إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / الصهيونية




مناحم بيجين
موشي ديان
هنري كيسنجر
وعد بلفور
إسحاق رابين
إسحاق شامير
تيودور هرتزل
جولدا مائير
حاييم وايزمان
ديفيد بن جوريون
زئيف جابوتنسكي فلاديمير

أبناء ونسل إبراهيم عليه السلام

مناطق الانتداب البريطاني ـ الفرنسي
مشروع الوكالة اليهودية
مشروع برنادوت لتقسيم فلسطين
إسرائيل والأرض المحتلة 1967
إسرائيل عام 1949
الاحتلال اليهودي لفلسطين
تكوين المملكة المتحدة
تقسيم لجنة وودهيد البريطانية (أ)
تقسيم لجنة وودهيد البريطانية (ب)
تقسيم تيودور هيرتزل 1904
تقسيم فلسطين بين الأسباط
فلسطين في القرن الأول ق.م



تقديم

المبحث السابع

مسيرة الصهيونية في خمسين عاماً 1897 ـ 1947

في أعقاب المؤتمر الصهيوني الأول، انصرف هيرتزل ورفاقه إلى تنفيذ القرارات، التي اتخذها المؤتمر؛ ومنها إنشاء المؤسسات التي وافق عليها المؤتمر؛ والاتصال بالدول الكبرى للحصول على دعمها، أو على ضمانات منها، برعاية أهداف الحركة الصهيونية.

أولاً: الاتصالات الدولية المبكرة

حاول هيرتزل، بعد المؤتمر مباشرة، الاتصال بالسلطان العثماني للحصول على براءة، أو صك يضفي الشرعية على (الاستيطان الجماعي) لليهود في فلسطين، وفي سبيل ذلك، توسل إلى القيصر الألماني ولهلم الثاني، وعلى الرغم من أن هذا الأخير كان يمقت اليهود، إلاّ أنه وعد هيرتزل بأن يرتب له لقاء مع السلطان. ويبدو أن ولهلم كان يرجو أن يوافق السلطان، حتى تتخلص ألمانيا نفسها من بعض، إن لم يكن كل، اليهود فيها، وخاصة أولئك اليهود النشطين في الحركات الاشتراكية والثورية. وعلى الرغم من حدوث اللقاء، في أكتوبر 1898، مع ولهلم الثاني، إلاّ أنه لم يستطيع ترتيب لقاء مماثل مع السلطان عبدالحميد.

حاول هيرتزل لقاء السلطان عبدالحميد، مباشرة، عن طريق معارف في البلاط العثماني. ونجح فعلاً، خلال المدة من 1899 إلى 1901، في إجراء اتصالات مباشرة مع السلطان، وعده فيها بمساعدات في الحصول على قروض للإمبراطورية العثمانية من البنوك، التي يملكها أو يسيطر عليها أغنياء اليهود، في مقابل " براءة "، أو صك بالاستيطان الجماعي، أو إنشاء شركات يهودية في فلسطين. ولإثبات حسن النية وفتح شهية السلطان، أودع هيرتزل بالفعل ثلاثة ملايين فرنك في بنوك تركيا، إلاّ أن هذه الجهود لم تسفر عن شيء يذكر.

بعد الفشل مع القيصر الأماني والسلطان العثماني، توجه هيرتزل إلى بريطانيا. وفي عام 1902، وبمساعدة اللورد ناثان روتشيلد (اليهودي الثري المعروف)، قابل وزير المستعمرات البريطاني، جوزيف تشمبرلين، الذي عرض على هيرتزل استيطان العريش المصرية في سيناء، حيث كانت مصر نفسها مستعمرة إنجليزية في ذلك الوقت. ولكن الإدارة الإنجليزية في مصر لم توافق على الاقتراح، خوفاً من إثارة حفيظة الحركة الوطنية المصرية. وفي عام 1903 عرض تشمبرلين، على هيرتزل والحركة الصهيونية، صكاً للاستيطان الجماعي في شرق أفريقيا (أوغندا)، ولكن حينما عُرض الاقتراح البريطاني على المؤتمر الصهيوني السادس (1903) رفضه بشدة، وانتقد هيرتزل، بل واتهمه "بالخيانة العظمى" للحركة الصهيونية، لمجرد التفكير في التخلي عن فلسطين. وتوفى هيرتزل في العام التالي (1904).

