إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / الصهيونية




مناحم بيجين
موشي ديان
هنري كيسنجر
وعد بلفور
إسحاق رابين
إسحاق شامير
تيودور هرتزل
جولدا مائير
حاييم وايزمان
ديفيد بن جوريون
زئيف جابوتنسكي فلاديمير

أبناء ونسل إبراهيم عليه السلام

مناطق الانتداب البريطاني ـ الفرنسي
مشروع الوكالة اليهودية
مشروع برنادوت لتقسيم فلسطين
إسرائيل والأرض المحتلة 1967
إسرائيل عام 1949
الاحتلال اليهودي لفلسطين
تكوين المملكة المتحدة
تقسيم لجنة وودهيد البريطانية (أ)
تقسيم لجنة وودهيد البريطانية (ب)
تقسيم تيودور هيرتزل 1904
تقسيم فلسطين بين الأسباط
فلسطين في القرن الأول ق.م



تقديم

المبحث الخامس

المرحلة الأولى والثانية من إقامة دولة إسرائيل

استطاعت الصهيونية العالمية تجميع ما سبق من أفكار الحكماء والمفكرين ورجال الدين اليهودي، وما صدر عنهم من كتب ومقالات وتصورات خططية، وعرض كل ذلك في المؤتمر الصهيوني العالمي الأول في بازل بسويسرا، خلال ثلاثة أيام متوالية في السابع والعشرين من أغسطس 1897م والذي أقر ضمن ما أقر الخطة التنفيذية لإقامة الدولة اليهودية على الأرض المقدسة، أرض فلسطين، وحقيقة لم تصدر وثيقة علناً بهذا الاسم أو المعنى يمكن الرجوع إليها، ولكن الشواهد والأفعال المنفذة بكل دقة وصرامة والتزام من جميع الفرق اليهودية، وكذا الأهداف المرحلية المخططة والإجراءات المنفذة لها في كل فترة زمنية، تؤكد ارتباطها ببعضها، وإنها تنفذ على أرض الواقع من خلال مخطط محكم ومتابعة مستمرة ناجحة، تمكن قيادتها من التدخل في التوقيت المناسب عند التعثر أو ظهور بوادر فشل أو ما إلى ذلك للتعديل المناسب والاستمرار في التنفيذ، أو لزيادة القوة الدافعة واستغلال النجاح.

إن أهم مصادر القوة في هذه الخطة أنها جاءت متوافقة ومحققة لما في نفوس كل اليهود وعقولهم، وأنها متوازنة مع المتغيرات السياسية والدينية والثقافية والاجتماعية التي عاشوا فيها خلال شتاتهم الطويل، ومانحة لهم الأمل للخلاص من ذلك خلال المستقبل القريب، باستعادة ما ظنوا أنهم فقدوه، وكذا استردادهم لشخصيتهم ولكيانهم بين الأمم والشعوب. كما أن هذه الخطة جاءت مطابقة في عناصرها الأساسية لما قام به الآباء الأوائل من قبل، ووثقت في كتبهم المقدسة من خلال الوصايا والعهود والوعود من الرب لهم منذ عصر الآباء، وكذا فكر الحاخامات في التلمود، وتطوير فكرة الخلاص بالعودة إلى أرض يسرائيل بإعطائها الطابع السياسي، كما قال هرتزل، لتكون حلاً عصرياً فكان المعنى الخطير والكامن خلف ذلك هو اغتصاب أرض فلسطين وتشريد أهلها وشعبها (كما فعل الآباء بأرض كنعان)، ومن هنا كان لزاماً أن تكون القوة هي الوسيلة لتحقيق قيام الدولة، ما أوجب إنشاء القوات (العناصر) المقاتلة القادرة على تنفيذ المهمة.

اعتمدت الصهيونية اعتمادا أساسيا على فكرة دينية ثابتة في العقيدة اليهودية، وهى ما فعله الآباء الأوائل في الماضي لامتلاك أرض كنعان (فلسطين)من أجل تنفيذ الوعد الإلهي (المزعوم) لهم بمنح الأرض المقدسة (أرض كنعان) لهم ولأبنائهم ونسلهم من بعدهم, وهذه الفكرة هي الأساس والسنة والواجب الديني المفروض اتباعه، فوضعت تلك الخطة لاستعادة الأرض بحيث تكون مشابهة ومحتوية لأفكار الآباء في محاولاتهم التسلل واغتصاب أرض كنعان واستيطانها والسيطرة عليها، وإقامة دولتهم. فكان التخطيط طويل المدى مشابها للتخطيط منذ عهد موسى النبي حتى عهد سليمان الملك حيث عصر المملكة اليهودية، وكذا التشابه في بداية غزو أرض كنعان بدفع عناصر الاستطلاع والاستكشاف باختيار موسى لفرد من كل سبط من الأسباط يثق فيه، مثل يوشع بن نون، كما قام بتجييش الشعب وإعداده للدخول لأرض كنعان كما أقرت الخطة استمرار دفع المغامرين الأوائل من المستوطنين (محب صهيون) للتمسك بما يقيمون عليه من الأرض وإرسال التقارير واستقبال الجدد من المستوطنين وكذا فرض الأمر الواقع بالاستيلاء على أرض الغير بالقوة والقتل وبث الإرهاب بين السكان الأصليين، كما فعل يوشع بن نون عند الاستيلاء على مدينتي (أريحا) و(عاي) بالإضافة إلى تقنين استيطان وتمليك الأرض المستولى عليها إلى الأسباط طبقا لأوامر يعقوب u وتوزيع نبي الله موسى u (اُنظر خريطة تقسيم فلسطين بين الأسباط) كما اشتملت الخطة على توحيد الفرق اليهودية العديدة تحت راية واحدة كما فعل داود الملك u عندما جمع الأسباط (القبائل) اليهود في المملكة المتحدة حتى نهاية القرن العاشر ق.م ويمكن تحديد معالم هذه الخطة التنفيذية التي اشتملت على أربع مراحل أساسية هي:

·   المرحلة الأولى: التجسس والتسلل إلى فلسطين.

·   المرحلة الثانية: اغتصاب أرض فلسطين.

·   المرحلة الثالثة: التوسع.

·   الانكماش والسلام والفكر الإستراتيجي لإقامة إسرائيل الكبرى.

أولاً: المرحلة الأولى: التجسس والتسلل إلى فلسطين

1. زمن المرحلة: من عام 1865م حتى عام 1917م.

2. هدف المرحلة

أ. الاقتراب من أرض فلسطين واستكشافها.

ب. التسلل إلى المواقع المهمة من الأرض التي يمكن إقامة استيطان(زراعي ـ صناعي ـ حرفي) فيها له المقدرة الدفاعية عن كيانه.

ج. قيام المنظمة الصهيونية العالمية بتنفيذ الفكر السياسي اللازم والتمهيد لاختيار الوطن القومي لليهود من خلال المساعدات الأوروبية وخاصة الدول الكبرى الداعمة والمتوافقة للمصالح المشتركة.

