إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / الصهيونية




مناحم بيجين
موشي ديان
هنري كيسنجر
وعد بلفور
إسحاق رابين
إسحاق شامير
تيودور هرتزل
جولدا مائير
حاييم وايزمان
ديفيد بن جوريون
زئيف جابوتنسكي فلاديمير

أبناء ونسل إبراهيم عليه السلام

مناطق الانتداب البريطاني ـ الفرنسي
مشروع الوكالة اليهودية
مشروع برنادوت لتقسيم فلسطين
إسرائيل والأرض المحتلة 1967
إسرائيل عام 1949
الاحتلال اليهودي لفلسطين
تكوين المملكة المتحدة
تقسيم لجنة وودهيد البريطانية (أ)
تقسيم لجنة وودهيد البريطانية (ب)
تقسيم تيودور هيرتزل 1904
تقسيم فلسطين بين الأسباط
فلسطين في القرن الأول ق.م



تقديم

المبحث الأول

الخلفية التاريخية والدينية للجماعات اليهودية

تعتمد الصهيونية، بوصفها دعوة قومية، على تأويل التاريخ، فيما له صلة بالأرض والشعب، لتأصيل ما تعده "شرعية" تاريخية، يترتب عليها حقوق معنوية ودينية وقانونية، حيث عملت الصهيونية العالمية على فرض إثبات أن التاريخ الإنساني اليهودي هو نفسه التاريخ الديني لهم, وأن أسفار العهد القديم هي تاريخهم الديني والإنساني. وسيلجأ البحث إلى مصادر يهودية إسرائيلية، لاستجلاء عملية التأويل والانتقاء هذه؛ لأنها المعول الأساسي، الذي اعتمدت عليه الحركة الصهيونية، في تعبئة أتباعها، وحشد مواردهم، وفي إستراتيجيتها الدعائية مع اليهود، وغير اليهود. كما سيستخدم البحث، كذلك لغة وكلمات الخطاب، الذي استخدمته، ولا تزال تستخدمه الصهيونية، وإسرائيل. وذلك من أجل بيان الكيفية، التي فهم بها اليهود الصهاينة أنفسهم وتاريخهم، وكيف لقنوه لأبنائهم، وكيف قدموه للعالم.

أولاً: الجماعات اليهودية في العهد القديم (2000 ـ 538 ق.م)

تبدأ مقولات الدعوة الصهيونية بأن "أرض إسرائيل" هي مهد الشعب اليهودي. ففيها لعب الشعب اليهودي دوراً بارزاً، في تاريخه الطويل، وتم تدوين الألف الأول، من هذا التاريخ، في الكتاب المقدس، (التوراة، أو "العهد القديم") Old Testament كما يقول المسيحيون، أو (تناخ) كما يقول اليهود. وخلال تلك الألف تشكلت حضارته، وديانته، وهويته "القومية". وخلالها، كذلك، أقام كيانه، الذي لم ينفصم عنه روحياً، خلال مئات السنين، حتى عندما اضطرت أغلبيته إلى "الجلاء" عنه. فيما عرف "بالشتات" Diaspora، أو التشتت، في كل أنحاء العالم، فطبقاً للرواية الصهيونية، " لم ينس الشعب اليهودي ولم يقطع صلاته، خلال سنوات الشتات الطويلة، رابطته الوثيقة بأرضه".

1. عصر الآباء الأوائل

إن تاريخ الشعب اليهودي، وطبقاً لأسفار العهد القديم، يبدأ، قبل أربعة آلاف سنة، (أي حوالي 2000 ق.م) مع ميلاد إبراهيم الخليل، وولده إسحاق، وحفيده يعقوب ـ عليهم السلام. وفي القرون الأولى، لهذا التاريخ، غلبت الحياة البدوية الترحالية على الشعب اليهودي، كما ورد وصفها في "سفر التكوين"، من الكتاب المقدس. الذي يشير إلى كيفية دعوة إبراهيم u، ليكون المؤسس لشعب جديد، في أرض جديدة؛ وكيف حمل إبراهيم u مشعل العقيدة الجديدة. ويُلاحظ هنا أن الرواية التاريخية تتجاهل ابنه "إسماعيل" u تماماً، بالإضافة إلى أبنائه من السيدة قاطورة الكنعانية (اُنظر شكل أبناء ونسل إبراهيم عليه السلام).

وعندما حل القحط في أنحاء البلاد، ارتحل يعقوب (أي إسرائيل) u، وأبناؤه الاثنا عشر (الأسباط) وعائلاتهم، إلى أرض مصر، أو كما تسميها الرواية اليهودية "أرض جوشن"، كما جاء بأسفار العهد القديم حيث إقامة أخيهم يوسف u ومكانته العالية في مصر، واستقروا في شرق دلتا النيل. ولكن حكام مصر الفراعنة، قهروهم، واستعبدوهم، واضطروهم إلى القيام بأعمال شاقة، لتعاونهم مع الهكسوس أثناء غزوهم لمصر.

تقول الرواية التوراتية، في سفر الخروج، إنه بعد 400 سنة من العبودية في مصر، (أي بين القرنين الثالث عشر، والثاني عشر ق.م)، بعث الله، في بني إسرائيل، نبياً هو موسى عليه السلام، الذي اختاره الله لإنقاذ الشعب الإسرائيلي من العبودية. والعودة به إلى "أرض إسرائيل" (ايرتز إسرائيل)، "التي وعد الله بها آباءه". وخلال رحلة العودة، تاهوا في الأرض، وهاموا على وجوههم، تجوالاً وترحالاً أربعين سنة، هي سنوات التيه، في صحراء سيناء. وفي أثنائها، نزلت على النبي موسى، عليه السلام، كلمات الله "التوراة"، بما فيها "الوصايا العشر"، أو شريعة موسى، التي أصبحت دستوراً لبني إسرائيل، وكونت قيمهم وصاغتها.

يمثل خروج بني إسرائيل، من مصر، واحداً من أهم الأحداث، وأعمق الذكريات الجماعية، في تاريخهم. وهم يحتفلون به، سنوياً، كرمز للحرية والخلاص من العبودية. ويسمون المناسبة عيد "الفصح". ويحتفلون بعيد ثان هو عيد " الأسابيع" (شفوعوت)، وهو ذكرى نزول الوحي على النبي موسى، في سيناء، بالشريعة اليهودية. ويحتفلون بعيد ثالث، يستعيد مجمل ذكريات سنوات الخروج، من مصر، والتيه في سيناء، يسمونه "العرائش" (سوكون).

وخلال القرنين التاليين، بعد خروجهم من مصر، ودخولهم "أرض إسرائيل"، كانوا قد نسوا حياة البداوة والترحال، وأصبحوا مزارعين يحرثون الأرض، وحرفيين يصنعون، ويبيعون ويشترون، وهو ما كانوا قد تعلَّموه في مصر. وعلى الرغم من أن القرنين التاليين للخروج من مصر، كانا سنوات سلام نسبي، إلاّ أنه حدثت فترات صراع قصيرة، بين الحين والآخر، خاضها الشعب تحت راية زعماء، عُرفوا في التاريخ اليهودي، باسم "القضاة"، الذين بلغوا مراكزهم تلك، بفضل حكمتهم، ومهاراتهم السياسية والحربية، إلى جانب قدرتهم على إشاعة الثقة، بين أبناء الشعب. وقد تولوا القيادة، في أوقات الضرورة فقط، لدحر العدو "كما يقول أحد المصادر الرسمية الإسرائيلية.

2. عصر الملوك

وتُعد الفترة، من 1020 إلى 930 ق. م، هي العهد الذهبي، في تاريخ بني إسرائيل القديم، الذي يطلقون عليه "عهد الملوك"، والذي بدأ بالملك شاؤول، المعروف عند المسلمين باسم طالوت، والذي ورد ذكره في القرآن الكريم[1]. والذي وحد العشائر والقبائل، وأشاع بينها حداً أدنى من النظام والاستقرار، إلى أن جاء الملك داود u (1004 ـ 965 ق.م)؛ فأسس مملكة إسرائيل كقوة عظمى في المنطقة، بعد تجريده لحملات عسكرية ناجحة، انتهت بدحر "الفلشتين"، التي تقول المصادر اليهودية إنهم جاءوا، من آسيا الصغرى، وحصلوا على موطأ قدم على الساحل. وأغلب الظن أنهم الذين أعطوا البلاد اسمها الآخر "فلسطين". عقد الملك داود النبي u، كذلك، سلسلة من معاهدات الصداقة والتجارة، مع الممالك المجاورة، التي اعترفت بحكمه وسلطته، من "الحدود المصرية والبحر الأحمر وحتى ضفاف الفرات". وتعزو المصادر اليهودية إلى الملك داود النبي u، تأسيس عاصمة جديدة للبلاد أسماها "يروشاليم" (أي بيت المقدس)، وتوحيد قبائل الأسباط الإثني عشر، في مملكة واحدة. وتضفي التقاليد التوراتية على الملك داود u، ميزات وسجايا عديدة، بما فيها الشجاعة المنقطعة النظير، والذكاء الحاد، والموهبة الشعرية، والتراتيل الرقيقة، والتي تجلت فيما عُرف باسم "مزامير داود".

تولى سليمان u، الملك بعد أبيه، وحكم مدة طويلة (965 – 930 ق. م)، ووجه معظم طاقاته لتقوية ودعم المملكة. وعقد معاهدات عديدة، مع ملوك الدول المجاورة، ثم دعمها سياسياً بالمصاهرة، الأمر الذي وفَّر الهدوء والسلام داخل المملكة، وجعلها إحدى القوى الإقليمية الكبرى في المنطقة. وأقام بلاطاً ملكياً فخماً، وشيد هيكلاً، عُرف منذ ذلك الوقت باسم "هيكل سليمان" في يروشاليم ـ القدس. ينسب الكتاب المقدس إلى الملك سليمان u، "سفر الأمثال"، وسفر "نشيد الإنشاد".

3. الشتات الأول (586 ـ 538 ق.م)

بعد وفاة سليمان u، انقسمت المملكة، وساد السخط وتطور إلى تمرد سافر، ثم إلى انفصال الجزء الشمالي من المملكة، الذي اتخذ اسم "إسرائيل"، عن الجزء الجنوبي، الذي أُطلق عليه مملكة "يهودا"، وكانت عاصمتها يروشاليم (القدس) لحوالي 350 سنة. وقد حكم كلاً منهما نحو 20 ملكاً، إلى أن أدى توسع الإمبراطوريات الكبرى المجاورة، وخاصة الآشوريين والبابليين، إلى احتواء الآشوريين لإسرائيل، أولاً (722 ق.م). وبعد ذلك، بحوالي مائة عام، احتلت إمبراطورية بابل مملكة يهودا، وهدمت هيكل سليمان (586 ق.م)، وأجلت معظم سكانها. وبذلك انتهت أول دولة يهودية، بل أول مجتمع يهودي في فلسطين. وأُجبرت الأغلبية العظمى من السكان، على النزوح بعيداً إلى أرض بابل، والسكنى على ضفاف نهري دجلة والفرات. كانت هذه بداية الشتات اليهودي، وكان هؤلاء اليهود اللاجئون، أو المشتتون، يتعاهدون على اللقاء، في السنة التالية، في يروشاليم (القدس). ونسجوا حول هيكل سليمان، ويروشاليم، القصص والأساطير والأغاني والأمثال. ومن ذلك دعاؤهم المعروف:

"إن نسيتك يا يروشاليم أنسي يميني...

ليلتصق لساني بحنكي إن لم أذكرك أو

إن لم أفضلك على أعظم مباهج حياتي..."

4. العودة الثانية والشتات الثاني (538 ق.م ـ 313 م)

خلال القرون السبعة التالية، تعاقب على حكم فلسطين، أو أرض إسرائيل، ثلاث إمبراطوريات هي: الفارسية، والهيلينية (أي اليونانية)، والرومانية. مع ازدياد قوة إمبراطورية فارس، تمكنت من الانتصار على البابليين، وورثت دولتهم، وأصبحت تسيطر على الأرض الممتدة من الفرات إلى سيناء، وسمح أحد أباطرتها، وهو احشويروش، بعودة بعض اليهود إلى أرض كنعان، تنفيذا للمرسوم الملكي لأبيه قورش، الذي أقر فيه عودة اليهود وإقامتهم لهيكلهم مرة ثانية، عام 538 ق.م، فعاد منهم نحو 50 ألفاً في العام نفسه، ثم توالت أعداد محدودة، بعد ذلك، طوال العقود التالية. وبالتدريج بدأت أحوال اليهود في التحسن، وحصل زعماؤهم على ما يشبه الحكم الذاتي، في عهد الإمبراطورية الفارسية (538 – 333 ق.م)، وكذلك في العهد الهيليني (332 – 142 ق.م).

أعاد اليهود تحصين أسوار القدس تحت قيادة كل من نحميا وعزرا النبيين، وكتابة أسفار العهد القديم، وتأسيس "الكنيست" أو الجمعية الكبرى، باعتبارها الهيئة القضائية، والتشريعية، والدينية العليا لليهود. ومع استقرار أوضاعهم وتحسنها، أعادوا بناء هيكل سليمان.

ولكن العهد الهيليني (اليوناني) كان أقل تسامحاً، مع بني إسرائيل، من عهد فارس، وإن كان كذلك أقل قسوة من عهدي آشور وبابل. وقد حظر الحكام البطالمة، مثلاً، ممارسة الشعائر اليهودية الدينية، في الأماكن العامة. ودنسوا هيكل سليمان، في محاولة منهم، لفرض الحضارة، والعادات اليونانية على اليهود جميعاً. ورداً على ذلك، اندلعت حركة تمرد كبرى (66 ق.م)، انتصر فيها اليهود، بقيادة "يهودا المكابي"، على جيش البطالمة، واستعادوا هيكل سليمان، الذي كان قد سيطر عليه اليونانيون. ولا يزال اليهود، في الوقت الحاضر يحتفلون بذكرى هذا الانتصار، كل عام، فيما أسموه بعيد "الأنوار" أو "الحانكاه". ومع استمرار ضعف البطالمة، ازداد نفوذ اليهود، فكونوا مملكة مستقلة تماماً، حوالي عام 129 ق.م. وأصبح المُلك فيها ينتقل بالوراثة، في سلالة "الحشمونيتم"، طوال ثمانين عاماً، ازدهرت فيها الحياة الثقافية اليهودية.

