح الدين البيطار. وقد كانت كتابات عفلق خليطاً من الرومانسية القومية، المتأثرة بنظريات رينان الفرنسي، والممارسات الصارمة لبسمارك الألماني؛ والدفاع الحقوقي المتأثر بكتابات جورج أنطونيوس، والنزعة إلى العدالة المتأثرة بالنظريات الماركسية.

وميشيل عفلق هو الذي صك الشعار "أمة واحدة ذات رسالة خالدة"، وهو شعار ألهب حماس الملايين من الشباب العربي، من المحيط إلى الخليج، خلال السنوات الخمسين التالية. والتف حول عفلق والبيطار، في أواخر الأربعينيات، مئات، ثم آلاف، من الأنصار والمريدين، من المدرسين والطلاب، وأبناء الطبقات الوسطى. وتكون منهم حزب أسمى نفسه بحزب "البعث العربي"؛ ثم، حينما انضم إليهم مفكر حركي ثالث، هو أكرم الحوراني، وكان قد بدأ تنظيماً اشتراكياً صغيراً، فقد تغير اسم الحزب إلى حزب البعث العربي الاشتراكي، وأصبحت المبادئ التي يدعو إليها هي الوحدة والحرية والاشتراكية.

وكان حزب البعث العربي الاشتراكي، من أوائل الأحزاب الأيديولوجية، ذات الكوادر المنضبطة. وقد خاض الانتخابات، عدة مرات في الأربعينيات والخمسينيات في سورية؛ ولم يحصل أبداً على الأغلبية، أو حتى على أقلية كبيرة. ولكن كان له بعض الممثلين المنتخبين، في البرلمان السوري. ونشأت للحزب فروع، في عدد من الأقطار العربية المستقلة، أو التي كانت ما تزال تناضل من أجل الاستقلال. وكان أهم فروع الحزب، خارج سورية، توجد في لبنان، والعراق، والأردن، وعدن، والبحرين، والكويت، وليبيا.

وكانت إسهامات ميشيل عفلق، ورفاقه، الأولى من نوعها، التي أدخلت البعد الاجتماعي الاشتراكي. وكان ذلك من أسباب تدفق أبناء الطبقات الوسطى الصغيرة، وأبناء الأقليات إلى صفوف البعث. كما أن هذا المزج بين القومي التحرري والاشتراكي، بدا كما لو كان لون وطعم الاتجاه العالمي بعد الحرب العالمية الثانية، وخروج الاتحاد السوفيتي منتصراً فيها؛ ثم انتصار الثورة الاشتراكية ـ الماركسية في الصين (1949)، ثم في فيتنام (1954).

هـ. الجامعة العربية

مع نشوب الحرب العالمية الثانية عام 1939، والانتصارات الأولى الكاسحة لألمانيا النازية في أوروبا، ثم في شمال أفريقيا، اجتياز قوات دول المحور (ألمانيا وإيطاليا) الحدود المصرية الغربية، شعرت بريطانيا بالمخاطر نفسها، التي كانت قد شعرت بها، في الحرب العالمية الأولى. وبدأت تتودد إلى القوى القومية العربية. وفي فبراير 1942، أجبرت الملك فاروق على تكليف حزب الوفد بتشكيل الحكومة، على الرغم من أنه الحزب المعادي لبريطانيا تاريخياً، وهو الذي قاد ثورة 1919 ضدها. ولكن لأنه كان حزباً ليبرالياً دستورياً ديموقراطياً، فقد كان هو الحزب الوحيد، على الساحة المصرية، الذي لم يسمح عداؤه للاحتلال البريطاني بتأييد القوى الفاشية لدول المحور. وذلك بعكس كل القوى السياسية المصرية والعربية الأخرى، التي كان عداؤها للاحتلال الإنجليزي والفرنسي، يجعلها متعاطفة مع دول المحور الفاشية. بل وقد انتشرت موضة تقليد الأحزاب الفاشية الأوروبية، بين القوى السياسية العربية. مثل "الحزب القومي السوري"، الذي أسسه أنطون سعادة، و"حزب الكتائب اللبناني"، الذي أسسه "بيير جميل"؛ و"حزب مصر الفتاة"، الذي أسسه أحمد حسين. كذلك نشأت تنظيمات وأحزاب اشتراكية يسارية ماركسية في مصر، وعدد من البلدان العربية؛ وقويت هذه الأخيرة، بدخول الاتحاد السوفيتي، الحرب العالمية الثانية ضد ألمانيا النازية. وفي الوقت نفسه، كانت الحركات الدينية بقيادة "الإخوان المسلمين"، التي أسسها حسن البنا عام 1928، قد شبت عن الطوق وأصبحت، في الأربعينيات، حركة شعبية كبيرة، وأسست لها فروعاً في عدد من الدول العربية المشرقية، ودعت لمناهضة الغرب عموماً، والاحتلال البريطاني الفرنسي خصوصاً، والى إحياء "الخلافة" والعودة إلى تطبيق الشريعة، وإقامة نظام إسلامي شامل.