د. خلق النواة للقوة العسكرية لليهود وبنائها في أرض فلسطين (منظمات شبه عسكرية) وإخراجها إلى حيز الوجود.

كان من أهم المؤثرات على هذه المرحلة انتشار فكرة العودة والوطن القومي لليهود، في مطلع القرن التاسع عشر، وترجمتها إلى أعمال فعلية فكان موشى حاييم مونتفيور رئيس الطائفة اليهودية في بريطانيا الذي قام بعدة زيارات لفلسطين بين عامي 1827م و1874م لاستكشاف أرضها ودراسة طرق استغلالها، ومحاولة تطوير حياة الجالية اليهودية فيها (حوالي عشرة آلاف نسمة)، وفى عام 1840م سعى إلى التفاوض مع رئيس الحكومة البريطانية (لورد بالمر ستون) بشأن الاستيطان الزراعي لليهود بفلسطين، وبذا يتحقق الاتجاه نحو الدعوة لتحقيق الأماني القومية والاجتماعية لليهود، وكان أول من صاغ هذه الأفكار الفيلسوف اليهودي (موسى هس) في كتابه روما والقدس عام 1862م والمحتوى على أول ظهور للفكر الصهيوني الحديث، ثم جاءت بعض الخطوات العملية على يد الحاخام تزفى هيرش كاليشر الذي أصدر عدداً من الكتب نادي فيها بان إصلاح حال اليهود لن يتحقق إلا بالعمل الجاد الذاتي، وليس بانتظار الماشيح المخلص، كما عقد مؤتمراً صهيونياً عام 1861م في مدينة ثورن (ببروسيا الشرقية) كان من نتيجته إنشاء جمعية (استعمار أرض فلسطين) وأنشئت أول مدرسة زراعية يهودية في فلسطين عام1870م تحت اسم (مكفية يسرائيل) بواسطة الجمعية الخيرية الفرنسية (أليانس) كما سبق إنشاء(صندوق اكتشاف فلسطين) في بريطانيا عام1865م الذي زود محبي صهيون بصورة مفصلة عن فلسطين، وقدم خدمات جليلة ومهمة لصالح الحركة الصهيونية من إصدار نشرات وكتب حاوية للمعلومات الدقيقة عن فلسطين، وقام بوضع الخرائط المختلفة بعد إضافة الأسماء التاريخية والدينية المستقاة من العهد القديم والجديد وذلك بمساعدة الضباط الانجليز الذين نفذوا تلك المساعدات بموافقة الحكومة البريطانية ومعاونتها، ما شجع دعاة الصهيونية على تخطيط مشروعاتهم بدقة، والمضي في تنفيذها حتى بلغ إجمالي عدد المستعمرات (المستوطنات) المنشأة بفلسطين أربعاً وأربعين مستعمرة، ويقطنها اثنا عشر ألف يهودي في نهاية هذه المرحلة، ويمكن تقسيم تلك المرحلة إلى ثلاث فترات فرعية الأولى منها هي الدعوة وبدء الهجرة، والثانية التمهيد للوطن القومي اليهودي، والثالثة خلق النواة العسكرية لليهود في فلسطين.

1. الفترة الأولى: الدعوة وبدء الهجرة

امتدت هذه الفترة من عام 1865م حتى عام 1897م، ولكن البداية الحقيقية الجادة للاستيطان اليهودي الصهيوني في فلسطين كانت اعتبارا من عام 1878م عند إقامة أول مستعمرة زراعية يهودية وهى مستعمرة (بيتج تكفة) ومعناها (فاتحة الأمل) على شاطئ نهر اليرقون بعد إن كانت الهجرة والاستيطان اليهودي وليد هجرة أفراد متفرقين وجماعات محدودة أطلق عليها (اليشوف القديم)، ودافعهم إلى ذلك يتمثل في دوافع دينية كالعبادة أو الموت في الأرض المقدسة، حتى إنهم كانوا يسكنون المدن (القدس ـ الخليل ـ صفد ـ طبرية) ولم يقيموا أي مستعمرات أو مستوطنات خاصة بهم، ولكن الحال اختلف عند قيام الطلاب اليهود المتحمسين من رواد حركة (حب صهيون) وأطلق عليهم (اليشوف الجديد) بتنظيم الهجرة إلى فلسطين، فأنشأوا جماعة (بيلو) لهذا الغرض أي للاستيلاء على الأرض العربية في فلسطين لصالح الأمة اليهودية، وإقامة مجتمع عنصري انفصالي ونمط جديد من الحياة اليهودية بوصف فلسطين أرض الأجداد (أرض الميعاد) متخذين مبدأ أن القوة هي السبيل إلى تحقيق العودة، فكانت موجة الهجرة الأولى (العلياه الأولى) عام 1882م وهو البداية الحقيقية للعودة الفعلية.

إن الاختلاف الكبير بين اليشوف القديم واليشوف الجديد بقيادة أحباء صهيون ومعهم حركة بيلو هو الاستعمار والاستيطان في مستعمرات أو مستوطنات زراعية، وعدم السكن في المدن بصفة عامة، وكذا إنشاء المجتمع اليهودي المستقل واتخاذ القوة سبيلا للعودة مثلما قام الكولونيل البريطاني الصهيوني العنصري "ألبرت جولدن سميث" بالمطالبة في عام 1883م بإنشاء منظمة شبه عسكرية تعمل على ضمان أمن المستعمرات بالإضافة إلى اليهودي الألماني "بولفريدمان"الذي قام بمحاولة تنفيذ مشروع استعماري لأرض مدين قليلة السكان (الساحل الشرقي لخليج العقبة وشماله) والتي تصلح نقطة وثوب إلى فلسطين باستخدام القوة العسكرية، حيث أعد جيشاً صغيراً من اليهود المتحمسين، وجمع له الأسلحة والمعدات، ودربه التدريب العسكري اللازم في فاليسيا والمجر ثم أبحر إلى أرض مدين وذلك عام 1893م، وعند وصوله واجهته كثير من المشكلات والأزمات أدت إلى فشل مشروعه في مهده، ولكن الحراك السياسي والقومي اليهودي استمر في نمو وتصاعد، وساعد ذلك ظهور كثير من المفكرين والسياسيين اليهود وإصدارهم الكتب التي تعبر عن وجهة نظرهم في القومية اليهودية، وما تولده من دوافع لإقامة الوطن القومي لهم وكان من أهمهم كتاب تيودور هرتزل (الدولة اليهودية) والمتضمن نطاق الدولة اليهودية طبقا لوجهة نظره (اُنظر خريطة تقسيم تيودور هيرتزل 1904) والذي رأوا فيه تجسيداً لأحلامهم ما جعل اليهود في أنحاء أوربا يجاهرون بمطالبهم بإقامة الوطن القومي لهم في فلسطين، ودفعهم إلى تلبية نداء هرتزل بعقد المؤتمر الصهيوني العالمي الأول (الكنيست الأول) في الفترة من 27-29 أغسطس من عام 1897م والذي كانت قراراته المنهج والخطة التي تحقق أحلامهم وآمالهم في المستقبل .

