إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / مصالح جمهورية الصين الشعبية وأهدافها في منطقة الشرق الأوسط، والرؤية المستقبلية لدورها حتى عام 2030






منطقة الشرق الأوسط



الفصل الأول

المبحث الثاني

التوجهات الإستراتيجية لجمهورية الصين

إن ماضي الصين وتاريخها الأسطوري الإمبراطوري، يلقي بظلاله القوية على الصين اليوم، فهو يطلق العنان لمطامح غير محددة. فوضع النظام العالمي الجديد أحادي القطبية مهيأ لتستعيد الصين مركزها بوصفها حضارة رائدة وقوية منافسة للولايات المتحدة الأمريكية، وبالطبع فإن العديد من الدول وشعوب العالم يحدوها الأمل في صعود قوة تعيد التوازن للنظام العالمي، والأنظار موجهة نحو الصين.

إن ما يشهده العالم اليوم من النمو السريع والمذهل للاقتصاد الصيني، وسعي الصين إن آجلاً أو عاجلاً أن يكون لها دور وتوجهات سياسية وعسكرية، توازن المطامح والنمو الاقتصادي، ليس على مستوى الدائرة الإقليمية، بل على مستوى العالمي.

أولاً: التوجهات الاقتصادية

تسعى الصين إلى أن تتوازى مطامحها الاقتصادية القوية مع مطامحها السياسية، والنظام واعٍ أكثر من غيرة بالرابط الوثيق بين هذه المطامح، وترى الصين في نفسها قوة اقتصادية صاعدة، وهي مصممة على التغلب على أية عقبات متبقية أمامها للوصول إلى هذا الهدف، حتى لو كان إصلاحها في نظامها المالي، أو الإسراع بعملية الخصخصة للقطاع العام. ومنذ بدء الإصلاحات، عام 1978، في عهد الرئيس "دينج شياو بينج" مهندس الإصلاح الاقتصادي الصيني، أخذت الصين طريقاً حذراً، لكنه مصمم ليس فقط من أجل المحافظة على الاستمرار، ولكن من أجل تحقيق التحول المتين نحو الشركات الصغيرة والعملاقة.

استوعبت القيادة الصينية الدروس المستفادة من التجربة السوفيتية الاقتصادية، التي فشلت، وأدت إلى انهيار النظام الشمولي وما تبعه من تداعيات غيرت في شكل النظام العالمي، لذا يبدو أن التجربة وجهت قرار الصين بالسعي نحو الإصلاح التدريجي، وهذا ما يبدو جلياً من خلال رسم مستقبل لها، بدلاً من أن تقلد النماذج الغربية تقليداً أعمى، ويبدو أنه ليس من الصواب استقراء التجارب الأخرى في محاولة لتوقع مستقبل الدولة.

1. قطاع الخدمات

يبقي قطاع الخدمات في الصين بحاجة للتطوير في الوقت الحاضر، لأنه بدأ بالانفتاح أمام المنافسة الأجنبية في هذه الفترة، ولهذا القطاع مكانته في الأمة، فبينما تلتزم القيادة بتعزيز وتطوير الكم والكيف في قطاع الإنتاج، فإنها تتفهم أن قطاع اقتصاد الخدمات يعد ذا أهمية قصوى لتطوير الإنتاج الصناعي والنهوض به، ليتمكن من الوقوف والمنافسة. ولكن عدم وجود قدرات مالية وخدمات لوجستية وما شابهها يمثل عائقاً في أن تصبح الشركات الصينية متعددة الجنسيات شركات ناجحة، وأكثر من ذلك يعد التطوير في قطاعي النقل والاتصالات ضرورياً لتطوير قطاع الخدمات الصيني.

