إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / القومية العربية









الفصل الخامس

الفصل الخامس

خسوف القومية العربية

       في أعقاب أزمة الخليج، التي بدأت بغزو العراق للكويت، في أغسطس 1990، وشن حرب دولية على العراق لإجبارها على الجلاء عن الكويت، في يناير 1991، نشر أستاذ السياسة اللبناني ـ الأمريكي، فؤاد عجمي مقالاً بعنوان "نهاية القومية العربية". ودلل في هذا المقال على أن "القومية العربية" قد انتهت، كمشاعر جماعية توجه السلوك السياسي نحو التضامن العربي، في مواجهة أمم وأقوام أخرى. ففي أزمة الخليج المذكورة، قاتل العرب عرباً آخرين؛ ووقف عرب مع أجانب في مواجهة عرب آخرين. فالمشاعر، التي حركت السلوك السياسي للدول والشعوب والأفراد، كانت "المصالح" وليست "المبادئ". فالمصالح هي التي حركت الرئيس العراقي صدام حسين لاحتلال الكويت. والمصالح هي التي حركت الولايات المتحدة الأمريكية لإرسال قوات ضخمة، إلى الخليج لتحرير الكويت. ومقولة "المصالح"، كأساس دائم في العلاقات الدولية ليس بالشيء الجديد. ولكن الجديد في القرنين الأخيرين هو أن "المشاعر القومية" أو "النزعات الأيديولوجية" بدأت تتنافس مع المصالح المادية ـ الإستراتيجية كأسس بديلة للسلوك السياسي والعلاقات الدولية. ففي عام 1956 مثلاً، لم تكن هناك مصلحة مادية أو إستراتيجية لسورية، حينما نسفت خط أنابيب النفط، لحرمان الغرب من النفط العربي، تضامناً مع مصر التي كانت تواجه عدواناً ثلاثياً من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل. أكثر من ذلك، كان هذا السلوك السياسي يعني خسارة مادية لسورية، التي كانت تجني عائدات ورسوم مرور خط الأنابيب، في أراضيها. فالتضامن مع مصر، حتى وإن انطوى على تضحيات مادية، كان تعبيراً عن مشاعر القومية العربية في المواجهة بين "الأنا العربي" و"الآخر غير العربي".

       وما ذهب إليه فؤاد عجمي، في "نهاية القومية العربية"، هو تحديداً أن "المصالح" عادت لتحديد السلوك السياسي العربي، أسوة بغيرهم من الشعوب والدول، بدلاً من "المشاعر القومية" التي سادت في فترة سابقة، مثل حرب السويس (1956) وحرب أكتوبر (1973). وطبعاً من الممكن الرد على هذه المقولة، وتفنيدها كلياً أو جزئياً. فحقيقة الأمر أن السلوك الفردي والجماعي، تحكمه دائماً "المصالح" والمشاعر و"المبادئ"، سواء عند العرب أو غيرهم. والقضية دائماً ليست غياب أي منها على الإطلاق، وإنما ترتيبها النسبي في تحديد أو تشكيل السلوك، ومنها بالطبع السلوك السياسي.

       على أي الأحوال تظل الملاحظات، التي وردت في مقال فؤاد عجمي، مهمة ومثيرة وكاشفة عما حدث للمشاعر القومية العربية. فهي، بالقطع لم تكن، في عام 1990 ـ 1991، مثلما كانت عليه في عام 1956، أو 1967، أو عام 1973. ولكن الذي ينبغي التنويه به، في هذا الجزء الختامي من الدراسة، هو أن ما لاحظه فؤاد عجمي، في أثناء وفي أعقاب حرب الخليج، لم يكن وليد الظرف، أو الساعة، وإنما كان نتاجاً تراكمياً، لمؤثرات عديدة طرأت، على الساحة العربية عموماً، وعلى الساحات الوطنية القطرية المتعددة، في العالم العربي، خلال العقدين السابقين، وخاصة في أعقاب حرب أكتوبر 1973. فقد كانت الفترة من 1975 ـ 1990، فترة حروب عربية ـ عربية، وعربية إسلامية، أكثر مما كانت حروباً أو صراعات مع "الآخر غير العربي"، مثل إسرائيل أو الغرب. وكان لذلك، بالطبع، تأثيراته السلبية الشديدة على المشاعر القومية العربية، وإحساس البعض باليأس من أي دعوة قومية وحدوية.