وهكذا كانت الساحة العربية، في أوائل الأربعينيات، تعج وتموج بمختلف التيارات من كل نوع ولون؛ ليبرالية، وطنية، قومية، اشتراكية، فاشية، دينية. ووجدت بريطانيا، التي كانت تقود التحالف الغربي، في ذلك الوقت (بعد سقوط فرنسا أمام الغزو الألماني الكاسح، ولحداثة الولايات المتحدة الأمريكية على الساحة الدولية)، إنه، مع كل هذه التيارات، فإن أخف الشرور، بالنسبة لها، هو التعامل، إن لم يكن التحالف، مع التيار القومي العربي، والقوى الليبرالية. لذلك صرحت بريطانيا، على لسان وزير خارجيتها أنتوني إيدن، بأنها تؤيد الوحدة العربية، وتشجع قيام تجمع إقليمي عربي، من البلدان العربية المستقلة بالفعل، للعمل من أجل هذا الهدف العربي الوحدوي. وأكثر من ذلك، أضاف أنتوني إيدن أن بلاده تعتبر مصر حالياً، وبلدان المغرب العربي مستقبلاً، أجزاء لا تتجزأ، من عالم عربي واحد.

لقد كان هذا الإعلان الرسمي البريطاني، محاولة للتقرب من القوى القومية العربية، وقوى التحرر الوطني الديمقراطية. لذلك لم يكن صدفة أن يأتي هذا الإعلان في العام والشهر نفسيهما، الذي ضغطت بريطانيا فيه على الملك فاروق لتكليف حزب الوفد، الذي يتزعمه مصطفى النحاس باشا، عدوها اللدود، بتشكيل حكومة مصرية تعبئ المصريين، بما لهذا الحزب من شعبية، ضد ألمانيا النازية، التي كانت قواتها تقترب من مدينة العلمين، باتجاه الإسكندرية والقاهرة وقناة السويس. أي أن بريطانيا قبلت على مضض ما كانت قد رفضته، وحاربته، في عقود سابقة: الحركة القومية العربية، والحركة الوطنية المصرية.

وكان ما تبقى هو أن تتقابل، أو تتصالح، أو تتحالف، الحركة القومية العربية، والحركة الوطنية المصرية. وساعدت كتابات وحوارات ساطع الحصري مع طه حسين وأحمد لطفي السيد، كثيراً، في نهاية الثلاثينيات وبداية الأربعينيات. كذلك كانت كتابات وتلاميذ محمد رشيد رضا وعبدالرحمن الكواكبي، وغيرهم من المفكرين الشوام، تعمل عملها تدريجياً في تمهيد الساحة المصرية لهذه المصالحة، وهذا القبول المتبادل. وساعد في إذكاء هذه العملية كما سبق، نمو البرجوازية المصرية، وبحثها عن امتدادات، وأسواق عبر حدودها مع دول الجوار. كذلك كان قيام بريطانيا، والولايات المتحدة الأمريكية، وبقية الحلفاء، بإنشاء "المركز الأنجلو أمريكي لإمدادات الشرق الأوسط (Anglo-American Middle East Supply Center (AAMESC))، أثناء الحرب لإعداد المنطقة اقتصادياً وتجارياً وتموينياً لمواجهة ظروف الحرب، هو بمثابة الهيكل، أو البذور الجنينية، لسوق شرق أوسطية مشتركة. وقد استفادت كل دول المنطقة من هذا المجهود المشترك، وخاصة مصر، التي كانت مقر مركز الإمدادات هذا.

وهكذا التقت عدة خيوط، بعضها قديم، وبعضها حديث، بعضها فكري عقائدي، وبعضها عملي ـ برجماطي، لتدفع بمسيرة العمل القومي العربي. فالتقت وفود ثمان بلدان عربية، بالقاهرة في سبتمبر وأكتوبر 1944، لتدارس فكرة قيام منظمة إقليمية عربية. ولأن حزب الوفد المصري كان هو الحكومة في ذلك الوقت، وكان هو المضيف، فإن مشروع قيام جامعة للدول العربية، لاقى تأييداً شعبياً مصرياً وعربياً. وبالفعل أُعد مشروع ميثاق لهذه الجامعة، وتداولته تلك البلدان وناقشته القوى السياسية، وممثلو التيارات الفكرية المختلفة. وفي 22 مارس 1945، وقعت الدول العربية: مصر والعراق وسورية ولبنان وشرق الأردن والمملكة العربية السعودية واليمن، ميثاقاً كونت به ما سمى منذ ذلك الحين بجامعة الدول العربية، التي اتخذت من القاهرة مقراً لها. واختير أحد القوميين العرب من مصر، وهو عبدالرحمن عزام باشا، أول أمين عام لها. كما اختير مفكر قومي عربي أخر، من سورية والعراق واليمن، وهو ساطع الحصري مديراً للإدارة الثقافية بهذه الجامعة الوليدة.

