إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / القومية العربية









الفصل الرابع

بين 1945 ـ 1975

       كان الملف الأول، والدائم، والأعنف، للجامعة العربية الوليدة، بل والأمة العربية كلها، هو ملف فلسطين. سيظل مفتوحاً، ودامياً، ومستنزفاً للأمة مادياً، وروحياً، طوال العقود الخمسة التالية. يتناول هذا الجزء من البحث السنوات الثلاثين الممتدة من 1945 إلى 1975. ففي هذه العقود الثلاثة، وقعت أربعة حروب نظامية، بين العرب، والحركة الصهيونية اليهودية، التي أصبحت تمثلها في المنطقة دولة إسرائيل؛ هذا فضلاً عن اشتباكات مسلحة قصيرة، أو ممتدة، بين الكيان الإسرائيلي ـ الصهيوني وقوى عربية شعبية مختلفة: فلسطينية ولبنانية وغيرها.

       وهنا يجدر التنويه إلى أن الحركة الصهيونية نشأت، كحركة يهودية قومية، في أواخر القرن التاسع عشر، على الرغم من جذورها الدينية، التي تعود تاريخياً إلى ألفي سنة سابقة. أي أنها تتوازى، في عدد من الوجوه، مع الحركة القومية العربية، بقدر ما تختلف وتتناقض معها. فالقومية العربية "أصيلة" ذات جذور ممتدة، ومستمرة، على أرض الوطن العربي؛ بينما القومية اليهودية الصهيونية "دخيلة"، ووافدة من أوروبا. وعلى الرغم من أنها دخيلة وافدة، مثل الاستعمار الغربي تماماً، فقد جاءت إلى المنطقة، في حماية هذا الاستعمار، وبدعمه المستمر، وبكل مظاهر وآليات القوة، التي اكتسبتها من جذورها، ونشأتها الأوروبية. أي بذلك التقدم التكنولوجي والتنظيمي والمؤسسي والدعائي. وقد انعكس ذلك على إدارة الحركة الصهيونية للصراع مع الحركة القومية العربية.

 1.  الهزيمة الأولى للقومية العربية في فلسطين

مع عام 1947، كانت بريطانيا قد وصلت إلى طريق مسدود، كدولة انتداب في فلسطين. فهي لم تنجح في إعداد الشعب، الذي كان يعيش في فلسطين، للاستقلال، وإدارة شؤونه، كما تنص وثيقة "عصبة الأمم" عام 1922. ولكن بريطانيا كانت قد نجحت في تقوية، ودعم الحركة الصهيونية، وساعدتها على زيادة السكان اليهود في فلسطين، من 60 ألفاً في بداية الانتداب (1922) إلى 600 ألف، مع نهاية هذا الانتداب (1947)، أي زيادة اليهود عشر مرات، في ربع قرن، وزيادة تمثيلهم، في إجمالي السكان، من أقل من 6 في المائة إلى 40 في المائة، خلال الفترة نفسها. ولكن أهم من الزيادة العددية، كان الوجود الاقتصادي والتكنولوجي والعسكري. ويكفي، في هذا الأخير، أن اليهود في فلسطين كانوا قد كونوا عدداً من الميليشيات المسلحة الحديثة، في الثلاثينيات، كما كونوا عدة ألوية، حاربت في صفوف الحلفاء، أثناء الحرب العالمية الثانية. أي أنه، مع إعلان بريطانيا، لقرب انسحابها، ونفض يدها من فلسطين كان لليهود ما يقارب الخمسين ألف مسلح ومدرب تدريبا حديثا.

حينما أعلنت بريطانيا نيتها للانسحاب، سلمت ملف فلسطين للأمم المتحدة، التي قررت بدورها تقسيم فلسطين إلى دولتين يهودية وعربية. (القرار الرقم 181 لسنة 1947) وهو القرار، الذي رفضه الفلسطينيون، والجامعة العربية. وبدأ العرب في الاستعداد لتحرير فلسطين من الوجود الصهيوني، بمجرد خروج بريطانيا (14 مايو 1948). وقررت الجامعة العربية إرسال قوات مسلحة من دولها، لحماية الفلسطينيين، وإجهاض التقسيم، وقيام دولة يهودية. ودخلت القوات العربية فلسطين، يوم 15 مايو 1948، وسط حماس شعبي عربي منقطع النظير. وتصور الرأي العام العربي أن الأمر سيكون بمثابة "نزهه عسكرية"، يتم فيها تطهير فلسطين من "العصابات الصهيونية". ولكن، على الرغم من الانتصارات العربية المبكرة، في الأسابيع الأولى، إلاّ أن قوات إسرائيل استطاعت أن توقف تقدم الجيوش العربية، ثم تستنزفها في حرب عصابات، ثم تحاصر بعضها وتجبره، إمّا على الانسحاب، أو الاستسلام.

في الوقت نفسه، أواخر 1947 وطوال 1948، روعت الحركة الصهيونية وميليشياتها المسلحة السكان العرب في فلسطين، ودفعهتم إلى الفرار من ديارهم. وارتكبت هذه الميليشيات عدداً من المذابح ضد السكان العرب، كان أبشعها دير ياسين، وتناقلتها الأنباء والشائعات وبالغت فيها، مما دفع مزيداً من السكان العرب إلى الفرار، حفاظاً على أرواحهم وأعراضهم. وشاع شعار "العرض قبل الأرض"، وهو شعار راق للصهاينة كثيراً، حيث ساعدهم على التخلص من الكثافة السكانية الفلسطينية، في الأراضي التي كانت مخصصة للدولة اليهودية، وخاصة في المدن الساحلية وفي مثلث الجليل.

كذلك، فإن اعتقاد الحكومات العربية، أن تحرير وتطهير فلسطين سيكون أمراً سهلاً وسريعاً جعل الإعلام العربي الرسمي، وغير الرسمي، يشجع الفلسطينيين على ترك ديارهم، إلى حين قصير، على أمل العودة، مع الجيوش العربية المنتصرة إلى هذه الديار، خلال أيام أو أسابيع. وبالطبع لم يحدث ذلك، وقتها، أو في السنوات الخمسين التالية. وانسحبت الجيوش العربية إلى خطوط جديدة، ووقعت اتفاقيات هدنة ثنائية (مصرية وسورية وأردنية ولبنانية)، مع الدولة اليهودية الجديدة.