1. بداية التمزق العربي بعد حرب أكتوبر

على الرغم من أن حرب أكتوبر 1973 شهدت أداءً عربياً رائعاً، في مواجهة إسرائيل والغرب والعالم، إلاّ أن الأسبوع الأخير من الحرب احتوى بذور الفرقة، ثم التمزق العربي، في العقدين التاليين. من ذلك، أن الأداء العسكري، على الجبهتين المصرية والسورية، كان متفاوتاً. فبينما استردت إسرائيل زمام المبادرة العسكرية على الجبهتين، إلاّ أنها نجحت في أن تعيد الأمور إلى ما كانت عليه تماماً قبل 6 أكتوبر، على الجبهة السورية؛ بينما فشلت في ذلك على الجبهة المصرية. وأثارت المحادثات الثنائية لفصل القوات، على الجبهتين المصرية والسورية، خلافات مكتومة، ثم علنية بين مصر وسورية. فقد كان الرأي السوري هو عدم توقيع أي اتفاقات منفردة، مع إسرائيل، بينما كانت مصر حريصة على إنهاء فصل القوات، في أسرع وقت، تخفيفاً على حصار الجيش المصري الثالث، في جنوب الضفة الشرقية للقناة. كذلك كانت إسرائيل حريصة على سرعة فصل القوات، حتى تخفف عن الجيب الإسرائيلي المحاصر، بين الدفرسوار والسويس، على الجانب الغربي من القناة. مثل هذه الظروف لم تكن قائمة على الجبهة السورية، والتي عادت فيها قوات الطرفين إلى ما كانت عليه تماماً قبل بداية الحرب. ويبدو أن ما كانت ترغب فيه سورية، من محادثات فصل القوات، هو الحصول على شريط أرضي إضافي، من أراضيها المحتلة، وخاصة حول مدينة "القنيطرة"، ولو كان كرمز لإنجاز شيء محسوس ومرئي من جراء الحرب. المهم أن فصل القوات على الجبهة المصرية تقدم بسرعة نسبية، ووُقِّعت اتفاقية في 18 يناير 1974، ولكنها تأخرت بالنسبة للجبهة السورية لستة أشهر (5 يونيه 1974).

نشأ خلاف عربي آخر، بين الأردن وجبهة التحرير الفلسطينية، في شأن من يتحدث باسم الأراضي الفلسطينية المحتلة، في الضفة الغربية، والتي كانت الأردن قد ضمتها عام 1948/1949، وسقطت في أيدي القوات الإسرائيلية عام 1967. وعلى الرغم من أن تلك الأراضي، أو الجبهة الأردنية ـ الإسرائيلية لم تشهد معارك عسكرية في أكتوبر 1973، مثلما حدث على الجبهتين المصرية والسورية، إلاّ أنه كان هناك اهتمام عالمي متزايد بمعالجة القضية الفلسطينية، والتي كانت أساس مشكلة الشرق الأوسط والصراع العربي ـ الإسرائيلي. وتمثل ذلك في قرار دعوة ياسر عرفات، رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، لأول مرة، لمخاطبة الجمعية العامة للأمم المتحدة، في 13 نوفمبر 1974. وكان العاهل السعودي الملك فيصل، عندما انعقد مؤتمر القمة العربية في الرباط، قبل ذلك بثلاثة أسابيع (أكتوبر 1974)، أقترح ألاّ يكون العرب أقل اعترافاً من الأمم المتحدة بقيادة عرفات ومنظمة التحرير لتمثيل، والتحدث، باسم الشعب الفلسطيني. وعلى الرغم من معارضة الأردن لذلك، إلاّ أنها وافقت على مضض.