ورث الرومان العالم الهيليني بأسره، وكان حكمهم شديداً عاتياً، قضى على سلطة الحكم الذاتي لملوك الحشمونيتم اليهود، مما أدى إلى نشوب عدة ثورات يهودية مسلحة، أخمدها الرومان بقسوة؛ إلى أن برزت شخصية يهودية موالية للرومان، وذلك لولعها بالحضارة الرومانية الهيلينية، وهي "هيردوس"، الذي عُين حاكماً على فلسطين، ومنحه الرومان سلطات الحكم الذاتي كاملة، وقام بأعمال إنشائية كبرى، منها بناء مدينتي "قيصارية"، و"سباستيا"، وقلعتي الهيروديون ومصعدة، وإعادة بناء الهيكل المقدس، للمرة الثانية، بشكل أفخم، وإن كان على النمط الروماني ـ اليوناني. وفي عهده، وقعت حادثه الصلب الشهيرة، التي حاول اليهود فيها قتل المسيح، عليه السلام، ولكن الله رفعه إليه، ونجاه من كيدهم. وبعد وفاة هيردوس، تلاشى نفوذ ورثته، الذين تمرد عليهم عامة اليهود، في فلسطين؛ فعادت البلاد إلى الحكم الروماني المباشر. وثار اليهود على هذا الحكم، ولكن الرومان قمعوا ثورتهم بقسوة، عام 66م، في عهد الإمبراطور نيرون، وازداد تدهور الأمور، إلى أن انتهت بتدمير يروشاليم (القدس)، تدميراً كاملاً، بعد ذلك بأربع سنوات، أي سنة 70 م.

كذلك حاصر الرومان قلعة مصعدة، التي اعتصم بها نحو ألف رجل، وامرأة، وطفل، من الذين نجوا أثناء تدمير القدس، وظنوا أن موقعها، على قمة جبل البحر الميت، سيعصم من اجتياح الرومان، ولكن خاب ظنهم، فبعد حصار دام ثلاث سنوات، تمكن الرومان من اقتحام قلعة مصعدة، ليجدوا أن كل من كان فيها قد آثروا الانتحار جميعاً، على الوقوع في الأسر. وأصبحت "مصعدة" أحد رموز المقاومة والإصرار، لدى الشعب اليهودي، على التحرر. وقد وظفت الأيديولوجية الصهيونية هذا الرمز، كذلك، للتعبئة السياسية القومية، لدى اليهود، بعد نحو 1800 عام.

وما حدث مع قلعة "مصعدة" حدث مثله عام 132 ميلادية، حينما قاد شمعون باركوخيا ثورة، ضد الرومان، نجحت أول الأمر، في استعادة يهودا والقدس، ولكنها فشلت في النهاية، ودمر الرومان ما تبقى من يروشاليم تدميراً كاملاً. وتشرد اليهود إلى الشتات مرة أخرى، ولم يبق منهم، في فلسطين، إلاّ أعداد ضئيلة. بل صارت فلسطين جزءاً من تلك البلاد الخاضعة للرومان، والتي أُطلق عليها اسم "سورية" (أي الشام)، أمّا ما عده اليهود أرض إسرائيل، فقد أطلق عليه الرومان، رسمياً، اسم "فلسطين". وهكذا، منذ سنة 132 ميلادية، لم يعد اسم "إسرائيل"، أو "يهودا" يتردد، على الألسنة، إلى عام 1948، حينما عاد اسم إسرائيل ليطلق على الدولة اليهودية الجديدة، التي قامت في ذلك العام، أي بعد 1816 عاماً، من تدمير القدس، وتشريد اليهود إلى شتات جديد.

ثانياً: أوضاع اليهود في الشتات حتى أواخر القرن التاسع عشر

منذ اعتناق الإمبراطور قسطنطين المسيحية عام 313م، وطرد اليهود، من القدس وفلسطين كلها، عام 70م بواسطة تيطس الروماني، وعام 135 م بواسطة أدريان الحاكم الروماني. وهرب اليهود إلى البلدان المجاورة، ثم إلى بقية أنحاء العالم القديم، في أفريقيا وآسيا وأوروبا. وبنهاية القرن الرابع الميلادي، أصبح معظم من يقطنون فلسطين من المسيحيين. وخلال القرنين الخامس والسادس، في أوج ازدهار الإمبراطورية البيزنطية المسيحية، كان اليهود يُجبرون على "التعميد" (أي اعتناق المسيحية)، أو يُطردون خارج بلدان الإمبراطورية. وفر الكثيرون، ممن قاوموا التعميد، إلى شرق وشمال أوروبا، وخاصة بولندا، حيث عُرفوا هناك باسم جماعة اليهود الغربيين "الاشكنازيم"، تمييزاً لهم، عن يهود الشرق والجنوب، وخاصة في أسبانيا "السيفرديم". وقدَّر أبا إيبان عدد اليهود في العالم، بحوالي مليون، في نهاية القرن العاشر الميلادي (أي عام 1000 ميلادي).

1. الجيتو اليهودي

نتيجة الطرد المستمر، بسبب إجبار اليهود على عطلة الأحد المسيحية، وحرصاً منهم على عدم العمل، يوم السبت، الذي يحرم العمل فيه، بمقتضى شريعتهم، آثر اليهود الابتعاد عن الزراعة، التي كانت تحتاج، في ذلك الوقت، إلى مداومة يومية، وركزوا على التجارة، والحرف الأخرى غير الزراعية، بما في ذلك، إقراض المال بالربا، وهو الأمر الذي حرمته المسيحية، وشدَّد الإسلام في تحريمه. وأصبحت صورة التاجر "الربوي"، وصورة اليهودي، وجهين لعملة واحدة، في أنحاء العالم كله تقريباً.

تظهر الوثائق التاريخية، من القرنين العاشر والحادي عشر، استمرار هجرة اليهود، ووجود تجمعات لهم، في بلدان غرب أوروبا، مثل فرنسا وألمانيا. وكالعادة، مع ذلك الوقت، كانت تلك التجمعات تستقر في المدن الكبرى، وفي أحياء بعينها، ويعمل أصحابها بالتجارة والحرف وإقراض المال. وقد عُرفت أحياء اليهود، في المدن الأوروبية، باسم "الجيتو"؛ مثلما فعل نبي الله يوسف u مع بني إسرائيل عند دعوتهم إلى مصر لتكون الجيتو الأول في التاريخ (سفر التكوين: الإصحاح 46)، وفي ذلك الحين شعر اليهود بالأمان النسبي في ممارسة شعائرهم الدينية، وطقوسهم، وعاداتهم، وحل مشكلاتهم الداخلية. وبمرور الوقت، أصبح "الجيتو" (أي الحي اليهودي)، ملاذاً وملجأً يشعر فيه اليهود بالألفة والأمان، مع بعضهم بعضاً. ولكنه، في الوقت نفسه، كان يعزلهم عن بقية مواطني البلد، الذي يعيشون فيه، ويخلق فجوة نفسية واجتماعية متبادلة. ولم تتعد العلاقة بين "الجيتو" وما يحيط به، من أحياء مسيحية، قاصرة على مجرد التعاملات الاقتصادية ـ التجارية فقط.

وقد أدي هذا الوضع إلى الآتي

أ. الحفاظ على تقاليد يهودية تلمودية؛ حيث نشأ نظام قانوني خاص، يستند على التقاليد والأعراف التلمودية القديمة، ويتولى رجال الدين (الحاخامات) تطبيقه، للفصل في المنازعات، بين اليهود أنفسهم. وقد أدى ذلك كله إلى تقوية، وتدعيم، التضامن الداخلي للجماعة اليهودية؛ وإحساسها بالتميز، والخصوصية، والاختلاف عن سائر أهالي البلد، الذي يعيشون فيه. وكان سكان "الجيتو"، في باريس مثلاً، يشعرون أن سكان "الجيتو"، في وارسو، أقرب إليهم من بقية الفرنسيين، غير اليهود.

ب. سهولة توجيه التهم إلى اليهود، وممارسة التفرقة والاضطهاد بينهم، ومهاجمتهم، في أحيائهم؛ أو محاصرتها وإحراقها، أو تدميرها، أو نهبها؛ فقد كانت العزلة المكانية والاجتماعية والنفسية، سبباً في نشر الشائعات، أو الروايات الملفقة والمغلوطة، أو المبالغ فيها، عما يفعله اليهود، داخل "الجيتو"، أو يخططون له، وينفذونه خارج الجيتو، ضد غيرهم (أي المسيحيين). أصبح الجيتو يمثل، بالنسبة للأغلبية المسيحية من حوله، غموضاً، يسهل معه تحوله إلى "كبش فداء"، عند وقوع الأزمات الاقتصادية والسياسية. فيتعرض للهجوم، سواء كانت له أي علاقة بمثل تلك الأزمات، أو لا.

وعلى الرغم من أن معظم حكام أوروبا كانوا يقدمون الحماية لليهود عموماً، ويهيئون لهم الأوضاع القانونية، التي تتيح لهم الحياة الطبيعية. إلاّ أن الرأي العام كان يثور ضدهم، كما حدث في الجزر البريطانية، عدة مرات، بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر؛ فقد كان معظم الإنجليز يعدونهم طبقة من المرابين، التابعين للملك، مهمتهم الرئيسية توفير الأموال، لحملاته العسكرية، أو مشروعاته العمرانية الترفيهية. فعلى الرغم من أن عدد اليهود لم يتعد، عام 1200، نحو 2500 أسرة، أي ما يُشكِّل نسبة واحد في الألف من عدد السكان، إلاّ أنهم كانوا يؤدون للملك أكثر من 14 في المائة، من مجموع إيرادات الضرائب. وحين صدر قرار بطردهم، من الجزر البريطانية، عام 1200، وصودرت أملاكهم لحساب التاج، كان عددهم قد وصل إلى 16 ألف نسمة. ظل اليهود بعيداً عن بريطانيا إلى أن سمح لهم أوليفر كرمويل بالعودة، وصدر في عام 1664، ميثاق رسمي يحمي الطائفة اليهودية، ويمنحها حرية العبادة عام 1673، ويعاملها على قدم المساواة، مع باقي السكان.

أمّا في فرنسا، وشبه جزيرة إيبيريا، وغيرها من البلدان الكاثوليكية، التي تتبع كنيسة روما، فلم يلق اليهود إلاّ الرفض، والنظر إليهم على أنهم "ملعونون" دينياً، لاتهامهم بصلب المسيح. وعلى الرغم من سماح الحكام لهم بالإقامة، إلاّ أنهم كانوا معرضين، دائماً، لسخط الرأي العام، الذي كان يدفع الحكام إلى طردهم خارج البلاد، أو الضغط عليهم لاعتناق المسيحية؛ من ذلك أن اليهود طردوا من فرنسا، وأُعيدوا إليها، أربع مرات، فيما بين عامي 1182 و1321. وفي عام 1322 طُردوا مرة خامسة، عن بكرة أبيهم، ولم يبق منهم في فرنسا، يهودي واحد، خلال الأربعين عاماً التالية، أي إلى عام 1362، حينما سُمح لبعضهم بدخول فرنسا، والبقاء فيها.

وفي أسبانيا، انتهي الأمان والازدهار، الذي نعم به اليهود، في الأندلس، بانتهاء الحكم العربي الإسلامي، من مملكة بعد أخرى. وكانت كلما سقطت إمارة، أو جزء من البلاد، التي كان يحكمها العرب، ودخلته قوات الأمراء أو الملوك المسيحيين، لم يلق اليهود والمسلمون سوى الاضطهاد، أو الإبادة، على السواء، ومن ثم، كانوا يفرون إلى مملكة، أو إمارة أخرى عربية، في الأندلس. استمرت عملية الفرار، من الاضطهاد، في شبه جزيرة إيبيريا، من عام 1109 إلى سقوط آخر معاقل العرب والمسلمين، في غرناطة، يوم 2 أغسطس 1492، فكانت نكبة على اليهود والمسلمين؛ فقد تقرر طرد اليهود كافة، من جميع أنحاء أسبانيا، بإيعاز من الكنيسة الكاثوليكية. وما زال هذا اليوم هو يوم حداد، بالنسبة لقطاع كبير، من يهود العالم، إلى الوقت الحاضر(أي بعد أكثر من 500 عام).

2. محاكم التفتيش

سادت ظاهرة ما يسمى بمحاكم التفتيش، طوال القرن الخامس عشر، في شبه جزيرة إيبيريا، ومنها إلى بقية أجزاء أوروبا. وكان السبب في نشاط هذه المحاكم، هو شك الكنيسة في أن بعض من تحولوا، من ديانتهم اليهودية، إلى المسيحية، قد فعلوا ذلك من دون اقتناع حقيقي، وأنهم يمارسون، سراً، طقوس ديانتهم اليهودية. وقد أُطلق على هؤلاء المتهمين اسم "المارانوس". فكانت تجري معهم التحقيقات، وتعقد لهم الاختبارات، للتأكد من جديتهم، أو إخلاصهم للديانة المسيحية، التي أعلنوا اعتناقهم لها. وقد ازدادت الملاحقات، والمحاكمات، إلى حد قتل من يرتد عن المسيحية، أو حرقه، وبلغت ذروتها في عامي 1480 و1481، واستمرت إلى عام 1497، وهو العام، الذي فر فيه، معظم من ظل على قيد الحياة، من اليهود، أو من المشكوك في صدق مسيحيتهم، إلى بلدان المغرب العربي، أو إلى البرتغال، وبقية أوروبا.

سرعان ما انتقلت عدوى محاكم التفتيش إلى البرتغال، عام 1536، وتعرض مئات من "المارانوس"، أي المسيحيين الجدد، والمشكوك في أنهم ظلوا على يهوديتهم سراً، إلى المحاكمة، والتعذيب، والإعدام. وكان سريان هذه الموجة من محاكم التفتيش، في بقية شبه جزيرة إيبيريا (البرتغال)، يعني اقتلاع البقية الباقية من اليهود، في ذلك الجزء من أوروبا، وهروبهم إلى هولندا، وإنجلترا، والمغرب العربي، والشرق الأوسط، وتركيا، حيث استطاعوا ممارسة شعائرهم الدينية في أمان. وقد أسهم هؤلاء اليهود في المسيرة الاقتصادية، والتجارية، في البلدان، التي هاجروا، أو لجأوا إليها. ومن ذلك أنهم اشتروا ربع أسهم شركة الهند الشرقية الهولندية، التي كان لها شأن كبير، في استعمار الهند، وبقية جنوب، وجنوب شرق آسيا. كما أسهم هؤلاء اليهود، أو "المارانوس"، في الأنشطة البحرية التجارية الأخرى، في كل من بريطانيا وهولندا؛ وكذلك في تمويل عمليات استكشاف العالم الجديد، وانتقلت أعداد منهم إلى البرازيل، والمكسيك، وسورينام، " في أمريكا الوسطى".