وخلاصة القول هنا، هو أن الاختبار العملي الأول للجامعة العربية، كان اختباراً عصبياً وعصيباً، وفشلت فيه موضوعياً بشكل مريع. وكعادة كل الهزائم، لا أحد من العرب أراد أن يتحمل مسؤوليتها. وبدأت الأطراف العربية تلوم بعضها. واُتهم البعض "بالخيانة"، واُتهم آخرون بتوريد "أسلحة فاسدة" إلى بعض الجيوش العربية. واُتهمت إسرائيل "بالغدر"، في التوقيع على اتفاقيات وقف إطلاق النار، ثم نقضها، والهجوم المباغت على مزيد من الأراضي الفلسطينية واحتلالها.

وحقيقة الأمر هو أن الإدارة العربية للصراع، مع الصهيونية، كانت إدارة متخلفة ساذجة، غلَّبت فيها العاطفة على العقل، والحماس على الحكمة. من ذلك أن مجموع القوات العربية، التي توجهت إلى فلسطين، من مصر وسورية والأردن والعراق واليمن والمملكة العربية السعودية، لم يتجاوز ثلاثين ألفاً، تحت قيادات مختلفة، وبأنظمة تدريب وأسلحة مختلفة، ومعظمها قديم، في مواجهة قوات صهيونية تجاوزت الستين ألفاً، وتحت قيادة موحدة، وبأسلحة حديثة، وتدريب دقيق.

مع الهزيمة العربية الأولى في فلسطين، شعر الرأي العام العربي بالمهانة. وكان أكثر القطاعات، شعوراً بهذه المهانة، القوات المسلحة، في كل من البلدان العربية الرئيسية. ومن ثم شهدت هذه البلدان سلسلة من المظاهرات الساخطة على حكومتها، تلتها سلسلة من الانقلابات العسكرية، في سورية، في أواخر الأربعينيات، ثم في مصر والعراق، في الخمسينيات، وكان أحد القواسم المشتركة في البيانات، التي أعلنت هذه الانقلابات، هو "نكبة فلسطين".

المهم أن الاستعداد للحرب في فلسطين استشار الشعور العربي المشترك، بشكل غير مسبوق. ثم جاءت الهزيمة، فرسَّخت الشعور العربي المشترك بالمرارة، وبالخطر الصهيوني على شعوب الأمة. ولعب المثقفون الفلسطينيون أدواراً حاسمة في صفوف عدد من التنظيمات، والأحزاب، والمؤسسات المهنية، والشعبية الغربية، لإذكاء السخط على إسرائيل، والغرب، والحكومات العربية على السواء. وأصبحت الدعوة إلى تحرير الأقطار العربية من الخونة، "وأعوان الاستعمار"، و"الانهزاميين"، هي الوجه الآخر من الدعوة إلى "الانتقام"، والى "الوحدة العربية" لغسل عار الهزيمة، وتحرير فلسطين. أمّا الحكومات العربية فقد كان رد فعلها للهزيمة هو عدم الاعتراف بإسرائيل، ومقاطعتها اقتصادياً، واللجوء إلى المنظمات الدولية لاستصدار قرارات لصالح الشعب الفلسطيني.

2. ثورة يوليه: الأحلاف، الجزائر، تأمين القناة، والعدوان الثلاثي

كان ضمن تداعيات نكبة فلسطين، الثورات والانقلابات العسكرية العربية، ومنها ثورة 23 يوليو في مصر. وعلى الرغم من أن لهذه الثورة أسباباً داخلية مصرية بحتة. إلاّ أن هزيمة الجيش المصري في فلسطين. استقبل الشعب المصري هذه الثورة بالحماس والتأييد، نظراً لفساد النظام الملكي الحاكم، وتواطئه مع الاحتلال الإنجليزي، ونظراً للضعف المتزايد للأحزاب المصرية القائمة. وكان قد سبق ثورة 23 يوليو، في مصر، انقلابان في سورية، وأيضاً لأسباب وطنية سورية داخلية، وبسبب نكبة فلسطين.

وكان ضمن الإجراءات الثورية، التي اتخذها ضباط الثورة المصرية، عزل الملك فاروق، الذي اُعتبر مسؤولاً عن الأسلحة الفاسدة، والهزيمة في فلسطين، وإعلان الجمهورية، وحل الأحزاب، وإصدار قوانين الإصلاح الزراعي، والسعي الحثيث لإجلاء الإنجليز من معاقلهم، في مصر وهي منطقة قناة السويس، والشروع في تصنيع مصر، وبناء اقتصاد مصري قوي وحديث.

وضمن محاولات البناء تلك، كان هناك مشروع طموح لبناء "السد العالي"، في أسوان، لزيادة الرقعة الزراعية ومضاعفة الطاقة الكهربائية في مصر عدة مرات، وهو الأمر الذي رؤي ضرورته للتصنيع. ولجأت مصر إلى الدول الغربية، والبنك الدولي، لتمويل مشروع السد العالي، وفي الوقت نفسه كانت حكومة ثورة يوليه حريصة على استقلال سياساتها الخارجية، وعلى مناهضة الأحلاف الأجنبية في المنطقة، وهذه كلها أمور لم تكن سهلة، في فترة الحرب الباردة في الخمسينيات. لذلك، رفضت الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، وفرنسا، تمويل مشروع السد العالي، بعد أن كانت قد وعدت بهذا التمويل. وأوحت إلى البنك الدولي، أن يسلك سلوك الرافض نفسه، لتمويل المشروع، فما كان من جمال عبدالناصر، زعيم الثورة المصرية، إلاّ أن أعلن تأميم قناة السويس. وهو الأمر الذي أشعل حماس الجماهير العربية، من المحيط إلى الخليج، وأشعل غضب الدول الغربية من فرنسا، وبريطانيا، على الولايات المتحدة الأمريكية، واستراليا.