وفقد العالم العربي بعد ذلك بأشهر، العاهل السعودي، الملك فيصل، الذي اغتيل في الرياض، ومثَّل ذلك خسارة فادحة، فقد كان الرجل يتمتع باحترام كبير على الساحة القومية. وهو الذي قاد معركة استخدام النفط في حرب أكتوبر. كما أنه كان عنصر التوفيق والتصالح الدائم، منذ عام 1967، على الساحة العربية عموماً وبين مصر وسورية خصوصاً.

وهكذا مع منتصف عام 1975، وعلى الرغم من زيارة الرئيس نيكسون للمنطقة، لأول مرة (يونيه 1974)، والدبلوماسية المكوكية لهنري كيسنجر، خلال الفترة نفسها، وهما اعتراف رمزي بالقوة العربية الصاعدة، بدأت الانشقاقات العربية تتسع، ويفقد العرب تدريجياً تلك الروح التي سادت في أكتوبر 1973.

2. الحرب الأهلية في لبنان

ثم جاءت طامة كبرى أصابت العرب والقومية العربية، في مقتل. فقد انفجرت حرب أهلية في لبنان في صيف عام 1975، على إثر اشتباك مسلح، بين بعض فصائل المقاومة الفلسطينية، وبعض قوات حزب الكتائب اللبناني (الماروني النزعة)، الذي كان يضيق ذرعاً بالوجود الفلسطيني المسلح على الأرض اللبنانية. وبسبب التركيبة الطائفية المعقدة في لبنان، فقد انتصر المسلمون السُّنة والدروز للطرف الفلسطيني، في مواجهة حزب الكتائب (الماروني المسيحي). واتسع نطاق الاشتباكات، وامتدت لعدة أيام، ثم لعدة أسابيع، تم لعدة أشهر، ثم لعدة سنوات. وعلى الرغم من محاولات وسطاء الجامعة العربية وقف إطلاق النار، عدة مرات، في الأشهر الأولى للحرب، إلاّ أن محاولات الثأر المتبادل، وزيادة التدخل الأجنبي لنصرة هذا الجانب أو ذلك، أدى إلى تفاقم الأوضاع باضطراد.

وفي العام الثاني لهذا القتال الأهلي في لبنان، عُقدت قمة عربية مصغرة في الرياض، ثم قمة أخرى في القاهرة، شاركت فيها سورية، ومصر، والمملكة العربية السعودية، ولبنان، ومنظمة التحرير. وتقرر فيها تشكيل قوات ردع عربية، باسم الجامعة العربية، لتفصل بين الفرق المتحاربة. وعلى الرغم من مشاركة عدة دول عربية في قوات الردع هذه، إلاّ أن أغلبيتها كانت من سورية. وكان الجانب الماروني، في البداية، سعيداً ومرحباً بهذا التدخل العربي عموماً، والسوري خصوصاً، لأن كفة الجانب الإسلامي اللبناني والفلسطيني، كانتا تميلان إلى الرجحان بسرعة. ولم تكن سورية، في ذلك الوقت، على وفاق مع منظمة التحرير الفلسطينية، لذلك جاء إرسال قوات سورية إلى لبنان، كما لو كان محاولة تحجيم للفصائل الفلسطينية. وهو ما حدث بالفعل.

وفي غضون عدة أشهر، أصبحت قوات الردع العربية، هي في الواقع قوات سورية التي أصبحت، مع منتصف 1977، هي القوة الحقيقية المهيمنة في لبنان، وهو الأمر الذي لم يرق لحزب الكتائب، ولكثير من المسيحيين اللبنانيين، الذين شعروا كما لو أن محاولات الهيمنة الفلسطينية الضمنية، في السابق، قد تحولت إلى واقع هيمنة سورية فعلية في اللاحق، أي أنهم أصبحوا "كالمستغيث من الرمضاء بالنار". وبدأت مقاومة صامتة، من معظم الطوائف المسيحية للوجود السوري في لبنان، ثم تحولت هذه المقاومة الصامتة، إلى مقاومة صريحة وعالية النبرة، وظهرت بين الحين والأخر، في صورة اشتباكات مسلحة، بين ميليشيات حزبي الكتائب والأحرار (المسيحيين) والقوات السورية. وتغير، بالتالي، موقف الأحزاب اللبنانية الإسلامية وبعض الفلسطينيين، الذين كانوا قد استاءوا من التدخل السوري في البداية. فأصبحوا أكثر قبولاً لقوات الردع العربية (السورية)، ما دامت تقلم أظفار القوى اللبنانية المارونية (الكتائب والأحرار). وهكذا تغيرت التحالفات على الساحة اللبنانية عدة مرات. كما أخذت صور المعارك طابعاً طائفياً بغيضاً، بمرور الوقت. وأصبحت هناك ظاهرة الاختطاف والقتل، طبقاً لبطاقات الهوية. وانتشرت الحواجز الأمنية، وكثرت الميليشيات، والفرز السكاني، والاقتلاع، والهجرة العسكرية، من منطقة إلى أخرى، أو من حي سكني إلى أخر طبقاً للانتماء الطائفي.