2. الفترة الثانية: التمهيد للوطن القومي اليهودي

امتدت هذه الفترة من عام 1897م – 1907م وكانت بدايتها بصيحة المعركة التي أطلقها تيودور هرتزل في المؤتمر الصهيوني الأول/ الكنيست الأول ببال (بازل) بسويسرا، وقد وصفها الكتاب الصهيونيون ببدء معركة اغتصاب الأرض، وطرد شعبها الفلسطيني الذي يسكنها من الآف السنين منها، وكانت المؤتمرات الصهيونية من المؤتمر الثاني إلى المؤتمر الثامن وموجة الهجرة الثانية عام 1904م (العلياه الثانية) وكذا العمل على تنفيذ القرارات الصادرة عن المؤتمر الصهيوني الأول ومتابعة تنفيذها في المؤتمرات التالية، هي أهم معالم هذه الفترة حيث تلخصت وتحددت الغاية الصهيونية في المؤتمر الأول في خلق وطن للشعب اليهودي في فلسطين لا في غيرها يضمنه القانون العام أما الوسائل التي تحقق ذلك فهي كالتالي:

أ. العمل على استعمار فلسطين من طريق العمال الزراعيين والصناعيين اليهود.

 ب. تنظيم قوي اليهود العالمية وربطها بوساطة منظمات محلية ودولية بحيث تتلاءم مع القوانين المتبعة في كل دولة.

ج. تدعيم المشاعر اليهودية وتقوية الوعي القومي اليهودي وأحياء اللغة والثقافة العبرية.

د. اتخاذ الخطوات التمهيدية للحصول على التأييد الضروري لتحقيق غاية الصهيونية.

هـ. السعي للحصول على تأييد دولة كبيرة دائما مع الاستفادة من الظروف الدولية.

بدأت فكرة العودة إلى صهيون تتحول إلى حركة صهيونية سياسية عالمية تسعي إلى إنشاء العلاقات مع الهيئات السياسية الأخرى وخلق الاتصالات مع الحكومات المختلفة، وتحاول تنظيم اليهود وتنمية روح التعصب العنصري في نفوسهم، وشحن معنوياتهم بالآمال العراض والرؤى الزاهية لأرض الميعاد، أحاطت نشاطها بغلاف من الكتمان والتمويه خشية أن يؤدي اكتشاف المخطط الصهيوني إلى ردود فعل عالمية، قد تسبب تعثره منذ البداية، وامتازت هذه النشاطات بالاتصالات التي قام بها هرتزل مع ملوك ورؤساء الدول المعنية والمسيطرة على فلسطين، مثل محاولاته مقابلة السلطان عبد الحميد رئيس الدولة العثمانية، وفشله في ذلك ومتابعة المحاولة بواسطة إمبراطور ألمانيا (ولهام الثاني) للحصول على حكم ذاتي لليهود في فلسطين، وفشل فيه أيضا وتعددت المطالب والوعود وأيضا الأراضي المقترح إقامة الوطن القومي لليهود فيها ما بين العريش وسيناء وأوغندا أو إقامة مستعمرات في سورية والعراق (اُنظر خريطة مناطق الانتداب البريطاني ـ الفرنسي) وكذلك قبرص فرفضت جميعاً وكان الإصرار على فلسطين وذلك في المؤتمر الصهيوني السابع عام 1905م بعد وفاة هرتزل عام 1904م وكان التنفيذ من خلال الأنشطة التالية:

أ. التنظيم السياسي والاجتماعي لليهود.

ب. الاستعمار الزراعي والصناعي لأرض فلسطين.

 ج. التدعيم النفسي والمعنوي لليهود في المهجر أو في المستوطنات بفلسطين.

د. العمل الدبلوماسي الموسع بالمؤسسات والتنظيمات اليهودية في جميع بلدان العالم.

استمر النشاط السياسي اليهودي دائرا في غرب أوروبا، ولكن نشاطاً من نوع مختلف كان هناك في شرق أوروبا عكس آثاره المباشرة على أرض فلسطين ففي عام 1903م ظهرت بوادر موجة جديدة من الاضطهاد ضد يهود روسيا القيصرية، حين بدأت التيارات الثورية والمبادئ الاشتراكية تنتشر فيها، ما أدي لانتشار الأفكار الاشتراكية الصهيونية بين الشباب اليهودي فتأثر بها و جمع نفسه في حركة يهودية جديدة سميت (بوعلي صهيون) أي(عمال صهيون) تدعو إلى أفكار صهيونية متطرفة ترتكز على مبدأين هما

أ‌. الهجرة إلى فلسطين والاستيطان بالعمل والدفاع عنه.

ب‌. تحقيق العدالة الاجتماعية للشعب اليهودي.

أثمرت جهود اليهود ونشاطهم السياسي عن موجة جديدة من الهجرة اليهودية إلى فلسطين (العلياه الثانية) عام 1904م واستمرت عشر سنوات، وكان لفشل الثورة الروسية الأولي عام 1905م و زيادة الاضطهاد لليهود أثرهما المباشر على يهود شرق أوروبا خاصة من شباب صهيون الذين تفتحت عقولهم على التطلعات العنصرية وعلى آمال القومية اليهودية، لذلك كان معظم أفراد هذه الموجة الجديدة من الشباب الصهيوني المتعصب والمتفتح سياسيا ومن أصحاب فكرة البعث القومي الاجتماعي والذي انحصر في ثلاث فئات، على الرغم من اختلاف مفاهيمها السياسية العامة إلا أن طابعها العنصري وحد بينها في العمل والمشاركة في النشاط الصهيوني الإنشائي في فلسطين، حيث وفر المجال العملي لبناء المجتمع الصهيوني إذ هو أول مستلزمات الوطن القومي والدولة اليهودية وكان من نتيجة ذلك الاشتراك في تكوين منظمة (هاشومير) الحارس وإنشاء صندوق عمال أرض إسرائيل وهذه الفئات هي:

أ. جماعات من شباب صهيون نادوا بإيديولوجية قومية تأثرت بالآراء الاشتراكية التي اعتنقها حزب (هابوعيل ها تسعير) العامل الشاب والذي أسس عام 1905م في فلسطين .

ب. جماعات من عمال صهيون تأثروا بالأفكار الماركسية ويتطلعون إلى حضارة قومية دنيوية وهي التي أسست فرعها كحزب بفلسطين عام 1906م .

ج. شباب غير حزبي ولكنه متحمس لأفكار اشتراكية أخري ومتعصب لفكرة (الوطن القومي اليهودي).