المهم أن حركة القومية العربية، التي منيت بهزيمة مبكرة، في فلسطين، في أواخر الأربعينيات، استعادت زخمها بالمعارك العديدة التي دخلتها في الخمسينيات. وشملت معركة مناهضة الأحلاف الغربية، التي كانت إستراتيجيتها العامة هي تطويق الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية عموماً. وكان الشرق الأوسط هو أحد حلقات هذا التطويق. واقترحت الولايات المتحدة الأمريكية، والدول الغربية، عدة صيغ لتحالف عسكري إقليمي دفاعي، ضد الاتحاد السوفيتي، كان آخرها "حلف بغداد"، ولكن مصر الثورة، انبرت لمقاومة مشروع الحلف (1954 ـ 1956)، حتى حاصرته في أضيق الحدود، فلم تدخله إلاّ دولة عربية واحدة، هي العراق. وكانت وجهة نظر مصر، هي أن العدو الرئيسي للعرب هو إسرائيل والصهيونية، وليس الاتحاد السوفيتي والماركسية. وقد ألهب هذا الطرح المصري للمسألة حماس الجماهير العربية، وخاصة من الشباب. ثم انفجرت الثورة الجزائرية (نوفمبر 1954)، ضد الاحتلال الفرنسي للبلاد، ودخلت مصر، بكل ثقلها، في تأييد هذه الثورة مادياً ومعنوياً. وأصبحت حرب التحرير الجزائرية، أحد عناصر المواجهة. فقد كانت فرنسا طرفاً فاعلاً في مشاريع الأحلاف الغربية. وقد أضافت حرب التحرير الجزائرية إلى مصداقية الطرح المصري، أن الاتحاد السوفيتي ليس هو العدو الرئيسي للأمة العربية، وإنما العدوان الرئيسيان هما بريطانيا وفرنسا. ورأت "الجماهير العربية"، في هذا الإجراء الثوري الشجاع، من جمال عبدالناصر، زعيم ثورة يوليه المصرية، تحدياً لقوى الاستعمار القديم، واستجابة لقوى التحرر الجديدة في الوقت نفسه.

وكان انفجار الثورة الجزائرية، في فترة معركة الأحلاف الأجنبية، مصدر دفع هائل لحركة القومية العربية، فلأول مرة، في التاريخ، الحديث، تشعر الجماهير، من المحيط إلى الخليج، بالتعاطف والتضامن والتأييد لقضية عربية واحدة في الآن واللحظة، وتتحرك هذه الجماهير معاً للتعبير عن هذا التعاطف والتضامن والتأييد، سواء من خلال المظاهرات الحماسية الصاخبة في شوارع جميع المدن العربية الكبرى، أو المهرجانات الشعبية والشعرية، أو من خلال قيام تلاميذ المدارس بجمع التبرعات. وكلما طال أجل حرب التحرير الجزائرية، كان معنى ذلك صمود الشعب الجزائري، ومقاتلي جبهة التحرير الجزائرية، ضد إحدى الدول الأوروبية العظمى، ومعها قوات حلف الأطلنطي. ولأن انفجار الثورة الجزائرية، تزامن مع اختراع الراديو الترانزيستور، الصغير الحجم والرخيص الثمن؛ ومع بداية إذاعة صوت العرب، فقد كان ممكناً أن تعرف الجماهير العربية ما يحدث في العالم عموماً، وفي الوطن العربي بشكل خاص، وفي الجزائر بشكل أخص. وكان تناقل أخبار، ومعارك، وبطولات المجاهدين الجزائريين، يلهب حماس هذه الجماهير. كما أنها كانت بمثابة التعويض النفسي، عما شعر به العرب، بعد هزيمة فلسطين. ومن ناحية أخرى، كانت المكاتب العديدة، التي فتحتها جبهة التحرير الجزائرية، في العواصم العربية، تعني أن الثوار الجزائريين يكتشفون "عروبتهم"، بشكل وجودي مباشر. وأسهمت الثورة الجزائرية في توسيع، وتعميق الوعي بالقومية العربية؛ وأسهمت الحركة القومية العربية بدورها في دعم الثورة الجزائرية.

وهكذا بدت ثورة يوليه المصرية بقيادة جمال عبدالناصر، تناطح الهيمنة الغربية وتناهضها في أقصى شرق الوطن العربي، حيث حلف بغداد؛ وفي أقصى غرب هذا الوطن حيث حرب التحرير الجزائرية. وأصبحت "الجماهير العربية" عنصراً فاعلاً، في معادلة السياسة العربية. وكان لإذاعة "صوت العرب" الجديدة، التي تبث رسائلها الحماسية، من القاهرة، إلى كل مكان في الوطن العربي، دور مهم في بلورة وعي "الجماهير العربية" وتعبئتها. وبهذا المعنى، كانت أواسط الخمسينيات تمثل نقلة نوعية لتطور حركة القومية العربية. فقد أصبح البعد الشعبي فيها ملموساً، ولم تعد تقتصر على النخبات، والقوى الأكثر تعليماً وثقافة. وأصبحت الحكومات العربية والغربية ـ على حد سواء ـ تعمل حساباً للشارع السياسي العربي، وللجماهير العربية، بشكل غير مسبوق.