2. الاهتمام بالشركات

توقع القادة ورجال الاقتصاد في الصين، خلال حقبة الثمانينيات، وقد وضعوا نصب أعينهم العنصر البشري على الدوام، بأن الثورة الاقتصادية الصينية ستكتمل حين يستلم جيل جديد من رجال العلم والخبرة دفة القيادة وأمور الاقتصاد، وها نحن بعد مرور أكثر من خمس وعشرين سنة على ذلك، يبدو أن التوقعات أصابت وتحقق ما كان يتوقعه القادة في الصين ويخططون له، فالصين لم تقر قانوناً للإفلاس حتى أواسط التسعينيات، ولم تقرر القيادة منح الحقوق التي تمنح عادة من القطاع العام إلى القطاع الخاص، إلا في أواخر عام 2003، ففرضت بذلك المساواة بين القطاعين على المسرح الاقتصادي، وتحقيق ذلك كان يتطلب إرادة وعزيمة حديدية تفتقد إليها العديد من الدول النامية.

دخلت الصين الآن مرحلة جديدة، ما رفعها للمستوى التالي، بدءا من منح الالتزامات الفرعية، إلى التصميم، ثم إلى إنتاج أصناف تحمل ماركات تجارية. أما في داخل البلاد فأصبحت الشركات الصينية منافسة ويحسب لها حسابها من الشركات المتعددة الجنسيات، بل إن الشركات الصينية أصبحت قادرة يدفعها الطموح على الخروج من نطاق المحلية إلى الدائرة الإقليمية والسوق الدولي. أما اختيار الشركات لتنفيذ المشاريع العملاقة والمؤثرة على الاقتصاد الوطني، فإنه يقع وفق معايير دولية بعيداً عن التأثير، وتلتزم بالشفافية محاولة بذلك القضاء على الفساد الإداري.

إن الحكم الأخير والحاسم على النتيجة يأتي من القيادة السياسية، بحسب إسهام الشركة في الاقتصاد والمصالح القومية والولاء الحزبي، وعوامل أخرى غير ذات علاقة بالسوق. ويعكس هذا الواقع الاهتمام والحاجة للتحكم المستمر بالبلاد، وهذا التحكم سيأتي من الصناعات المرتكزة على المعرفة والثقافة بشكل متزايد، وعلى الأخص من تلك التي يمكن عدها "إستراتيجية"، بمعني امتلاكها لتطبيقات في مجال الأمن القومي، وتنتج مواد أولية أساسية للقطاعات الأخرى، مثل الرقائق الإلكترونية. أما الشركات التي في أعلى درجة من المعرفة وتمنح أفضلية خاصة، فهي التي تبني وتقوم منتجاتها على البحث والتطوير R + D، حيث تلتزم الشركات العالمية بنقل المعرفة اللازمة وليس تصنيع المنتج بل التقنية الأساسية للصناعة، ويجري تطوير المنتج في الأراضي الصينية، ويحقق الاقتصاد بذلك نجاحاً مهماً في نقل المعرفة الصناعية.

3. المناطق الصناعية والاستثمارات

بعد نجاح سياسة إقامة المناطق الصناعية، التي بدأت في عهد التحديث، جرى التوسع في إقامة هذه المناطق حتى وصل عددها للعشرات، والحكومة الصينية تواصل سياسة اقتصادية تعمل على تحقيق التنمية المتوازنة لجميع الأقاليم، وخاصة في المناطق الداخلية والغربية. إن من أهم التوجيهات الاقتصادية توفير البيئة المناسبة لجذب مزيد من الاستثمارات العالمية، بوصفها مصدراً مهماً للاقتصاد الوطني بتوفير عشرات الآلاف من فرص العمل وتعزيز الناتج القومي.

أكد البنك الدولي بأن الصين هي أكبر دولة في العالم متلقية للاستثمارات العالمية، بل إن الشركات تبذل الجهد للاستثمار في الصين دون النظر للشروط، يدفعها لذلك الحوافز والحجم الهائل للسوق الصيني، ناهيك عن وفرة الأيدي العاملة المدربة والرخيصة.

