إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / القومية العربية









الفصل الرابع

6. التضامن العربي بعد هزيمة 1967: المواجهة والمساندة

على الرغم من أن المعسكر التقدمي تلقى هزيمة نكراء، إلاّ أن رد الفعل العربي، من المحيط إلى الخليج، كان واحداً تقريباً، وهو الصدمة، والحزن العميق، والشعور بالمهانة، ورفض الهزيمة. أي أنه كان هناك ما يشبه الوحدة الوجدانية الحزينة والجريحة. فحينما خاطب الرئيس عبدالناصر شعوب الأمة العربية، عبر التلفزيون والراديو، من القاهرة مساء 9 يونيه معترفاً بالهزيمة، ومسؤوليته عنها، ومعلناً استقالته وتخليه عن السلطة، لنائبه، زكريا محيي الدين، خرجت المظاهرات العارمة، في كل العواصم، والمدن العربية، رافضة لاستقالته، ومطالبة ببقائه. وفي اليوم التالي (10يونيه 1967) اجتمع مجلس الأمة المصري، ورفض الاستقالة بالإجماع، وفوَّضه كل السلطات اللازمة، لإعادة بناء البلاد عسكرياً، وسياسياً.

كذلك دعا الملك حسين، إلى مؤتمر قمة عاجل، للتداول حول "النكبة الجديدة"، كما سماها، وقتها، المفكر القومي قسطنطين زريق. وفعلاً تم الاتفاق على قمة عربية عُقدت، في الخرطوم في أغسطس من العام نفسه، أي بعد "الهزيمة" التي سميت "نكسة"، بشهرين. وفي قمة الخرطوم، التي حضرتها كل الدول، ماعدا سورية والجزائر، اللتان ظلتا متشددتين، ورافضتين للجلوس مع "الرجعيين العرب"، تم اتخاذ عدد من القرارات المهمة، التي وفرت للعرب قدراً كبيراً من التضامن، لم يكونوا قد شهدوه، منذ معركة السويس، قبل أحد عشر عاماً.

وكانت أهم قرارات قمة الخرطوم هي: "اللاءات الثلاث": لا للهزيمة، لا للتفاوض مع العدو الإسرائيلي، لا للاعتراف بإسرائيل. واتُفق على أن تقوم الدول النفطية الغنية، المملكة العربية السعودية، والكويت، وليبيا (دول المساندة)، بتقديم الدعم المالي لكل من مصر والأردن (دول المواجهة) اللتين أضيرتا في حرب يونيه، حيث فقدت مصر حقول النفط في سيناء، وإيرادات قناة السويس، وفقدت الأردن الضفة الغربية. كذلك تم الاتفاق على مصالحة مصرية ـ سعودية في شأن اليمن، تنسحب بمقتضاها القوات المصرية من اليمن، مقابل أن يظل الحكم الجمهوري، وأن يعود الملكيون اللاجئون خارج اليمن، ويشاركوا في السلطة. وشهد الوطن العربي، فعلاً، نهاية الحرب الباردة العربية. وبدا العالم العربي موحداً في الهزيمة، أكثر مما كان موحداً، في أي وقت مضى، منذ معركة السويس، وغدا هناك تغير محسوس في لغة الخطاب الناصري، بعد الهزيمة. فقد أصبح أقل راديكالية، وعنترية، سواء تجاه الأنظمة العربية، أو تجاه الدول الغربية. وتأكد ذلك بقبول مصر (الثورية سابقاً)، والأردن (الرجعية سابقاً)، لقرار مجلس الأمن  الرقم 242، الصادر يوم 22 نوفمبر 1967 (عشرين عاماً بعد قرار التقسيم، وأربعين عاماً بعد وعد بلفور)، الذي يقضي "بانسحاب إسرائيل من أراض عربية احتلت في الصراع الأخير، واحترام كل دول الشرق الأوسط لمبدأ العيش في سلام، ضمن حدود آمنة ومعترف بها". وكان هذا القرار الذي صاغته بريطانيا، مطاطاً بما فيه الكفاية، بحيث يتحمل تفسيرات عديدة. ولكنه ظل طوال العقود الثلاثة التالية أساس أية تسوية سلمية.

وزاد من التضامن العربي بروز المقاومة الفلسطينية، بقيادة منظمة فتح وياسر عرفات، وقيامها ببعض العمليات الفدائية، التي ردت الاعتبار قليلاً للكرامة العربية، وكان أهمها معركة "الكرامة" في الضفة الشرقية للأردن، التي أوقعت فيها قوات المقاومة خسائر فادحة بقوات الجيش الإسرائيلي، التي دخلت بلدة "الكرامة" كعملية تأديبية، وما تزال نشوة نصر يونيه تلعب بعقولها. كذلك أغرقت قوات البحرية المصرية، أكبر مدمرات إسرائيل (إيلات)، في مياه البحر المتوسط.