ثم جاء العدوان الثلاثي ضد مصر، في نوفمبر 1956، كرد غربي مسلح لسحق تجارب التحرر العربية هذه، من المحيط إلى الخليج. ولكن كون بريطانيا وفرنسا وإسرائيل أطراف هذا العدوان، فإن مسرح المعركة وفصولها، كان تجسيماً درامياً للقوى المتطاحنة، ولتسوية حسابات تاريخية طويلة، ومعقدة بين الشرق والغرب. ولأن مصر صمدت وقاومت ولم تستسلم، على الرغم من انكسارها العسكري، في سيناء، واحتلال بور سعيد، كانت روح الصمود والمقاومة هذه بمثابة زيت صُب على النيران، فتأججت المشاعر القومية، بصورة غير مسبوقة في التاريخ العربي المكتوب. وكان ضمن ذلك، خروج المظاهرات العارمة، من المحيط إلى الخليج، ونسف أنابيب النفط، من العراق والمملكة العربية السعودية إلى شواطئ البحر المتوسط، وإغلاق قناة السويس، وبدأ الرأي العام الغربي نفسه، يشعر بوطأة تفاقم الأوضاع، وبتأثير انقطاع النفط على الاقتصاديات الغربية، وعلى تدفئة المنازل في فصل الشتاء، الذي كان قد بدأ. فخرجت المظاهرات في العواصم الغربية، تُدين العدوان الثلاثي، الذي قامت به حكوماتها.

وفاقم من الأوضاع الدولية، وقوف دول العالم الثالث، والاتحاد السوفيتي، مؤيدين لمصر تماماً في الأمم المتحدة، وغيرها من المنابر الدولية. بل وجَّه الاتحاد السوفيتي إنذارات شديدة اللهجة إلى الدول الثلاث المعتدية. وهدد باستخدام صواريخه ضدها. وضاعف ذلك من حماس "الجماهير العربية". وعلى الرغم من غموض، وربما عدم جدية الإنذار السوفيتي، إلاّ أن الولايات المتحدة الأمريكية، التي ادعت أنها لم تُستشر، ولم تعلم بخطة العدوان الثلاثي، تحركت بسرعة داخل، وخارج الأمم المتحدة، وضغطت على الدول الثلاث المعتدية، لوقف عملياتها العسكرية، والانسحاب من الأراضي المصرية فوراً. وكان الرئيس الأمريكي "دوايت ايزنهاور"، في هذا الموقف، حاسماً للغاية، على الرغم من أنه كان يخوض معركة انتخابات رئاسية حرجة. المهم أن هذه العوامل مجتمعة: رأي عام عربي متأجج، مقاومة مصرية، تأييد العالم الثالث والاتحاد السوفيتي، رأي عام غربي مناهض لسلوك حكوماته، وضغط أمريكي، أدت إلى دحر العدوان الثلاثي، وخروج مصر منتصرة، في معاركها جميعاً في أواسط الخمسينيات، وأهمها معركة السويس.

كان العام 1956 أيضاً هو عام استقلال ثلاث بلدان مهمة، وهي السودان (16 يناير 1956)، والمغرب (2 مارس 1956)، وتونس (20 مارس 1956). وكانت الحركة الوطنية، في البلدان الثلاثة، قد قادت نضالاً سياسياً ممتداً، ضد الاحتلال البريطاني، في السودان؛ وضد الاحتلال الفرنسي، في كل من المغرب وتونس. وبينما كان استقلال السودان نتيجة اتفاق مصري ـ بريطاني ـ سوداني (1953)، وبعد فترة انتقالية؛ فإن استقلال المغرب وتونس جاء بشكل أقرب إلى المفاجأة من جانب فرنسا. وأغلب الظن أنها أرادت التفرغ لقمع الثورة الجزائرية، التي اعتبرتها "تمرداً داخل أحد الأقاليم الفرنسية".

وكان فشل فرنسا في إنهاء هذا "التمرد"، بعد ما يقرب من عامين، مصدر إحراج كبير لها؛ وقد اعتقدت أن مواجهة ثلاث حركات وطنية في وقت واحد، ربما يعرّضها لهزيمة كبرى، مثل تلك، التي وقعت لها في الهند الصينية (معركة ديان بيانفو، ربيع 1954).

تقدمت البلدان الثلاثة التي استقلت عام 1956، على الفور بطلب للعضوية في جامعة الدول العربية. هذا على الرغم من أنها لم تكن معدودة ضمن أقاليم الوطن العربي، من جانب الرعيل الأول من منظري حركة القومية العربية، في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين. وهو نمط ظهر في الحالة المصرية، التي اكتشفت عروبتها، وأكدتها، بعد استقلالها، ثم قادت حركتها، واستضافت جامعتها بعد ذلك بسنوات. وحدث الشيء نفسه مع الجزائر، وموريتانيا، والصومال، وجيبوتي، وجزر القمر، خلال العقود الثلاثة التالية. بتعبير آخر، إن "الهوية" الوطنية، أو "القومية" كانت تظل أحياناً "كامنة" إلى أن يكشف عنها النضال، وتعبر عن نفسها بشكل كامل بعد الاستقلال. ومع أهمية استقلال السودان والمغرب وتونس، عام 1956، ودعم هذا الاستقلال لحركة القومية العربية، إلاّ أن الحدث المهم لرفع حرارة المد القومي العربي، في ذلك العام، كان بلا شك، هو تأميم قناة السويس، والمواجهة التي حدثت مع العدوان الثلاثي: البريطاني ـ  الفرنسي ـ الإسرائيلي، والذي لخَّص، في لحظة درامية واحدة، كل معارك العرب.

ولكن الانتصار المصري كان، في الواقع، انتصاراً للقومية العربية، وللقيادة الناصرية. وعلى مدى السنوات العشر التالية، أصبحت مصر وعبدالناصر القاعدتين والقيادتين المرموقتين للحركة القومية العربية. وتفتحت شهية الجماهير العربية، والقوى السياسية القومية، على خوض مزيد من المعارك، والتطلع لمزيد من الإنجازات، لتحرير ما تبقى من البلاد العربية محتلاً أو منقوص الاستقلال. وأهم من ذلك، بدأت المطالبات تشتد من أجل "الوحدة العربية". وأصبحت القاهرة هي المحطة الرئيسية لحركات التحرير العربية والأفريقية على السواء. وأصبحت قبلة لكل القوى الثورية، والأحزاب العربية القومية. وكان من ثمار ونتاج هذا الزخم المتزايد، والمتصاعد، هو مشروع الوحدة المصرية ـ السورية، الذي تجسم فيما سمي "بالجمهورية العربية المتحدة".