4. النمو الاقتصادي

يبدو واضحاً للباحث في الشؤون الصينية، أن الصين تربط بين عمليات وضع الأسس المتينة لبناء الاقتصاد الصيني، والإستراتيجيات السياسية والدفاعية. فإن التقديرات الصينية الخاصة بنمو الاقتصاد الصيني خلال السنوات القادمة تبدو متفائلة إلى حد كبير، اعتماداً على معدل النمو الاقتصادي المرتفع الذي حققته خلال السنوات القليلة الماضية، وتزايد مؤشرات هذا النمو. ويتمثل هدف التخطيط الصيني المتوسط المدى، حتى نهاية العقد الحالي، في تحقيق متوسط للنمو الاقتصادي، فإنه بعد فترة استمرت ألف عام، تحولت الصين من قمة المجد إلى دولة تابعة تقبع تحت الاحتلال، وها قد أصبحت الصين في اتجاه الصعود مرة أخرى، وهي مصممة ليس في استعادة مجد الماضي فقط، بل أيضاً أمل المستقبل.

ثانياً: التوجهات العسكرية

بعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي "سابقاً"، أصبحت الصين في نظر الكثيرين من الذين يعملون في مجالات الأمن القومي ووضع الإستراتيجيات العسكرية، في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا وبعض دول آسيا المرتبطة بعلاقات وثيقة مع الغرب، تهديداً قوياً لمصالح تلك الدول، سواء في حدود قارة آسيا أو ما حولها، نظراً لما تمتلكه من قوة بشرية ضخمة (1300 مليون نسمة)، تتمركز على مساحة كبيرة من الأرض (6,9 مليون كم2)، ولديها جيش تحرير شعبي يصل تعداده بعد التخفيض الذي تم إلى (45,2 مليون فرد)، وتمتلك أكبر قوة عسكرية في آسيا بعد روسيا الاتحادية مع قدرة نووية تمكنها من ردع أي هجوم خارجي، معتمدة على الذات في تطوير برامجها النووية والصاروخية والعسكرية.

يسود اعتقاد لدى الدول الغربية، من واقع خبرتهم التاريخية المستمدة من التطور الصناعي في العقود السابقة، أن النمو السريع في القوة الاقتصادية الصينية، سوف يكون دافعاً للقيادة الصينية للتوجه نحو امتلاك القوة العسكرية المتفوقة، بحلول عام 2030، وهو الأمر الذي يمثل تهديداً حقيقياً لمصالح الغرب ومصالح دول آسيا الأخرى في ذات الوقت. ومع عودة هونج كونج إلى السيادة الصينية، عام 1997، فإن الاقتصاد الصيني اكتسب دفعة قوية جديدة تمكنه من تحقيق تطلعاته في زيادة فاعلية قدراته العسكرية، ولن يكون الهدف آنذاك أمام القيادة الصينية سوى استعادة تايوان، وبذلك سوف تمتلك الصين جناحين اقتصاديين (هونج كونج وتايوان)، يمكن لهما أن يسهما في تحويل المطامح الإستراتيجية الصينية إلى واقع حقيقي، خلال الخمسة عشر عاما القادمة.

ولما كانت للصين حدود برية أو بحرية مع عشرين دولة، (14 دولة برية، وست دول بحرية)، فإن العبء الدفاعي يفرض إستراتيجية واضحة في مجال الأمن الإقليمي، ومجال التطوير التقني للجيش. وكشفت الحرب الفيتنامية ــ الصينية، عام 1979، أهمية هاتين النقطتين، إذ خسرت الصين، التي كانت تعتمد على جيش من الميليشيات أكثر من الاعتماد على جيش محترف، 26 ألف قتيل و36 ألف جريح، وهو أمر استدعى التفكير في إستراتيجية تأخذ في الحسبان العلاقة بين التطور الاقتصادي والتطور العسكري.

إن الإستراتيجية العسكرية الصينية محكومة بالتوجيهات السياسية للنخبة العسكرية، إذ يبدو أن الجيش يعد الولايات المتحدة الأمريكية العدو الأول للصين، ولعل رسالة الجنرالات المائة التي قُدمت إلى الرئيس "زيمين"، عام 1993، تؤكد هذا التوجه، إذ جاء في الرسالة "إن هناك سلبية في السياسة الصينية تجاه محاولات الولايات المتحدة الأمريكية ابتزاز الصين، وأن التباين الأيديولوجي والتباين في النظام الاجتماعي وفي توجهات السياسة الخارجية للبلدين تحول كلها، جذرياً دون تحسين العلاقات بينهما، وحيث إن الولايات المتحدة الأمريكية تدرك المركز الاقتصادي للمنطقة، فإنها لن تسمح لقوة منافسة لها.