3. الفترة الثالثة: خلق النواة العسكرية

امتدت هذه الفترة من عام 1907م حتى عام 1917م، ويعد عام 1907م حداً فاصلاً في تاريخ الصهيونية الحديثة اتجاهاتها الاستعمارية، لانتصار آراء الزعماء الصهيونيين المنادين بالعمل في فلسطين دون ضمانات سياسية، وانتخب دافيد ولفسون رئيسا للمنظمة بعد موت هرتزل، ورغم اتفاق الجميع على الهدف السياسي لبرنامج بال بشأن الوطن القومي اليهودي في فلسطين إلا أنهم اختلفوا في أسلوب التنفيذ، وبادر الصهيونيون العماليون بزعامة (أوتو واربورج) إلى العمل والنشاط الفعلي في فلسطين دون أي ضمانات سياسية. وطبقاً لقرار المؤتمر الصهيوني الثامن المنعقد في لاهاي عام 1907م، وهو ضرورة البدء في استعمار فلسطين بشكل منظم مهما كانت العقبات، واتخاذ كافة الإجراءات المناسبة التي تكفل تدعيم الزراعة والصناعة. وكان زعيمهم هو أول من نادي بفرض الواقع الصهيوني في فلسطين عن طريق التغلغل الاقتصادي .

بدأ الصهيونيون العمليون في عام 1918م يشقون طريقهم نحو المخطط العملي للاستعمار المنظم متخذين من التغلغل الاقتصادي أساساً لهم، مستعينين بالألماني اليهودي فرانز اوبنهايمرا مستشاراً اقتصادياً لهم، لتطوير العمل في فلسطين بزعامة المنظمة الصهيونية العالمية التي أنشأت المكتب الفلسطيني في يافا، وكان أول خطواته إنشاء ضاحية جديدة على حدود يافا هي تل أبيب، ثم أنشأ شركة تنمية أراضي فلسطين بهدف التوسع في استعمار الأرض وإدارة المستعمرات وإنشاء المزارع لتدريب العمال على الزراعة؛ حيث أقيمت أول مستعمرة جماعية (كيبوتز) تسمي "داجانيا" بواسطة (عمال صهيون) وسميت (أم جوني) وأصبحت رمزا لفكرة الكيبوتزيم وعلى يد من أسموهم "هاحلوتسيم" أي الرواد من المستوطنين اليهود وعدت رمزاً للعقيدة الصهيونية الاشتراكية تحت شعار المحراث والسيف وتبلورت بعد ذلك في شعار (العمل والدفاع) حيث وضع هذه الفكرة بن جوريون في صورتها الحية وإطارها الواقعي، مؤكداً ذلك بقوله" إن أرض إسرائيل تصبح ملكنا عندما يصبح عمالها وحراسها من صفوفنا" ثم أضاف " ليس من هدف قومي أو اجتماعي تم انجازه دون جهد وإصرار من المقاتلين والبنائين" ولذلك تحدد شكل المستعمرات الجماعية وأهدافها كالآتي:

أ. أن يكون سكانها من المقاتلين البنائين للاستيلاء على فلسطين عن طريق غزو الأرض وبناء الحصون البشرية والعسكرية.

ب. أن يكون مواقعها في الأماكن الحيوية ووفق المخططات المرسومة.

 ج.أن تقوم على العنصرية الصهيونية والتعصب الديني والتميز عن الآخرين.

د. تعتمد على الذات وإبعاد غير اليهود عن المستعمرات، ومقاطعة الأيدي العاملة العربية، واضطهادها وطردها من الأرض بالقوة والإرهاب.

وضع حجر الأساس للبناء العسكري الصهيوني وخلق نواته العسكرية في بداية عام 1907م بإنشاء أم المنظمات العسكرية في فلسطين وهي منظمة الحارس (هاشومير) تحت ستار الحراسة والدفاع حيث تأسست من أعضاء حزب عمال صهيون (23 شابا) ثم انضمت إليهم عناصر يسارية من اليهود الروس الذين أدخلوا على أساليبها فكرة العمل الايجابي تحت اسم النضال والكفاح، وعدم الاكتفاء بأعمال الحراسة، بل ممارسة العنف ضد السكان العرب حتى يمكن خلق ما يسمي باليهودي العنيف عن طريق أحياء روح الأساطير الشعبية اليهودية القديمة الموجودة في كتبهم المقدسة فبرزت ملامح أيديولوجية هاشومير في الاقتراحات التي أعلنتها عام 1912م أسلوباً لحماية اليشوف على أساس النقاط التالية:

أ. أن تغرس في السكان الإحساس بواجبهم في الدفاع عن أنفسهم إلى دورها في الحماية المادية للمستعمرات.

ب. أن توفر النواة العسكرية القادرة على توسيع نطاق الوظائف الدفاعية في المجتمع اليهودي.

ج. أن تحتكر حق الإشراف على الدفاع عن المجتمع اليهودي في فلسطين.

د. أن تعمل هاشومير قوة مسلحة محترفة ومتخصصة في الدفاع عن البيشوف.

إذا كان إنشاء منظمة هاشومير مساراً أول للصهيونية العسكرية من أهم مخططات الصهيونية السياسية فان الهدف الأول لها هو إنشاء قوات مسلحة يهودية تخدم في ميدان الشرق الأوسط بالقرب من فلسطين تحت القيادة البريطانية بغرض معاونة القوات البريطانية في حربها ضد تركيا خلال الحرب العالمية الأولي، إضافة لما هو أهم ألا وهو استخدامها في مساومة بريطانيا من أجل إنشاء الوطن القومي اليهودي بفلسطين، وأيضاً لاكتساب الخبرة والتسليح بأحدث الأسلحة، ولذا سعي زعماء الحركة الصهيونية أمثال حاييم وايزمان وفلاديمير جابوتنسكي ويوسف ترومبلدور ودافيد بن جوريون إلى تنفيذ المسار الثاني للصهيونية العسكرية، وهو إنشاء تلك القوات ففي مارس 1915 استجابت القيادة البريطانية في مصر لتشكيل كتيبة النقل البغالي الصهيونية من ثمانية آلاف فرد من يهود فلسطين، وبعد تدريب قصير في منطقة برج العرب غرب الإسكندرية، أبحرت إلى الدردنيل يقودها ضابط بريطاني اختار يوسف ترومبلدور أركان حربه، وباءت هذه الحملة بالفشل فسرح ما تبقي منها في مايو 1916م مع استبقاء 120 فردا أرسلوا إلى لندن ليكونوا نواة لكتيبة يهودية يمكن تكوينها مستقبلاً، إلا أن جهود زعماء الصهيونيين لم تتوقف، ولم يهدأ جابوتنسكي -الموقن بأن التحرير لن يتم إلا بحد السيف- إلا بعد وعد من الحكومة البريطانية بقبول فكرة إنشاء كتيبة يهودية في بريطانيا للعمل في فلسطين، بينما ركز بن جوريون جهوده في الولايات المتحدة وشرع في تجنيد كتيبة يهودية من يهود الولايات المتحدة على أن تلحق بالجيش البريطاني وليس الأمريكي كما سعى يوسف ترومبلدور، في صيف 1917م، بعد وصوله إلى روسيا إلى إنشاء جيش يهودي ضخم قوامه من (75 - 100ألف) يهودي يغزو به فلسطين عن طريق القوقاز، بعد أن يشق طريقه بالقوة عبر أرمينيا والعراق ويمثل فلسطين الشرقية (شرق الأردن) ولكن انهيار الحكومة الروسية أفشل هذا المشروع.

