إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / القومية العربية









الفصل الخامس

6. الثورة الإسلامية في إيران

مما أضاف إلى خسوف الدعوة القومية العربية، في السبعينيات والثمانينيات، انفجار الثورة الإسلامية في إيران، عام 1979، والمعادية تماماً للشاه وللغرب وإسرائيل. وقد استقبلت الجماهير العربية هذه الثورة، في البداية، بالترحيب، والابتهاج، لكراهية معظم هذه الجماهير لشاه إيران، المتغطرس على العرب، والمتحالف دائماً مع الغرب وإسرائيل ضد العرب. فقد كانت إيران ـ في عهد الشاه ـ إحدى دولتين إسلاميتين كبيرتين (الأخرى هي تركيا)، كلاهما تعترفان بإسرائيل.

وقد تبنت الثورة الإيرانية، بقيادة آية الله الخوميني، شعارات ثورية معادية للغرب والاستعمار، وإسرائيل. بل وأغلقت السفارة الإسرائيلية في طهران. ودعت ياسر عرفات، رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، لتسلم تلك السفارة، وتحويلها إلى بعثة فلسطينية دائمة في طهران. كذلك، كان متوقعاً أن يعادي النظام الثوري الجديد، في طهران، كل مبادرات الصلح مع إسرائيل، التي قادها السادات. وتبنى النظام الإيراني الجديد، كل مقررات القمة العربية في بغداد (على الرغم من أنه لم يكن طرفاً مدعواً إليها) بمقاطعة مصر دبلوماسياً.

وترتبط الثورة الإسلامية الإيرانية، بموضوع القومية العربية، من أربع زوايا:

أولاً: أنها قذفت بإيران، كلاعب أساسي، في منطقة الشرق الأوسط والعالم العربي، من خلال تحمسها الشديد، والصاخب، للقضية الفلسطينية.

ثانياً: أن العراق قد دخل معها، على الفور، في تنافس صراعي جيوبولتيكي ـ أيديولوجي ـ سياسي. فالبلدان متلاصقان. وكلاهما يهدف إلى السيطرة والنفوذ في منطقة الخليج بأسرها؛ وإحداهما تحكمه أيديولوجية دينية (إيران)، والآخر تحكمه أيديولوجية قومية علمانية.

ثالثاً: أن النظام الإيراني الثوري الإسلامي قد دخل، مع المملكة العربية السعودية، في تنافس صراعي ديني. فإيران "شيعية" معادية للولايات المتحدة الأمريكية، والسعودية "سُّنية" لا تعادي الولايات المتحدة الأمريكية.

رابعاً: تحالف النظام الثوري الإيراني مع الحركات الإسلامية المعارضة، في البلاد العربية، مثل حركتي، أمل، وحزب الله في لبنان، والجهاد وحماس في فلسطين، والإخوان المسلمين في مصر وتونس والجزائر والسودان. وقد أدى ذلك، فيما أدى إليه، إلى استعداء عدد من الأنظمة العربية الحاكمة.

ولم يكد يمضي عام، على الثورة الإيرانية، إلاّ وقد انفجرت حرب ساخنة بينها وبين العراق، انقسم الوطن العربي، في شأنها، حكومات وشعوباً. فقد أيدت سورية ولبيبا وجزء من الجماهير العربية إيران، واعتبرت العراق هي المعتدية، أو بالبادئة بالعدوان. بينما أيدت كل بلدان الخليج، وبعض الدول العربية الأخرى، العراق، من منطلق قومي عروبي، أو بسبب الخوف من إيران، وأطماعها في الخليج، واستمرار احتلالها لثلاث جزر، تعتبرها دولة الإمارات العربية المتحدة جزءاً من ترابها.