وفي هذه الأجواء الصراعية الدموية الحادة، انقلب معظم المسيحيين اللبنانيين على كل ما هو قومي عربي. وذهب البعض منهم إلى إنكار هويته العربية، وبدأوا في استدعاء هويات أخرى مثل "الفينيقية"، و"البحر المتوسط". هذا على الرغم من أن أجداد هذه العناصر نفسها هم الذين أحيوا وبشروا بالقومية العربية، في القرن التاسع عشر، كما سبق. ولم يكن مستغرباً في هذا المناخ أن تلعب أصابع إسرائيل، مستغلة الأوضاع إلى أقصى حد. فبالنسبة لها كان أي إضعاف، أو إنهاك لكل من سورية والمقاومة الفلسطينية، هدفاً مرغوباً. وقد وجدت نفسها على اتفاق في الهدف، مع القوى المارونية اللبنانية. فتعاونا ونسقا، سراً في البداية، ثم علناً في النهاية. ومع ربيع وصيف 1982، كانت إسرائيل مستعدة للتدخل في الحرب الأهلية نهاراً جهاراً، إلى جانب القوات اللبنانية (المارونية المشتركة، من ميليشيات حزبي الكتائب والأحرار). واجتاحت قوات إسرائيل بالفعل جنوب لبنان. وتقدمت صوب العاصمة بيروت، وحاصرتها وقذفتها بكل ما أوتيت من قوة، لمدة شهرين، حتى أجبرت المقاومة الفلسطينية على الخروج من بيروت. ومكنت مرشحاً كتائبياً مارونياً هو بشير الجميل من الفوز بانتخابات الرئاسة اللبنانية.

وفي الوقت الذي كانت القوات الإسرائيلية تجتاح الجنوب اللبناني، وتحاصر بيروت، وتتعاون مع ميليشيات حزب الكتائب اللبناني، في محاولة الفتك بقوات المقاومة الفلسطينية، وحلفائها من ميليشيات لبنانية معارضة، كانت قوات الردع العربية السورية، تعسكر في وادي البقاع اللبناني، على مقربة من المعارك الدائرة، من دون أن تتدخل، أو تقدم يد المساعدة. وفي المرة الوحيدة، التي حاول فيها سلاح الطيران السوري التصدي للطيران الإسرائيلي، فوق الأرض اللبنانية، في بداية الاجتياح، فإنه مُنى بخسائر فادحة، نتيجة الفرق الشاسع، لا في الشجاعة أو المهارة، وإنما في درجة التقدم التكنولوجي للمقاتلات على الجانبين. فقد كانت إسرائيل تحارب في الجو بأحدث ما أنتجته الولايات المتحدة الأمريكية من طائرات (إف 15 وإف 16).