نتيجة لمثل هذه التوجيهات المتمثلة في موقف القيادة العسكرية من الولايات المتحدة الأمريكية، والحاجة المستقبلية للنفط وحماية طرق إمداده، ونتيجة للمتغيرات الدولية في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي، حدث تركيز في الإستراتيجية الصينية يتمثل جذرياً في الانتقال من دولة بدون مطامح إلى دولة ذات مطامح إقليمية، إذ إن مراجعة التغييرات التي تجري في إستراتيجية الصين العسكرية تدل بوضوح على التركيز على النظام الإقليمي الشرق آسيوي في الوقت الراهن.

تؤكد بعض المؤشرات التوجيهات العسكرية الصينية، مثل تطويرات القاعدة العسكرية في جزر بارسيل، والإصرار على ملكية جزر سبراتلي، وإقامة وجود عسكري في الحيدات البحرية "ميستشيف" التي تدعي الفيليبين ملكيتها، والادعاء بحقها في حقول الغاز في جزر ناتونا التي تدعي إندونيسيا حق ملكيتها، وتأكيد المطالبة بسحب القوات الأمريكية من المنطقة، وإبداء القلق من احتمالات تنامي القوة العسكرية اليابانية.

كما عملت الصين على وضع ثقل عسكري بحري لها، من طريق إنشاء قاعدة بحرية صينية في مينا جوادار Gwadar الباكستاني، وساعدت الصين باكستان على تطوير هذا الميناء لكي يخدم التجارة الباكستانية. ويشكل الثقل الصيني في هذا الميناء تهديداً كبيراً للهند، لأن معظم واردات النفط وتجارتها تمر عبر مضيق هرمز القريب من باكستان. علاوة على ذلك يُعد الوجود العسكري الصيني في "جوادار" العمود الفقري لدعم وتثبيت الوجود العسكري الصيني في المحيط الهندي؛ حيث يسمح الوجود الصيني في "جوادار" بمحاصرة جانبي شبة الجزيرة الكورية.

وبذلك يمتد النفوذ البحري الصيني من الحدود الإيرانية حتى شرق مضيق "هرمز"، حيث أكبر ممر مائي لعبور النفط، كما يسمح الوجود الصيني في باكستان بمراقبة النشاطات البحرية الأمريكية والهندية في الخليج العربي وبحر العرب. كما تمكنت الصين من خلال ميناء جوادار من إنشاء أنابيب لنقل الطاقة، تمتد من "إسلام باد" حتى مقاطعة "أكسيجيانج" الصينية.

ثالثاً: التوجهات السياسية

كانت الطموحات السياسية لبلدان مثل اليابان وكوريا الجنوبية، في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، محدودة بضوابط الحجم والجغرافية والسياسة والدستور، لكن الصين ليست مقيدة بكل تلك العوامل. إذ تمتلك الصين أكبر جيش عامل في العالم، مع أنه بحاجة شديدة إلى التحديث، وقوة اقتصادية في طريق النمو الدائم، ومكانة آخذة بالبروز قوة سياسية معترفاً بها. وتتضمن بطاقة تعريف البلاد، الجمهورية الشعبية نواة، ومركز الصين الكبرى التي تشمل هونج كونج، التي أصبحت إقليميا إدارياً خاصاً، منذ عام 1997، وتايوان التي يُنظر إليها على أنها مقاطعة متمردة يتوجب عليها أن تنضم للبلاد بمقتضى تدبير "بلد واحد ونظامين"، من النوع المطبق مع هونج كونج، أو بالقوة إذا اقتضت الضرورة ذلك.

كما تحتفظ الصين بعلاقة خاصة مع سنغافورة المتعددة الأعراق، مثلما تفعل مع الجاليات الصينية في الخارج، والتي تري فيها عنصراً أساسيا لتقديم الصين. ومما يجعل حلم الصين الكبرى واقعاً ملموساً من وجهة النظر الاقتصادية، أن اقتصاديات هونج كونج وتايوان مندمجة بشدة مع اقتصاد الصين الأساس، ويعد البلدان مع المغتربين الصينيين مسهمين أساسيين فيه.