7. أيلول الأسود

خلال السنوات الست التالية لهزيمة يونيه 1967، تقلصت الحملات الإعلامية المضادة بين الدول العربية. وانصرف معظم الحكام العرب، وفي مقدمتهم الرئيس عبدالناصر، إلى محاولة إعادة بناء أنفسهم وأقطارهم. ولم يعكر صفو هذا التضامن العربي، بعد الهزيمة إلاّ التوتر المتصاعد، بين المقاومة الفلسطينية والنظامين الأردني واللبناني. ففي البلدين كانت توجد أعداد كبيرة من الفلسطينيين، منذ النكبة الأولى (1947 ـ 1949)، وتضخمت هذه الأعداد، بعد النكبة الثانية (1967)، وخاصة في الأردن، التي أصبح نصف سكانها تقريباً من الفلسطينيين.

وكان طبيعياً أن تقوم منظمات المقاومة الفلسطينية، بتجنيد الكوادر من الشباب الفلسطيني، في البلدين. ومع بدايات عام 1970 كانت فصائل المقاومة الفلسطينية، في الأردن، قد قويت إلى درجة كبيرة، وبدأت تنخرط في مزايدات راديكالية فيما بينها. من ذلك أن "حركة القوميين العرب"، التي كانت قد تأسست في أعقاب النكبة الأولى (1953) وتزعمها الطبيب الفلسطيني، الدكتور جورج حبش، الذي تعلم في الجامعة الأمريكية في بيروت، التي كانت أقرب إلى الناصرية، تحولت بعد هزيمة 1967 من الفكر القومي، إلى الماركسي، وغيرت اسمها إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. وكان طرحها الجديد هو أن الفكر القومي العربي، كما يمثله حزب البعث، والناصرية هو فكر "برجوازي صغير"، وهو الذي أوصل العرب إلى هزيمة 1967. وليس أمام العرب إلاّ تبني أيديولوجية ثورية، تعتمد على الرؤية الاشتراكية العلمية الماركسية، التي مكنت الصينيين من إنجاز ثورتهم التحريرية الكبرى، والتي مكنت فيتنام من الشيء نفسه. كذلك كان جيفارا والثورة الكوبية نموذجا يحتذي.

وبدأت الجبهة الشعبية كفاحها المسلح، مستقلة عن تنظيم فتح (حركة التحرير الفلسطينية) الأقدم والأكبر (بدأ 1965)، التي كان يقودها مهندس فلسطيني تعلم في جامعة القاهرة هو ياسر عرفات. ولكن سرعان ما انشقت الجبهة الشعبية على نفسها، وتمرد على قيادة جورج حبش، مجموعة سمت نفسها "الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين"، وتزعمها مثقف أردني هو نايف حواتمة، وأوحي هذا الفصيل في بياناته المبكرة أنه اشتراكي علمي ماركسي كذلك، ولكنه يؤكد على قيم وممارسة الديمقراطية داخل التنظيم، وفي المجتمع الفلسطيني والعربي عموماً. ممّا تضمن الإيحاء بأن سبب الانشقاق على الرفاق في الجبهة الشعبية هو النزعة "السلطوية الفاشية"، وأن تلك النزعة كانت أحد أهم أسباب الهزائم العربية. كذلك حدثت انقسامات أخرى، في التنظيم الرئيسي، فتح، وإن كان أقل أهمية. والمهم أن هذه الانقسامات ولدت صراعات داخلية ومزايدات راديكالية، خاصة على الساحة الأردنية، التي كانت مقرا لمعظم هذه الفصائل.

ووصلت الصراعات بينها إلى حد التشابك المسلح، ذهب ضحيته عشرات الأرواح الفلسطينية والأردنية، وانهارت معه هيبة الدولة الأردنية. ووصلت الأمور إلى درجة، لم يستطع معها الملك حسين، وقواته المسلحة، السكوت، أو غض البصر؛ ليس لأن المقاومة الفلسطينية، أصبحت بمثابة "دولة داخل الدولة"، أو لفوضى الاشتباكات المسلحة وخطف المواطنين، ولكن، كذلك، لبداية ممارسة جديدة وخطيرة للسلطات الأردنية، وهي اختطاف طائرات شركات الطيران العالمية المدنية، أثناء رحلاتها التجارية العادية، وعلى متنها مئات المسافرين من كل الجنسيات، وإجبارها على النزول في الأردن، وفرض الشروط على بلدان هذه الشركات أو على إسرائيل، مقابل الإفراج عن الطائرات أو المسافرين.