أمّا في إنجلترا، فقد كان عدد " المارانوس " محدوداً، لا يتجاوز عدة آلاف. وعندما نجحت الثورة الإنجليزية، بقيادة "أوليفر كرمويل"، جرى الترجيب بهم؛ وصدر ميثاق رسمي، في عام 1664، يحمي الطائفة اليهودية؛ ويمنحها حرية العبادة، في صك إضافي، بعد ذلك بتسع سنوات (أي عام 1673)؛ وبذلك أصبحوا متساويين، مع بقية السكان، أمام القانون.

3. اليهود في الوطن العربي والإسلامي

بداية، تدل الوثائق المكتوبة، سواء من جانب المؤرخين العرب، أو اليهود، على أنه كانت هناك تجمعات يهودية، في سائر أنحاء شبه الجزيرة العربية، منذ القرن الخامس الميلادي، سواء في أقصي جنوب غرب الجزيرة، وهو اليمن، أو في يثرب (المدينة)، أو شمال غرب الجزيرة، بل وكانت لهم الأغلبية، والهيمنة، في بعض المدن. وعملوا في التجارة والحرف؛ وكانوا على علاقة طيبة بغيرهم، من عرب شبه الجزيرة العربية سواء القبائل البدوية، أو المستقرة.

ويجمع المؤرخون اليهود أنفسهم على أن حُسن هذه العلاقات كان يرجع إلى المصالح المتبادلة، وعدم التنافس في الأنشطة. فبينما كان العرب، من غير اليهود، يمتهنون الرعي، والزراعة، والقتال، ركز اليهود على التجارة والحرف. كذلك لم يكن هناك أي تنافس ديني يذكر، بين اليهودية والديانات القبلية البسيطة، المنتشرة في شبه الجزيرة العربية، مثل عبادة الأصنام، وكذلك لقلة، أو ندرة، الوجود المسيحي، في معظم أنحاء شبه الجزيرة العربية، باعتبار أن المسيحية كانت منافسة لليهودية. لذلك حينما ظهر الإسلام، كديانة تدعو إلى التوحيد، في قلب شبه الجزيرة العربية، ودخل الناس فيه أفواجاً، وخاصة في يثرب، بدأ التوتر، بين اليهود والمسلمين، ولو أنه لم يستمر طويلاً. فقد أدرك يهود يثرب والجزيرة أن الدين الجديد ظهر ليبقى ويزدهر، فتعايشوا معه، ومع معتنقيه، بل ووجدوا، فيما بعد، في الدولة الإسلامية، الممتدة فيما وراء شبه الجزيرة العربية، فرصاً للنمو، والاستقرار، والإسهام في الحياة العامة.

ففي بغداد مثلاً، بلغ عدد اليهود نحو أربعين ألفاً، مع نهاية القرن العاشر الميلادي، لهم زهاء 28 معبداً، وعشرة معاهد للتعليم العالي، وذلك طبقاً لرواية أحد الرحالة الأوروبيين. كذلك كان الحال في فلسطين، التي عادوا إليها، بأعداد كبيرة، في ظل الحكم الإسلامي، واستمروا فيها إلى عام 1099، عندما اجتاحت جحافل الصليبيين فلسطين، وقتلت من فيها، بلا رحمة. وفي دمشق، وبابل في العراق، ومصر الفاطمية، وخاصة في الإسكندرية، ازدهرت الجاليات اليهودية، بل كانت هي الوحيدة، تقريباً، التي تستطيع التحرك والتعامل، بين شواطئ البحر المتوسط. أمّا ممارسات التمييز، التي كانت قائمة، تجاه أهل الذمة، من المسيحيين واليهود، مثل تحريم ركوب الخيل، أو حمل السلاح، أو استخدام الكُنى العربية، مثل " ابن " أو " أبي "، أو استخدام ألوان خاصة من الثياب، فقد قبلها اليهود، عن طيب خاطر، ربما أكثر من المسيحيين، وذلك لنزعة اليهود في أن يظلوا جماعة مستقلة، لا تذوب في المحيط البشري الأكبر، من حولها.

أمّا أكثر فترات الوجود اليهودي إزهاراً، في ظل الحكم الإسلامي، على الإطلاق، فكان في الأندلس (أسبانيا). حيث نشأت، بين اليهود والعرب، علاقة وثيقة، منذ بداية الفتح الإسلامي، إذ كانت هناك جاليات يهودية، في معظم مدن أسبانيا، سارعت إلى الترحيب بطلائع الفاتحين العرب، في أول مدينة فُتحت، وهي قرطبة، على يد طارق بن زياد. كان مرجع هذا الترحيب، هو ما كان يتعرض له اليهود في أسبانيا، من اضطهاد وظلم. لذلك فقد اعتبروا العرب "محررين"، (مثلما حدث مع أقباط مصر)، وعهد لهم العرب الفاتحون بمهام عديدة، منها وظائف الإدارة، أو حماية الأسوار، في المدن المفتوحة، وحينما ترامت أخبار هذه العلاقة الوثيقة، بين يهود أسبانيا، وحكامها الجدد، من العرب المسلمين، قدم إليها يهود كثيرون، من بقية أوروبا، ومن شمال أفريقيا، (الذين كانوا قد هربوا من اضطهاد حكام إيبيريا المسيحيين لهم، قبيل الفتح العربي). وقد ضاعف من الإزهار اليهودي، في أوروبا، مناخ التسامح الديني الكامل، الذي بلغ ذروته، مع حكم عبدالرحمن الثالث (951 ـ 970)؛ الذي فتح أبواب المناصب الإدارية العليا، أمام اليهود، في مجالات المال والدبلوماسية. من ذلك أن "حاسداي بن شابروت" ترقي، في بلاط عبدالرحمن الثالث، من فيزيائي مغمور، إلى كبير مستشاري الخليفة. وقد جمع حاسداي، شأن غيره من اليهود، في الأندلس، بين ولائه للحكام المسلمين، وولائه العميق لشعبه اليهودي.

ارتبط وضع اليهود في الأندلس، وأحوالهم، بوضع العرب وأحوالهم، وكان هذا الارتباط الإسلامي اليهودي متعدداً ومتشعباً، إلى الدرجة، التي عانى فيها اليهود الكثير، مع تفكك وانحلال الحكم العربي الإسلامي، في الأندلس، خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر. ومع ذلك، تمثل الأندلس، في التاريخ اليهودي، واحدة من أخصب المراحل الثقافية. فخلال الحكم العربي الإسلامي للأندلس، ظهر أعظم فلاسفتهم ومفكريهم، في القرون الوسطى، ومنهم يهودا هاليفي، الشاعر الفيلسوف؛ وموسى بن ميمون، الفيزيائي والطبيب، الذي ولد في قرطبة، وذاع اسمه، في كل مكان، وقدم إلى مصر، حيث أصبح طبيباً لأسرة السلطان صلاح الدين الأيوبي، وظل يعيش في الفسطاط، إلى أن توفي عام 1204.

كان من أبهى فصول التاريخ اليهودي، في العصر الوسيط، هو قيام مملكة يهودية، شبه مستقلة، على ساحل بحر قزوين، سميت بمملكة الخزر، في القرن العاشر الميلادي، على هامش وتخوم البلاد إسلامية، وفي حمايتها، مقابل ممالك أوروبا السلافية والبيزنطية. وتعود بداية تلك المملكة إلى القرن الخامس الميلادي، حينما استقرت إحدى القبائل التركية، والتي تسمى الخزر على سواحل بحر قزوين. وعلى الرغم من أن أبناء هذه القبيلة قد تحولوا إلى المسيحية، ثم إلى الإسلام، بين القرنين الخامس والثامن، إلاّ أن وفود عدد من اليهود، واستقرارهم في تلك البلاد، وتميزهم في الأعمال الزراعية والتجارية والثقافية، جذب إليهم اهتمام ملوك الخزر وإعجابهم، فتحولوا إلى اليهودية، في القرن التاسع الميلادي، واستمسكوا بها، إلى الثلث الأخير من القرن العاشر الميلادي. وفي تلك الأثناء، كانت الممالك الإسلامية، المتحالفة مع الخزر، قد أصابها الضعف، من جراء حروبها الممتدة مع بيزنطة. وانتهزت روسيا المسيحية الفرصة، فاجتاحت مملكة الخرز. وتظل هذه الأخيرة جزءاً يعتز به اليهود في ذاكراتهم الجماعية، باعتبارها تمثل إحدى اللحظات التاريخية النادرة، في تاريخ اليهود الطويل، الذي كُتب لهم فيه أن يكون لهم دولة مستقلة، وإن كانت بعيدة عن " فلسطين " (أرض الميعاد).

4. اليهود يتجهون إلى غرب وشرق أوروبا

كان سقوط غرناطة، عام 1492، نكبة على العرب واليهود معاً. وربما كانت تلك هي إحدى اللحظات التاريخية القليلة، التي توحدت فيها مشاعر العرب المسلمين، مع مشاعر اليهود، وهي مشاعر الحزن والفجيعة، بسبب طردهم من الأندلس، والتشريد في بلدان أخرى. وعلى الرغم من أن العرب المسلمين، الذين اقتلعوا من الأندلس، قد ذهبوا، جميعاً، إلى بلدان المغرب العربي، ومصر، وبقية أنحاء العالم الإسلامي، جنوباً وشرقاً، فإن يهود الأندلس قد انقسموا، في ترحالهم إلى بلدان الشتات الجديدة؛ فنصفهم على الأقل، تبع العرب المسلمين، إلى المغرب ومصر، بينما توجه النصف الآخر، وعدده نحو ثلاثمائة ألف يهودي أندلسي، إلى بلدان غرب ووسط شرق أوروبا. وهي بلدان كانت، على الرغم من مسيحيتها، أقل تعصباً، واضطهاداً لليهود، من أسبانيا والبرتغال، في القرنين الخامس عشر والسادس عشر.

تزامن وصول اليهود، إلى قلب أوروبا، وأطرافها الجنوبية والشرقية، مع عصر النهضة الأوروبية (من القرن الثالث عشر إلى القرن السادس عشر). فاستفاد كل من اليهود القادمين من الأندلس، واليهود المقيمين هناك، من الانفتاح الثقافي النسبي، في تلك العصور. وأسهم بعضهم، من يهود الأندلس، بقسط وافر في ترجمة التراث العربي الإسلامي، إلى اللاتينية، واليونانية، واللغات الأوروبية الأخرى. وكانت أهم الأعمال العربية، في هذا الصدد، هي كتابات ابن رشد، وابن سينا، وابن خلدون، وغيرها. وهي أعمال أسهمت إسهاماً كبيراً، في دفع عصر النهضة إلى الأمام، ومهدت لعصر"التنوير"، في القرنين السابع عشر، والثامن عشر.

غير أن أقلية من اليهود هي التي اندمجت، فكرياً وثقافياً، مع مفكري عصر النهضة، وتأثرت بفكره، وإسهاماته الفنية. وظلت الأغلبية اليهودية في أوروبا، تعيش في (المعازل) الحضرية، في كبريات المدن الأوروبية، والتي أصبحت تعرف باسم "الجيتو". ويُقال أن أول استخدام لهذه التسمية في العصر الحديث كان في مدينة فينيسيا الإيطالية، عام 1516، حين خُصص لليهود منطقة يسكنون فيها، منفصلين عن بقية سكان فينيسيا، من غير اليهود. وأُطلق على هذه المنطقة، "الجيتوفوفو"، أو المستقر الجديد. وهذه الأغلبية اليهودية، غير المندمجة، والتي آثرت أن تقبع في مستقرات معزولة، هي التي ترجمت المشاعر الجماعية بالنكبة (في الأندلس)، أو الاضطهاد، بالبحث عن " الخلاص " من حياة الكآبة والمذلة والعذاب، فظهرت بين هؤلاء اليهود، ثلاث حركات جماعية جديدة، هي: "الصوفية"، و"المسيح المنتظر" و"الاندماجية".

تتمثل الصوفية اليهودية، مثل الصوفية في الإسلام، والرهبنة في المسيحية، العزلة عن العالم المادي، والذوبان في عالم التأمل والروحانيات. وقد ازدهرت هذه الحركة الصوفية الكبرى، خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر. وفي تلك الفترة تمت صياغة "الزهار"، وكتاب "الخلق"، اللذين أصبحا المصدر الرئيسي للفكر الصوفي اليهودي، المعروف باسم "القبَّالة"، ورائده موسى بن ميمون المتأثر بالتصوف الإسلامي، حتى يُقال إنه حاول إدخال السجود في الصلاة اليهودية. والتصوف اليهودي، مثله مثل التصوف في الديانات الأخرى، هو سعي إلى الخلاص الفردي.

ولكن الديانة اليهودية، والثقافة التي نشأت مصاحبة لها، والتنظيم الاجتماعي لليهود، يجعل مقولة الخلاص الفردي هذه محدودة التأثير؛ فالكوارث، والنكبات، والاضطهادات، التي نزلت باليهود، كانت تنزل بهم كجماعة، وبسبب يهوديتهم. ومن ثم نشأت حركة، أو دعوة موازية، تالية للتصوف اليهودي تسعى إلى "الخلاص الجماعي". وتنادي هذه الحركة بأن عقيدة اليهود هي العقيدة المثلى، وأن ذلك هو سبب حقد الآخرين على اليهود وغيرتهم منهم، وأن معاناتهم، مع ذلك، سرعان ما ستنتهي، وسوف يعودون إلى وطن أجدادهم القديم. وارتبط بدعوة الخلاص الجماعي هذه، فكرة "المسيح المنتظر"، الذي سيظهر حسب عقيدتهم، لينقذ شعب الله المختار. وسيطرت هذه الفكرة على عدد من الأفراد اليهود، وجعلت كلاً منهم يظن أنه هو "المسيح المنتظر"، وأنه لن ينقذ اليهود، في الحياة الآخرة فحسب، لكن سينقذهم، كذلك، في هذه الحياة الدنيا.

كان هذا الاتجاه، بين أبناء اليهود، يقوى كلما اشتدت المحن. مما يؤكد القول أن محنة طرد اليهود، من أسبانيا، قد أدت بدورها، إلى ظهور أكبر الحركات الاجتماعية تطرفاً، في صوفيتها، أو تطرفاً، في خرافتها. وترددت فكرة ظهور المسيح المنتظر عدة مرات، منذ طرد اليهود من أسبانيا، فادعى "دافيد روبوبيني" النبوة عام 1540، وزعم أنه المسيح المنتظر، وكذلك فعل أخر هو "شلومو شابتاي" عام 1666، وهو من يهود الدونمة في تركيا، الذي أعلن أن عام 1666 سيكون هو عام تخليص اليهود من التعصب والكراهية. وعلى الرغم من عدم تحقق نبوءة شابتاي، ومحاكمته على أنه مدع أفاق، وهروبه إلى تركيا طلباً للحماية، واضطراره إلى اعتناق الإسلام، في 16 سبتمبر 1666، تحت اسم محمد أفندي، إلاّ أن ذلك لم يضع حداً لظهور المدعين بالمسيح المنتظر، فكان آخرهم "جاكوب فرانك" في القرن الثامن عشر. وهكذا حمل المطرودون اليهود، من الأندلس إلى وسط وشرق أوروبا، آثار التداعيات النفسية الجماعية لمحنتهم، ومنها الإغراق في الصوفية، بحثاً عن الخلاص الفردي، أو الإغراق في الخرافة، بحثاً عن الخلاص الجماعي.