في كل محاولات هيرتزل، حتى تلك التي لم يوفق فيها، أو تلك التي رفضها المؤتمر الصهيوني السادس، كان همه الأول هو إثبات مبدأ التفاوض بين المنظمة الصهيونية، أو الوكالة اليهودية من جانب، وممثلي الدول والحكومات (العثمانية، الألمانية، الإنجليزية، المصرية) من جانب آخر، وذلك لإضفاء الشرعية على المؤسسات الصهيونية. فقد كان ذلك بالنسبة له ولزملائه، في بداية حركتهم، بمثابة اعتراف دولي بالصهيونية، حتى إذا اختلفوا معها، وأثبتوا هذا الاختلاف "كتابة"، في مراسلات أو مواثيق. ومن ثم فإن السنوات الخمس التالية للمؤتمر الصهيوني الأول كانت سنوات وضع الحركة الصهيونية في خريطة الدبلوماسية الدولية.

ثانياً: المنظمة الصهيونية والمؤسسات المنبثقة عنها

كان الخط الموازى للاتصالات الدولية، في نشاط هيرتزل وزملائه، هو بناء، وتكريس المؤسسات اليهودية للحركة الصهيونية. وكان في مقدمة هذه المؤسسات، المنظمة الصهيونية نفسها، والتي انتخب هيرتزل رئيساً لها، في أول مؤتمر صهيوني، في بازل عام 1897. وأصبح المؤتمر الصهيوني الأول مقدمة لمؤتمرات تالية، انعقد منها ستة في حياة هيرتزل نفسه، وذلك إلى عام 1903. وظلت هذه المؤتمرات تُعقد بانتظام، إلاّ في سنوات الحرب والأزمات الدولية الطاحنة. وعلى سبيل المثال عُقد المؤتمر الثالث والثلاثين في القدس عام 1997، واحتفل بمرور مائة عام على بداية الحركة الصهيونية. أي أن المؤتمر الصهيوني الدولي عُقد بمعدل مرة كل ثلاث سنوات، خلال القرن الأول من ميلاد الحركة الصهيونية.

وبذلك أصبح المؤتمر الصهيوني بمثابة الجمعية العامة، أو الهيئة التشريعية، للحركة الصهيونية، بينما أصبحت المنظمة الصهيونية بمثابة الحكومة، أو الهيئة التنفيذية للحركة، ومن ذلك أن المؤتمر كان هو الذي يرسم السياسات، ويضع برنامج الحركة. فهو الذي وضع ما سمي ببرنامج بازل (1897) الذي سارت عليه الحركة، نحو خمس وخمسين عاماً، إلى أن حل محله برنامج القدس عام 1951، بعد إنشاء الدولة اليهودية.

ومع المؤتمر الصهيوني الثاني عام 1898، كانت شعبية هيرتزل والحركة الصهيونية عموماً قد تضاعفت. فقد بلغ عدد المندوبين في المؤتمر الثاني 400 مندوباً، مقارنة بـ 197 مندوباً في المؤتمر الأول. وأصبح دور المنظمة الصهيونية والمؤتمر الصهيوني هو كسب تأييد القاعدة الشعبية العريضة لليهود، في كل مكان، يستطيعون الوصول إليه.