3. الجمهورية العربية المتحدة: قمة المد القومي في القرن العشرين

كان تأميم قناة السويس، والعدوان الثلاثي، والتأييد الجماهيري العربي العارم، وخروج مصر منتصرة في سلسلة معاركها الإقليمية والدولية، كان من شأن هذا كله، أن يخلق حقائق جديدة، أو يدعم حقائق قديمة. مثل:

  • إزالة أي تردد مصري شعبي، أو على مستوى النخبة الحاكمة، في قبول القومية العربية، والاعتزاز بالهوية العربية.
  • تعميق المشاعر العربية الشعبية المعادية للغرب وإسرائيل والصهيونية.
  • بروز عبدالناصر، كقيادة عربية بارزة، ليس لها منافس في الوطن العربي.
  • اشتداد القلق بين الأنظمة الحاكمة العربية المحافظة، وخاصة، صاحبة الارتباطات، أو الصداقات، أو المصالح مع الغرب.

وفي ضوء الحقائق المذكورة أعلاه، شهد العامان 1956، 1957 نشاطاً محموماً، وصراعاً إقليمياً بارداً، على استقطاب بلدان المنطقة إلى أحد المعسكرين: الناصري القومي الثوري، أو إلى المعسكر المحافظ المتحالف، علناً أو ضمناً، مع الغرب. ووصل الصراع إلى أقصاه على الساحة السورية؛ التي كانت تعج بمختلف القوى والتيارات، والتي كانت قد شهدت بالفعل انقلابين عسكريين في أعقاب هزيمة فلسطين (أحدهما قاده حسني الزعيم في عام 1949، والثاني قاده أديب الشيشكلي 1950 ـ 1954). وكانت سورية قد اكتسبت سمعة "قلب العروبة النابض". وفي أثناء معارك الأحلاف، وشراء السلاح من الكتلة الشرقية، وتأميم القناة والعدوان الثلاثي، كانت الجماهير السورية في قمة حماسها تأييداً والتفافاً حول عبدالناصر. وقد أزعجت شعبية عبدالناصر هذه القوى الغربية والعربية المتحالفة معها. وبدأت المناورات السياسية، التي قادتها بريطانيا والعراق والأردن ولبنان بقيادة الرئيس كميل شمعون، وتركيا، تحاصر وتضغط وتستميل سورية إلى جانب المعسكر المحافظ، والضالع في حلف بغداد (الذي كان قد تأسس في عام 1954/1955). فما كان من القوى القومية الراديكالية، داخل سورية، بقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي، إلاّ القيام بتعبئة الشارع السوري، لطلب "الوحدة" مع مصر عبدالناصر. وبدأت الوفود الشعبية، والبرلمانية، والحزبية، السورية تتردد على القاهرة، لمقابلة "بطل العروبة" الجديد، جمال عبدالناصر، ومطالبته بالوحدة بين مصر وسورية. حتى كبار ضباط الجيش السوري، بدأوا يفعلون الشيء نفسه، من دون إذن من القيادة السياسية للدولة السورية. وأصبحت سورية، في الواقع، تُحكم فعلياً من القاهرة.

ويبدو أن عبدالناصر كان قد قرأ واقتنع بكتابات المفكر القومي، ساطع الحصري، عن عروبة مصر ودورها الحتمي في قيادة الأمة العربية، وتوحيد أقطارها. لذلك عندما كتب عبدالناصر، كتابه "فلسفة الثورة"، في أواخر عام 1954، أي قبل معارك التأميم والعدوان الثلاثي، تحدث عن ثلاث دوائر دينية وإستراتيجية تنتمي لها مصر، وهي الدائرة العربية، والدائرة الإسلامية، والدائرة الأفريقية. وتوقف عبدالناصر عند الدائرة العربية، وأفاض فيها، وتحدث عن دور قيادة هذه الدائرة خصوصاً؛ والذي كان يحوم فوق مصر وعند حدودها، وينتظر من مصر أن تبادر بتقلده والقيام به.

وفعلاً استجاب عبدالناصر وزملاؤه، في مجلس قيادة الثورة، للضغوط الشعبية والحزبية والعسكرية السورية، وبدأ الإعداد لمشروع وحدوي بين القطرين المصري والسوري، في أواخر عام 1957، وأُعلنت الوحدة بينهما، في فبراير 1958، وسط حماس جماهيري منقطع النظير، تحت اسم "الجمهورية العربية المتحدة". واستفتى الشعبان عليها، وعلى دستور ورئيس جديد لها. وهكذا، وبسرعة لم يتوقعها حتى أكثر القوميين العرب حماساً وتفاؤلاً، وارتفعت الآمال والتوقعات، بين الجماهير العربية في كل مكان من المحيط إلى الخليج، في استكمال معارك التحرير، والوحدة العربية الشاملة، وتحرير فلسطين، والتنمية، والعدالة، والرخاء.

لقد كانت الأعوام الثلاثة 1956، 1957، 1958، هي قمة الحركة القومية العربية. فلم تنتصر فيها الأمة العربية في معارك عديدة فحسب، ولم يتوحد فيها أهم بلدين عربيين، هما مصر وسورية، فقط، ولكن سقط أيضاً نظامان عربيان حليفان للغرب، وهما النظام الحاكم في العراق (14 يوليه 1958)، الذي كان يرمز له الملك فيصل الثاني، ورئيس وزرائه الداهية نوري السعيد؛ والنظام اللبناني، الذي كان يرمز له الرئيس كميل شمعون، ووزير خارجيته، شارل مالك. وحاولت الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، أن توقفا هذا السقوط السريع والمدوي لحلفائها في المنطقة، أمام المد القومي العربي بزعامة عبدالناصر. فأرسلت الأولى بقوات بحريتها (المارينز) إلى لبنان؛ وأرسلت الثانية بقواتها إلى الأردن في صيف 1958.