ووصل اختطاف الطائرات هذا إلى نقطة خطيرة، حينما أجبرت فصائل الجبهة الشعبية، عدة طائرات، من عدة مطارات أوروبية وشرق أوسطية، تنتمي شركاتها إلى دول مختلفة، منها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، وتوجهت بها إلى الأردن. وكانت العملية درامية للغاية استأثرت، بالطبع، بتغطية إعلامية واسعة، وركزت الاهتمام لعدة أيام على القضية الفلسطينية، وهو أحد أهداف الاختطاف، إلاّ أنها كذلك أصابت الفلسطينيين والعرب ووسمتهم بأنهم، "إرهابيون"، وهو مصطلح لم يكن يستخدم كثيراً إلى ذلك الوقت. وكان هذا الحادث، في سبتمبر 1970، "القشة التي قصمت ظهر البعير"، بين المقاومة والسلطة الأردنية. فانفجر قتال ضارٍ بين الجانبين، لم يتوقف إلاّ بعد أن دعا الرئيس عبدالناصر إلى مؤتمر قمة في القاهرة، حضره كل من الملك حسين، وياسر عرفات (الذي أصبح رئيساً لمنظمة التحرير الفلسطينية، خلفاً لأحمد الشقيري، في مؤتمر المنظمة بالقاهرة عام 1969)، وتم فيه وقف إطلاق النار، واحتفاظ كل طرف بالمواقع التي يسيطر عليها، لحظة سريان وقف إطلاق النار.

ولكن المتشددين، من الطرفين الفلسطيني والأردني، لم يرضيا عن اتفاق القاهرة؛ ومن ثم، ففي خلال العام التالي 1971، بدأ الجيش الأردني حملة طويلة، لإخراج عناصر المقاومة الفلسطينية، من الأراضي الأردنية؛ ونجح في ذلك، مع يوليه 1971، بعد معارك ضروس بين "الأشقاء" العرب. ولأن عبدالناصر كان قد غادر الدنيا وما فيها، فلم يكن هناك من زعامة، أو سلطة سياسية أو أدبية، لوقف سفك الدماء العربي. وفي نوفمبر من العام نفسه، وأثناء حضور أحد اجتماعات الجامعة العربية، اغتيل رئيس الوزراء الأردني، وصفي التل، الذي اعتبره كثير من الفلسطينيين القائد الأردني المسؤول عن الحرب الأهلية، وإخراج "الفدائيين" من الأردن. وفي التحقيقات مع مرتكبي الحادث الأربعة، قالوا أنهم ينتمون إلى منظمة سرية تطلق على نفسها "أيلول الأسود" وأيلول (أي سبتمبر) 1970، هو الشهر الذي انفجرت فيه الحرب الأهلية بين الجيش الأردني والمقاومة الفلسطينية، وأنها تهدف إلى "الانتقام" ممن كان لهم ضلع في تدمير حركة الفدائيين الفلسطينيين.

وأهمية الحرب الأهلية، في الأردن، بالنسبة لموضوع القومية العربية، هو أنها كانت الحالة الدرامية الأولى "للاقتتال العربي ـ العربي"، على هذا النطاق الواسع والضاري، وعلى مقربة شديدة، لا تتعدى مئات إن لم يكن عشرات الأمتار، من العدو المشترك، إسرائيل، التي كانت لتوها قد أوقعت بهم جميعاً هزيمة منكرة. ولأن القضية الفلسطينية كانت إلى ذلك الوقت (1970)، هي قضية العرب الأولى، ولأنه بين هزيمة يونيه 1967، وسبتمبر 1970، كانت آمال العرب قد انعقدت على المقاومة الفلسطينية، أو الفدائيين الفلسطينيين، كما كانوا يسمون في ذلك الوقت. وكان ما حظي به الفدائيون من احترام، وإجلال، بعد معركة الكرامة (مارس 1968) قد جعلهم مثل "الأبقار المقدسة"، التي لا يجرؤ عربي وطني عاقل على المساس بها. ومن ثم كان انتهاك الأردن لهذه القدسية محل سخط وإدانة، من معظم العرب. وبهذا المعنى، ومنذ ذلك الوقت، فإن المقاومة الفلسطينية كسبت دائماً معركة "العلاقات العامة" مع الرأي العام العربي، سواء ضد الأردن، أو ضد معظم الأنظمة العربية الحاكمة. ولكن الشاهد أن سابقة الأردن، وقبلها، سابقة الحرب الأهلية في اليمن، قد جعلت من الاقتتال "العربي ـ العربي" المسلح مسألة غير شاذة، ثم مسألة معتادة. وهو الأمر الذي جعل المفهوم "القومي" يهتز، عند قطاعات متزايدة من الرأي العام العربي.