كذلك بدا البديل الإسلامي، الذي طرحته الثورة الإيرانية، كما لو كان أفضل، وأكثر حماساً وبراءة من البديل القومي العربي. وتزامن هذا البديل الفكري السياسي، مع النمو السريع للحركات الإسلامية الاحتجاجية، التي كانت قد بدأت في الظهور والنمو، في أعقاب هزيمة 1967. ومع أواسط السبعينيات، بدأت هذه الحركات تدخل، في مواجهات عنيفة مع الأنظمة العربية الحاكمة، في مصر (1974 و1977)، وتونس، والمملكة العربية السعودية (1979)، وسورية (1980). وبذلك أصبح أكثر النشطين السياسيين على الساحة العربية، ومن العرب أنفسهم، هم دعاة البديل الإسلامي. واحتلوا خشبة المسرح جماهيرياً، وهمَّشوا دعاة القومية العربية، إلى الأطراف. وبمضي السنوات في عهدي السبعينيات والثمانينيات، ازداد هذا التهميش أكثر، وأكثر.

7. الانتفاضة الفلسطينية

مع الشعور المتزايد للفلسطينيين، تحت الاحتلال الإسرائيلي، بأن العالم العربي مشغول عنهم بمشكلاته الداخلية، وصراعاته البينية؛ وأن الدول الكبرى والأمم المتحدة تتعامل مع قضيتهم، تعاملاً روتينياً لا جديد فيه من عام إلى عام؛ ومع إحساسهم بعجز قيادتهم، في تونس (منظمة التحرير الفلسطينية)، بعد إجبارها على مغادرة بيروت (منذ 1988)؛ وعدم جدوى ضجيج أطراف "جبهة الرفض والتصدي" العربية، منذ مبادرة السادات، والتي شملت سورية والعراق وليبيا ومنظمة التحرير. مع هذا كله، ومع تصاعد الإجراءات التعسفية للاحتلال الإسرائيلي، بما في ذلك مصادرة مزيد من الأراضي، وتدمير مزيد من البيوت الفلسطينية، وجلب مزيد من المهاجرين اليهود من الاتحاد السوفيتي، انفجرت المظاهرات الفلسطينية أواخر عام 1987؛ واستمرت بشكل غير متوقع، أسبوعاً بعد أسبوع، وشهراً بعد شهر، وعاماً بعد آخر، على الرغم من استخدام إسرائيل لأبشع الوسائل لفضها أو محاصرتها.

وأطلقت وكالات الأنباء على هذه المظاهرات المستمرة اسم "الانتفاضة". وتكاد تكون هذه الكلمة العربية هي الوحيدة، التي دخلت قواميس اللغات الحية (Intifada)، في القرن العشرين. تميزت هذه الانتفاضة بأن الذين قاموا بها كانوا من الأطفال، والفتيان، الذين ولدوا في فلسطين، بعد هزيمة 1967، واحتلال إسرائيل لكل فلسطين. لذلك سميت الانتفاضة أحياناً "بثورة أطفال الحجارة"، لأن المشاركين فيها لم يكونوا يستخدمون أي سلاح قاتل، سواء كان نارياً، أو أبيض. وإنما استخدموا الحجارة، التي كانوا يقذفونها على جنود الاحتلال الإسرائيلي، فتوجع من دون أن تقتل. وسبب ذلك إحباطاً شديداً لقوات الاحتلال، التي اعتادت على استخدام أساليب القتال الحديثة، ضد القوات العربية المنظمة أو الفدائيين، بسرعة وكفاءة. ولكن قوات الاحتلال لم تستطع ذلك مع أطفال الحجارة. وفي المرات التي استخدمت فيها النيران، أو العنف البدني، كانت وسائل الإعلام العالمية لهم بالمرصاد؛ وهو ما رسم لإسرائيل صورة سلبية للغاية في العالم عموماً، وفي الغرب خصوصاً. أي أن أطفال الحجارة قدموا للقضية الفلسطينية، في ثلاث أعوام، أكثر مما قدم الزعماء العرب الكبار، والجيوش العربية في أربعين عاماً من قبل (1947 ـ 1987).

وأهمية الحديث هنا عن الانتفاضة الفلسطينية هو أنه، على الرغم من فخر كل العرب بها، كأحد أساليب المقاومة العبقرية التي تفتق عنها الخيال الشعبي الفلسطيني، إلاّ أن الانتفاضة، من ناحية أخرى، كانت تعبيراً عن إحساس الفلسطينيين بأنهم وحدهم، وأن عليهم أن يحاربوا معاركهم بأنفسهم، من دون مزيد من الانتظار "للأشقاء العرب" والذين إذا أتوا، فهم يأتون و"الخيبة" أمامهم، أو من خلفهم. باختصار، اكتشف الفلسطينيون، ولو متأخراً، ما اكتشفه من قبلهم اللبنانيون، والأردنيون، والمصريون، وغيرهم من شعوب وأقطار الأمة، أن عليهم أن يتولوا بأنفسهم شؤون "مشروعهم القطري الخاص" وألاّ يعلقوا مزيداً من الآمال على المشروع القومي العربي العام.