وفي خريف العام نفسه، ومن حيث لم يتوقع الغرب، سقط النظام الحاكم في السودان، على إثر انقلاب عسكري، أعلن تأييده لمصر، ورغبته في التقارب معها. وكان السودان قد استقل في الأول من يناير 1956، ونشأت بينه وبين مصر توترات محكومة، وجفوة صامتة. وهكذا لم ينته عام 1958 إلاّ والحركة القومية العربية تخرج من نصر إلى نصر، وتصل إلى أوج مداها خلال القرن العشرين.

ويبدو أن هذه الانتصارات السريعة المتتالية كانت تحمل، في طياتها، بذور انتكاساتها، للأمة وللزعيم على السواء. فقد كانت العجلة والفرحة من السرعة والقوة، بحيث تصورت القيادة والجماهير أن الانتصارات، والإنجازات ستستمر، وأن الثمن المادي والتنظيمي لن يكون باهظاً. وغفلت، أو تغافلت، القيادة عن العديد من التفصيلات المهمة في آليات الوحدة، أو التوحد بين أقطار وشعوب، كانت لكل منها مسالكها ودروبها الخاصة، لعشرات، إن لم يكن لمئات السنين، مهما كانت وحدة المشاعر والطموحات. ولعل آخر عهد، لمصر وسورية، بالحكم، أو الإدارة المشتركة، كان في عهد محمد علي وابنه إبراهيم باشا، والذي دام لعدة أعوام في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، أي قبل الوحدة المصرية السورية الحديثة بأكثر من مائة وعشرين عاماً.

4. تفسخ الجمهورية العربية المتحدة

بقدر ما كانت الإنجازات والانتصارات القومية سريعة ومتلاحقة، في الخمسينيات، بقدر ما كانت الهزائم والانتكاسات في الستينيات. فقد بدأ العقد بتفسخ الجمهورية العربية المتحدة، وحرب باردة عربية، سرعان ما تحولت إلى حرب استنزاف عربية ـ عربية في اليمن، ثم إلى هزيمة عربية ساحقة في ثالث حرب عربية ـ إسرائيلية عام 1967. وانتهى العقد بموت الزعيم، الذي قاد الأمة العربية في انتصاراتها وهزائمها على السواء.

كانت بداية الانتكاسات هي تفسخ الجمهورية العربية المتحدة في سبتمبر 1961، حينما قام مجموعة من ضباط الجيش الثاني (السوري) بانقلاب انفصالي، أدى إلى إنهاء أول تجربة للوحدة العربية، خارج شبه الجزيرة العربية (التي كان قد وحد الملك عبدالعزيز آل سعود معظم أقاليمها بين، عامي 1902 و1932). وكان السبب المباشر لهذا الانقلاب الانفصالي، هو تزمر الضباط السوريين، مما اعتقدوا، أنه تفرقة ومعاملة غير كريمة لهم، من زملائهم المصريين، وخاصة من المشير عبدالحكيم عامر، النائب الأول لرئيس الجمهورية، ووزير حربية الجمهورية العربية المتحدة، والرجل المقرب من الزعيم جمال عبدالناصر. وكان تذمر هؤلاء الضباط الانفصاليين عرضاً لمشكلات أعمق في العلاقات بين النخبتين الحاكمتين في مصر وسورية، فبعد توقيع اتفاقية الوحدة، والاستفتاء على الدستور، وانتخابه رئيساً للجمهورية العربية الوليدة، أدار الرئيس عبدالناصر "الإقليم الشمالي" (سورية) وقتها، بالطريقة نفسها، التي كان يدير بها مصر (الإقليم الجنوبي). فألغى الأحزاب، وأحل محلها تنظيماً سياسياً واحداً، امتداداً "للاتحاد القومي"، في مصر؛ وطبق مجموعة من القوانين "الاشتراكية"، المعمول بها في مصر، في الأعوام الستة السابقة، وفي مقدمتها قانون "الإصلاح الزراعي"، وفي قطاع عام كبير تسيطر عليه الدولة. وكان من شأن هذه الإجراءات جميعاً أن تستعدي قطاعات وقوى مؤثرة في سورية، لم تكن، بالضرورة، ضد فكرة القومية، أو الوحدة العربية. وكان انعدام الديمقراطية والمشاركة السياسية الحقيقية لأبناء الإقليم السوري، ليس سبباً في تعاظم هذه الجفوة فحسب، وإنما في تعطيل قنوات توصيل المظالم والاحتجاجات مباشرة إلى أذن الزعيم، كذلك. هذا فضلاً عن الحملات الدعائية المعادية لعبدالناصر، سواء من مصادر عربية أو غربية، مما عمق الشعور بالسخط لدى قطاعات كبرى من أبناء الشعب السوري.

كان انهيار الجمهورية العربية المتحدة، ضربة قاصمة لحركة القومية العربية. وقد ضاعف من واقع الضربة أن أقطاب حزب البعث العربي الاشتراكي، ميشيل عفلق، وصلاح الدين بيطار، وأكرم الحوراني، الذين كانوا أكثر الناس تحمساً للوحدة، وقعوا وثيقة الانفصال، بعد ثلاث سنوات ونصف فقط، من قيام الجمهورية العربية المتحدة. لقد عم مصر وسورية وبقية الوطن العربي حزن عميق لفشل أول تجربة وحدوية في العصر الحديث.

وعلى العكس تماماً، فإن أعداء عبدالناصر، داخل وخارج العالم العربي، كان لديهم ما يبتهجون به حقاً. فالانفصال لم يكن مجرد نكسة لعبدالناصر، فحسب، ولكنه كان نكسة كبرى. وقد اعترف عبدالناصر نفسه أن حكم الإقليم السوري كان يستهلك ثلاثة أرباع وقته. لذلك، فعلى الرغم من أنه أبقى على اسم الجمهورية العربية المتحدة، وعلى علمها، ونشيدها القومي. إلاّ أن جرح الانفصال كان عميقاً في نفوس المصريين عموماً، وفي نفس عبدالناصر خصوصاً. ومن ثم لم يغفر أبداً للبعثيين وحزبهم الدور، الذي لعبوه في الانفصال، وظل، طوال السنوات التسع التالية فاقداً للثقة فيهم، ورافضاً للتعاون معهم، إلاّ في أضيق الحدود، وفقط عندما استولوا على السلطة، في كل من سورية والعراق.