يتطابق مفهوم الصين الكبرى جيداً مع حلم البلاد السياسي بأن تصبح قوة عالمية مستقبلية وواحدة، ستحل في نهاية الأمر محل الاتحاد السوفيتي قوة توازن القوة الأمريكية، تلقى هذا الحلم دعماً بعد 11 سبتمبر 2001، عندما أصبحت الصين لاعباً محورياً في عالم مهدد من قِبل العناصر المتطرفة، بالتوافق مع مركزها، وتبدو البلاد حازمة في القضايا الدولية، مع أن تأثيرها مازال منحصراً في الدائرة الآسيوية، وأن توسط الصين ما بين الولايات المتحدة الأمريكية وكوريا الشمالية يسمح لها بعرض قدرتها واستعدادها لتفعيل علاقتها مع اللاعبين المتعددين (الولايات المتحدة الأمريكية، وكوريا الشمالية، وروسيا)، من أجل تحقيق الاستقرار والسلام.

شدد الرئيس الصيني "هو جينتاو" على المبادئ الخمسة للعيش السلمي، وهو الهدف الذي تسعى إليه، سواء في الداخل أو في الخارج، ومن المتوقع أن نرى في المستقبل القريب صيناً أكثر ارتباطا بالمؤسسات الدولية، مثل الأمم المتحدة ومنظمة التجارية العالمية، وصيناً مستعدة لاستعمال عضلتها السياسية والاقتصادية المتزايدة من أجل الحصول على النفوذ عبر المساعدات الأجنبية والدعم العسكري، وما شابه ذلك، مثل الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي السابق والاتحاد الأوروبي.

أما على الصعيد الداخلي فلا تتضمن الأفكار السياسية للقيادة الصينية الانتقال إلى الديمقراطية، إذ تتحدى الصين مسبقاً المزاعم الغربية المتعلقة بضرورة التناسب ما بين النظام الديمقراطي والتقدم الاقتصادي، ومن المتوقع أن تستمر في هذا التحدي، بينما يُنتظر أن يحدث تخفيف للنظام السياسي في المستقبل، فمن المتوقع أن يتضمن هذا النظام نوعاً من الحكم الذاتي المحلي من النوع الذي كان مطبقاً خلال الأزمنة الإمبراطورية، ويحتمل أيضاً أن يتحول إلى نوع من الديمقراطية المطبقة في سنغافورة، وستستمر الدولة الصينية وجهازها البيروقراطي بإظهار قوة هائلة في توجيه مسار الاقتصاد الصيني، إلى جانب المزيد من التحررية. أما القول بأن الأمر فيه تناقض من وجهة نظر غربية، فهذا مرة أخرى يذكرنا بأن الصين كانت مختلفة وستبقى كذلك.

رابعاً: المحور الصيني والروسي

في إطار التحالفات والمحاور الدولية، بدأ تشكيل توجه للتقارب بين الصين وروسيا الخليفة والوريث للقوة العظمى السابقة الاتحاد السوفيتي، وهو ما يُعرف بأنه شراكة إستراتيجية روسية ــ صينية. ووقع اتفاق لإقامة تلك الشراكة، عام 1996، وهو ما عُرف بالتعاون بين الدب الروسي والتنين الصيني. لقد تمكن البلدان من إنهاء الخلاف الحدودي، الذي كان يعكر صفو العلاقات بين البلدين، وذلك بعد ترسيم الحدود، التي يبلغ طولها 4500 كم، خلال عام 2005، بعد خلافات منذ قرون.

تطورت العلاقات الصينية الروسية خلال عهد الرئيس الروسي "بوتين" والصيني "هو جينتاو"، وجرى توقيع 15 اتفاقية بين البلدين خلال الاجتماع الأخير، الذي عُقد في مارس 2006. وكان الرئيسان التقيا للمرة الخامسة خلال عام، واتفقا في بكين على تعزيز التعاون بين البلدين، ونص الاتفاق الأخير، الذي وقع في مارس 2006، على أن تقوم روسيا بتزويد الصين بنحو 80 مليار م3 من الغاز سنوياً، ومد خط لنقل النفط والغاز، في مشروع تٌقدر تكلفته بنحو 15 مليار دولار، وتقدر تلك الكمية بنحو 10% من إنتاج الروس للغاز الطبيعي.