8. المجالس الإقليمية

من المحاولات الأخيرة، في القرن العشرين، لإنقاذ ما تبقى من آمال قومية وحدوية، ممارسة العمل الإقليمي المشترك، بشكل أكبر من ذلك، الذي تقدمه الجامعة العربية، وإن كان لا يزال دون تحقيق الوحدة الفيدرالية، أو حتى الكونفدرالية. وكان أول، وربما أنجح، أشكال هذا العمل الإقليمي المشترك هو مجلس التعاون لدول الخليج العربية (Gulf Cooperation Council, GCC), والذي تأسس في عام 1981، في أعقاب نشوب حرب الخليج الأولى بين العراق وإيران. وضم، المجلس في عضويته، كلاً من المملكة العربية السعودية، والكويت، والبحرين، وقطر، والإمارات العربية المتحدة، وعُمان. ويلاحظ أن هذه البلدان الخليجية الست متجاورة جغرافياً، وتحكمها أنظمة ملكية، وتتمتع بثروات نفطية، تضعها في مصاف أغنى الدول العربية، وضمن دول العالم الغنية. كذلك فهي، معاً لا تتجاوز العشرين مليوناً من السكان، ولا تشكل أكثر من ستة في المائة من إجمالي سكان الوطن العربي. وساد الاعتقاد، وقت إنشاء المجلس، أن الغرض منه "أمني" في المقام الأول، لأن بلدانه شعرت منفردة، أو مجتمعة، بأن الجارين الكبيرين، إيران (50 مليوناً وقت تأسيس المجلس عام 1981) والعراق (16 مليوناً) يمكن أن تتحرش بها، أو تبتزها. وقد ظهرت علامات مبكرة لذلك باحتلال إيران، في السبعينيات، لثلاث جزر صغيرة تابعة للإمارات العربية المتحدة. وعلى الرغم من أن مجلس التعاون لدول الخليج العربية، لم يحقق للخليجيين معظم ما كانوا يصبون إليه، إلاّ أن مجرد استمراره، والحد الذي حققه من التعاون والتضامن، يظل أفضل بكثير من التجمعين الإقليمين الآخرين اللذين يأتي الحديث عنهما.

عادت مصر إلى الجامعة العربية عام 1987، ولعبت الأردن دوراً محورياً في عودتها، وبقدوم عام 1988، شعرت الأردن بضرورة تقوية مركزها الإقليمي، فسعت لدى مصر، والعراق، لتكوين مجلس تعاون إقليمي، مشابه لمجلس التعاون الخليجي. فتكون مجلس للتعاون العربي من البلدان الثلاثة، وانضمت له اليمن، في آخر لحظة، فأصبح يتكون من مصر، والعراق، والأردن، واليمن. وهي بلدان الثقل السكاني، والعسكري العربي، مع إمكانيات نمو هائلة، واستبشر به العرب خيراً، من دون إسراف في التوقعات. وفي خلال أسابيع من تكوين مجلس التعاون العربي، سعت بلدان المغرب العربي الخمس، المغرب، والجزائر، وتونس، وليبيا، وموريتانيا، إلى تكوين مجتمع إقليمي مشابه، عام 1989، وأطلقت علية اسم " الاتحاد المغاربي". وبذلك ضمت المجالس الإقليمية الثلاثة 15 دولة عربية، تضم 80 في المائة، من سكان الوطن العربي. ولم يبق، خارج تلك التجمعات، سوى السودان، وسورية، واليمن الجنوبي، والصومال، وجيبوتي.