أعلنت الحكومة البريطانية في صيف 1917م عن موافقتها على تشكيل كتيبة يهودية بقيادة الكولونيل السابق قائد كتيبة البغال وهذا التحول في السياسة البريطانية كان للأسباب الآتية:

أ. دخول الولايات المتحدة الأمريكية الحرب إلى جانب الحلفاء وموافقتها على إنشاء كتيبة يهودية.

ب. اتفاق بريطانيا مع الحكومة الروسية بحقها في تجنيد رعايا روسيا من اليهود.

ج. الموقف العسكري في أوروبا لم يكن يسمح بنقل قوات إلى جبهة الشرق الأوسط.

د. موقف الثورة العربية الكبرى حيث استولت على ميناء العقبة، ما دفع بريطانيا لأن تشترك الصهيونية في القتال حتى لا تكون الغنائم للعرب وحدهم، وتشرك اليهود في تحرير البلاد لكي تكسبهم حق المطالبة بها.

ثانياً: المرحلة الثانية: الاغتصاب

1. مدة المرحلة: من عام 1917 إلى عام 1947م.

2‌. الهدف من المرحلة

أ. العمل السياسي لتقنين الوجود اليهودي في فلسطين.

ب. تكوين الكيانات السياسية اليهودية (الوكالة اليهودية) وإنشاء المنظمة العسكرية (الهاجاناه).

ج. مقاومة المد الثوري الفلسطيني.

د. التحول إلى الهجرة الجماعية.

هـ. إطلاق الإرهاب الصهيوني من المنظمات السرية ضد الفلسطينيين.

3. شعار المرحلة: هو السور والبرج.

يمكن احتساب عام 1917م بداية مرحلة جديدة من مراحل العمل الصهيوني في فلسطين، وانتهت باغتصابها. ولقد نهض بهذه المرحلة جيل من الإرهابيين بالإضافة إلى الزعماء التقليديين للمنظمة الصهيونية، وهذا الجيل اعتنق أسلوبا جديدا في سلب الأرض تحت شعار السور والبرج تعبيرا عن أخذ الأرض بالقوة والانغلاق داخلها للدفاع عنها، واحتوت هذه المرحلة وتبعا لأبرز أحداثها على ثلاث فترات هي:

·   الفترة الأولى: التعيين السياسي للوجود اليهودي وتعزيز الاستعمار.

·   الفترة الثانية: مقاومة المد الثوري الفلسطيني.

·   الفترة الثالثة: انطلاق الإرهاب ونتائجه.

1. الفترة الأولى: التعيين السياسي للوجود اليهودي وتعزيز الاستعمار الاستيطاني

امتدت هذه الفترة من عام 1917م حتى عام 1927م وكانت البوابة في الثاني من نوفمبر 1917م حين صدر تصريح وعد بلفور الذي عدته الصهيونية العالمية نقطة تحول في تاريخها وتاريخ اليهود كله، والواقع أن صدور هذا التصريح البريطاني لم يكن وليد ساعته، أو عملاً أملته ظروف وقتية ودوافع عاطفية، بل كان نتيجة جهود ضخمة بذلتها الصهيونية السياسية وشاركت فيها الدبلوماسية البريطانية، وهو يمثل إحدى حلقات الخطوات التكتيكية والإستراتيجية في السياسة البريطانية لتحقيق أطماع الدول الأوربية الكبرى في تقسيم إرث الدولة العثمانية وإنهاء المسألة الشرقية، وبذلك يكون وعد بلفور ختاما لاتفاقات دولية ثلاثة عقدت لهذا الغرض، أما الاتفاقان الآخران فكانا اتفاق الحسين/ مكماهون الذي عقد في 1915م واتفاق سايكس/ بيكو عام 1916م (اُنظر خريطة اتفاقية سايكس ـ بيكو) حيث جرت مفاوضاته مع الدول الكبرى وخاصة روسيا وفرنسا مع بريطانيا، ولكي تخرج بريطانيا فلسطين من مطامعها اقترحت وضع فلسطين تحت نظام دولي، وبذلك تحقق تأمين حدود مصر الشرقية لتأمين قناة السويس كما نجحت جهود الحكومة البريطانية في مؤتمر سان ريمون في ابريل 1920م فأقر المجلس الأعلى للحلفاء تأييد تصريح وعد بلفور، وكذا انتداب بريطانيا على فلسطين وقد عرضت وثيقة الانتداب على المنظمة الصهيونية العالمية وحظيت بموافقتها. وعين هربرت صمويل اليهودي البريطاني أول مندوب سامي بريطاني على فلسطين، ثم عرضت الوثيقة على عصبة الأمم التي صدقت على صك الانتداب في 24 يوليه 1922م كما جاء في مقدمة التصديق الاعتراف بوعد بلفور.

بدأت الموجة الثالثة من الهجرة اليهودية إلى فلسطين في أعقاب الحرب العالمية الأولي في عام 1919م، وانتهت عام 1923م، وبلغت 90 ألفاً وعندما وضعت فلسطين تحت الانتداب عام 1920م أصبحت الهجرة اليهودية شرقية، بعد أن سمحت بها حكومة الانتداب، ووضعت لها صوريا سعة استيعابية، وكان القسم الأكبر من المهاجرين لفرقة العمال التي أقامت المستعمرات الجماعية (كيبوتزيم) وكذا الاشتراك في المجموعات العسكرية الصهيونية وأصبحت صورة العامل الذي يحمل الفأس في إحدى يديه والبندقية في اليد ألآخري هي السائدة لليهود في أرض فلسطين، كما أقيمت مستعمرات الناحال" الشباب ألطلائعي المحارب" في مواجهة الحدود المصرية وشرق الأردن والسورية واللبنانية وفي عام 1924م بدأت موجة الهجرة الرابعة (العلياه الرابعة) وانتهت عام 1926م وبلغت 60 ألف نسمة معظمهم من بولندا وليتوانيا وروسيا ومن الطبقة المتوسطة واستمر بناء المستوطنات والمستعمرات حتى بلغ عددها 100 مستعمرة وبلغ عدد اليهود 160 ألف نسمة، وهذا يرجع إلى دعم سلطات الانتداب لليهود على حساب العرب واعترفت السلطات بمبدأ تمثيل اليهود في المجالس المحلية والجمعيات واللجان الوطنية وأصبحت اللغة العبرية لغة رسمية في فلسطين، وافتتحت الجامعة العبرية في ابريل 1925م وأنشئت المنظمة العسكرية الصهيونية السرية (الهاجاناه) ومنحت الشركات الصهيونية امتياز الأعمال الرئيسة المهمة كالطرق والكهرباء، كما أنشئت المحاكم اليهودية وتكونت الأحزاب واتحاد العمال (الهستدروت).