5. العقلانية والتحرر بين يهود غرب أوروبا: الهاسكلاه

لم يكن انتشار الحركات الصوفية، أو النزعات الخرافية الأسطورية، بين عامة اليهود، في وسط وشرق أوروبا، خاصة بعد وفود آلاف اليهود، الفارين من الأندلس، مجرد رد فعل للمحن والاضطهادات، ولكنه كان، كذلك، تمرداً واحتجاجاً على تحكم الطبقة العليا، من أثرياء اليهود من ناحية، وحاخامات المؤسسة الدينية التقليدية، بكل صرامتها وجمودها، من ناحية أخرى. أي أن التصوف والخرافة، والبحث عن المعجزات، كانت ردود فعل شعبية يهودية للمحن والمصائب، الآتية من خارج المجتمع اليهودي، من ناحية، ولجمود المؤسسة الدينية، من ناحية ثانية، ولانصراف أثريائهم عنهم، من ناحية ثالثة. إلى جانب النزعة إلى التصوف، والنزعة إلى الخرافة، ظهرت نزعة ثالثة، بين المتعلمين اليهود، وخاصة في ألمانيا وفرنسا، إلى التفكير العقلاني التحرري، الذي كان رمزه المرموق "موسى مندلسون"، في القرن الثامن عشر. فقد تمكن من تطوير مفاهيم اليهودية، فلسفياً، بما يتلاءم مع روح العصر، ويكسر الجمود التقليدي، السائد في مدارس "الجيتو". وحث اليهود على تعلم اللغة الألمانية وثقافتها، وعدم الاقتصار على لغة "اليديش"، التي كانت خليطاً من العبرية واللغات السلافية.

مع الثورة الفرنسية، في نهاية القرن الثامن عشر، تهاوت أسوار الجيتو في فرنسا. فقد تشكلت لجنة، بقيادة اليهودي الفرنسي "سبرف بر"، أحد اتباع مندلسون، وقدمت مقترحات أقنعت قادة الثورة، وخاصة الكونت "ميرابو"، بتحسين أوضاع اليهود. وبالفعل، أقرت الجمعية الوطنية حقوق المواطنة الكاملة، ليهود فرنسا، ومساواتهم الكاملة، في الحقوق والواجبات، مع بقية الفرنسيين. وكان يهود فرنسا، عند نشوب الثورة، لا يتجاوزون 50.000 (خمسين ألفاً)، ولكن في غضون الإحدى عشرة عاماً التالية، أي مع عام 1800، كان قد نزح إلى فرنسا، ضعفا هذا العدد، من بقية أوروبا، طلباً للحرية والإخاء والمساواة، وهي الشعارات التي رفعتها الثورة الفرنسية، في ذلك الوقت. وعلى الرغم من انحسار مد الثورة الفرنسية، بعد مؤتمر فيينا (1815)، إلاّ أن التأثيرات التحررية لتلك الثورة، والتراث المتراكم، لعصر العقلانية والتنوير، استمرا في إحداث التغيرات، والتحولات الفكرية والاجتماعية، بين يهود غرب ووسط وشرق أوروبا، على شكل موجات متتالية: فرنسا وألمانيا أولاً، ثم بولندا والنمسا ثانياً، ثم بقية شرق أوروبا، بما فيها روسيا ثالثاً. وقد عُرفت هذه النزعة العقلانية التحررية، بين يهود وسط وشرق أوروبا، باسم "الهاسكلاه" (Haskla). وهي التي تبلورت اجتماعياً في صورة الدعوة إلى اندماج اليهود في نسيج المجتمعات، التي يعيشون فيها، والمشاركة الكاملة في أنشطتها، لا اقتصادياً وتجارياً فحسب، كما كان الحال دائماً، ولكن ثقافياً، وفكرياً، وسياسياً كذلك.

أن الدعوة بالاندماج، والتي لاقت رواجاً وقبولاً، بين الميسورين والمتعلمين من اليهود، عموماً، وشبابهم خصوصاً، طوال القرن التاسع عشر، كانت تصطدم، بين الحين والأخر، بانتكاسات مأسوية. من ذلك مثلاً، أن روسيا القيصرية، التي كانت تحظر على اليهود الاستقرار في أراضيها، أو مجرد الدخول، إلى بعض أقاليمها، أقرت تشريعات خاصة بحقوق اليهود، في المناطق التي آلت إليها، من بولندا، في عامي 1793 و1795، والتي كان يقطنها نحو مليون يهودي. ولكنها تحولت، بعد هزائم نابليون، ومؤتمر فيينا، وعادت تمارس التفرقة والاضطهاد، ضد اليهود. ففرضت عليهم ضرائب مزدوجة. وفي عام 1835، صدر تشريع حدد مناطق معينة، يُسمح فيها بوجود اليهود في ليتوانيا، وروسيا البيضاء، وإقليم كييف، وأقاليم البلطيق فقط.

6. معاداة السامية

لم يستفد اليهود شيئاً من الدعوة إلى التنوير والتحرر بين صفوفهم، واندماجهم في المجتمعات التي يعيشون فيها (بدلاً من الجيتو). بل تسبب ذلك في انتكاسات وتداعيات، وظهور العداء الشديد لهم، وذلك أن العناصر اليهودية التي أخذت هذه الدعوة مأخذ الجد وحاولت الاندماج بالفعل، وأظهرت نشاطاً ملحوظاً في الحياة العامة، سرعان ما برز تميزها في عوالم الفكر والسياسة والمال، وسرعان ما فُسر هذا التميز أنه نتيجة تضامن، أو تآمر اليهود للسيطرة والهيمنة، وخاصة على أسواق المال.

من ذلك مثلاً، أنه عندما أصيبت أسواق المال في ألمانيا بالكساد عام 1873، ألقيت تبعة ذلك على المضاربين اليهود. ووجهت الاتهامات إلى أسرة " روتشيلد " الثرية على وجه الخصوص. وظهرت في الصحف تلميحات، ما لبثت أن تحولت إلى تصريحات، ومقالات، تتهم اليهود بأنهم يتآمرون لاستغلال أوروبا المسيحية وإفقارها. وكانت تلك هي بداية استخدام اليهود ككباش فداء بذنب، وبغير ذنب، لكل ما يقع من أزمات أو كوارث. وللإنصاف، لم يكن اليهود وحدهم الذين يُستخدمون ككباش فداء. فقد تعرض المسيحيون الكاثوليك كذلك لحملة ضارية من الاضطهادات في ألمانيا البسماركية بعد توحيدها، وأُودع كبار رجال الدين الكاثوليك غياهب السجون.

وحقيقة الأمر أنه بارتفاع رايات "القومية"، سادت النزعات التي تعلي من شأن "الأمة"، و"الدولة القومية" Nation State، وصاحب هذه النزعة في ألمانيا والنمسا، نزعة "عنصرية"، تنظر إلى الأمة على أساس عنصري. وأصبحت هاتان النزعتان معاً تكونان نظرية أيديولوجية واضحة، مع نهاية القرن التاسع عشر. وقد أرجع الفلاسفة الألمان من أمثال: كانت، وفخته، وهيجل إلى نيتشه، هذه الأيديولوجية إلى المفكر الدبلوماسي الفرنسي جوزيف دي جابينو. وإذا كان كل من كانت، وهيجل قد تناولا الموضوع من ناحية " الدولة "، وأهمية أن تُقدم متطلباتها الجماعية على أي متطلبات فردية. فإن فختة ونيتشه أضافا البعد العنصري، باعتبار أن الدولة القوية، تحتاج إلى أمة قوية، والأمة القومية لابد أن تعتمد على " جنس قوي "، والجنس القوي، هو الجنس النقي الذي لا تلوثه، ولا تختلط به دماء أجناس أخرى، وخاصة الأجناس الأدنى منه مرتبة.

وبناء على ما سبق، ساد الظن أن الخطر الذي يهدد الأمة الألمانية، والدولة القومية الألمانية، لا يأتي من أي دولة أخرى، وإنما يأتي أساساً، من تلوث "الجنس الآري" الذي هو عماد الأمة الألمانية. وأحط الأجناس القريبة، التي تلوثه، هو جنس اليهود، أو الجنس "السامي". ومن ثم لابد من منع، أو تقليص أي اختلاط بين الألمان الآريين الأنقياء عنصرياً، واليهود الساميين الأدنى عنصرياً. وبناء على هذا التفسير العنصري للمجتمع، والتاريخ، ظهرت نزعات معادية للسامية، أو لليهود وجاهرت بعدائها، خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ومن ذلك كتاب دي جبينو الفرنسي "التفاوت بين الأجناس" (1853)، وكتاب مار الألماني "انتصار اليهودية على الألمانية" (1869)، وكتاب درومنت الفرنسي "فرنسا اليهودية" (1886). وتختلف هذه النزعة المعادية للسامية عن نزعة العداء التاريخي الذي كان يحمله المسيحيون لليهود، بسبب ما فعلوه مع المسيح عليه السلام، في أنها لا تقوم على أساس ديني، وإنما تقوم على أساس علماني قومي عنصري بحت.

ثالثاً: فلسطين أثناء العهود التي تلت حكم الرومان

1. الحكم البيزنطي (313 ـ 636م)

مع مطلع القرن الرابع الميلادي، انقسمت الإمبراطورية الرومانية، إلى قسمين كبيرين: القسم الغربي في أوروبا، والقسم الشرقي، الذي اتخذ القسطنطينية عاصمة له، بعد أن اعتنق الإمبراطور قسطنطين المسيحية (313م)، وبنيت الكنائس، في المواقع المسيحية المقدسة، في القدس، وبيت لحم، والجليل، والناصرة، وأقيمت عدة أديرة، في فلسطين. وحُظر على اليهود تولي المناصب الإدارية العامة، أو المشاركة في السلطة، أو حتى دخول القدس، إلاّ يوماً واحداً في العام، لإظهار حزنهم، والبكاء والعويل عند الحائط، الذي تبقى من هيكل سليمان، والذي أُطلق عليه "حائط المبكى". ولكن عندما تمكن الفرس من إعادة احتلال البلاد، سمحوا لليهود بالعودة إلى القدس(614م) وإدارتها، عقب تزايد أعدادهم فيها. ولم يدم ذلك إلاّ أعواماً قليلة. ففي عام 629م، عاد الجيش البيزنطي واحتل المدينة مرة أخرى، وانتقم من اليهود الذين رحبوا بالفرس، وتعاونوا معهم، فطردهم منها. وهكذا، خلال 323 عاماً من الحكم البيزنطي (313 ـ 636م)، لم يهنأ اليهود إلاّ بثلاث سنوات فقط، من العيش في القدس، وإدارتها ذاتياً.

2. الحكم العربي (632 ـ 1099م)

جاء هذا الحكم، بعد الفتح الإسلامي لفلسطين، عام 632، أي بعد أربعة أعوام، من وفاة النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، وهو الحكم، الذي دام أكثر من أربعة قرون ونصف متصلة، سواء كانت عاصمة هذا الحكم هي المدينة المنورة، أو دمشق (في عهد الأمويين)، أو بغداد في عهد (العباسيين)، أو مصر في عهد (الفاطميين، والأيوبيين). وفي مستهل الحكم العربي الإسلامي، سُمح لليهود بالعودة والاستيطان، في القدس. وعومل اليهود معاملة طيبة، أسوة ببقية أهل الذمة، أو أهل الكتاب، من الطوائف المسيحية. كان ذلك يعني توفير الحماية، وحرية العيش، والعبادة، مقابل دفع الجزية. مع ذلك، فان الأمور كان يتخللها التوتر والقلاقل، بين الحين والآخر، وخاصة عندما كان الحكم العربي (الإسلامي) نفسه، يتعرض لفترات، من الاضطراب والاهتزاز، إبان فترات انتقال الحكم، أو الكساد أو مواجهة ضغوط خارجية. وفي تلك الظروف، كانت ترتفع قيمة الجزية أو الضرائب، وتتقلص حرية العبادة، والإدارة الذاتية. وأخذ عدد اليهود يتضاءل، بسبب الهجرة إلى خارج فلسطين.

3. الحكم الصليبي (1099 ـ 1291م)

امتد نحو قرنين من الزمان، وبدأ عقب زحف جحافل الصليبين، من أنحاء أوروبا إلى فلسطين، بناء على دعوة، من البابا أوربان الثاني، بدعوى تحرير الأراضي المقدسة من أيدي المسلمين. وفي أوائل يوليه 1099، احتل فرسان الصليبيين الأوروبيين القدس، وأسسوا فيها مملكة صليبية، وقتلوا معظم سكانها، من غير المسيحيين. وعلى الرغم من تحصن يهود في كنيستهم، للدفاع عن الحي اليهودي، في المدينة، إلاّ أنهم أيقنوا أن لا جدوى من المقاومة، فأحرقوا أنفسهم، مسترجعين الذكرى الجماعية للانتحار، في مصعدة، قبل ألف عام (70 ميلادية). أمّا من تبقى منهم، حول مدينة القدس، أو في المناطق، التي احتلها الصليبيون، فقد وقعوا في الأسر، أو استسلموا طواعية، وصاروا عبيداً أرقاء لدى الصليبيين. وحينما خفَّت قبضة الصليبيين بعض الشيء، بدأت أعداد قليلة، من اليهود، تتسلل مرة أخرى، إلى فلسطين، ومنهم نحو 300 حاخام من فرنسا وإنجلترا، جاءوا دفعة واحدة، واستقر بعضهم، في عكا والقدس. ولكن العودة الحقيقية الثالثة لليهود إلى القدس، جاءت مع تحرير صلاح الدين الأيوبي لها، من براثن الصليبيين عام 1187. فقد منحهم حق العودة والأمان.