8. حرب الاستنزاف وثلاث ثورات عربية جديدة

حينما يُؤرَّخ للقومية العربية، فإن "المسألة الفلسطينية" تأتي في مقدمة عوامل مدها وجزرها. فالمسألة الفلسطينية، شأنها شأن الحكم العثماني التسلطي، في القرن التاسع عشر، والاستعمار الغربي، في أواخر القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، مثلت هماً عربياً مشتركاً خلال المائة سنة الأخيرة. فالخطر الصهيوني، كان أحد القوى الأساسية، المحركة للقومية العربية. وكان أمل الفلسطينيين، بعد النكبة الأولى (1948)، أن الحركة القومية العربية، وما يمكن أن ينتج عنها من توحيد عربي كلي، أو جزئي، يمكن أن يدعم نضالهم، ويستعيد بعض حقوقهم أن لم يكن كلها. لذلك حينما قامت الثورة المصرية بقيادة عبدالناصر، وبدأ يتحدى الهيمنة الغربية، ويحرز انتصاراته المبكرة، استبشر الفلسطينيون والعرب خيراً، والتفوا حول عبدالناصر وثورته. ولكن الانفصال (1961)، ثم الهزيمة القاصمة، عصفا بهذه الآمال والتوقعات. وكان عبدالناصر أول من أدرك ذلك وكان يبحث عن أي شيء يعيد زرع الأمل في النفس العربية الجماعية. وكانت ثورة اليمن بعد الانفصال، أحد مصادر تجديد الأمل العربي الجماعي. ثم بعد هزيمة 1967، برزت المقاومة الفلسطينية وتوهجت، واحتفى بها عبدالناصر، واحتضنها ودافع عنها، إلى أخر رمق في حياته. ثم بادر بشن حرب استنزاف، عبر القناة، ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي لسيناء. وعلى الرغم من أن الغارات الانتقامية الإسرائيلية على القوات المصرية على الجبهة، وعلى مدن القناة، وفي العمق المصري كانت موجعة، وكانت الخسائر المصرية، البشرية والمادية، أكثر من مثيلتها الإسرائيلية. إلاّ أن العبرة، بالنسبة للروح المعنوية العربية، في ذلك الوقت، كانت القدرة على الصمود، وإيقاع خسائر موجعة بالعدو، حتى وإن كان معدلها أقل من الخسائر العربية. ومن هنا أدت حرب الاستنزاف، عبر القناة، على الجبهة المصرية، في عامي 1968 و1969، والنصف الأول من 1970، الدور التعبوي الهائل، الذي أدته المقاومة الفلسطينية، بعد الهزيمة مباشرة، في رفع الروح القومية العربية.

ولم تقتصر عوامل إعادة زرع الأمل، في الذات العربية اليائسة البائسة، على المقاومة الفلسطينية وحرب الاستنزاف، في أواخر الستينيات. وإنما ساعدها كذلك، على الانتعاش ثلاث "ثورات" عربية جديدة. كانت أولها في عدن وحضرموت ومشيخات بحر العرب ضد الاحتلال البريطاني، الذي كان متمركزاً فيها أكثر من قرن ونصف. وقد توجت المقاومة التي قادتها "جبهة التحرير القومية"، و"جبهة تحرير الجنوب اليمني"، بإجبار بريطانيا على الانسحاب، وتسليم السلطة لجبهة التحرير القومية، في منتصف ليلة 3 نوفمبر 1967. وكانت هذه الجبهة هي فرع لحركة القوميين العرب، التي أسسها جورج حبش عام 1951 في بيروت. أمّا "الثورة" الثانية فقد وقعت في السودان في مايو 1969، بقيادة اللواء جعفر نميري. ووقعت "الثورة" الثالثة في ليبيا في أول سبتمبر 1969، بقيادة ضابط شاب هو العقيد معمر القذافي. وأعلنت الثورات الثلاث تأييدها لعبدالناصر. ووضعت نفسها تحت أمر "القائد" و"الزعيم". وكثيراً ما ردد عبدالناصر نفسه أن قادة هذه الثورات يذكرونه بشبابه.