ولكن المجلسين الأخيرين تعثرا، ولم يحققا شيئاً إيجابياً يذكر. فقد انهار مجلس التعاون العربي على إثر غزو العراق للكويت؛ ووقوف مصر مع الكويت، وانقسم اتحاد المغرب العربي على نفسه، بسبب أزمة الخليج. فقد وقفت المغرب مع الكويت، وشاركت في التحالف الدولي، بينما وقفت الجزائر على الحياد، وأخذت ليبيا وموريتانيا موقفاً مؤيداً للعراق. والخلاصة أن هذه التجربة المتواضعة لم يكتب لها نجاح يذكر، على الرغم من أنها ربما كانت أكثر الصيغ واقعية.

9. غزو العراق للكويت وحرب الخليج الثانية

فوجئ الكويتيون، والعرب، والعالم، صبيحة الثاني من أغسطس 1990، بغزو عسكري عراقي كاسح لجارته العربية المسالمة الصغيرة، الكويت. وخلال ساعات من الغزو، كانت الأسرة المالكة الكويتية، من آل الصباح، قد فرت، على عجل، من بلادها إلى المملكة العربية السعودية، ثم إلى أماكن أخرى من العالم العربي، وغير العربي. كذلك تبخرت، في غضون ساعات، كل رموز الدولة الكويتية، وأعلنت بغداد ضم الكويت إليها بصفتها المحافظة التاسعة عشر.

وأصابت هذه الواقعة العرب والعالم بالذهول لعدة ساعات. فعلى الرغم من وجود بوادر توتر، وأزمة، بين النظام العراقي والكويت، في الأفق، طوال الأسابيع القليلة السابقة، إلاّ أن أحداً، من داخل الكويت، أو خارجها، لا من الحكام، والمحكومين، تصور أن مثل هذا التوتر الخلافي، بين الجارتين العربيتين، يمكن أن يتصاعد لهذه الدرجة، التي تغزو فيه إحداهما الأخرى، وتلغي شخصيتها العربية والدولية المستقلة. ثم تتالت أخبار النهب، وامتهان الكرامة الإنسانية، لأبناء وبنات الكويت، على أيدي القوات العراقية، بشكل أزعج الرأي العام العربي، لوقوعه من أبناء شعب عربي بأبناء شعب عربي آخر. وكانت حسرة الكويتيين أنفسهم، بالطبع، هي الأعمق والأشد. فقد وجدوا أنفسهم، فجأة، محتلين، مغلوبين على أمرهم، من دون أن يهب لنجدتهم أحد من الأشقاء العرب. ووجد مئات الآلاف من الكويتيين، الذين كانوا يقضون إجازاتهم الصيفية، خارج البلاد، أنفسهم "لاجئين" بلا وطن، أو دولة.

وعلى الرغم من الإدانات الدولية، وبعض الإدانات العربية، إلاّ أنه ظهر انقسام حاد، في الرأي العام العربي. فقد أيد البعض "غزو" صدام حسين للكويت، على أنه خطوة في سبيل "الوحدة العربية". وأيد البعض الآخر غزو صدام للكويت، على أنه خطوة، في سبيل "إعادة توزيع" الثروة النفطية العربية. وأيد البعض الثالث الغزو، على أنه خطوة لتكريس القوة العسكرية العراقية (العربية)، كي تصبح نداً رادعاً لإسرائيل، ومرحلة في طريق "تحرير فلسطين"؛ ورفع شعار "القدس عن طريق الكويت".

وأحست المملكة العربية السعودية، وبقية بلدان مجلس التعاون الخليجي، بضرورة رفع الظلم عن الكويت، وبتهديد حقيقي من جراء الغزو العراقي لأحد أهم بلدان المجلس. ومن ثم سرعان ما استجابوا لنداءات الكويتيين، وأصدر مجلس الأمن، سلسلة من قرارات الإدانة ضد العراق، ومطالبتها بالجلاء عن الكويت. كما دعا الرئيس المصري، حسني مبارك، إلى مؤتمر قمة عربية لاحتواء الأزمة وحلها سلمياً وعربياً. وعُقدت القمة فعلاً في القاهرة، يوم 10 أغسطس 1990؛ وأدانت الأغلبية العظمى من الدول العربية الغزو، وطالبت بالجلاء عن الكويت. وخرجت، عن هذا الإجماع العربي، كل من السودان وليبيا واليمن، ثم الأردن، التي وإن لم تؤيد، فإنها لم تدن؛ وأخذت موقفاً وسطاً مهادناً للعراق، بدعوى أن ذلك سيمكنها من التفاوض معه وإقناعه بحل "معقول".