2. الفترة الثانية: مقاومة المد الثوري الفلسطيني

امتدت هذه الفترة من عام 1927م حتى عام 1937م وامتازت بالنشاط الثوري العربي في فلسطين، وأنه أخذ في التدرج حتى وصل إلى قمة الثورة في عام 1936م، وذلك لأن أحداً لم يكن يتصور حتى صدور وعد بلفور عام 1917م مدى أبعاد المؤامرة الصهيونية المرسومة ضد العرب، وحتى نهاية العشرينات لم يكن قد تبلور بين العرب إدراك عام عن تحقيق الخطر الصهيوني على العالم العربي، لذلك فرغم ارتفاع معدل الهجرة إلا أن النشاط العربي ظل قاصرا على عقد المؤتمرات، ورفع رسائل الاحتجاج وتشكيل الجمعيات، وبعث الوفود إلى لندن، والإعلان عن رفض الوعد والمطالبة بمنع الهجرة اليهودية وإنشاء حكومة فلسطينية، وانتخاب لجنة تنفيذية برئاسة موسي قاطم الحسيني لقيادة الحركة الوطنية الفلسطينية؛ حيث أغارت المقاومة الفلسطينية لأول مرة خلال الاضطرابات، على المستعمرات اليهودية وقتال حراسها، واغتيال جوزيف ترميلدور في مستعمرة تل الحي، واستمرت الحركة حتى عام 1923م حين دخلت فترة الانحسار بسبب عوامل خارجية وداخلية ,منها تردد زعماء قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية المكونة من كبار الملاك, ونجاح سلطات الانتداب في تأجيج الصراع بين عائلتي الحسيني والنشاشيبي, إلا أنه قد حدث تفجر في الصراع عام 1925م, وأضربت فلسطين إضراباً شاملاً احتجاجاً على زيارة لورد بلفور إلى القدس لافتتاح الجامعة العبرية, وكذلك بلغت الأحداث عام 1928 حداً كشف حقيقة خطة الصهيونية أمام نظر العرب, بعد أن تأكد أن تزايد النشاط الصهيوني سيؤدي إلى ضياع فلسطين, ولذلك فمنذ عام 1929 ولمدة عشر أعوام واجه الاستعمار البريطاني والصهيوني بفلسطين فترة من أحرج الفترات, نتيجة لانطلاق الثورات العربية التي لم تتوقف, إلا مع بداية الحرب العالمية الثانية عام 1939م, ولولا السياسات الملتوية التي اتبعتها سلطات الانتداب البريطاني والمواجهة الوحشية التي لاقتها القوى العربية الثائرة، مع قصور القيادات العربية، لكانت هذه الثورات قد أتت ثمارها وتمكنت من القضاء على الأطماع الصهيونية في فلسطين.

إن السبب المباشر الذي جعل النزاع يتخذ طابع الحدة والمجابهة يعود إلى يوم الأربعاء 14 أغسطس 1929 الموافق في العبري يوم الغفران، حين سيرت مظاهرة شبه عسكرية في تل أبيب والقدس، قام بها حزب الإصلاح التابع للمنظمة الصهيونية المتعصبة بيتار وحين وصلت إلى ساحة البراق (المبكى) أدى المتظاهرون صلواتهم وقاموا بطقوسهم تطبيقاً لنص المادة الثالثة عشرة من وثيقة صك الانتداب، ولم يعارض المسلمون تلك الزيارة بفضل التسامح الإسلامي، إلا أن اليهود أخذوا بعد الاحتلال البريطاني يحاولون تحويل هذه العادة إلى حق مكتسب ثم حق ملكية، وبهذا يظهر البعد الديني للصهيونية، لذا سير العرب في يوم الجمعة التالي بمظاهرة شعبية كبيرة في مدينة القدس حيث توافدت عليها من القرى المجاورة جماهير غفيرة ثائرة انطلقت من المسجد الأقصى، وجابهتها السلطات البريطانية بعكس ما فعلت حيال تظاهرات اليهود، وعمت الاشتباكات المدن الفلسطينية وخاصة مرج بن عامر حيث هوجمت المستوطنات الصهيونية ونشبت معارك طويلة مع القوات البريطانية التي تحميها، وقد استخدم الانجليز المدفعية والدبابات والطائرات حتى الغازات الحربية في مواجهة الثوار العرب، وألحقت أضرارا جسيمة في قراهم، وفرضت العقوبات والغرامات المالية الجماعية على مدن وقرى الجليل واتهمهم بمهاجمة المستعمرين الانجليز والصهاينة، ونسفت بعض البيوت في قرى القدس العربية، وفرضت حظر التجوال على العرب دون اليهود والإقامة الجبرية على الكثير من قادة العرب وزعمائهم وفرضت الرقابة على الصحف وقامت بالبحث عن السلاح بهدف نزعه من العرب، وكانت حصيلة انتفاضة البراق التي انتهت في 30 أغسطس إلى مقتل 33 يهودياً وجرح نحو 339 ومن العرب 116 شهيدا و232جريحاً كما استمرت السياسة البريطانية بممارسة سياسة الإرهاب والأبعاد للعرب وفرض القيود الاقتصادية والعسكرية وأعلنت المحكمة البريطانية حكماً بإعدام 27 عربياً ولم ينفذ إلا في ثلاثة فقط.

أذيع تقرير جون سمبسون، وأرفق به الكتاب الأبيض للورد باسفيلد متضمنا رأي الحكومة البريطانية وسياستها، والذي تتضمن عدم توفير أراضٍ لاستيطان مهاجرين جدد من اليهود على حساب العرب، وإذا توفرت فهي من حق الأسر العربية التي لا تملك أرضاً وعلى ذلك يجب عدم السماح بهجرة يهودية جديدة، وقد رأى الصهاينة في ذلك حكما بالإعدام لخططهم التوسعية، وغضب وايزمان وقدم استقالته من رئاسة المنظمة الصهيونية، وكذلك من اللجنة التنفيذية للوكالة اليهودية بفلسطين احتجاجاً على سياسة بريطانيا المناهضة للصهيونية وأرسل خطابا للورد باسفيلد يتهمه بإلحاق الظلم بحقوق اليهود وآمالهم فشكلت الحكومة البريطانية لجنة وزارية لمفاوضة مندوبي الوكالة اليهودية وفي 13 نوفمبر 1931م أذاع رامزي ماكدونالد رئيس وزراء بريطانيا رسالة بعث بها إلى وايزمان ضمنها تراجعاً كاملاً عن السياسة التي رسمتها الحكومة في الكتاب الأبيض، وساق تفسيرات معاكسة تماماً كما جاء فيه وأعلن التزام حكومته بتسهيل الهجرة اليهودية وتحقيق الاستيطان وأن الحظر على شراء الأراضي ليس جزءا من سياسة الحكومة ووعد بإجراء تحقيق جديد لتحديد مساحات جديدة للأراضي الصالحة للزراعة والتي يمكن تقديمها للاستيطان اليهودي الجديد.