وهكذا، مع النصف الأول لعام 1970، كانت المقاومة المصرية وحرب الاستنزاف على أشدهما. وكانت القوى الثورية الفلسطينية، واليمنية، والسودانية، والليبية، تبايع "الزعيم"، وتلتف حوله. بدأ عامه برحلة سرية إلى الاتحاد السوفيتي، جلب فيها بطاريات صواريخ متطورة مضادة للطائرات، وعدة آلاف من المدربين، والخبراء الروس. وقد رفع ذلك من أداء القوات المصرية كثيراً، وعوض، جزئياً، ضعف سلاح الجو المصري، الذي كانت معظم طائراته قد دُمرت، صباح 5 يونيه 1967. وبالفعل ظهرت ثمار هذه الكفاءة القتالية، في الدفاع الجوي المصري، مع أوائل صيف 1970، وفي أسبوع واحد، استطاع أن يسقط ست طائرات لإسرائيل، وهو شيء غير معهود. وسارع وليم روجرز وزير الخارجية الأمريكي بمبادرة، حملت اسمه، لوقف إطلاق النار على الجبهة المصرية لمدة تسعين يوماً، يتم خلالها اتخاذ الإجراءات العملية الكفيلة بتطبيق قرار مجلس الأمن الرقم 242. وقبل عبدالناصر مبادرة روجرز، يوم 7 أغسطس 1970، على الرغم من تحفظات عديدة من القوى الثورية العربية، التي كان تقديرها، في ذلك الوقت، أن الكفة تتوازن مع إسرائيل بسرعة، ويمكن أن تميل إلى صالح العرب في غضون أشهر أو سنوات قليلة.

9. الرحيل المفاجئ لعبدالناصر

لا أحد يدري تماماً الأسباب الحقيقة، التي جعلت عبدالناصر يقبل مبادرة روجرز، على الرغم من تحفظ رفاقه والمقربين منه، من التقدميين العرب، في حينه. ولكن، في خلال شهر من قبول مصر والأردن للمبادرة، ووقف إطلاق النار على الجبهة المصرية، كان الوضع في الأردن قد انفجر بين المقاومة الفلسطينية والجيش الأردني. ويقال أن القتال الضاري بين عرب وعرب في الأردن، واحتمال الفتك بالمقاومة الفلسطينية كان كابوساً، وهماً على عبدالناصر، دفعه إلى الدعوة لمؤتمر قمة عربي، خلال 48 ساعة، من انفجار القتال. فقد كان عبدالناصر يدرك أن كل ساعة تمضي تقتل عشرات الأرواح العربية، ليس برصاص الإسرائيليين، الذين كانوا قد أوقفوا إطلاق النار، ولكن برصاص عرب آخرين. ويكاد يجزم أقرب الناس إلى عبدالناصر، في ذلك الوقت، بأن القتال في الأردن، وعقد مؤتمر القمة، بما انطويا عليه من مجهود عصبي هائل، كانت ضمن الأسباب الرئيسية، التي أنهكت الرجل وعجلت بأجله. نعم رحل الرئيس جمال عبدالناصر، بعد أن ودع آخر حاكم دولة حضر مؤتمر قمة القاهرة، وهو أمير الكويت، عصر يوم 28 سبتمبر 1970، وهو يناهز الثانية والخمسين من العمر فقط. ولعدة ساعات، لم تصدق الجماهير العربية الخبر، الذي أُذيع من راديو وتليفزيون القاهرة. ولعدة أيام، لم تستوعب هذه الجماهير حدث رحيل "الزعيم الخالد"، كما أصبح يُطلق عليه في وسائل الإعلام العربية. وخرجت الملايين تشارك في جنازته، وتبكيه، في كل المدن العربية الكبرى، من بغداد والى بيروت إلى القاهرة، إلى الدار البيضاء. ولعدة أشهر بعد ذلك، لم تستطع معظم الأنظمة الحاكمة العربية أن تتكيف مع غياب "الزعيم". وعلى الرغم من أن خلفه في مصر، كان أحد رفاقه في ثورة يوليه 1952، وعلى الرغم من أن "الزعيم الخالد" هو نفسه، الذي اختاره نائباً أولاً له، قبل مغادرته القاهرة، للمشاركة في القمة العربية، في الرباط، في ديسمبر 1968، إلاّ أن الكثيرين في مصر، والعالم العربي، لم يقبلوا أو يقتنعوا، بأنور السادات رئيساً لمصر، وإن أذعنوا للأمر الواقع، بعد أحد الاستفتاءات المعتادة على رئاسته، في أكتوبر 1970.

وأهمية رحيل جمال عبدالناصر فيما يتعلق بموضوع القومية العربية، تتمثل في ثلاثة أمور على الأقل:

الأمر الأول

أنه أول زعيم عربي استطاع أن ينتقل بمفهوم "القومية العربية"، من مفهوم نخبوي للصفوة العربية المشرقية (أو الشامية)، إلى مفهوم شعبي جماهيري، تستوعبه وتؤيده "الجماهير العربية" من المحيط إلى الخليج. بل أن مفهوم وحقيقة "الجماهير العربية" لم تظهر، على سطح الحياة العربية العامة، بشكل محسوس وملموس، يأخذه السياسيون في الحسبان، داخل وخارج العالم العربي، إلاّ مع قيادة عبدالناصر.