تدافعت الأحداث بعد ذلك، وسعت أمريكا بسرعة إلى استصدار ما يكفي من قرارات، من مجلس الأمن، لاستخدام الضغوط، ضد العراق، للجلاء عن الكويت، بما في ذلك استخدام القوة. كما سعت إلى تكوين تحالف دولي، لممارسة هذا الضغط على العراق؛ وانضمت له معظم الأقطار العربية، وفي مقدمتها الثالوث العربي الفاعل: مصر، وسورية، والمملكة العربية السعودية. وتمت عمليات تعبئة وحشد كبيرين لقوات هذا التحالف في منطقة الخليج، وصلت إلى ما يقارب المليون جندي، وما يقرب من ألف طائرة، وما يزيد عن ألفي دبابة. وسارعت حاملات الطائرات الأمريكية، والبريطانية، والفرنسية، إلى مياه الخليج والبحر المتوسط والمحيط الهندي. وتولت المملكة العربية السعودية زمام الأمور، وصدر الأمر الملكي بتولي صاحب السمو الملكي الفريق الركن خالد بن سلطان بن عبدالعزيز، قيادة قوات التحالف. وعبثاً ذهبت محاولات إثناء صدام عن مواصلة الاحتلال، وقد قام بهذه المحاولات قادة عرب، مثل حسني مبارك، والملك حسين؛ وقادة أوروبيون في مقدمتهم الاتحاد السوفيتي. وعلى الرغم من أن الاستعدادات العسكرية، المذكورة أعلاه، كانت تتم جهاراً نهاراً. وعلى الرغم من أن الرئيس الأمريكي، جورج بوش، حصل على موافقة الكونجرس باستخدام القوة، إلاّ أن الرئيس العراقي، صدام حسين، ظل يعتقد، إلى آخر لحظة، أن "القوة العسكرية" لن تُستخدم ضده؛ وإذا استخدمت، فإن قواته كفيلة بإنزال خسائر بشرية فادحة بها، تجعل الضغوط الشعبية على الولايات المتحدة الأمريكية تتصاعد، فتتوقف العمليات العسكرية ضده، ويخرج هو من المعركة وقد ظفر "بالكويت".

لم تتحقق حسابات صدام حسين على النحو الذي ابتغاه. فقد شنت عليه طائرات وصواريخ التحالف غاراتها مساء يوم 16 يناير 1991، واستمر القصف الجوي على العراق وقواته، في الكويت، ثلاثة أسابيع متصلة، جرى في آخرها زحف عسكري بري، لقوات التحالف الدولي على الكويت، لتحريرها من الاحتلال العراقي. وهو الأمر الذي اكتمل في غضون ثلاثة أيام. تكبد العراق خلالها خسائر فادحة، تجاوزت المائتي ألف قتيل، سوى آلاف الجرحى والأسرى. بينما لم تتجاوز خسائر قوات التحالف، مائتي قتيل. وانسحب العراق بلا قيد أو شرط، قبل أن تفتش الأمم المتحدة على منشآته العسكرية، باحثه عن ما قد يكون لديه من أسلحة الدمار الشامل لتدميرها (النووية والكيماوية والبيولوجية).

لقد كانت حرب تحرير الكويت (1991)، أو ما سمي بحرب الخليج الثانية، تمييزاً لها عن الحرب العراقية ـ الإيرانية (1980 ـ 1988) التي سميت بحرب الخليج الأولى، تدريباً بالذخيرة والأسلحة الحية، بين عالمين مختلفين، أحدهما يحارب بأسلحة وتكنولوجيا أواسط القرن العشرين، وعقلية القرن التاسع عشر، والآخر يحارب بأسلحة وتكنولوجيا وعقلية القرن الحادي والعشرين. وهذا هو ما يفسر سرعة إنجاز الحرب، والنسبة الشاسعة في الخسائر، والتي وصلت إلى ألف قتيل عراقي مقابل كل قتيل من قوات التحالف.