وكانت الجامعة العربية، بالشكل الذي ولدت به، أقل مما كان يطمع فيه القوميون العرب الوحدويون، وأكبر مما كان يرضاه أصحاب الرؤى الوطنية القطرية المحلية، وخاصة في لبنان. أي أن جامعة الدول العربية كانت حلاً توفيقياً، مثل القاسم المشترك الأصغر، بين القوى السياسية القطرية والإقليمية والقومية، في منتصف أربعينيات القرن العشرين.

وهكذا انتهت مرحلة ضحى القومية العربية، وفترة ما بين الحربين، بتأسيس دول قطرية عربية "مستقلة" (النزعة الوطنية)، وتأسيس تجمع إقليمي يجمعها كلها في شكل كونفدرالي فضفاض (النزعة القومية)، وجاءت ولادة هذا الأخير على يد "قابلة" بريطانية كانت هي نفسها التي أجهضت "أجنة" قومية عربية من قبل.

و. ألوان ثقافية وجديدة تغذي القومية

من الظواهر، التي انتعشت في فترة ما بين الحربين، كان الشعر العربي، الذي لم يشهد نهضة مماثلة لعدة قرون. فقد كانت تلك هي فترة توهج أحمد شوقي، الذي اجتمع الشعراء في القاهرة، وبايعوه "أميراً للشعراء" (1928)، ولقبوا حافظ إبراهيم، "بشاعر النيل"، وخليل مطران، بشاعر للمهجر. وتلك أيضاً هي المرحلة نفسها، التي توهج فيها شعراء جدد ومجددون من العراق، مثل معروف الرصافي، والزهاوي، ومن تونس مثل أبو القاسم الشابي. كذلك قامت مجلة "الرسالة" القاهرية بربط مثقفي الأمة العربية، مثلما فعلت "الهلال" منذ فجر القومية العربية.

ولكن الجديد حقاً، في فترة ما بين الحربين، كان الغناء والسينما، ذات تأثير كبير، في صياغة الوجدان العربي. فقد تألقت أصوات مثل أم كلثوم، ومحمد عبدالوهاب، وأسمهان. وأسهمت الإذاعة المسموعة واسطوانات الفونوجراف في ترويج هذه الأصوات، وخلق ذوق عربي عام في الطرب والموسيقى، وسرعان ما أصبحت القاهرة قبلة لكل الموهوبين العرب، وخاصة من بلاد الشام، فأسمهان وشقيقها فريد الأطرش، أتيا إلى مصر، في أواخر الثلاثينيات، من جبل الدروز في سورية، وجاء الفنانون بشارة واكيم، ونجيب الريحاني من لبنان، وعبدالسلام النابلسي من فلسطين، وعشرات غيرهم. وبعمل هؤلاء في السينما والمسرح، وبانتقال واستقبال الألوان الترفيهية الجديدة، عبر الأقطار العربية، من المغرب إلى العراق. تضاعفت وقويت الأحاسيس والمشاعر المشتركة، التي هي الأساس في "القومية"، كما عرفها رينان وآخرون.

وأخيراً استمر الأزهر الشريف، كجامعة إسلامية تبث رسائلها بالعربية، منارة لأعداد متزايدة من الطلاب العرب. ولكن إلى جانب الأزهر، نشأت عدة مدارس، وجامعات حديثة، قصدها الطلاب العرب من كل مكان. من ذلك الجامعة الأمريكية في بيروت (1866)، والجامعة الأمريكية في القاهرة (1920)، وكليتا فيكتوريا في الإسكندرية والقاهرة، وجامعة فؤاد الأول في القاهرة (1928). وبعد ذلك بقليل، جامعتا بغداد ودمشق، اللتان بدأتا ككليات جامعية، في الثلاثينيات، قبل أن تتحولا إلى جامعتين مكتملتين. يقصدها طلاب عرب من مختلف الأقطار العربية. فالسيد إسماعيل الأزهري، أول رئيس لوزراء السودان (1956) هو خريج الجامعة الأمريكية في بيروت. كذلك كان أفراد الأسرة الهاشمية، في تلك الفترة، من طلاب كليتي فيكتوريا سواء في القاهرة، أو الإسكندرية.