الأمر الثاني

أن عبدالناصر هو الذي غذى هذه الجماهير العربية بالآمال، ورفع الطموحات، وفجر التوقعات، وقاد مسيرتها، وانتصر بها في معارك عديدة: تصفية الاستعمار، ومناهضة الأحلاف، وتأسيس حركة الحياد الإيجابي وعدم الانحياز، وتأميم قناة السويس، ومجابهة العدوان الثلاثي، وإنجاز أول وحدة عربية بين مصر وسورية، وما إلى ذلك، ولكنه كان كذلك الزعيم العربي المسؤول عن الانقسامات العربية، والحرب الباردة العربية، والهزيمة الكبرى في عام 1967.

الأمر الثالث

أن عبدالناصر رحل عن الساحة فجأة، وترك وراءه تركة عربية مثقلة بالهموم والأحزان والهزائم والانقسامات العربية ـ العربية. لذلك كان على من سيخلفوه مصرياً وعربياً أن يتولوا تصفية هذه التركة الثقيلة.

وعلى الرغم من هذا الأمر الثالث، إلاّ أن رحيل عبدالناصر المفاجئ، كان أحد اللحظات الدرامية الحزينة التي توحدت فيها المشاعر العربية، توحداً وجدانياً عميقاً، بامتداد الوطن العربي من المحيط إلى الخليج. وكأنما كان هذا "التوحد" هو آخر إسهامات عبدالناصر في حركة القومية العربية.

10. حرب أكتوبر: المشهد الأخير للوحدة العربية في القرن العشرين

كان الرئيس أنور السادات، الذي خلف عبدالناصر في رئاسة مصر، يعرف قدر نفسه. فلم يسرف في الوعود، بل التزم بأن يسير على طريق عبدالناصر، في الاستعداد "لتصفية آثار العدوان"، أي لاستعادة الأراضي العربية، التي احتلتها إسرائيل، في حرب يونيه 1967، ولم يطمح أنور السادات أن يكون "زعيماً" للعالم العربي، ولا أن يصدر "الثورة" خارج الحدود. وعلى عكس ذلك، حاول السادات أن يحسن علاقات مصر مع الأنظمة العربية المحافظة، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية، من دون أن يهمل حلفاء مصر الثوريين، وفي مقدمتهم سورية. كذلك حاول أن يحسن علاقات مصر بالدول الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، من دون أن يضحي بأصدقاء مصر الدوليين، وفي مقدمتهم الاتحاد السوفيتي. من ذلك، أنه بدأ قنوات اتصال سرية مع الولايات المتحدة الأمريكية، استعان فيها بالمملكة العربية السعودية، وفي الوقت نفسه، سارع بتوقيع أول "معاهدة صداقة" من نوعها بين مصر (أو أي بلد عربي) والاتحاد السوفيتي، ولمدة 15 عاماً، في يونيه 1971.

وهكذا بدا الرئيس أنور السادات أكثر تواضعاً، وأقل إلهاماً من سلفه؛ ولكن أكثر دهاء، ومراوغة. وهو الذي سيرسى قاعدة إستراتيجية إقليمية عن التوازن والمبادرة في المنطقة. وهي أن التضامن والعمل المشترك بين مصر وسورية والمملكة العربية السعودية، من شأنه أن يخلق تضامناً عربياً عاماً، ويسهل أي عمل عربي مشترك شامل. وقد كان هذا هو الحال في أكتوبر 1973، حينما شنت مصر وسورية هجوماً مشتركاً، عبر خطوط وقف إطلاق النار، في قناة السويس والجولان، ظهر يوم العاشر من رمضان، ضد قوات الاحتلال الإسرائيلية لأراضيها. وقادت المملكة العربية السعودية مبادرة لاستخدام النفط كسلاح في المعركة، حيث منعت تصديره إلى الدول التي أيدت إسرائيل، وخفضت الإنتاج عموماً، مما أدى إلى تقلص المعروض، مقارنة بحجم الطلب، فارتفع سعر البرميل، لعدة مرات، خلال الأسابيع، والأشهر القليلة التالية. ففي اجتماع عقدته منظمة الدول العربية المنتجة والمصدرة للبترول، في الكويت بتاريخ 17 أكتوبر 1973، قررت المنظمة تخفيض إنتاج دولها بنسبة 5% شهرياً إلى أن تجلو إسرائيل عن الأراضي العربية المحتلة. ولكن المملكة العربية السعودية، ذهبت أبعد من ذلك وحدها، وقررت تخفيض إنتاجها بنسبة 10% شهرياً، وأعلنت حظر تصديره كلية إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وهولندا، وهو الأمر الذي أذهل الولايات المتحدة الأمريكية، لا لاعتمادها بالضرورة على النفط السعودي، ولكن لأن عهدها بالسعودية هو أنها محافظة وحذرة للغاية، وخاصة بالنسبة للعلاقات معها.