ومع الانفصال، تفرغ عبدالناصر إلى حين، إلى الشؤون المصرية الداخلية. ولأنه اعتبر الرأسمالية السورية، مثلها مثل حزب البعث "الاشتراكي"، مسؤولة عن الانفصال، فقد ضيق الخناق كثيراً على الرأسمالية المصرية، في أعقاب الانفصال، مخافة قيامها بدور مشابه للرأسمالية السورية، وخاصة أن أعداءه في الخارج كانوا يتربصون به، وعلى استعداد لتقديم الدعم لأي قوى داخلية مناهضة له وللقوى الثورية المماثلة. وقد ظهر ذلك جلياً في "ميثاق العمل الوطني"، الذي صدر عنه، في مؤتمر حاشد في مايو 1962، وأفصح فيه عن توجهه الاشتراكي الصريح، فيما سمي "بالاشتراكية العربية". وأكد فيه كذلك استمرار الالتزام بالحلم القومي العربي الوحدوي، غير أنه عبر عن أن هذا الحلم لابد أن يتحقق تدريجياً، وبرضاء شعبي كامل، في كل قطر عربي. وأعلن عبدالناصر، في المناسبة نفسها، قيام التنظيم السياسي الواحد، الذي عرف باسم "الاتحاد الاشتراكي العربي"، وهكذا، فإنه مع عبدالناصر، والاتحاد الاشتراكي العربي، وحزب البعث العربي الاشتراكي، كانت هناك مرحلة جديدة في تطور القومية العربية، من نهجها الدستوري الديموقراطي الليبرالي في النصف الأول من القرن العشرين، إلى نهجها الاشتراكي السلطوي الشعبوي، في النصف الثاني من القرن العشرين. كذلك عرفت الستينيات مصطلحاً سياسياً جديداً وهو "الناصرية"، أي أولئك الذين يؤمنون بعبدالناصر ويؤيدونه في نهجه ومبادئه. وأصبحت "الناصرية" و"القومية العربية، في أذهان الكثيرين، بمثابة لفظين مترادفين.

5. من هزيمة إلى هزيمة

كان الانفصال، عام 1961، في نظر الكثيرين، هزيمة عبدالناصر الكبرى، إلى أن وقعت حرب يونيه، أو حرب الأيام الستة عام 1967، ومنيت فيها مصر وسورية والأردن مجتمعة بهزيمة عسكرية مروعة، على يد إسرائيل منفردة، بدعم قوي مستتر من الولايات المتحدة الأمريكية، وفي غضون أيام معدودات. لقد جعل حجم وعمق وسرعة هزيمة 1967، من الانفصال مجرد نكسة صغرى.

وبين الانفصال وحرب يونيه، كان هناك ما يشبه الاستنزاف السياسي والاقتصادي والمعنوي والعسكري لمصر خصوصاً، وللقوى القومية ـ الناصرية عموماً. فبين الحدثين قامت ثورة في اليمن (سبتمبر 1962). وأعلنت تلك الثورة اليمنية على الفور مبادئ ناصرية، وأنها قامت ليس لتحرير اليمن من حكم "رجعي متخلف"، وحسب، وإنما لتصبح "كتيبة"، ضمن القوى الثورية، التي يقودها الزعيم "عبدالناصر". وبعد أيام من الثورة، كان الإمام البدر عاهل اليمن المخلوع، قد تمكن من الهرب إلى المملكة العربية السعودية، ومن هناك أعاد تنظيم صفوف أتباعه، واستقطب عدداً من القبائل اليمنية في الشمال، وأعلن مقاومته "للثورة" باعتبارها تمرداً على نظامه الشرعي.

وعلى الرغم من أن عبدالناصر، والناصريين، قد اعتبروا وقوع الثورة اليمنية في حينه، كما لو كانت رد اعتبار للحركة القومية بعد الانفصال السوري، إلاّ أن تمكن الإمام البدر من الفرار، وتجميعه للأتباع والأنصار، وتلقيه الدعم من المملكة العربية السعودية، كان يؤذن بضياع تلك "الفرحة القومية". فقد كانت السنوات الخمس التالية هي حرب استنزاف طويلة، تورطت مصر فيها، بداية لنصرة الثورة اليمنية، ثم بعد ذلك "حفاظاً لماء الوجه". ولم تكن مصر، وقواتها المسلحة، قد تعودت أو تمرست على هذا النوع من "حروب العصابات" الممتدة. ولذلك، فبتكاليف قليلة نسبياً، استطاع الجانب الملكي اليمني، المدعوم سعودياً، ثم غربياً، أن يُنهك القوات المصرية، التي كانت تحارب مع الجانب الجمهوري. وأسهمت حرب اليمن في توسيع وتعميق الانقسام العربي، بين من أُطلق عليهم وقتذاك "المعسكر الرجعي" (الملكين اليمنيين، والسعودية والأردن،) والدول الأخرى. وقد أطلق أستاذ العلوم السياسية الأمريكي، مالكوم كير (Malclom Kerr) على هذا الصراع العربي ـ العربي، مصطلح "الحرب الباردة العربية". وكان من مظاهرها العديدة زيادة الشكوك والمؤامرات والحرب الدعائية، وتقييد حركة سفر المواطنين العرب، من بلدان معسكر إلى بلدان معسكر آخر، واستخدام "العمالة العربية" كسلاح لأول مرة. ففي أوائل الستينيات كانت البلاد العربية الحديثة الاستقلال، أو التي حباها الله بثروات نفطية، تحاول تنمية نفسها، وتحتاج إلى كوادر متعلمة ومدربة، وفي مقدمتهم المعلمون والأطباء والمهندسون. وكانت هذه الكوادر متوافرة في بلدان "المعسكر التقدمي"، وخاصة مصر، وهي التي تصدرها إلى بلدان "المعسكر الرجعي". وكان سحب هذه الكوادر من جانب بلدان المعسكر الأول، أو طردها من جانب بلدان المعسكر الثاني، من قبيل معاقبة كل منهما للأخر، أو ممارسة الضغط والتهديد. ولكن هذه الممارسة، في الأجلين القصير والمتوسط، كانت ضربة أخرى موجعة للشعور القومي العربي، جعلت المواطنين العرب، الذين كانوا يعتبرون أنفسهم، أو يقال لهم، إلى الخمسينيات، أنهم أشقاء، وأن الذي فرق بينهم هو الاستعمار، يشعرون، في الستينيات، أن جنسيتهم القطرية أصبحت أحد عناصر هويتهم، وأنها تتزايد في أهميتها الوجودية، سلباً أو إيجاباً.