4. الحكم المملوكي

استمر ما يزيد على قرنين من الزمان، من 1291 إلى 1516م. وقد أكمل المماليك بعد صلاح الدين، تحرير باقي أراضي فلسطين، وانطلقوا من قاعدتهم القوية، في مصر عام 1291م، وتمكنوا من طرد آخر فلول الصليبيين. ولكن الحكم المملوكي كان حكماً سيئاً، في فلسطين، بعد ذلك. فعلى الرغم من أن اليهود لم يتعرضوا لاضطهاد، لكونهم يهوداً، إلاّ أن تفشي الظلم والإهمال أدى إلى كساد حالهم، كغيرهم من المسلمين والمسيحيين، في البلاد التي حكمها المماليك. وكالعادة، حينما كانت تسوء الأحوال، بالنسبة لليهود خاصة، فإنهم كانوا يشدون الرحال، ويهاجرون إلى أماكن أكثر أماناً ورخاء، ولم يبق في فلسطين، منهم إلاّ بضعة آلاف.

5. الحكم العثماني

بعد انتصار العثمانيين على المماليك، في مرج دابق 1517، دخلت فلسطين تحت حكمهم، أربعة قرون متصلة، ومعها المشرق العربي بأسره (1517 ـ 1917). وعوملت فلسطين كمقاطعة تابعة لبلاد الشام، تُدار من مدينة دمشق، ولم يكن في فلسطين، في بداية الحقبة العثمانية، سوى حوالي ألف (1000) عائلة يهودية، أي ما لا يزيد على سبعة آلاف نسمة، من اليهود، في فلسطين كلها، موزعين بين القدس، وصفد، ونابلس، والخليل، وغزة.

ومع الاستقرار النسبي، الذي شاع في البلاد، خاصة مع حكم السلطان سليمان القانوني، عاد تيار الهجرة إلى فلسطين، حتى وصل عدد اليهود، مع نهاية القرن السادس عشر، إلى نحو 15 ألف يهودي. ومع القرن التاسع عشر، كان عدد اليهود قد تضاعف عدة مرات، حتى ضاق الحي اليهودي، في القدس بسكانه، فبدأ بعضهم في بناء أول ضاحية يهودية، خارج أسوار المدينة القديمة، عام 1860، سرعان ما تبعها بناء سبع ضواح أخرى، كونت فيما بعد، نواة المدينة الجديدة، التي أُطلق عليها اسم "القدس الجديدة"، أو "القدس الغربية". ومع عام 1880، أصبح معظم سكان مدينة القدس، بشطريها الشرقي (القديم)، والغربي (الجديد)، من اليهود.

ومع زيادة عدد السكان اليهود، في القدس، وبقية فلسطين، بدأ إحياء اللغة العبرية، وتعليمها لليهود، من غير رجال الدين والمختصين، لأول مرة منذ ما يقرب من ألف وستمائة عام، وأصبحت هناك، بالفعل نواة ملموسة لثقافة يهودية في فلسطين، في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين، حيث أنشأت مدرسة لتعليم اللغة العبرية ووضع حجر الأساس للجامعة العبرية في عام 1923 م، وعلى مدار ما يقرب من عامين اكتمل البناء وكان افتتاحها في عام 1925م.

6. هامشية الوجود اليهودي في فلسطين (313 ـ 1900م)

تصر الكتابات الصهيونية على أن اليهود لم يقطعوا صلاتهم المادية بوطنهم قط، حتى بعد تدمير القدس وهيكل سليمان، للمرة الثانية، (66 ـ 70 ميلادية). وهذا صحيح، من الناحية الشكلية؛ فقد كان هناك دائماً جماعات يهودية عاشت في مدن فلسطين الأخرى، ولكنها كانت جماعات صغيرة، لا يتجاوز حجمها عدة مئات، أو على الأكثر، بضعة آلاف، في أحسن الأحوال. وكانت تتكون إمّا من العائلات، التي لم تفارق فلسطين قط، وهي تمثل عدة مئات، ما زال أحفادها يعيشون في مدن فلسطينية، مثل نابلس، والقدس الشرقية، إلى اليوم، وهم يهود عرب يُطلق عليهم عادة اسم "اليهود السامريين"، أو كان بعض يهود الشتات يتسللون، ويعودون للعيش، في فلسطين لأسباب دينية، وهؤلاء كان عددهم يصل إلى عدة آلاف، خلال القرون الخمس عشرة، التي تلت التدمير الثاني لهيكل سليمان. وبهذا المعنى، كان الوجود اليهودي في فلسطين، بين القرنين الثاني والتاسع عشر، وجوداً هامشياً.

رابعاً: الخلفية الدينية والكتب المقدسة للجماعات اليهودية

تتسم اليهودية بتعدد كتبها الدينية المقدسة, التي تحتوي على مفهوم عام, وشامل وتتضمن الكتابات المرتبطة بديانة اليهود، سواء كانت كتابات مسجلة لما قاله نبي الله موسى u موحي إليه من الرب ومكتوباً بالألواح, أو شفهياً وتناقله كل أنبياء بني إسرائيل أو الكهنة أو الحاخامات, كل حسب عصره وزمنه حتى دار الصراع والتنافس بين هذه الكتابات أو الكتب التي صدرت عن الحاخامات، فمثلاً في بداية القرن الأول الميلادي كان التلمود وتقديسه وتفضيله على التوراة التي كتبها قبل الميلاد عزرا ونحميا, ثم جاء عصر القبالاه الحلولية وظهور كتابها الزوهار فأصبحت مكانته أفضل, وهكذا كان لكل عصر وزمان عند الجماعات اليهودية تفضيل وتقديس كما يرى حاخاماتهم لذلك الزمان أو العصر. ويرجع المفكرون والمحللون لديانة اليهود سبب ذلك لعدة أسباب، أهمها فكرة العقيدة الشفوية الحلولية, والتي تضفي على كتابات الحاخامات واجتهاداتهم صفة القدسية, بل تساوي الاجتهاد البشري مثل التلمود مثلاً بالوحي الإلهي في التوراة, وسوف نقف على أهم هذه الكتب، وأهم أسفارها على النحو الذي سنبينه بعد.

1. التوراة (العهد القديم)

هو كتاب اليهود الأول، وهو أهم كتبهم المقدسة، والمصدر الأساس للتشريع اليهودي، ويسمي بالتوراة مجازاً، وهو كلمة عبرية تعني الهداية والإرشاد، في حين تمثل التوراة جزءاً من العهد القديم وفق تسمية المسيحيين له، ولكن اليهود يطلقون عليه اسم التناخ لعدم إيمانهم بالعهد الجديد للمسيحيين، ويعد التناخ أو العهد القديم أهم الكتب الدينية اليهودية وأعظمها، حيث يعتقد اليهود أن موسى u بعد تلقيه أوامر ربه في سيناء كتب هذه الأوامر وسلمها إلى اللاويين لحفظها في تابوت العهد، وأمرهم بقراءتها أمام كل بني إسرائيل بعد سبع سنوات في عيد المظال، وقد نفذ ذلك يوشع بن نون خليفته بعد وفاة موسى u، وقد اصطحبها يوشع بن نون في حربه ضد الكنعانيين وحلفائهم للتبرك بها والمحافظة عليها، ولكن الفلسطينيين استولوا عليها لمدة سبعة أشهر ثم أعادوها إلى اليهود، ولكنها فقدت مرة أخرى بتابوت العهد أثناء حصار بنوخذ نصر لمدينة القدس (588 – 586 ق.م) وبعد خراب الهيكل على يديه، وبعد سبعين عاماً، خرج الكاتب النبي عزرا ليعلن أنه عثر على الأسفار (العهد القديم) المفقودة.

يعتقد اليهود أن العهد القديم جميعه قد كتب بتأثير الروح المقدسة من طريق تعليمات وأوامر بواسطة الإلهام السماوي، وهم يولون الأسفار الخمسة الأول من العهد القديم (التناخ) عناية خاصة، وهي المقصود بالتوراة تحديداً لأنها موصي بها من الرب مباشرة إلى موسي u. أما المصادر التاريخية فتذكر أن الكهنة اعتمدوا في التدوين والجمع على ما سمعوه وتناقلوه من جيل إلى أخر، مع إضافة أخبار وأساطير غريبة وكثيرة، وقد أضافوا إلى الأسفار الخمسة كتب الأنبياء، وهي أكثر الأسفار توحيدية، ثم أخيراً أضافوا كتب الحكم والأمثال والأناشيد. ولا مراء في أن أكبر الروابط وأمتنها إلى حالت دون الذوبان اليهودي بعد السبي البابلي، كانت تتمثل في كتابة أسفار العهد القديم خاصة بعد الكفاح الذي قاده عزرا ونحميا النبيين، بالإضافة إلى تجميع اليهود وتكوين المجتمع اليهودي في إقليم يهودا (المملكة الجنوبية سابقاً)، ولم يستقر نص العهد القديم في صورته هذه إلا في القرن الأول الميلادي.

تضاربت الآراء المتصلة بتاريخ تدوين الأسفار، ويرجع ذلك إلى مجموعة أسباب من بينها أن نصوص العهد القديم نقلت شفاهة، ولغة الكتاب المقدس اليهودي هي العبرية، وإن كانت أجزاء منه وضعت وكتبت بالآرامية، وقد قُسم العهد القديم إلى أسفار وإصحاحات وفقرات ومقاطع في القرن الثالث عشر، ويري اليهود الأرثوذكس أن كلمات العهد القديم كلام الإله الذي أوحى به إلى موسى u حرفاً حرفاً. وأما اليهود الاصطلاحيون والمحافظون والتجديديون فيعدون العهد القديم مجرد إلهام من الإله وليس وحياً.

إن أسفار العهد القديم المتداولة اليوم تسعة وثلاثون حسب النسخة البروتستانتية, وستة وأربعون حسب النسخة الكاثوليكية, وأولها سفر التكوين الذي ليس فيه أية إشارة تشير إلى علاقة موسى u به رواية أو إملاءً أو تدويناً أو وحياً, ثم الأربعة التالية لها وهي الخروج واللاويين والعدد والتثنية التي تحتوي ما يفيد أنها عائدة إلى حقبة حياة موسي u, ويأتي بعدها في النسخة البروتستانتية أسفار الأنبياء الأولين، وهم يوشع والقضاة، وصموئيل الأول، وصموئيل الثاني، والملوك الأول، والملوك الثاني، وأخبار الأيام الأول والثاني، وعزرا، ونحميا، واستير، وأيوب، والمزامير والأمثال والجامعة، ونشيد الإنشاد، وأشعيا، وأرميا، ومراثي أرميا، وحزقيال، ودانيال، وهوشع، ويوئيل، وعاموس، وعوبديا، ويونان، وميخا، وناحوم، وحبقوق، وصفنيا، وحجي، وزكريا، وملاخي. والزوائد في النسخة الكاثوليكية هي سفرا طوبيا ويهوديت بعد سفر نحميا، وسفرا الحكمة ويسوع بن سيراخ بعد سفر نشيد الإنشاد، وسفر باروك بعد سفر مراثي أرميا، وسفرا المكابيين الأول والثاني بعد سفر ملاخي, وتسمى النسخة الكاثوليكية سفر اللاويين بسفر الأحبار, وتجعل أسفار الملوك أربعة وأولها وثانيها بدلاً من سفري صموئيل الأول والثاني.

هناك سفران لا يبدو لهما صلة ببني إسرائيل، وهما سفر أيوب الذي يستفاد من عبارته أنه من بني عيسو، وسفر يونان الذي يستفاد من عبارته أنه نبي مرسل إلى نينوي: وهو النبي يونس u المذكور في القرآن الكريم، ويحتوي سفره على قصته مقاربة لما ألمح إليها القرآن الكريم، كذلك وهناك سفر مغفل السمة وهو سفر يسوع بن سيراخ الذي هو من زائد النسخة الكاثوليكية، وهو تشريعي وأخلاقي. ومن الأسفار ما هو طويل تزيد صفحاته على المائة، ومنها ما هو قصير أو قصير جداً، وقد احتوي سفر التكوين قصة الخليقة وطوفان نوح ومواليده، ثم قصة نزوح إبراهيم u إلى أرض كنعان وذريته فيها، ثم في مصر إلى نهاية حياة يوسف u. واحتوت أسفار الخروج والعدد والتثنية قصة ظهور موسى u ومعجزاته وخروجه مع بني إسرائيل وطروئهم على شرق الأردن، واحتوت أسفار يشوع والقضاة وصمويل والملوك وأخبار الأيام قصة بني إسرائيل إلى ما قبل السبي، الذي وقع في الثلث الأول من القرن السادس قبل الميلاد. واحتوت أسفار أستير وعزرا ونحميا ودانيال وأرميا ويهوديت وطوبيا والمكابيين قصتهم أثناء السبي وبعده، وأنه ليس في سفر التكوين أية إشارة إلى علاقة موسى u به رواية أو تدويناً أو وحياً أو إملاءً اللاويين.

لغة الكتابة لأسفار العهد القديم يرجح أنها كانت بالعبرية أو المصرية القديمة التي كان يعرفها نبي الله موسى u بحكم نشأته، ونقلت إلى الآرامية اللغة السائدة في أرض كنعان بعد موت موسى u، حتى جاء غزو الاسكندر وانتشار الثقافة اليونانية، اعتباراً من عام 330 ق.م. وفي عهد ملك مصر (بطليموس فيلادلغوس 285-247 ق.م) قام اثنان وسبعون من فقهاء اليهود في الإسكندرية بجمع الأسفار وترجمتها من العبرية والآرامية إلى اليونانية، وذلك بناء على طلب أحبار اليهود، وسميت هذه الترجمة بالترجمة (السبتاغونية) أي السبعينية. وفي مستهل القرن الأول الميلادي ترجمت إلى السيريانية، وفي القرن الثالث إلى القبطية، فالحبشية، ثم اللاتينية، وفي عام 718 م إلى العربية، ومنها إلى اللغات الأخرى.

أ. سفر التكوين

وهو أول أسفار التوراة الخمس وأكبرها حجماً (خمسون إصحاحا وأربعة وأربعون صفحة) وهو كذلك مقارنة بأسفار العهد القديم كلها, وإن معظمه يدور حول تاريخ نبي الله إبراهيم وأولاده وأحفاده في فلسطين؛ حيث يمكن أن يقال بشي من الجزم إنه ليس سابقا في وجوده تاريخ بني إسرائيل بعد خروجهم من مصر حيث طابق محتواه أحداث سيرة بني إسرائيل وظروفهم وأحوالهم بعد خروجهم من مصر وإقامتهم في شرق الأردن ثم فلسطين. كما ذكرت فيه أسماء الشعوب التي تقطن أرض كنعان (فلسطين) من خلال ذكر ما وقع فيها من أحداث ومنها اسم الفلسطينيين مقرونا بأحداث مع نبي الله إبراهيم.