لقد أبلت القوات المصرية والسورية بلاءً حسناً في الأيام الأولى لحرب أكتوبر. وعبرت القوات المصرية قناة السويس، التي كانت تعد مانعاً مائياً كبيراً، واقتحمت الدفاعات الإسرائيلية الحصينة على الضفة الشرقية للقناة، والمعروفة وقتئذ "بخط بارليف" وقد ذهلت إسرائيل والدول الغربية، بل والعرب أنفسهم من الأداء العربي الرفيع عسكرياً واقتصادياً. وكان التنسيق الدبلوماسي بين الدول العربية وأصدقائها، في الأمم المتحدة، على المستوى نفسه من الكفاءة.

وكان حماس الشارع العربي منقطع النظير، في تلك الأيام من أكتوبر/ رمضان، واختلطت مشاعر الوحدة القومية بمشاعر الوحدة الإسلامية. وأحست الولايات المتحدة الأمريكية خصوصاً بالخطر الداهم على إسرائيل، لأول مرة منذ سنوات، فاندفعت بجسر جوي لإمدادها بالأسلحة والذخيرة المتطورة، بل ووضعت القوات الأمريكية في البحر المتوسط، وعلى الأرض الأمريكية نفسها، في حالة استعداد وتأهب عام ونووي، تحسباً للتدخل لإنقاذ لإسرائيل، وفي مواجهة الاتحاد السوفيتي، إذا تدخل بدوره إلى جانب العرب. وعلى الرغم من أن السوفيت وضعوا، كذلك، جسراً جوياً لنقل السلاح إلى مصر وسورية، إلاّ أنه لم يكن بحجم أو نوعية الجسر الأمريكي إلى إسرائيل. ومع تدفق المساعدات الأمريكية، أفاقت إسرائيل من هول صدمة الهجوم العربي المفاجئ، والأداء العربي الرفيع؛ فتحولت من الدفاع إلى الهجوم المضاد، خلال الأسبوع الثاني من القتال (بدءا من 12 أكتوبر 1973)، واستطاعت أن توقف الهجوم السوري على جبهة الجولان، وتجبر القوات المهاجمة إلى التقهقر، والتخلي عن الأراضي التي كانت قد اكتسبتها. كما استطاعت قوة إسرائيلية أن تنفذ من ثغرة، على خطوط الهجوم المصرية في الضفة الشرقية للقناة (بين قوات الجيشين الثاني والثالث)، وتعبر القناة إلى الضفة الشرقية ليلة 15 أكتوبر 1973 وتحتل ما يكفي لإقامة رأس جسر، تدفقت إليه، بسرعة خاطفة، قوات إسرائيلية عند مدينة الدفرسوار، وهكذا أصبحت هناك قوات مصرية على الضفة الشرقية للقناة، وقوات إسرائيلية على الضفة الغربية للقناة. وكانت هذه أيضا مفاجأة، للجانب المصري والعربي؛ وأصابت القيادة ببعض الارتباك.

ويبدو أن إسرائيل قد تصورت، أن هذا الارتباك سيؤدي بالقيادة المصرية إلى سحب قواتها من الضفة الشرقية (سيناء)، كما فعلت في حربي 1956 و1967. ولكن ذلك لم يحدث. وتداخلت خطوط القتال. ولم تستطع القوات الإسرائيلية الانسحاب من الضفة الشرقية. كذلك، لم تستطع القوات الإسرائيلية أن توسع الرقعة، التي احتلتها على الضفة الغربية، ولا أن تجبر القوات المصرية على الانسحاب من الضفة الشرقية. وكذلك لم تستطع هذه الأخيرة توسيع الشريط الذي احتلته بموازاة القناة على الضفة الشرقية. وهكذا مع الأسبوع الثالث للحرب، كانت قد استقرت خطوط المعارك على الجبهتين السورية والمصرية؛ مما أدى إلى نشاط دبلوماسي محموم، لقبول قرار مجلس الأمن الرقم 338 بوقف القتال (يوم 21 أكتوبر 1973) وإعادة تأكيد مبادئ تسوية الصراع العربي الإسرائيلي، طبقاً للقرار الرقم 242، وقرارات الأمم المتحدة الأخرى. وقد حاولت إسرائيل في الساعات القليلة، قبل وبعد، سريان مفعول القرار الرقم 338، أن تدفع بقواتها بسرعة لاحتلال مدينة السويس، وعزل الجيش المصري الثالث على الضفة الشرقية للقناة، وهو الأمر الذي كاد أن ينجح لولا شراسة المقاومة الشعبية في مدينة السويس من ناحية، وتهديد الاتحاد السوفيتي باستخدام القوة من ناحية أخرى.