والمهم في هذا الصدد، هو ما أسهمت به الحرب الأهلية اللبنانية، بكل مراحلها، وتبدل تحالفاتها، في تقويض مفاهيم ومشاعر وممارسات حركة القومية العربية. فبداية انقلب معظم المسيحيين اللبنانيين الموارنة على مفاهيم العروبة والقومية العربية، على الرغم من أن بعضاً من أجدادهم كان لهم دور مشهود، في بعث الفكر القومي العربي، في القرن التاسع عشر. وثانية أدت الممارسات الحكومية العربية عموماً، والسورية خصوصاً، إلى إضعاف أي ادعاءات قومية. فحزب "البعث العربي الاشتراكي" الحاكم، في سورية، هو الذي انقلب، عدة مرات، في سنوات الحرب الأهلية اللبنانية على المقاومة الفلسطينية، وعلى قوى لبنانية محسوبة على الاتجاه القومي العربي التقدمي، مثل الحزب الاشتراكي اللبناني، الذي كان يقوده الزعيم اللبناني كمال جنبلاط، والذي اغتيل في ظروف مريبة. وحامت الشكوك حول المخابرات السورية، في عديد من الأوساط اللبنانية والعربية. وكان التفسير الشائع هو أن استقلالية كمال جنبلاط، جعلت سورية تتخلص منه، أسوة بتخلصها من شخصيات لبناية أخرى، مناوئة لاستمرار وجودها في لبنان، سواء كانت من اليسار أو اليمين، من المسلمين أو المسيحيين. وباختصار بدا أولئك الذين وصلوا إلى السلطة باسم القومية العربية، مثل حزب البعث العربي الاشتراكي في سورية، في وضع لا يختلف عن أي زعامة ميكيافيلية (أي: انتهازية) تستخدم كافة الأساليب من أجل السلطة والنفوذ. من ذلك، أن زعامة عربية أخرى رفعت شعارات قومية وحدوية، وهي قيادة العقيد معمر القذافي في ليبيا، اتبعت الأساليب الميكيافيلية نفسها مع خصومها، سواء من الليبيين، أو غير الليبيين. ومن ذلك اختفاء الزعيم الشيعي اللبناني، الإمام موسى الصدر، في ظروف مريبة، أثناء أو بعد زيارة لليبيا عام 1979، واعتقد أنصاره ومريدوه أن النظام الليبي قام بتصفيته. هذا فضلاً عن تحالف بعض اللبنانيين علناً، مع إسرائيل، ضد الفلسطينيين، والسوريين، ولبنانيين آخرين؛ منتهكين بذلك أحد المقدسات العربية، إلى ذلك الوقت، وهو عدم الاتصال بالعدو الإسرائيلي، ناهيك عن التعاون أو التحالف معه ضد "أشقاء" عرب آخرين. بل أن سلوكاً أقل من هذا من جانب السادات، كان سبباً في تعليق عضوية مصر بالجامعة العربية، ونقل مقرها من مصر، وقطع معظم الدول العربية للعلاقات الدبلوماسية معها، بعد زيارة الرئيس السادات لإسرائيل (نوفمبر 19 77)، وتوقيع اتفاقيتي كامب دافيد معها (1978)، ثم معاهدة سلام مصرية إسرائيلية (1979)؛ كما سيأتي.

3. الصراع المغربي ـ الجزائري ـ الموريتاني على الصحراء

في أقصى الطرف الغربي من الوطن العربي، نشأ صراع مسلح على رقعة صحراوية، تعرف "بالساقية الحمراء"، أو "الصحراء الأسبانية" (Spanish Sahara) محصورة بين المغرب والجزائر وموريتانيا. وكانت المملكة المغربية تقول دائماً إنها جزء مكمل لترابها الوطني، وكانت أسبانيا قد اغتصبتها، بالقوة المسلحة، وبالتواطؤ مع فرنسا، التي كانت قد احتلت المغرب (1906)، ووضعته تحت الحماية الفرنسية. وحينما جلت أسبانيا عنها في عام 1976، زحفت عليها الجماهير المغربية فيما سمي باسم "المسيرة الخضراء" وتبعتها قوات نظامية مغربية. ولكن الجزائر، المناوئة والمنافسة للمغرب على القيادة الإقليمية، أعلنت عدم اعترافها بسيادة المغرب على تلك البقعة الصحراوية. أكثر من ذلك، دعمت الجزائر حركة محلية من سكان الصحراء، سمت نفسها بحركة التحرير الصحراوية "البوليساريو"، أعلنت المقاومة المسلحة ضد "الاحتلال المغربي". ودخلت موريتانيا لعدة سنوات، في البداية، إلى جانب الجزائر والبوليساريو، ضد المغرب في هذه القضية. وأصبحت قضية الصحراء هذه، مثل الحرب الأهلية اللبنانية، استنزافاً دائماً لموارد هذه الأقطار العربية الثلاثة، ولمفاهيم القومية العربية، كذلك. فصراع الأخوة، والدماء المسفوكة فيها أوحى للكثيرين، داخل وخارج الوطن العربي، أن الأنظمة العربية الحاكمة لا تعير الاعتبارات القومية (فوق القطرية) أي اعتبار، أو احترام، وأنها في نهاية المطاف، لا تهتم إلاّ بالمصالح القطرية الخاصة. ولا يزال الصراع حول الصحراء مستمراً، وإن كانت موريتانيا قد انسحبت منه كلية، مع أواخر السبعينيات، وانشغلت عنه الجزائر بمشكلاتها الداخلية، في أوائل التسعينيات. ودخلت الأمم المتحدة حكماً في تسوية الصراع بين المغرب وجبهة البوليساريو، بعد أن عجزت الجامعة العربية، ومنظمة الوحدة الأفريقية، عن تسويته.