(1) يحكي تاريخ العالم من بدء تكوين السموات والأرض وقصة آدم وحواء وأحداثهما في الجنة والخروج منها وكذلك قصة نوح u والطوفان وأولاده سام وحام ويافث وعلاقتهم بأبيهم نوح u وما كان من دعائه على حام وابنه كنعان وذريتهما ليكونوا عبيداً لأبناء سام، وذكر سلالة سام ونسله إلى الجيل العاشر الذي يمثله نبي الله إبراهيم u.

(2) قصة نبي الله إبراهيم u في أرض آبائه وهي أرض الرافدين (نهري الفرات ودجلة) ثم انتقاله إلى أرض كنعان (فلسطين) ثم ذهابه إلى مصر والعودة منها، ثم استقراره في أرض كنعان، وكذا قصص زواجه من سارة وهاجر وقطورة الكنعانية ونسله منهن.

(3) التركيز على نسل نبي الله إبراهيم u من السيدة سارة بداية من اسحق u ثم يعقوب u ثم أولاده (الأسباط) بالتفصيل وصولاً إلى نبي الله يوسف u وقصته مع أخوته، ثم في مصر وانتقال أبيه يعقوب u (إسرائيل) إلى مصر ووفاته بها، مع إظهار العنصرية الواضحة بين الأبناء طبقاً لأم الابن المنتسب إليها.

(4) احتوائه على بعض القصص (الأجاداه) التي يريد بها كتاب ومدونو السفر أن يؤكدوا أسلوب ومسوِّغات الحصول على الأرض والاستيلاء عليها، بذرائع مختلفة في إطار تنفيذ وعد الرب لهم، مع تكرار تأكيد وعد الرب إلى نبي الله إبراهيم u، واسحق ويعقوب عليهم السلام، بصور مختلفة وأزمنة وأماكن مختلفة, وكتب في القرن التاسع ق.م. (اُنظر ملحق نص الوعد والعهد في أسفار العهد القديم للأنبياء إبراهيم وموسى ويوشع وداود)

ب. سفر الخروج

(1) هو ثاني أسفار التوراة وكذلك العهد القديم (أربعون إصحاحاً في ستة وثلاثين صفحة) وهو أول الأسفار الأربعة التي ارتبطت بموسي u وما كتب في هذا السفر (في عبارات كثيرة منه) يدل على أن نبي الله موسى u لم يكتبه ولم يُمْلِه في حياته ولكن كتبه بعده كتاب ومدونون عديدون وفي أزمنة مختلفة بعد مدة طويلة، وعلي أضعف الأقوال فإن كتابتها أعيدت بعد السبي البابلي وعودتهم منه، وخاصة عند ﺫكر الإشارة إلى ما سوف يحل ببني إسرائيل من مصائب وشرور وإجلاء عن أرض كنعان ثم العودة إليها، وذلك بسبب ما سوف يكون من انحرافات منهم وغضب الرب عليهم، وتكرار ذلك في باقي الأسفار الثلاثة التالية ويمكن إيجاز ما جاء في هذا السفر في الأتي:

(أ) ذكر فيه ما كان من نمو بني إسرائيل وتكاثرهم، وامتلاء الأرض بهم، وخشية ملك مصر من عواقب ذلك فأخذ في اضطهادهم وتسخيرهم في بناء المدن الجديدة والأعمال الشاقة.

(ب) قصة موسى u منذ ولادته وإلقائه في اليم والتقاط ابنة فرعون له وتربيته في بيت الملك، وقتله مصرياً، وهروبه إلى مدين، وسقايته لغنم بنات كاهن مدين ولقائه به، وزواجه من صفورة إحدى بناته ثم رحلة عودته إلى مصر، وتجلي الله له في جبل حوريب، وأمره بالذهاب إلى مصر، وطلب إطلاق شعب بني إسرائيل من فرعون مستعيناً بمعجزة العصا وابيضاض يده، وبتعزيز الله له بضم هارون أخيه إليه لفصاحته، ثم دعوته لبني إسرائيل لعبادة الله الواحد، فغضب فرعون ورفض ترك بني إسرائيل رغم المعجزات التي صاحبت نبي الله موسى u واكتمال المعجزات إلى اثنتي عشرة معجزة.

(ج) قصة التخطيط للهروب من مصر، والاستيلاء والتحايل على الجيران المصريين لأخذ متاعهم من الفضة والذهب، والخروج حسب الخطة المرسومة، وكانوا يبلغون نحو ستمائة ألف ما شيا مع عدد كبير من الغنم والأبقار والمواشي، بعد انقضاء أربعمائة وثلاثين عاماً في مصر، وعبورهم البحر بمعجزة الله لهم، وغرق فرعون وجنوده. واستغرقت هذه الأحداث، عموماً، ثلاثة عشر إصحاحاً بما فيها من الخيال والغلو وتأكيد اختصاص الرب لبني إسرائيل واختصاصهم به، وتسجيل أمر الاستيلاء على أموال الناس بهذا الأسلوب يدل على ما كان وظل في نفوس بني إسرائيل من فكرة استحلال أموال غيرهم وسلبها بأي طريقة ووسيلة.

(د) تسجيل مراحل بني إسرائيل وإقامتهم وأحداثهم التي وقعت في برية سيناء، وكذا تسابيح موسى الشكرية لله على إنقاذه لبني إسرائيل، وأيضا تمردهم على موسى وهارون ومطالبهم من المياه والطعام والعودة إلى مصر.

(هـ) تذمر بني إسرائيل من غياب موسى u عند الرب فوق الجبل، وطلبهم من هارون صنع آلهة لهم وتنفيذ هارون ذلك، فصنع عجلاً من ذهب النساء والأولاد، وعبدوا العجل وسجدوا له وإبلاغ الرب لموسى بما فعلوا وعودته إليهم لتدمير العجل وإحراقه، وأمره لهم بأن يقتل الأخ أخاه حتى يرضي الرب.

(و) تحذير الرب لموسى من عقد أي عهد مع أهل الأرض التي هو سائر إليها (كنعان) لئلا يكونوا فخاً بين بني إسرائيل ولئلا يفجروا في إتباع آلهتهم وكذلك إيجاب إبادتهم دون إنذار، ومعاملتهم بدون إنسانية أو رحمة ـ تنزه الله سبحانه وتعالي عن الأمر ـ ولكن هذا ما فعلوه مع أهل البلاد بعد موسى.

(ز) وأخر الإصحاحات في هذا السفر هي وصايا وتعليمات متنوعة بحفظ الأيام، وتخصيص كل بكر للقرابين، كما احتوت على تفاصيل جزئية كثيرة وعجيبة عن صنع تابوت العهد وخيمة العبادة والثياب الكهنوتية لهارون وبنيه، وقد وضع هذا السفر في نحو القرن التاسع قبل الميلاد تقريباً.

ج. سفر اللاويين

يأتي بعد سفر الخروج وهو ثالث أسفار التوراة، ويسمي اللاويين حسب النسخة البروتستانتية وسفر الأحبار حسب النسخة الكاثوليكية، وهو سبعة وعشرون إصحاحاً في أربعة وأربعين صفحة ويسمي أيضاً" كوها تيم" أي شريعة الكهنة ويمكن إيجاز ما جاء به كالأتي:

(1) يتناول شئون العبادات وخاصة الأعياد والأضحية والقرابين والمحرمات من الطيور والحيوانات، وكذا ما يتعلق بالطهارة والتعاليم الأخلاقية والنظم الاجتماعية التي لم تسرد في سفر الخروج والتعليمات الخاصة بخيمة الاجتماع.

(2) يؤكد أن سبط اللاويين هم سدنة الهيكل والمشرفون على الذبح والأضحية وأداء الصلوات والأدعية، وإقامة جميع الشعائر الدينية، وجمع الهبات والجباية , كما أنه كتب في القرنيين الخامس والرابع قبل الميلاد.

د. سفر العدد

هو رابع أسفار التوراة ويسمي بالعبرية (ميدبار) أي البرية وهو ستة وثلاثون إصحاحاً في ستة وثلاثين صفحة ويمكن إيجاز ما جاء به في الآتي:

(1) يشمل معظمه إحصاءات عن قبائل بني إسرائيل العبرانيين (جيوشهم ـ أموالهم ـ أعداد الرجال ـ الأسلحة في حوزة كل قبيلة أو سبط وأي شيء يمكن عده).

(2) يشمل كثيراً من التنظيمات والتشريعات الطقوس والدينية والاجتماعية إما تكراراً كما في السفرين السابقين أو مع شيء من الزيادة أو النقصان.

(3) ذكر فيه تذمر جماعة بني إسرائيل من متابعة خطوات موسى u في البرية وغضبه عليهم، وقصة العصا والصخرة والماء وارتحال بني إسرائيل إلى صحراء مؤاب دون في القرنيين الخامس والرابع ق.م.

هـ. سفر التثنية

هو خامس أسفار التوراة، ويسمي بالعبرية دفاريم، أي: الكلمات. أو مشناه توراة، ومعناها: إعادة الشريعة وتكرارها على جماعة يسرائيل عند خروجهم من سيناء. ويحتوي على أربعة وثلاثين إصحاحا في إحدى وثلاثين صفحة، ويسمي تثنية الاشتراع في النسخة الكاثوليكية، ويختلف هذا السفر من حيث الأسلوب واللغة مع الأسفار الأخرى بل ويناقضها أحيانا كثيرة، واختلف العلماء في تحديد تاريخ كتابته، هل هو في عصر القضاة؟ أم في أواخر القرن السابع؟ وهو أخر أسفار موسى u ويمكن أن نوجز ما جاء فيه بالآتي:

(1) مقدمة تحتوي على مراجعة موسى لما حدث منذ عبور سيناء.

(2) نصائح موسى الأخلاقية، ومنها الوصايا العشر، وتلخيص التشريع لبنى يسرائيل.

(3) خطب موسى الأخيرة، وطلبه من الرب تحديد خليفته، فأخبره بيوشع بين نون.

(4) أفعال موسى الأخيرة، وأغنية الوداع ومعها سرد لأحداث موته.

و. سفر يوشع

هو السفر الذي يلي أسفار موسى الخمسة, وهو من الأنبياء الأولين, ويسمي يوشع نسبة إلى يوشع بن نون خادم موسى u وهو أربعة وعشرون إصحاحاً، في إحدى وعشرين صفحة في النسخة البروتستانتية. وفيه قصة بني إسرائيل وسيرتهم وزحفهم على غرب الأردن (أرض كنعان) بقيادة يوشع بن نون بعد أن ولاه موسى u قبل موته لتنفيذ الخطة الرهيبة والعدوانية للاستيلاء على أرض كنعان، وهذا السفر يشتمل على كثير من المبالغة والخيال بل والتناقض والحث على القتل والحرق واغتصاب أرض الغير، والعدوان على الناس وأموالهم بدون وجه حق ولا شريعة من الله، ولكنها شريعة الإله الخاص بهم؛ حيث جاء في خطابه ليوشع وأمره له بعبور الأردن إلى الأرض التي أعطاها لبني إسرائيل، ووعده له بالتأييد وحثه على الشجاعة والتمسك بالشريعة. وقال له الرب "كل مكان تطؤه أخامص أرجلكم أعطيته لكم كما قلت لموسي من البرية ولبنان هذا إلى النهر الكبير نهر الفرات وإلي البحر الكبير الذي جهة مغارب الشمس تكون تخومكم"، ويمكن إيجاز ما جاء في هذا السفر في الآتي:

(1) أن يشوع بن نون في الإعداد لعبور الأردن طلب من أسباط جاد وراؤبين ومنسي الذين ورثوا الأرض شرق الأردن الاستعداد لمساعدة أخوانهم في العبور إلى غرب الأردن واحتلاله طبقا لخطة موسى النبي u فلبوا الطلب.

(2) ذكر قصة فتوحات يوشع بن نون لأرض كنعان، وكانت أولها فتح أريحا حيث ضرب بها المثل في الوحشية والقسوة واللاإنسانية في معاملة أهلها، حيث قتل كل من كان حياً بعد الفتح، وأحرق الأخضر واليابس حتى يحدث الخوف والرعب في الباقيين، مع استعمال المكر والخداع لتحقيق ما يريد، وفعل ذلك في المدنية التالية وهي العاى.

(3) قسم يوشع بن نون المدن والقرى على الأسباط التسعة والنصف بالقرعة، وسلم كل سبط أرضه بعد الاستيلاء عليها من أهلها وإبادتهم، والأسفار التالية تتناقض معه؛ لأن الشعوب لم تُبَدْ بل هي قائمة حتى الآن.

(4) أعطي الموافقة لأي سبط في الاعتداء على أي أرض يري ضمها، كما فعل سبط دان من توسعة نصيبهم الذي حدده موسى u بحجة أن الأرض ضيقة عليهم، فحاربوا قوم لاشم وأخذوا أرضهم وورثوها بحد السيف.

(5) اتخاذهم مدينة شيلو (سيلون اليوم) والتي تقع جنوب شكيم (نابلس) باثني عشر ميلاً عاصمة دينية مؤقتة.

(6) أن الأسباط الثلاثة جاد وراؤبين ومنسي (ابن يوسف) بعد ما قدموا الدعم لباقي الأسباط في عبور الضفة الغربية والاستيلاء عليها عادوا إلى أراضيهم شرق الأردن وأقاموا مذبحاً عظيماً على الأردن فاستاء الأسباط الباقون واجتمعوا في شيلوا استعداداً لقتالهم؛ لأنهم رأوا في إقامة المذبح تمرداً وانقساماً دينياً.

(7) ذكر موت يوشع عن مائة وعشرين عاماً  ودفنه في أرض "تمنه سارح" في جبل إفرائيم بعد دفن عظام يوسف في شكيم.

ز. سفر القضاة

هذا السفر يأتي بعد سفر يوشع، وسمي سفر القضاة لأن الذين قادوا بني إسرائيل وتزعموهم سموا قضاة، وهو واحد وعشرون إصحاحاً في إحدى وعشرين صفحة في النسخة البروتستانتية، ويحكي السفر سيرة عهد القضاة وبعض إصحاحات سفر الملوك الأول، ولا يعرف بالتحديد متى كتب، ولكن الأرجح أنه كتب بعد أمد طويل، فكان سبباً في اختلاط الحقائق بالخيال والمبالغة والتناقض مع سفر يوشع، ويمكن إيجاز ما جاء به في النقاط الآتية:

(1) ما جاء بالسفر من حساب المدة الزمنية لحقبة القضاة (350سنة) ما بين حكم القضاة لبني إسرائيل أو استعباد الممالك المجاورة لهم، ومع ذكر أن ملك بني إسرائيل بدأ بشاؤول في عام 1030 ق.م وخروج موسى u من مصر عام 1210 ق.م، وهي مدة مائة وثمانين عاماً منها حكم موسى u ويوشع ثمانون عاماً، يتبقي مائة عام هي فترة القضاة. وهنا التناقض الكبير الذي يقع فيه الرواة والمدونون (فمن أين تأتي صدقية الأحداث)؟!