والمهم هنا هو تبيان مدى التأثير المدمر، ليس لقوات وقدرات وموارد الشعب العراقي في تلك الحرب، وهي فادحة للغاية، وغير مسبوقة في حجمها ومداها؛ ولكن كذلك لفكرة القومية العربية، التي هي موضوع هذه الدراسة.

لقد عرض البحث لأهم ما ألم بالدعوة القومية، والحركة الوحدوية العربية، من مد وجذر على امتداد قرن من الزمان. وكان الاعتقاد السائد، بين الدارسين للموضوع، أن نكبة 1948 في فلسطين، وإخفاق العرب في إنقاذ ذلك الوطن العربي، هو أفدح ما أصاب القومية. ثم كان الانفصال وتفسخ الجمهورية العربية المتحدة عام 1961، وساد الاعتقاد أن ذلك الإجهاض المبكر لأول تجربة وحدوية، هو أخطر ما أصاب نفسية الأمة من جراح غائرة. ثم جاءت هزيمة 1967، واعتقد معظم العرب، وما زالوا يعتقدون، أن تلك هي أسوأ ما حدث لهم في التاريخ الحديث. ثم جاءت الحرب الأهلية اللبنانية، ودخول إسرائيل طرفاً فيها، وغزوها للبنان وحصارها بيروت، واقتحامها لأول عاصمة عربية خارج فلسطين، وإجبارها للمقاومة الفلسطينية على الانسحاب من لبنان، واعتقد بعض القوميون العرب أن ذلك كان أسوأ ما ألم بالأمة العربية من مذلة وهوان. ولكن لعل ما ترتب على الغزو العراقي للكويت لا يقل فداحة عن كل تلك الأحداث الجسام، إن لم يكن أفدحها على الإطلاق؛ فلأول مرة، في تاريخ العرب الحديث، ومنذ بدأت الدعوة القومية المعاصرة، يغزو بلد عربي بلداً عربياً آخر، وينفي هويته، وينكل بشعبه، ويضطره إلى الاستعانة ببلدان غير عربية لإنقاذه من الشقيق العربي. ولأول مرة تنقسم الأمة العربية، من المحيط إلى الخليج، هذا الانقسام العميق بين مؤيد للكويت في محنته، ومؤيد للعراق في غزوته؛ ثم تنقسم، بعد هزيمة العراق المنكرة، في توزيع مسؤوليات تلك الهزيمة. ولأول مرة، في التاريخ العربي، تطأ التراب العربي كل هذه الأقدام الأجنبية، متحالفة مع قوات عربية، ضد قوات عربية أخرى. ولأول مرة، تدفع أمة هذا القدر من المليارات (حوالي ثمانمائة مليار دولار) نفقات حرب قصيرة، لم تستغرق شهراً، لقوى أجنبية لكي تنتصر لبعض العرب ضد بعض العرب الآخرين.

إن ما حدث في الخليج، في عامي 1990 و1991، هو نكبة حقيقية للأمة العربية ولدعوة القومية العربية. وقد كان، وما يزال، لهذه النكبة ألف وجه ووجه، مثل هزيمة 1967، وستظل العراق والكويت وبقية شعوب الأمة تدفع (فاتورة) هذه النكبة لعدة أجيال. وقد كان أحد وجوه هذه النكبة هو انحسار العمل والدعوة على الساحة القومية، من أجل الوحدة العربية. فبلدان الخليج، وفي مقدمتها الكويت، أصبحت لا تطيق أي حديث قومي عربي وحدوي، بعدما رأته وذاقته على أيدي قوات صدام العراقية الشقيقة.

10. النظام العالمي الجديد، من عاصفة الصحراء إلى مدريد وأسلو

شهدت السنوات، التالية لحرب الخليج الثانية، تطورات متلاحقة، كان أهمها انعقاد مؤتمر مدريد للسلام، بمباركة الولايات المتحدة وروسيا، ومشاركة معظم الدول العربية، وإسرائيل، ومعظم الدول الأوروبية والأسيوية. لقد كان المؤتمر مظاهرة للمنتصرين في حرب الخليج، التي كان يطلق عليها اسم رمزي هو "عاصفة الصحراء" (Desert Storm). وقد تزامنت تلك الأخيرة مع انهيار الكتلة الشرقية والاتحاد السوفيتي، من دون طلقة رصاص واحدة، نتيجة أثقال مشكلاتهم الداخلية. ومع هذا الانهيار، انتهت الحرب الباردة (1945 ـ1990)، وأصبح العالم وحيد القطب، أي أصبحت أمريكا هي القوة الأعظم الوحيدة. ومع تطورات أخرى تكنولوجية واتصالية واقتصادية، أصبح المراقبون يقولون بولادة نظام عالمي، أو نظام كوني جديد؛ تقوده الولايات المتحدة وحدها.