يتفق المحللون على أن هناك قواسم مشتركة للتعاون بين البلدين في الجانب الاقتصادي، حيث تتزايد حاجة الصين من الطاقة لمقابلة النمو المتزايد، في حين تملك روسيا موارد هائلة من النفط والغاز، كذلك استمرار حاجة الصين للسلاح الروسي المتطور والتقنية العسكرية الروسية. وتشير الإحصائيات إلى أن حجم التبادل التجاري بين الصين وروسيا زاد نحو 20 مليار دولار، عام 2004، في حين زاد حجم هذا التبادل ليصل إلى 29،1 مليار دولار، عام 2005. ويسعى البلدان لتطوير التعاون الاقتصادي فيما بينهما.

بالرغم من الطابع الاقتصادي الظاهر لهذه العلاقات والشراكة الإستراتيجية، إلا أن التوجهات الإستراتيجية السياسية تفرض نفسها على هذه الشراكة، في ظل توجه البلدين نحو الحد من الهيمنة الأمريكية وسيطرتها على الساحة الدولية، والدولتان عضوان في منظمة اتفاقية شنغهاي، إلى جانب خمس  دول من جمهوريات آسيا الوسطي، وأقرت المنظمة في آخر اجتماع لها دعوة دول المنظمة إلى إغلاق القواعد الأمريكية على أراضيها، كما بادرت طاجيكستان بطرد القوات الأمريكية من أراضيها، وهناك توجه للدول الأخرى في المنظمة لفعل ذلك، الأمر الذي يُعد انتكاسة للإستراتيجية الأمريكية في آسيا الوسطي.

لعل أحد المشاهد المطروحة لمستقبل التحالفات الأوراسية، مشهد نشوء كتلة أوراسية تضم الصين والهند وروسيا، وهو المشروع الذي سبق أن أشار إليه "بريماكوف" رئيس وزراء روسيا الأسبق، ولأننا لا نتوقع تبلور هذا المشهد مع المشروع الهند الكبرى مع الولايات المتحدة الأمريكية. المشهد الأكثر احتمالاً هو مشهد التصادم التدريجي بين المحور الأمريكي ــ الياباني ــ الهندي ــ من ناحية، والصين من ناحية أخرى، وهو مشهد يتسم بالتأرجح لعدة عوامل، أهمها أن الولايات المتحدة الأمريكية لا ترغب في إعطاء الصين الفسحة الزمنية التي تحتاج إليها لالتقاط الأنفاس، وتحقيق رحلة الصعود، إذ هي تعمل تدريجياً على بناء حلقة من مناطق التمركز حول الصين، تتمثل في وجودها العسكري في آسيا الوسطى، على مقربة من حدود الصين الغربية، وهى موجودة بالفعل في اليابان والمحيط الهندي على حدود الصين الشرقية، وعلى حدودها الغربية في قيرغيزستان.

وهناك من المؤشرات في تصريحات القادة الأمريكيين ما يدل على أن وتيرة هذا الصدام في تصاعد مستمر، وتستخدم الولايات المتحدة الأمريكية أوراقاً متعددة في هذه العملية، كورقة حقوق الإنسان في الصين، وورقة كوريا الشمالية. وبدأت في استخدام الورقة النفطية، للضغط على المصالح النفطية الصينية في الخارج. ومن ثم فإن الصراع العالمي القادم سيكون الأرجح صراعاً أمريكياً يابانياً هندياً في مواجهة الصين، وسيكون هذا الصراع مفروضاً عل الصين، وربما تنجح الصين في دفع هذا المحور إلى تأجيل هذا الصراع لأطول فترة زمنية ممكنة، ولكن ربما لا تنجح في ذلك إذا ضغطت الدولتان على الصين في ملف كوريا الشمالية، ومحاولة استهدافها عسكرياً، ذلك أن من يسيطر على كوريا الشمالية يهدد أمن الصين مباشرة، ولذلك ربما كانت كوريا الشمالية شرارة الصراع القادم وليس تايوان. كذلك يحتمل تبلور هذا الصراع في شكل الضغط القوى على المصالح النفطية الصينية في أفريقيا ومنطقة الخليج العربي، أو يكون تهديداً مباشراً لطرق نقل هذا النفط عبر البحار الدولية.