(2) احتوي السفر تفاصيل كثيرة عن حقبة عهد القضاة، يستفاد منها أن بني إسرائيل حاربوا ونجحوا في بعض حروبهم، وأنهم تعرضوا لغارات وغزوات وإزعاجات كثيرة من داخل الأرض ومن خارجها، وأنهم كانوا ينحرفون انحرافات دينية وخلقية واجتماعية، كانت السبب في تسليط الرب المغيرين والغزاة والمزعجين عليهم حتى يعودوا إلى عبادة الله إله آبائهم.

(3) جاء في الإصحاح الأول أن سبطا يهوذا وشمعون نشطا لمحاربة الكنعانيين، الذين كانوا يزالون في أرض قسمتهم، وزحفوا حتى وصلوا إلى غزة وأشقلون، واستولوا عليها بحد السيف، بينما أسباط بنيامين ومنسي وإفرائيم وأشير ونفتالي عاشوا مع اليبوسيين والكنعانيين، ولم يطردوهم من أقسامهم، واكتفوا بضرب الجزية عليهم.

(4) احتوى السفر على قصة القاضي شمشون، الذي ولد لامرأة عاقر، جاءها الملاك وبشرها به، وما اشتهر به من قوة جبارة، وقتله الفلسطينيين، حتى وقع في حب امرأة فلسطينية اسمها دليلة، وهي التي أسهمت في القبض عليه ونهايته.

(5) أن إصحاحات السفر، التي ذكرت خلاص بني إسرائيل على يد قضاتهم مرة بعد أخرى من أيدي أعدائهم في غرب الأردن وشرقه، تذكر أن بني إسرائيل عاشوا بجوار كل من الفلسطينيين والأموريين والكنعانيين والمؤابيين والعمونيين والأدوميين في غرب الأردن وشرقه، حيث ظلوا مستقرين في الأرض محتفظين بشخصياتهم وكياناتهم القومية، بل وكانوا أصحاب تأثير قوي في بني إسرائيل دينياً واجتماعياً وكان الفلسطينيون في الجنوب أصحاب قبضة واستعلاء.

ح. سفر صموئيل الأول

هو السفر الذي يلي سفر راعوث, ويسمي سفر الملوك الأول في النسخة الكاثوليكية, وهو من الأنبياء الأولين, وهو واحد وثلاثون إصحاحا, في ثمان وعشرين صفحة, واسمه مقتبس من اسم صبي كان يخدم الكاهن الأكبر (عالي) ثم تولى من بعده الكهانة, ومسح شاؤول ملكاً, ومن بعده داود, كما أنه كتب بعد أمد قد يكون طويلا من حقبة الأحداث التي يقصها, وفيه أيضا من المبالغة والخيال والتهويلات مع حقائق تاريخية أيضا, ويمكن إيجاز ذلك في الآتي:

(1) قصة الكاهن (عالي) الذي يوصف برجل الله، وقصة أولاده الذين لا يعرفون الرب، ولا يفرقون بين حق الشعب والكهنة، وكانوا لا يتورعون عن مضاجعة النساء في (خيمة الاجتماع) وعلى علم من الملأ، مثلهم مثل باقي شباب بني إسرائيل.

(2) قصة أم الصبي صموئيل الذي ولد لها بعد صلوات ودعاء الكاهن عالي للرب، فنذرته للرب، وعند مولده سلمته للكاهن ليكون خادماً له أمام الرب الذي راعاه حتى سلمه الكهانة من بعده واتصال الرب به وجعله نبياً.

(3) قصة الحرب بين بني إسرائيل والفلسطينيين، حتى انتهائها بغزو الفلسطينيين أراضي يهوذا واستيلائهم على تابوت العهد لمدة تسعة أشهر، ما أثار عظيم التشاؤم والذعر في بني إسرائيل، حتى إن الخبر عندما وصل إلى الكاهن عالي سقط على الأرض ومات، وظل الموقف هذا عشرين عاماً حتى جاء صموئيل الكاهن وأصر على توبة بني إسرائيل والرجوع إلى الرب إلههم، وترك عبادة الأصنام (بعل وعشتاروت) حتى ينقذهم الرب من أيدي الفلسطينيين.

(4) ذكر قصص ترشيح صموئيل (بإيحاء من الرب) لشاؤول ملكاً على بني إسرائيل، وهو من سبط بنيامين ويتصف بالطول والقوة, والقصة السابقة للقائه مع صموئيل، وهو غلام يبحث عن اتن أبيه التائهة، ومباركة صموئيل له، وإبلاغه بأنه سيكون ملكاً أو قائداً لشعبه، ووصاه ببعض الوصايا. وهكذا أصبح شاؤول ملكاً على بني إسرائيل بعد مئتي سنة من دخولهم أرض كنعان، وانتقلت حالتهم من الفوضى وعدم الاستقرار إلى حياة أكثر استقراراً بقيام المملكة المتحدة.

(5) حقد شاؤول على داود u واعتزامه على قتله لئلا يزاحمه على الملك، ثم أخذ يطارده وينصب له شباك القتل؛ فحاول بنفسه وبرجاله وبتحريضه عليه أولاده؛ حتى إن شاؤول قتل خمسة وثمانين كاهناً من كهان مدينة نوب وأهلها جميعاً؛ لأن كاهنها أوى داود u يوماً وأعطاه سيفاً يدافع به عن نفسه، وقد اضطر داود u إلى الالتجاء إلى ارض الفلسطينيين، مرتين وأرسل أسرته لاجئة إلى مؤاب، وأقام في المرة الثانية في كنف أخيش ملك جت الفلسطيني ستة عشر شهراً.

(6) قصة هزيمة شاؤول من الفلسطينيين وسقوطه قتيلاً في جبل الجلبوع (قرية جلبون حالياً).

ط. سفر صموئيل الثاني

هو سفر صموئيل الثاني في النسخة البروتستانتية، والملوك الثاني في الكاثوليكية، وهو من الأنبياء الأولين وعدد إصحاحاته أربعة وعشرون في ثلاث وعشرين صفحة، ويحكي سيرة داود u بعد شاؤول، وهو كسابقه، فيه كثير من الخيال والتهويل والتناقض، ما يؤكد كتابته بعد موت داود u بمدة طويلة ما كان سبباً في إدخال الزيادة والنقص، ويمكن إيجاز أهم أحداثه بالآتي:

(1) قصة الحرب الأهلية بين داود u مدعم بسبط يهوذا وبين اشبوشت بن شاؤول، ويدعمه بقية أسباط بني إسرائيل، وحقق داود u النصر وتملك بني إسرائيل وأصبح ملكاً على يهوذا، واستولى على حصن صهيون وأورشليم،  واتخذ من تل صهيون مقراً لحكمه، طبقاً لأوامر الرب حين أبلغه أن يبنى له بيتاً، وهنا أول ﺫكر لصهيون في الكتب المقدسة.

(2) قصة نبوءة النبي ناتان، ووحي الرب له بأن نسل داود u هو الذي سيبني للرب بيتاً (الهيكل).

(3) شن داود u الحروب على كل الشعوب والممالك حوله، بما فيهم الفلسطينيون وفرض الجزية وأخذ العبيد منهم.

(4) قصة تمرد أبناء داود u عليه ولكل منهم سببه (تأثر أحد الأبناء لاغتصاب أخته من أخيه غير الشقيقة مثلاً) وثورتهم عليه لدرجة أن داود u انزعج من ابنه أبشالوم، وترك أورشليم ثم عاد إليها محارباً، وعاد إلى أورشليم بعد قتله ابنه.

(5) عندما شاخ داود u أقام ابنه سليمان u ملكاً من بعده، مع معارضة أخيه أودينا وانشقاقه.

(6) مات نبي الله داود u ودفن بصهيون، وكانت مدة حكمه أربعين سنة، حكم منها سبعاً في صهيون وثلاثاً وثلاثين في أورشليم.

ي. سفر الملوك الأول (الثالث)

هو سفر الملوك الثالث في النسخة الكاثوليكية، وجاء في اثنين وعشرين إصحاحاً في سبع وعشرين صفحة، وهذا السفر يستكمل مع سفري صموئيل دور ملوك بني إسرائيل؛ ففي هذا السفر قصة الملك سليمان، وابنه رحبعام فالإصحاحات من الأول إلى الحادي عشر وتحكي قصة سليمان u وتذكر توليه العرش من أبيه نبي الله داود u، ويمكن إيجازه فيما يلي:

(1) استهل سليمان u ملكه بقتل أخيه أودينا، بحجة طلبه الزواج من سرية أبيه داود u، ثم قتل يؤاب رئيس جيش أبيه، وعزل أبيانا الكاهن الأكبر لتأييدهما لأخيه أدوينا حين جهر بأحقيته عن سليمان u في الحكم.

(2) إن الشعب في عهد سليمان u كان يقرب ذبائحه على مشارف جعبون لعدم وجود بيت للرب، وأن سليمان u ازداد عليه الغنى والمجد، واستطاع أن يفرض سلطاته على جميع الأرض وغرب الأردن ما عدا غزة، التي يقطنها طائفة من الفلسطينيين.

(3) إن العلاقات بين ملك صور وسليمان u نمت، وظهر التعاون بينهما واضحاً في الإمدادات التي تساعد على بناء الهيكل, حيث بدأ البناء في السنة الرابعة لملكه، وانتهي بناء الهيكل في السنة الحادية عشرة من ملكه, بالإضافة إلى قصر لسكناه وآخر للقضاء والحكم، وأنشأ بيتاً لزوجته بنت فرعون.

(4) جاء في هذا السفر وصف لعمال البناء وللبناء نفسه، سواء الهيكل أو القصور التي بناها سليمان u ووصف للبذخ والأبهة التي وضعت في هذه المباني وخاصة الهيكل، وما وضع فيه من ذهب وفضة، وكذلك وصف افتتاح الهيكل الذي امتزج بالخيال والذكريات، وقد جمع سليمان u جميع عظماء الآباء والشيوخ الرؤساء للاحتفال بنقل تابوت العهد الذي كان فيه لوحا الحجر اللذان وضعهما موسى u فيه في حوريب حيث عاهد الرب بني إسرائيل عند خروجهم من مصر، وسار الجميع في موكب عظيم حتى أدخل التابوت في مكانه في المحراب.

(5) ذكر أن سليمان u لم يحتفظ باستقامته، وأحب نساء غرائب كثيرات مع ابنة فرعون (من المؤابيين، العمونيين، الادوميين، الصيدونيين والحيثيين) ومن الأمم التي قال الرب: لا تختلطوا بهم، فتعلق بهن سليمان u حتى ليقال كان له سبعمائة زوجة، وثلاثمائة سرية، ولم يكن قلبه مخلصاً للرب، فغضب عليه وقال له "بما أنك لم تحفظ عهدي ورسومي فسأشق الملك عنك وأدفعه إلى عبيدك، ولكني لا أفعل ذلك في أيامك من أجل داود أبيك، بل من يد ابنك، ولا أشق الملك كله ولكن أعطي لابنك سبطاً واحداً".

(6) جاءت وفاة سليمان u بعد ملك أربعين سنة، ودفن في مدينة داود بعد أن عين رحبعام ابنه ملكاً على يهوذا مكانه.

(7) يحكي قصة رحبعام بن سليمان، كيف تولى الملك، وما حدث بينه وبين يربعام بن نباط من مناظرة وسط الأسباط في شكيم، ولكن يربعام كسب تأييد عشرة أسباط، وظل مع رحبعام سبطا يهوذا وبنيامين، وانقسمت المملكة اليهودية إلى مملكتين شمالية وعاصمتها شكيم وأسمها إسرائيل، وقوامها عشرة أسباط وجنوبية وعاصمتها أورشليم واسمها يهوذا، وقوامها سبطا يهوذا وبنيامين وقامت بين المملكتين المشاحنات والمواجهات.

ك. سفر الملوك الثاني (الرابع)

هو سفر الملوك الرابع في النسخة الكاثوليكية، وجاء في خمسة وعشرين إصحاحاً في ست وعشرين صفحة وهو يستكمل سيرة ملوك بني إسرائيل وتاريخهم وقصصهم، والأحداث التي تمت بين المملكتين، ويستكمل توضيح العلاقة بينهما، وأحوالهما الداخلية، والعلاقات بينهما وبين جيرانهما سواء كانت مستقرة أو مضطربة، بالإضافة إلى تولي الملوك للملك في المملكتين فهي في يهوذا بين أبناء سليمان عليه السلام ونسله وفي إسرائيل تنتقل لمن هو أقوي سلطاناً وزعامة وأقدر على الدسائس من الأسباط العشرة , ويذكر استيلاء بنوخذ نصر على أورشليم والسبي البابلي في ثالث هجوم عام 586 ق.م، حيث انفرد هذا السفر بكل الأحداث التي حدثت بين بابل (العراق) ومملكة اليهود، وقد ولي بنوخذ نصر على من بقي من الشعب اليهودي يهوديا اسمه "جدليا" وهو من بني إسرائيل، والذي أخذ يدعو الشعب اليهودي أن يسكن الأرض ولا يخافوا من عبودية الكالدانيين، ولكن في الشهر السابع ثار أحد رؤساء الجيش من النسل الملكي ومعه عشرة رجال، وقتل جدليا وقام الشعب معه وضربوا الكلدانيين، وتوجهوا إلى مصر خوفاً منهم. كما ذكر أيضا قصة يوشيا الملك وعثوره على سفر الشريعة لموسي أثناء ترميم بيت الرب بواسطة الكاهن حلقيا وتجديد يوشيا الملك للعهد.

ل. سفرا أخبار الأيام الأول والثاني

هما يأتيان بعد سفري الملوك، وهما من كتب الحكمة والأناشيد، فأخبار الأيام الأول يأتي في تسعة وعشرين إصحاحاً في أربع وعشرين صفحة، وأخبار الأيام الثاني يأتي في ستة وثلاثين إصحاحاً في تسع وعشرين صفحة، وما جاء في هذين السفرين هو تكرار لكثير مما جاء في أسفار صموئيل والملوك من وقائع تاريخية وأحداث الملوك، وبشيء من الزيادة حيناً أو النقص حيناً أخر مع الاختلاف والتناقض أيضاً.