4. الصراع اليمني ـ اليمني

من المشرق والمغرب، إلى جنوب غرب شبه الجزيرة العربية، حيث شطرا اليمن، الذي كان شماله قد شهد ثورة، ضد النظام الملكي الحاكم (1962)؛ وشهد جنوبه ثورة مسلحة ضد الاستعمار البريطاني، وفاز باستقلاله عام 1967. وعلى رغم من ادعاءات النظامين الحاكمين، في شطري اليمن، بأنهما "ثوريان"، "وقوميان"، "ووحدويان"، إلاّ أنهما لم يتوحدا، بل أدهى من ذلك، بدأت تدب بينهما الخلافات، وهو الأمر الذي كان كثيراً ما يتم احتوائه، بتوقيع اتفاق "مصالحة" و"وحدة"، بين الطرفين! وفي كل مرة حدث ذلك، سرعان ما كانت تهب الخلافات من جديد، ويزيد التوتر، وفي مرتين، من هذه المرات، تطور التوتر إلى نزاع حدودي مسلح، استخدمت فيه كل الأسلحة في عامي 1976، ثم في عام 1978. وكانت الجامعة العربية، ومصر، والكويت، كثيراً ما تتدخل للوساطة بين الشطرين، وتوقف القتال.

المهم أن الصراع اليمني ـ اليمني زاد يأس الرأي العام العربي، من تحقيق الوحدة العربية، فشطرا اليمن هما الأقرب إلى بعضهما، من أي أقطار عربية أخرى. وشعبهما يريدان الوحدة، وقيادتا الشطرين تعلنان التزامها وسعيهما نحو الوحدة، ومع ذلك فلا وحدة بين الشطرين، فكيف لبقية أقطار الوطن العربي الأقل تقارباً، والأقل تجانساً، أن تحقق مثل هذه الوحدة؟

في عام 1990 تم توحيد الشطرين فعلاً، وبعد ذلك بأربع سنوات نشبت حرب أهلية بين الشمال والجنوب مجدداً، وانتصر فيها الشمال. وما زال الشطران موحدين تحت سيطرة المنتصر الشمالي، إلى يومنا هذا.