إن التوجه الأمريكي تجاه الهند، الذي تجسد خلال زيادة الرئيس "بوش" للهند، في فبراير 2006، بتوقيع اتفاقية إستراتيجية للتعاون النووي مع الهند، هي الأولي من نوعها مع دولة في قارة آسيا، أثار حفيظة الصين وروسيا، الجارة للهند، حيث مازالت الخلافات الحدودية بين الصين والهند قائمة، وتدرك الحكومة الأمريكية صعود الصين القوي الذي يلعبه الاقتصاد المتنامي، لذا فإنها تحاول تطويق الصين من خلال أفغانستان وجمهوريات آسيا الوسطي، ودعم الهند نووياً.

إن التعاون الصيني الروسي له أبعاد أخرى، من خلال التعاون في مجالات أخرى، وهو ما يظهر في إقامة المناورات العسكرية الصينية الروسية الكبرى، في أغسطس 2005، للمرة الأولى بين البلدين، إلى جانب تنسيق سياساتهما في القضايا الدولية، حيث اتفقت الدولتان في كيفية التعامل مع الملف النووي الإيراني، ورفضتا فرض عقوبات على إيران، وهو ما يتعارض مع توجه الولايات المتحدة الأمريكية.

إن قيام شراكة إستراتيجية، إذا كُتب لها النجاح، ستجمع بين عملاقين لهما من القدرات الشاملة ما يمكن الصين وروسيا من الوقوف في وجه سياسة القوة العظمي للولايات المتحدة الأمريكية، المهيمنة والمسيطرة على العالم، وردعها عن فرض إستراتيجياتها التي تخدم مصالحها، وعلى الدول العربية قراءة تلك المستجدات الدولية، والتعامل مع الملف النووي الإيراني في مجلس الأمن الدولي.

كما تراقب الولايات المتحدة الأمريكية تحركات الصين نحو القضية الفلسطينية، ودعوتها وزير الخارجية الفلسطيني من حركة حماس لزيارة بكين للتباحث معه، كذلك الدور الذي يلعبه ممثل الصين المسؤول عن متابعة القضية الفلسطينية. وتسعى الإدارة الأمريكية جاهدة لتحجيم دور الصين كلاعب فاعل في هذه القضايا، وعدم إعطائها الفرصة للقيام بدور يعزز من مكانتها الإقليمية أو الدولية. وحسب رأي المحللين، فإن الصين تدرك التوجه الأمريكي لتحجيمها وإبعادها عن القيام بأدوار سياسة، واستخدام الورقة التايوانية للضغط عليها لتقديم تنازلات للجانب الأمريكي في قضايا أخرى.

سعت القيادة الصينية جاهدة إلى أن تتوازى توجهاتها السياسية والعسكرية مع قدراتها وإنجازاتها الاقتصادية وقدرتها البشرية، وهناك ترابط وثيق بين تلك التوجهات، وفي إطار التوجهات الاقتصادية، اهتمت الحكومة الصينية بتطوير البنية التحتية وقطاع الخدمات، حيث إن لهما أهمية قصوى في تطوير الإنتاج الصناعي المهم والنهوض به، كما اعتنت بالشركات الصينية لكي تكون قادرة على منافسة الشركات متعددة الجنسيات الأجنبية، ودعمها للاستثمار خارج الصين، بما يدعم الاقتصاد الصيني. كذلك سعت الحكومة إلى جذب مزيد من الاستثمارات الخارجية، من خلال توفير بيئة استثمارية مناسبة، مع توفير اليد العاملة الرخيصة والمدربة، حيث نجحت في إقامة المدن الصناعية العملاقة.