م. أسفار الأنبياء الآخرين أو المتأخرين

يبلغ عددها خمسة عشر سفراً منها ثلاثة أسفار لثلاثة من الأنبياء الكبار (أشعيا ـ أرميا ـ حزقيال) واثني عشر سفراً لأنبياء صغار (هوشع ـ يونيل ـ عاموسي ـ عوفديا ـ يونس (وهو مرسل إلى نينوي) ـ ميخا ـ تاحوم ـ حبقون ـ صفنيا ـ حجاي ـ زكريا ـ ملاحي)، وهي تضم مجموعة النبوءات والمواعظ والقصص وهي منسوبة إلى أنبياء عاشوا في أيام بعض ملوك يهوذا وإسرائيل, وبها تنديدات وتقريعات ورؤى متنوعة. وفي بعضها بشارات ومواعظ ونصائح أخلاقية ودينية واجتماعية، ودعوة إلى التوبة، ووعود حسنة لبني إسرائيل إذا ما عادوا إلى الرب، كما أن الأسفار تدل على الزمن الذي وجد فيه النبي وعاش فيه مع ملوكه، الذين وجه إليهم نبوءاته وتحذيراته ونصائحه، وسنذكر أهم هذه الأسفار في المبحث الثاني لارتباطها بالصهيونية سواء القديمة أو الحديثة حيث تمتد جذورهما عبر التاريخ.

2. التلمود

التلمود مصطلح مشتق من الكلمة العبرية لامد، وتعنى الدراسة والتعليم، وهو أهم الكتب الدينية عند اليهود، وهو الثمرة الأساسية للشريعة الشفوية، أي: تفسير الحاخامات للشريعة المكتوبة (التوراة) وهو يمثل الذاكرة الجمعية لليهود جميعا على مدى عشرين قرناً تقريباً، لما يمثله من المرجعية الدينية للمتشددين اليهود (الأرثوذكس ـ الأصوليين/ التلموديين), والتلمود مصنف للأحكام الشرعية، أو مجموعة القوانين الفقهية اليهودية، وسجل لمناقشات الحلقات التملودية، وكذا المحاولات التي بذلها الحاخامات لتفسير العهد القديم بما يتناسب مع وضع الجماعات اليهودية، بوصفهم جماعات منتشرة في العالم وليس بوصفهم شعباً مستقراً في أرض وله عاصمته وهيكله وديانته المرتبطة بالأرض أو الوطن, وهو محاولة لليهودية الحاخامية لعزل الجماهير اليهود عن بقية الشعوب، وخاصة بعد ظهور المسيحية التي اتخذت العهد القديم كتاباً مقدساً وأكملته وعدلته بالعهد الجديد.

التلمود مصطلح له دلالات عديدة، تعكس مراحل دراسته، وتبلور مادته. وأولي تلك الدلالات أنه يعنى تفسير" المقرأ " أي العهد القديم ويعني أساسا طريقة الدراسة بفرض استنباط الشرائع من المقرأ بالطرق التي تفسر بها التوراة. فمصطلح تلمود مرادف لمصطلح مدراشية أي تفسير، وقد أطلق عليه مصطلح تلمود الأمورائيم (الرواة) أي الجمارا، وقد أبدل اسم التلمود بجمارا شاس أي الشروح الستة بعد أن حرمته الرقابة المسيحية, و التلمود عبارة عن موسوعة تتضمن الدين والشريعة والتأملات الميتافيزيقية والتاريخ والأدب والعلوم الطبيعية، وكذا فصولاً عن الزراعة والصناعة والتجارة والربا والضرائب وقوانين الملكية والرق والميراث وأسرار الأعداد والفلك والتنجيم والقصص الشعبي. أي إنه كتاب جامع يغطى جوانب الحياة لليهودي، حتى لا يدع له فرصة الاختيار في أي وجه من أوجه حياته الخاصة أو العامة.

نظراً لأن عملية الدراسة والتفسير تمت في المعاهد الدينية في بابل وفلسطين فقد تجمع تلمودان هما التلمود البابلي نتاج دروس فقهاء بابل، والتلمود الأورشليمي أو الفلسطيني نتاج فقهاء فلسطين. ويفضل البابلي عن الاروشليمى بميزتين أولاهما: استمرار العمل فيه فترة زمنية أطول من الأورشليمي، وأخراهما أن طريقة جمعه كانت أدق من الأورشليمي، وقد صور التلمودان خاصة البابلي شكل اليهود وطابعهم المميز وعقيدتهم ومعتقداتهم وسلوكهم في الحياة تجاه خالقهم، ومع بعضهم البعض، وكذا مع الأغيار كما صور أنماط تفكيرهم.

يضفى التلمود على نفسه القداسة، حيث يعد كلمات علماء التلمود موصى بها من الروح القدس، وقد أدى هذا إلى أن محاولة التحرر والتغيير والتبديل أصبحت أمراً مستحيلاً، لا يمكن التفكير فيه؛ فالنص المقدس لا يصح تعديله أو الخوض فيه أو تبديله، وفى إطار هذه القداسة والإيمان المطلق بكل ما دونه الحاخامات فيه وردت بعض النصوص الغريبة على العقل، مثل ما ذكر من أن خلافاً ما وقع بين الإله وعلماء اليهود حول أمر ما، وبعد طول جدال تقرر إحالة الأمر إلى أحد الحاخامات الذي حكم بخطأ الإله، الذي اضطر إلى الاعتراف بخطئه. كما ردد بعض الحاخامات أن الإله يستشير الحاخامات على الأرض إذا صادفته مسألة معضلة يتعذر عليه حلها في السماء. وهكذا اختل التوازن (الحلولى) دائماً لصالح المخلوقات من الحاخامات على حساب الإله.

يتكون التلمود من نص وشرح وتعليق على الشرح وإضافات شتى، وقد استمرت عملية وضعه مئات الأعوام في أزمنة مختلفة وأمكنة مختلفة أيضاً، بدأت من التهجير البابلي حتى اكتمل تدوينه، وأضيفت إليه تعليمات الحاخامات إليه في القرن الثاني الميلادي واستمرت التعليمات حتى القرن الثالث عشر أي أن كتابته استمرت عبر التاريخ واشترك فيها ما يزيد عن ألف حاخام جيلاً بعد جيل ودون في كتاب ضخم، متعدد الأجزاء ومجلداته كثيرة وضخمة، تصل في بعض الطبعات إلى ما يزيد عن عشرين مجلداً تحوى 2.5 مليون كلمة.

دون التلمود باللهجة الآرامية الشرقية، وتسمي أيضا بالآرامية البابلية، وهي فرع من الآرامية القديمة كما يضم بقايا لغوية عبرية وتأثيرات لغوية من الفارسية الوسطي (البهلوية)، ويوجد مفردات دخيلة من اليونانية واللاتينية.

أقسام التلمود

أ. المشناه

هي كلمة عبرية مشتقة من الفعل العبري مشناه ومعناه يثنى أو يكرر وكذلك استخدمت بمعنى المعرفة ثم أصبحت تشير تحديداً إلى دراسة الشريعة الشفوية وتكرارها وتلخيصها وحفظها، كما تستخدم مصطلحاً يشير إلى خلاصة القانون الشفهي أو القانون الثاني، ويزعم اليهود أنها أنزلت على موسى في طور سيناء وقد تناقلها عن موسى أربعون جيلاً بعد جيل ويمكن أن نوجزها في الآتي:

(1) المشناه مجموعة موسوعية من الشروح والتفاسير تتناول العهد القديم، وتتضمن مجموعة من الشرائع اليهودية التي وضعها معلمو المشناه على مدى ستة أجيال، ولذا تعد المشناه مصدراً من المصادر الأساسية للشريعة، وتأتى في المقام الثاني بعد العهد القديم الذي يطلق عليه لفظ مقرا (من قرأ) باعتباره هو الشريعة المكتوبة التي تقرأ أما المشناه فهي الشريعة الشفوية أو التثنية الشفوية التي تتناقلها الألسن فهي إذن تكرار شفوي لشريعة موسى u مع توضيح ما التبس منها ولابد من دراسته.

(2) دونت المشناه نتيجة تراكم فتاوى الحاخامات اليهود (معلمي المشناه) وتفسيراتهم وتضاعفها كميا،ً بحيث أصبح من المستحيل تداولها بسهولة، فبدأ تصنيفها على يد الحاخام هليل (ألقرن الأول الميلادي) وبعده الحاخام عقيبا (أكيبا) ثم مئير، أما الذي قيدها في وضعها الحالي كتابا فهو الحاخام يهودا هاناسي عام 19م-200م بعد أن زاد عليها إضافات من عنده.

(3) يرى واضعو المشناه أنها جزء لا يتجزأ من الوحي الذي تلقاه موسى u فهي التوراة (الشريعة الشفوية) وأن بعض أجزائها تلقاه موسى u شفاهة، ثم تناقلتها الأجيال عبر العصور من حاخام إلى آخر، و أن تقاليد التوراة الشفوية لا تزال مستمرة حتى وقتنا هذا. بل يرى العلماء اليهود أن المشناه هي المقابل اليهودي للعهد الجديد فكلاهما إكمال للعهد القديم وشريعة موسى.

(4) إن لغة المشناه هي تلك اللغة العبرية التي أصبحت تحتوى على كلمات يونانية ولاتينية، وعلى صيغ لغوية يظهر فيها التأثر العميق بقواعد اللغة الآرامية ومفرداتها، وهى تسمى عبرية المشناه.

(5) يصل حجم المشناه في الترجمة الإنجليزية إلى نحو 800 صفحة وهى أكبر حجماً من العهد القديم.

(6) أحكام المشناه إما عامة أو مجهولة المصدر، وهى أحكام مقبولة، أو أراء الحكماء أو المعلمين، وهى المفضلة إذا وقع تعارض حول مسألة ما.

(7) تنقسم المشناه إلى أقسام ستة رئيسة تسمى سدا ريم (هي أيضاً أقسام الجمارا) وتنقسم إلى أسفار تبلغ 63 سفراً والأقسام الستة هي:

(أ) السدر الأول زرائيم (البذور)

ويتكون هذا السدر من أحد عشر سفراً أو رسالة، ويتناول قوانين التوراة الزراعية والدينية والاجتماعية وحقوق والكهنة واللاويين في غلال الأرض والحصاد، وكذا قواعد وأنظمة الفلاحة (الحرث وزراعة الحقول والجناين وبساتين الثمار) بالإضافة إلى السنة السبتية وكذا المواد المحظور خلطها في النبات والحيوان والكساء.

(ب) السدر الثاني موئيد (الأيام المقررة)

يحتوى لوائح الأعياد والصيام والمواسم، وكذلك السبت، إضافة إلى الشعائر والفرائض والقرابين وقواعد تنظيم التقويم العبراني، وكيفية معرفة الأشهر العبرية القمرية من الشمسية لتعيين الأعياد اليهودية، وقد تضمن أثنى عشر سفراً في أربعة مجلدات.

(ج) السدر الثالث ناسيم (النساء)

ويشتمل هذا السدر على سبعة أسفار، تختص بقوانين الزواج والطلاق والأحكام التي تحدد العلاقات بين الزوجين خاصةً وبين الجنسين عموماً.

(د) السدر الرابع نزيقين (الإضرار)

يحتوى هذا السدر عشر أسفار ومقالتين، وينقسم إلى قسمين، يضم الأول ثلاثة أسفار، وموضوعها العام القانون المدني، ويضم الثاني مقالتي سنهدرين وماكوت في القانون الجنائي، وتأتى باقي الأسفار العشر ملاحق لهذا السدر.

(هـ) السدر الخامس قداشيم (المقدسات)

ويحتوى هذا السدر أحد عشر سفراً تتناول الطقوس القربانية والتضحيات المتعلقة بالهيكل، واستمر الحاخامات في تنفيذها رغم هدم الهيكل، وانقطاع الصلة بين الممارسة الفعلية والغرض من وراء تلك الشعائر والطقوس، وهذا لغرس الأمل دائماً والتطلع إلى إعادة بناء الهيكل عاجلاً أو آجلاً واستعادة العبادة القربانية.

(و) السدر السادس طهاروث (التطهيرات)

يحتوى أثنى عشر سفراً يختص بأحكام الطهارة والنجاسة لدى الأشياء والأشخاص، وهذه الأحكام لم تكن سارية خارج فلسطين فيما عدا الأحكام المتعلقة بحيض النساء فهي سارية للآن 0

ب. الجمارا

وهى اسم مشتق من الفعل (جامر) الذي يعنى أنهى أو أتم في الآرامية، وتعنى أيضا التنمية أو التكملة أو الإكمال والدراسة وهى عبارة عن التعليقات والشروح والتفسيرات التي وضعها الفقهاء اليهود (الشراح) لتفسير المشناه خلال الفترة من عام 220 – 500 م، وهى عادة ما تكون بطريقة أسئلة وأجوبة، وتعد جزءاً من الشريعة الشفوية، ولكن تسميتها هذه من قبيل المجاز؛ فالشراح لم يكتفوا بالتفسير والتوضيح فقط، بل أجروا عليها من التعديل ما يجعلها تتطابق مع ظروف الزمان والمكان، أي أنهم فعلوا بالمشناه ما فعله رواة المشناه بالعهد القديم، ويمكن إيجازها في الآتي:

(1) الجمارا أطول من المشناه وتصل عشرة أضعاف في الجمارا البابلية، والتي جمعت في خلال مائة عام كاملة، وراجعها في نحو مائة وخمسين عاماً أخرى الحاخامات المفسرون الذين تولوا مراجعتها وصقلها حتى أخذت صورتها الحالية، وقد جمعت أثناء الأسر البابلي في العراق.

(2) وفى القرن الرابع الميلادي نسقت مدارس فلسطين التلمودية شروحها في الصورة المعروفة بالجمارا الفلسطينية، وعدد كلماتها ثلث كلمات الجمارا البابلية.

(3) يعود الاختلاف بين التلمودين إلى الجمارا حيث إن المشناه مشتركة بينهما، ولما كان الجمارا البابلية أكمل وأشمل من الجمارا الفلسطينية فإن التلمود البابلي هو التلمود المتداول بين اليهود حتى الآن، وهو الكتاب القياسي عندهم.

(4) بدأ كتابة الجمارا لأول مرة ابنا الحاخام يهود هاناسي الحاخامان جامائيل وسيميون، وأستأنف الحاخام آشى هذا العمل في صور، وهى مدينة على الفرات من 365-425م وأكمله الحاخام أبينو الذي يسمى رابينا، ووضعه في صورته الختامية الحاخام جوس عام 498م وهو آخر من سمى لدى اليهود بالملقن أو الآمر.

(5) لغة الجماراتين هي الآرامية (الشرقية في البابلي والغربية في الفلسطيني) وقد كتبتا أيضاً بأسلوب إيضاحي، وإذا كان معظم المشناه عبارة عن تشريع قانوني (هالاخيا) فإن الجمارا تجمع بين التشريع القانوني والمواعظ والقصص (اجاداه).

 



[1] سورة البقرة، الآيات 247 ـ 251