5. صلح مصر المنفرد مع إسرائيل

أمّا الذي قسم العرب، أكثر من أي شيء أخر، بعد حرب أكتوبر، وربما في القرن العشرين كله، فهو المفاجأة التي فجرها الرئيس السادات، في مجلس الشعب المصري، يوم 9 نوفمبر 1977، حين أعلن، في خطاب افتتاحه للدورة الجديدة، أنه يسعى للسلام بكل السبل، وأنه في سبيل ذلك، مستعد للذهاب إلى أي مكان في العالم، وأن إسرائيل "قد تندهش حينما تسمعني أمامكم أقول أنني مستعد أن آتي إلى عقر ديارهم، إلى الكنيست نفسه لأتحدث إليهم …". وقد استجاب له، على الفور، مناحم بيجين، رئيس الوزراء الإسرائيلي اليميني المتشدد، بتوجيه الدعوة إلى السادات لزيارة إسرائيل يوم 10 نوفمبر، وقبلها الرئيس السادات يوم 11 نوفمبر، وتمت الزيارة فعلاً يوم 19 نوفمبر 1977، وألقى السادات خطاباً تاريخياً، في الكنيست، أمام تلفزيونات العالم، وسط دهشة الجميع، وذهول العالم العربي. وتلت تلك الزيارة محادثات سلام، أدت في البداية، إلى اتفاقيتي كامب دافيد (17 سبتمبر 1978)، ثم إلى معاهدة سلام مصرية ـ إسرائيلية (26 مارس 1979). وبمقتضى هذه المبادرة، وما تلاها من اتفاقيات، انسحبت إسرائيل من بقية سيناء، مقابل اعتراف بإسرائيل، وإنهاء حالة الحرب بينهما، وتبادل العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والثقافية.

أدت مفاجأة السادات إلى انقسام شعبي وحكومي عربي عميق. فمعظم العرب لم يوافقوا على مبادرته، ولا على ما ترتب عليها من اتفاقيات. وعَدّها كثيرون منهم صلحاً منفرداً، من شأنه إضعاف الوطن العربي عموماً، والفلسطينيين خصوصاً، في مواجهة إسرائيل. وبلغ الغضب الرسمي العربي ذروته في القمة العربية، التي عُقدت في بغداد (2 ـ 5 نوفمبر 1978)، وحاولت إثناء السادات عن المضي فيما كان ينتويه؛ ولما رفض العروض العربية بالمساعدة المالية، مقابل التوقف، قرر الرؤساء العرب في بغداد، قطع علاقاتهم الدبلوماسية بمصر، ونقل مقر الجامعة العربية من القاهرة إلى تونس، وتعليق عضوية مصر في الجامعة العربية. وبدأت سنوات القطيعة العربية، التي استمرت عشر سنوات.

وكان هذا الحدث معولاً آخر، من المعاول العديدة، التي أصابت دعوة القومية العربية في مقتل. فبغياب مصر الرسمية من المحافل العربية، بدأ الوطن العربي، كما لو كان قد فقد المايسترو الذي يقنن حركته. وقد حاولت عدة دولٍ أن تشغل هذا الدور، بديلاً لمصر، في قيادة أو ريادة النظام الإقليمي العربي، ولكن نجاح كل منها كان محدوداً للغاية، إن لم يكن منعدماً على الإطلاق. فالخلاف العراقي ـ السوري ظل مشتعلاً، على الرغم من أن النظامين ينتميان إلى حزب البعث العربي الاشتراكي، وقد تصالحا، لعدة أسابيع، بعد زيارة السادات للقدس، وتوقيع اتفاقيتي كامب دافيد، والى أن انعقدت القمة العربية في بغداد، والتي ذهب إليها الرئيس السوري حافظ الأسد، وصافح فيها غريمه، البعثي العراقي الآخر، الرئيس صدام حسين، المضيف للمؤتمر. ولكن هذا التصالح الوقتي ضد السادات، سرعان ما انتهى، وعاد النظامان إلى سابق عهدهما من الشك والريبة والعداوة، وأسهما بذلك، مثل نظامي شطري اليمن، في تيئيس الجماهير العربية من صدق، أو جدية، أولئك الذين يتحدثون باسم القومية العربية والوحدة العربية.

كذلك من المهم التنويه أنه، خلال الحملات الإعلامية المتبادلة، بين الرئيس السادات وإعلامه، من ناحية، والعرب المعارضين له، ولاتفاقيات كامب دافيد من ناحية أخرى، حدث ما يمكن وصفه بارتداد مصري حول الذات. بل وخروج أدباء مصريين مرموقين، مثل توفيق الحكيم ونجيب محفوظ، والدكتور حسين فوزي، والدكتور لويس عوض، يشيدون بمصريتهم، ويرددون مقولات حول انتماء مصر لثقافات البحر المتوسط، أكثر من انتمائها للثقافة العربية، والثقافات الشرقية والأفريقية. وقد وثق هذا السجال في كتاب أصدره مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية في الأهرام.