وقد مارست الولايات المتحدة الأمريكية، دورها المنفرد، في القيادة، في أعقاب انتصار الخليج، بالدعوة إلى مؤتمر دولي للسلام في مدريد (نوفمبر 1991). وقد تفتق عن هذا المؤتمر إقرار مبادئ عامة لتسوية مشكلة الشرق الأوسط المزمنة. من تلك المبادئ، الاعتراف بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني؛ ودعوة ممثليه (منظمة التحرير الفلسطينية) للمشاركة في مجهودات السلام التالية، وإعادة تأكيد قراري مجلس الأمن الرقمين 242 و338، كأساس للتسوية السلمية، وتأكيد مبدأ الأرض مقابل السلام.

كذلك وافق المؤتمر على مسارين لعملية السلام:

المسار الأول: المحادثات الثنائية بين الأطراف المعنية: الإسرائيلي ـ السوري، والإسرائيلي ـ الأردني، والإسرائيلي ـ اللبناني، والإسرائيلي- الفلسطيني.

والمسار الثاني: المفاوضات المتعددة الأطراف، وتختص بالقضايا الإقليمية المشتركة، مثل نزع السلاح، والبيئة، واللاجئين، والمياه، وما إلى ذلك.

وقد سارت الأمور، بسرعة معقولة، في بعض المحادثات الثنائية (إسرائيل ـ الأردن)، وببطء شديد، في بعضها الأخر (سورية ـ إسرائيل). ولجأ الفلسطينيون والإسرائيليون إلى قنوات سرية، إلى جانب القنوات العلنية. وقد أدت إحدى تلك القنوات السرية إلى الوصول إلى اتفاق في مدينة أوسلو النرويجية، وُقِّع في حديقة البيت الأبيض يوم 13 سبتمبر 1993، وقضى بتكوين سلطة حكم ذاتي فلسطينية في أجزاء من الضفة الغربية وقطاع غزة، على أن تتوالى خطوات انتقال السلطة، من قوات الاحتلال الإسرائيلية، تدريجياً، إلى الجانب الفلسطيني، خلال خمس سنوات، يُنظر، بعدها، في الأوضاع النهائية الخاصة بالحدود والقدس، والمياه، والتعويضات، واللاجئين، بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني.

ومع أواسط التسعينيات، بدت المنطقة، التي يشملها الوطن العربي، كما لو كانت تتجه نحو التهدئة والاستقرار تحت المظلة الأمريكية. وبدا العرب كما لو كانوا قد قبلوا إسرائيل وسطهم. وبدت إسرائيل كما لو كانت قد قبلت الفلسطينيين، وسلمت بحقهم في إنشاء دولتهم. وبدت العراق كما لو كانت تلعق جراحها، وتقبل وضعها الجديد كدولة مهزومة منتقصة السيادة، ولو إلى حين. وبدا الوطن العربي كما لو كان قد تخلى عن حلم الوحدة العربية، أو كما لو كان قد أجل هذا الأمر إلى أجندة جيل آخر في قرن قادم.

هكذا "بدت" أمور عديدة على سطح الواقع العربي. ولكن التجربة، وتاريخ المنطقة، وطبيعة شعوبها تبين أنه لا ركون إلى التسليم، أو التكهن بالمستقبل، بناء على "ما يبدو" على السطح. ففي جوف هذه الأمة العربية، وتحت ذلك السطح، تتفاعل قوى ومشاعر غير معلومة وغير موقوتة، ولا أحد يستطيع الجزم بما تخبئه، أو ستقذفه، في السنوات، أو العقود القادمة. الشيء الوحيد اليقيني عن العرب، هو أنهم أمة لا تموت.