نشطت الدوائر الصهيونية لزيادة الدعم المالي والقوى البشرية اللازمة لتقوية كيان اليهود في فلسطين، وتوفير الركائز الضرورية لدعم القوى العسكرية للجيش الصهيوني السري (الهاجاناه) وكانت المؤتمرات الصهيونية الأربعة بين عامي 1923م و1929م تؤكد ذلك وبذل وايزمان جهدا كبيرا في إقناع الطوائف اليهودية وخاصة يهود أمريكا وأنشئ مجلس الوكالة اليهودية الذي حث على الهجرة وتشجيعها، وإحياء اللغة العبرية والثقافة اليهودية واسترداد الأراضي لصالح الشعب اليهودي، والعمل على دعم الاستعمار الزراعي على أيد عمال يهود، وبالفعل طالب المؤتمر الصهيوني عام 1933م بفتح باب الهجرة على مصراعيه حيث تحققت معدلات عالية فبعد أن كانت أربعة آلاف عام 1931م أصبحت أكثر من ستين ألفاً عام 1935م مع تواطؤ السلطات البريطانية في ذلك.

عبر عرب فلسطين عن سخطهم في أكتوبر 1933 بالخروج في مظاهرات صاخبة خاصة في القدس ويافا تحت قيادة موسى كاظم الحسيني، وقوبلت بالبطش والتنكيل والاعتقال فقرر العرب إعلان الإضراب لمدة سبعة أيام، فأجبر سلطات الاحتلال على التراجع للتهدئة، وبذل الوعود واسترضاء زعماء العرب ظاهريا لضمان صداقتهم، وعقدت معاهدات صداقة مع العراق عام 1935م ومع مصر 1936م، وكذا فرنسا مع سورية وطالب الشعب العربي من سلطات الاحتلال حقه في الاستقلال، ولكن كل ما حققته تلك السلطات هو اقتراح يدور حول تأسيس مجلس تشريعي مشترك ونفذ في نهاية عام 1935 من أغلبية عربية وأقلية يهودية حيث تكون من أربعة عشر عضوا عربيا وأربعة عشر عضوا آخرين من اليهود والبريطانيين والأجانب، وذلك بعد أن بدأت الدعوة إلى الثورة تأخذ طريقها بين عرب فلسطين مع مطلع عام 1935 وكان أول الداعين لها الزعيم السوري عز الدين القسام بالتنسيق مع الحاج أمين الحسيني رئيس المجلس الإسلامي الأعلى، وذلك للإعداد للثورة على أن يعمل القسام في شمال فلسطين والحسيني في جنوب فلسطين، مع أن المفتي كان يرى إن الجهود السياسية كافية ولكن البريطانيين علموا بمساعي القاسم فحاصروه في مقره قرب مدينة جنين، وقتلوه مع أعوانه في نوفمبر 1935م، ولكن دعوته كانت قد انتشرت بين عرب فلسطين فشبت الثورة في أوائل أبريل 1936م وأصدرت بيانا يدعو إلى الاستمرار في الإضراب حتى تتحقق المطالب القومية التي تتبلور في الآتي:

أ. إنشاء حكومة وطنية مسئولة أمام مجلس نيابي.

ب. وقف الهجرة اليهودية إلى فلسطين.

ج. منع انتقال الأراضي العربية وبيعها إلى اليهود.

بدأ الجهاد العربي المسلح ضد سلطات الانتداب بإلقاء القنابل وإشعال الحرائق في مايو 1936م، وتوالت الإنذارات من الحكومة البريطانية، ولكن اللجنة العربية العليا أصدرت نداء في 16 مايو تدعو إلى العصيان المدني وردت الحكومة بإعلان تطبيق قانون الطوارئ، وفي ظله أخذت تعتقل الشباب العربي، بينما كانت مدن فلسطين تشتعل بالثورة وقد كون العرب مجموعات مقاتلة في كل المدن، واشتبكوا مع القوات البريطانية في معارك طاحنة استخدمت فيها القوات البريطانية سلاحها الجوي، وامتدت المعارك إلى المستوطنات اليهودية المنشأة تحت شعار السور والبرج، التي كان قد خطط لها نظام دفاعي بقوات مدربة ومنظمة جيداً عملت بالتعاون مع القوات البريطانية والنجدات العسكرية البريطانية من مصر ومالطة وبريطانيا بقمع الثورة العربية في فلسطين، وبلغ حجم هذه القوات فرقتي مشاه هما الفرقة الخامسة والفرقة الثامنة، وارتفع عدد قوات حامية فلسطين إلى (40) ألف رجل بالإضافة إلى (20) ألف من رجال الشرطة، وعدة آلاف من حرس المستعمرات الصهيوني المسلح فضلا عن القوات السرية للهاجاناه..

عكست الثورة العربية آثارها الفورية على الحكومة البريطانية، خاصة مع وجود شعور عام بمدى الظلم الذي وقع على العرب وانعكاس ذلك على علاقاتها مع العالم العربي والإسلامي، فسعت الحكومة لبعض الحكومات العربية (شرق الأردن ـ العراق ـ السعودية) وحثتهم على بذل الجهود لإقناع عرب فلسطين بإيقاف القتال حتى تتاح فرصة مناسبة لإيجاد حل كامل للمطالب العربية، وعينت لجنة ملكية برئاسة (لورد بيل) للتحقيق في أسباب الاضطرابات ودراسة الشكاوى العادلة حول كيفية تطبيق الانتداب، وتقديم مقترحاتها لذلك. وبدأت اللجنة العمل في نوفمبر 1936 ولمدة ثلاثة أشهر في فلسطين من العمل الجاد وغادرتها في يناير 1937، وأذاعت تقريرها في يوليه 1937حيث حددت أسباب ثورة العرب في رغبتهم في الحصول على الاستقلال الوطني، ومعارضتهم لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وأوصت اللجنة بضرورة تنظيم الهجرة اليهودية وألا يزيد معدلها عن (15) ألف يهودي في السنة ولمدة خمس سنوات، وكانت أهم مقترحاتها تقسيم فلسطين إلى ثلاثة أقسام دولة يهودية ودولة عربية ومنطقة تحت الانتداب البريطاني والحدود بينها (اُنظر خريطة مشروع لجنة بيل 1937) ووافقت عليه الحكومة البريطانية وتعهدت بتنفيذه، مع وقف بيع الأراضي وشرائها حتى لا تعرقل المشروع المقترح، ووافقت عليه المنظمة الصهيونية في مؤتمرها العشرين من حيث المبدأ، وعدَّت ذلك مرحلة من مراحل الدولة الصهيونية في فلسطين، كما جاء بتعليق بن جوريون على ذلك حيث قال "إن دولة يهودية في قسم من فلسطين يحقق هدف الصهيونية خيرا مما تحققه دولة انجليزية في كل فلسطين وان إنشاء الدولة أصبح أمراً عاجلاً لفساد نظام الانتداب ونمو القومية العربية والحاجة لإتباع سياسة هجرة صريحة تنقذ يهود أوربا الوسطى من المهالك"، ولكن لم يتم تنفيذ تلك المقترحات وعينت بريطانيا لجنة أخرى هي لجنة وودهيد البريطانية وقدمت مشروعاً جديداً لتقسيم فلسطين (اُنظر خريطة تقسيم لجنة وودهيد البريطانية(أ)) و(خريطة تقسيم لجنة وودهيد البريطانية(ب)) حتى تستطيع السيطرة على الموقف، والمهم عندها هو نجاحها في احتواء المد الثوري في فلسطين.