وعلى الرغم من أن العرب لم يحققوا نصراً حاسماً، فيما سمي بحرب أكتوبر/ رمضان/ يوم الغفران، إلاّ أنهم لم يهزموا. وفي المعادلة النفسية ـ الإستراتيجية، فإنهم قد سجلوا نصراً كبيراً في مسيرة الصراع. وأصبح واضحاً، لكل الأطراف، قدرة العرب على استخدام السلاح المتطور، وعلى التجديد فيه، وعلى التخطيط، وعلى المبادرة، وعلى التنسيق العسكري ـ الاقتصادي ـ الدبلوماسي. وأكثر من ذلك، أنهم خرجوا من حرب أكتوبر 1973، وهم أكثر ثراءً عدة مرات، حيث ارتفعت عائدات النفط العربية عدة أضعاف في نهاية العام نفسه، من مليار دولار في بداية عام 1973، إلى مليار دولار في نهاية العام نفسه. وأصبح المراقبون يتحدثون عن العرب "كقوة سادسة"، في النظام العالمي (بعد الخمسة الكبار في مجلس الأمن). وتدفقت الوفود السياسية والاقتصادية والعسكرية على العواصم العربية تخطب ودها، وتسعى لعقد المعاهدات والصفقات معها. وشهدت الأسابيع والشهور القليلة التالية لحرب أكتوبر، وخلال عام 1974، ما سمى "بالدبلوماسية المكوكية" لوزير الخارجية الأمريكي الجديد، ومستشار الأمن القومي الأمريكي، هنري كيسنجر، إلى القاهرة ودمشق والرياض وتل أبيب. واستؤنفت العلاقات الدبلوماسية، التي كانت قد انقطعت بين بعض العواصم العربية وبعض العواصم الغربية، منذ حرب يونيه 1967. وتألق، في هذه الفترة بشكل خاص، الرئيس المصري أنور السادات، والرئيس السوري حافظ الأسد، والعاهل السعودي الملك فيصل. وبدا العالم العربي تحت قيادة هذا الثالوث في الطريق من نصر إلى آخر. وبدا العالم العربي والأمة العربية في أكثر حالات الوحدة النفسية والمعنوية، منذ فترة 1956 ـ 1958.

كانت حرب أكتوبر 1973، مقارنة بحروب العرب السابقة من قبل، وكما سيتضح في السنوات التالية، لحظة توحد حقيقي، ليس في المشاعر وحدها، وإنما كذلك في أكبر إسهام عربي عسكري، في المعارك المشتركة:

  • أسهمت العراق بثلاث فرق برية، وثلاثة أجنحة من الطائرات المقاتلة للجبهة السورية، وتحملت القوات العراقية خسائر فادحة في الأيام الوسيطة للمعارك (بين يومي 12 و16/10/1973).
  • وأسهمت الأردن بلواءين مدرعين للدفاع عن جنوب سورية (الملاصق لشمال الأردن).
  • وأسهم المغرب بكتيبة قوامها 1800 جندي قاتلت القوات الإسرائيلية بشراسة مشهودة عند جبل الكرمل في اليوم الأول من الحرب (6 أكتوبر 1973).
  • وأسهمت قوات بحرية صغيرة، من اليمن الشعبية، مع وحدات الأسطول المصري، في إغلاق مضيق باب المندب، في وجه الملاحة الإسرائيلية، وكان لذلك مغزى إستراتيجي كبير، لأنها جعلت احتلال إسرائيل لشرم الشيخ، على خليج العقبة، بلا فائدة عسكرية، أو تجارية.
  • كذلك أسهمت قوات صغيرة، من المملكة العربية السعودية، والكويت، وتونس، والسودان، والجزائر، في القتال على الجبهة المصرية.

ولكن يظل استخدام الدول العربية الخليجية، بقيادة المملكة العربية السعودية، لسلاح النفط في حرب أكتوبر، أعظم وأهم بكثير من إسهاماتها العسكرية. فقد كان هذا السلاح، هو الذي أدى، بكثير من دول العالم، إلى أن تكتشف فجأة عدالة القضية العربية. فعلى سبيل المثال قطعت 23 دولة أفريقية علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل، أثناء الحرب، أو بعدها مباشرة. كما أصدرت دول السوق الأوروبية المشتركة التسع، (في ذلك الوقت)، بياناً أعادت فيه تفسير القرار الرقم 242، لصالح العرب (6 نوفمبر 1973). وتلتها اليابان على النهج نفسه خلال ساعات.

باختصار، كانت حرب أكتوبر 1973 هي أهم مشاهد القومية العربية، على أرض الواقع، خلال القرن العشرين، من حيث المشاعر والسلوك والإنجاز، والاحترام العالمي.