وتُعد الطاقة هي المفتاح الرئيس للتنمية الاقتصادية والاستقرار الاجتماعي في الصين، إذ أصبح تامين الطاقة بالنسبة للصين بمنزلة أمن قومي صيني لا يمكن تجاوزه أو التعدي عليه. ففي حالة مواجه الصين أية أزمة متعلقة بالطاقة، يعد ذلك تهديداً مباشراً وصريحاً للأمن القومي الصيني، ويأتي تأمين إمدادات الطاقة إلى الصين على رأس أولويات القادة الصينيين خلال الفترة القادمة، حيث يعي قادة الصين جيداً أهمية الحفاظ على الطاقة وتامين وصول إمدادات الطاقة إلى الصين، وخاصة النفط بوصفه محدداً أساسياً ورئيساً لصحة الاقتصاد الصيني وضمان الاستقرار الاجتماعي، المترتب عليه شرعية وجودهم في السلطة، إذ يستمد الحزب الشيوعي الصيني شرعيته من خلال تحسن الأداء الاقتصادي وارتفاع مستويات المعيشة بين الصينيين.

أصبح النمو الاقتصادي الكبير دافعاً للتوجيهات العسكرية الصينية نحو تطوير قدراتها العسكرية، وبناء جيش قوي يعتمد على المهارة والتسليح المتطور، كما أن الاعتماد على النفط القادم من الشرق الأوسط عبر المحيط الهندي، وما يمثله ذلك من أهمية على الأمن القومي الصيني، جعل القيادة الصينية تعيد صياغة إستراتيجيتها البحرية من خلال الاهتمام بتأمين خطوط الملاحة البحرية، والمشاركة في تأمين سلامة الملاحة في مضيق ملقا، والتوجه نحو إقامة أحلاف للحصول على تسهيلات من الدول المطلة على المحيط الهندي الصديقة لها.

إن الاهتمام بخطوط الإمدادات البحرية من الطاقة عمق الخلاف مع تايوان، على مسؤولية الإشراف على مضيق تايوان، الذي أصبح مصدر قلق للصين لتأمين الأسطول التجاري الصيني، وتُعد مسألة ضم تايوان من ضمن أولويات التوجهات السياسية الصينية لإقامة منظومة الصين الكبرى، التي تسعي إلى ضمها بالطرق السلمية، كلما أمكن ذلك، من خلال خيار "بلد واحد ونظامين"، وهو مطبق في هونج كونج. بيد أن الحكومة التايوانية ترفض ذلك التوجه.

إن التقارب الروسي الصيني وما عُرف بأنه شراكة إستراتيجية بين البلدين، وتعزز بعد إنهاء الخلاف الحدودي بين البلدين، وبالرغم من الطابع الاقتصادي لهذه الشراكة إلا أن التوجهات الإستراتيجية السياسية تفرض نفسها للحد من الهيمنة الأمريكية على العالم، وهذا ما ظهر جلياً في تقارب وجهات النظر لعدد من القضايا على الساحة الدولية.

تنظر القيادة الأمريكية بقلق إلى زيادة النفقات العسكرية الصينية والتطوير والتحديث للجيش الصيني، ما يشكل، من وجهة النظر الأمريكية، تحدياً للقوات الأمريكية وقوات الدول الحليفة لها في آسيا والمناطق القريبة، التي تعدها الولايات المتحدة الأمريكية منطقة نفوذها.

امتد الخلاف الصيني الأمريكي إلى الجانب الاقتصادي، حيث تشكو الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبية أخرى من إغراق الأسواق العالمية بالبضائع الصينية، وأن الميزان التجاري يميل لصالح الصين، وترى أن نمو الاقتصاد الصيني سيكون له تأثير على التوجهات العسكرية والسياسية.

إننا إذا ما تعمقنا في دراسة الأهمية والتوجهات الإستراتيجية والتاريخ الصيني، نرى أنه بعد فترة استمرت ألف سنة، تحولت الصين من قمة المجد إلى دولة تابعة، ترزح تحت الاحتلال، وها قد أصبحت في اتجاه الصعود مرة أخرى، وهي مصممة ليس على استعادة مجد الماضي فحسب، بل على تحقيق أمل المستقبل.