3. الفترة الثالثة: انطلاق الإرهاب

امتدت هذه الفترة من عام 1937م حتى عام 1947م، وقامت خلالها الحرب العالمية الثانية، وكان تأثيرها هو تفاقم وزيادة ضغط القوى العالمية والاستعمارية وتحكمها في مصائر الشعوب المستعمرة المغلوبة على أمرها، وكان دور الإرهاب والبطش لهذه القوى هو الوسيلة التي استخدمتها في القضاء على آمال الشعوب وتحطيم أمانيها وتصفية وجودها في بعض الأحيان، وكانت تلك الحرب من أهم الأحداث التي أثرت على القضية الفلسطينية، وبقدر ما كانت معوقا لانطلاق الثورة العربية الفلسطينية كانت عاملاً من عوامل القوة لليهود؛ فقد عرفت الصهيونية كيف تستثمر أحداثها لصالحها، وركزت على هدفها وهو إنشاء الدولة اليهودية بالعمل العسكري المباشر، ورأى الزعماء الصهيونيون أن في ما قامت به بريطانيا من محاولات لتهدئة العرب قيوداً للحد من حرية الهجرة اليهودية، إضافة إلى نمو الشعور بالقومية العربية لدى العرب، وهنا تطور الفكر الصهيوني لمعالجة الظاهرتين السابقتين، وبدأ البحث عن أسلوب جديد لمواجهتهما ولتحديد شكل المقاومة المسلحة التي ينبغي تطبيقها ضد دولة الانتداب، إذا ما حاولت النكوص أو التخلي عن وعودها إرضاء للعرب، وكذا تحديد نوع النظام أو العمل العسكري الذي يجب اتخاذه لمواجهة الثورة العربية الفلسطينية ودولة وسلطة الانتداب أيضاً، وانتهى هؤلاء الزعماء والسلطات العليا للييشوف إلى ضرورة إنشاء جيش يهودي مستقل عن دولة الانتداب، يكون مستعدا لمواجهة التحدي العربي، واتخذت الوكالة اليهودية عدة إجراءات لإعادة الهاجاناه وتطويرها وتوسيع قاعدتها .

كانت السلطات البريطانية قد سمحت لليهود بتدعيم قواهم العسكرية، ووافقت على إنشاء مجموعات مسلحة من الشرطة اليهودية سميت بالشرطة الإضافية الخاصة، ثم أطلق عليها شرطة المستعمرات اليهودية (نوتريم) وقد حولت هذه المجموعات العسكرية التي سلحتها السلطات البريطانية إلى واجهة شرعية لإمداد المنظمة غير الشرعية (الهاجاناه) بالرجال المدربين على أيدي الضباط البريطانيين، وبذا انقلبت هذه الوحدات إلى قوة عسكرية مسلحة غير شرعية بلغ حجمها عام 1937م حوالي (3800) يهودي ولم يكن هذا الرقم سوى الجانب الشرعي للقوة السرية اليهودية التي بلغت العشرين ألف رجل، يعملون تحت ستار شرطة المستعمرات، وسيطر على منظمة الهاجاناه جناحين متضادين في الفكر التنفيذي، الأول بزعامة وايزمان وبن جوريون وينفذ سياسة ضبط النفس مع بريطانيا والعرب وذلك لعنف الثورة العربية المفاجئة لليهود وسلطات الانتداب وخوف الصهيونية من فقدان التأييد الخارجي. وأما الجناح الثاني كان بزعامة جابوتنسكي الذي أعلن أن سياسة الإرهاب للعرب والانجليز هي الطريق لتحقيق الهدف الصهيوني، وأيده جماعة التصحيحيين الذين انشقوا في عام 1937م عن الهاجاناه معلنين قيام المنظمة العسكرية الوطنية (أرجون زفاي ليئومي بارتس يسرائيل) واختصارها (أتسل) والتي حدث بها الانشقاق الثاني بخروج جماعة أبراهام شتيرن مكونة منظمة ليحي وهى مشتقة من الأحرف الأولى للكلمات العبرية (لوحمى حيروت إسرائيل) أي المحاربون لحرية إسرائيل وهي التي عرفت منذ عام 1942م باسم مؤسسها شتيرن بعد مقتله، بواسطة سلطات الانتداب، وقامت المنظمات الثلاث بمهمة تنفيذ الإرهاب الصهيوني في فلسطين حتى قيام الحرب العالمية الثانية، بينما استمرت اتسل بالعمل ضد المنشآت والمعسكرات البريطانية، وليحي في أعمال القتل والبطش والترويع خلال الحرب العالمية الثانية، حيث نفذت عدداً من العمليات الإرهابية، وحجم الخسائر الناجمة عنها في فلسطين أحدث من الترويع ما يفوق الوصف.

إن العلاقة بين الهاجاناه وسلطات الانتداب قد مرت بفترة توتر قصيرة في أعقاب صدور الكتاب الأبيض عام 1939م إلا أن نشوب الحرب العالمية الثانية أدى إلى استعادة علاقات التحالف القديمة ورأى فيها الصهاينة فرصة لاستغلال التناقضات بين الأطراف المتصارعة لتحقيق مشروعهم وهدفهم الأول، وهو إقامة الدولة اليهودية، وقد انضم كثير من أعضاء الهاجاناه إلى جانب بريطانيا والحلفاء، وكذلك انضموا إلى تشكيل اللواء اليهودي للقتال في صفوف القوات البريطانية، وتصدت الهاجاناه للمنظمات اليهودية الأخرى، بل وأمدت سلطات الانتداب بما تحتاجه من معلومات لتعقب تلك المنظمات واعتقال أعضائها، وفي المقابل ساعدت بريطانيا في إنشاء القوة الضاربة للهاجاناه (البالماخ) وتدريبها، كما نظمت ودربت فرقة المظليين من بين أعضاء الهاجاناه للعمل في أوروبا، ولكن بانتهاء الحرب تفجر الصراع مرة أخرى فشاركت الهاجاناه منظمتي اتسل وليحي النشاط الإرهابي ضد كل من العرب والبريطانيين، وأطلق على هذا النشاط الإرهابي اسم حركة المقاومة العبرية، كما نشطت جهود الهاجاناه في تشجيع الهجرة غير الشرعية، وحيث بلغ عدد أعضاء الهاجاناه قبل إعلان قيام الدولة اليهودية (3600 مقاتل)، إضافة إلى ثلاثة آلاف من البالماخ، واكتمل بناؤها التنظيمي، حيث تحولت إلى جيش موحد ومحترف للدولة الصهيونية، وقد أصدر بن جوريون قرار، في 31 مايو 1948م، بتحويلها إلى جيش الدفاع الإسرائيلي.