في خضم أجواء الفرقة، والانقسام، والاستنزاف، والحرب الساخنة في اليمن، والحرب الباردة بين "التقدميين" و"الرجعيين"، شنت إسرائيل هجومها الخاطف، صباح 5 يونيه 1967، على ثلاث بلدان عربية هي مصر وسورية والأردن، ودمرت قواتها الجوية على الأرض، ثم أوقعت هزيمة ماحقة بقواتهم البرية، التي حاربت من دون غطاء جوي؛ واحتلت في ستة أيام سيناء المصرية، والجولان السورية، والضفة الغربية الفلسطينية، والتي كانت، إلى هذا الوقت، تحت السلطة الأردنية. وأصيب العرب والعالم، بالذهول من سرعة وقوع هذه الهزيمة. وعلى الرغم من أن إسرائيل، لم تفرق بين "تقدميين" (مصر وسورية)، ورجعيين (الأردن)، إلاّ أن وجود مصر الدولة "الأكبر والأقوى عربياً"، وسورية (قلب العروبة الثائر)، ضمن التقدميين المهزومين، أصاب الحركة القومية العربية في مقتل، لم تبرأ منه طوال العقود الثلاثة التالية.

لقد كانت هزيمة العرب في 1967 متعددة الأسباب، وتحتاج إلى دراسة مستقلة. ولكن أحد هذه الأسباب، هو المزايدات الكلامية ليس بين "التقدميين" و"الرجعيين"، فحسب، وإنما داخل المعسكر التقدمي نفسه، كذلك، أي بين مصر وسورية والعراق. فقد كان حزب البعث، الذي يرفع الشعارات القومية، والاشتراكية، والثورية، مثل عبدالناصر، يحكم كلاً من العراق وسورية، ويتنافس مع مصر الناصرية، على قيادة الحركة القومية. وقد تعمد البعثيون إحراجه، في مناسبات عديدة، إمّا بطلبات تعجيزه للدخول في اتفاقيات "وحدوية"، على الرغم من عدم ثقته في البعثيين، بعد موقفهم، ودورهم في الانفصال عام 1961، أو بتذكير الجماهير العربية، أنه يختبئ في سيناء، خلف "قوات الطوارئ الدولية" (UNEF)، التي كانت قد تمركزت على الحدود المصرية ـ الإسرائيلية، بعد العدوان الثلاثي (1956)، كجزء من ترتيبات انسحاب القوات المعتدية. المهم أن كثرة ترديد هذا "الاتهام" لمصر بالاختباء وراء قوات الطوارئ الدولية، كان يردده كذلك "الرجعيون" العرب، وكان آخرهم الملك الأردني حسين، في أعقاب عدوان إسرائيلي على قرية "السموع" في الضفة الغربية، في ربيع 1967، من دون أن ينهض أي طرف عربي لنجدة الأردن.

وقد دفعت هذه الاستفزازات الكلامية عبدالناصر إلى طلب انسحاب قوات الطوارئ، يوم 17 مايو، وعلى إثر انسحابها، وخاصة من شرم الشيخ، على خليج العقبة، أغلقت مصر مضايق تيران أمام الملاحة الإسرائيلية، بين إيلات والعالم عبر البحر الأحمر، وقد أدى ذلك إلى نوبة حماس عارمة بين الجماهير العربية، التي اعتقدت، أو صدَّقت، أن عبدالناصر قادر على إحراز نصر عسكري على إسرائيل، وإلاّ لما طلب سحب القوات الدولية وأغلق خليج العقبة. ولكن حقيقة الأمر أن عبدالناصر لم يكن مستعداً، أو راغباً، في حرب مع إسرائيل، في جو الانقسام الحكومي العربي، وفي وقت كانت فيه أفضل قواته المحاربة (أكثر من 50 ألف) موجودة في اليمن. ولكنه الخطاب العربي الحماسي المزايد، مما أوقع عبدالناصر ومعه العرب، لقمة سائغة في فخ إسرائيل، التي شنت حرباً بدت للعالم كأنها حرب دفاعية ـ بعد إغلاق طرقها الملاحية في خليج العقبة. ولم يكن الرأي العام العالمي متعاطفاً، هذه المرة، مع عبدالناصر، أو العرب، مثلما كان في عام 1956. وكان على العرب أجمعين أن يلعقوا جراح الهزيمة وحدهم، على الرغم من وجود بعض التعاطف اللفظي من دول الكتلة الشرقية، ودول كتلة عدم الانحياز، والعالم الإسلامي.

ودخل "النظام الإقليمي العربي"، كما أصبح يسميه علماء السياسة، بعد هزيمة 1967، في مرحلة جديدة، توارى فيها الحديث عن "القومية العربية"، وتراجعت فيها "المحاولات الوحدوية"، وبرزت شعارات جديدة لمرحلة الهزيمة، وما بعد الهزيمة منها: "وحدة الصف"، و"التضامن العربي"، و"العمل العربي المشترك". واختفى تقريباً شعار "تحرير فلسطين"، وحل محله "تحرير الأراضي العربية المحتلة"، و"تصفية أثار العدوان"، والمطالبة "بالحقوق الفلسطينية المشروعة".