ولمزيد من ربط هذه القواعد الشعبية اليهودية بالحركة الصهيونية ومؤسساتها، (مثل المنظمة الصهيونية، والمؤتمر الصهيوني، والوكالة اليهودية، وغيرها مما سينشأ من مؤسسات)، أُقر نظام لتمثيل كل يهودي يؤدي اشتراكاً، ولو رمزياً. عبر نظام "الشاقل"، وهو مارك ألماني أو فرنك فرنسي، أو شلن نمساوي. فينتخب كل مائة دافع "شاقل" ممثلاً واحداً عنهم في المؤتمر الصهيوني. وهذا معناه أن الأربعمائة مندوب، الذين حضروا المؤتمر الثاني، كانوا يمثلون في الواقع 40 ألف عضو، ممن أدوا اشتراكاتهم في الحركة الصهيونية. وقد أمَّن ذلك مورداً مالياً لتغطية نفقات المؤتمر ذاته، ونفقات اللجنة التنفيذية، ومكتبها وأعضائه المنبثقين عنه عن طريق الانتخاب. كما أرسى منذ البداية المبكرة، أسساً " ديموقراطية " للتعامل داخل الحركة، ولانتقال السلطة، وأساليب اتخاذ القرار.

وضمنت هذه الترتيبات استمرار "لا مركزية" المنظمة الصهيونية، واكتفاءها ذاتياً. وفي داخل كل بلد، كانت تنشأ جمعيات وروابط يهودية ـ صهيونية محلية، كان يتم حثها، لا إجبارها، على الانضمام، طواعية، إلى اتحاد عام يضمها جميعاً في الدولة نفسها، ما دامت قوانينها الوضعية تسمح بذلك. وسمح ذلك بنشأة اتحادات إقليمية وقومية، واتحادات قطاعية لمختلف المهن والأعمال. أي أنه، منذ البداية، روعي، في التنظيمات الصهيونية، مبدأ "التعددية". كما سُمح للأحزاب اليهودية العقائدية بالانضمام إلى المنظمة الصهيونية، أو إلى الاتحادات القائمة، أو إنشاء اتحاد خاص بها. ممَّا مكن الاشتراكيين والمتدينين اليهود المتعاطفين مع الصهيونية من تأسيس علاقات مرنة مع الحركة الصهيونية، في بلدانهم، وفي العالم. لم تعبأ الحركة الصهيونية لا بالانتماء الأيديولوجي، ولا الطبقي، ولا المهني، ولا الوطني لأي يهودي عند ضمه إلى صفوفها. يكفي أن يعلن تضامنه، أو تعاطفه، مع الهدف الصهيوني الأسمى، وهو "إنشاء وطن قومي لليهود"، وتأدية الرسم المتواضع، أي "الشاقل"، سنوياً.

كذلك كان ضمن المؤسسات المبكرة للحركة الصهيونية "الصندوق الاستعماري اليهودي" Jewish Colonial Trust عام 1899، و"الصندوق القومي اليـهودي" Jewish National Found، وهما الهيئتان الماليتان الرئيسيتان للمنظمة الصهيونية، أو التجسيد العملي لفكرة "الشركة اليهودية" التي كان هيرتزل قد اقترحها في كتابه (الدولة اليهودية). تم تسجيل الصندوق الاستعماري اليهودي في لندن، كشركة مساهمة محدودة، برأسمال معلن قدره مليونا جنيه، غُطى منه فقط حوالي الخمس (400 ألفاً) بسبب إحجام الأثرياء اليهود عن المشاركة في تلك المرحلة، التي بدا فيها المشروع الصهيوني مجرد مغامرة غير محسوبة العواقب. ولم يُقبل على الاكتتاب إلاّ فقراء اليهود وأبناء الطبقة الوسطى. وقام " الصندوق الاستعماري اليهودي" بإنشاء شركات فرعية، بعضها مصرفي، مثل شركة "الأنجلو ـ الفلسطينية" (1903)؛ وبعضها لشراء وتنمية الأراضي، مثل "شركة تطوير أراضي فلسطين" Palestine Land Development Co.  (1908) وعلى الرغم من تسجيلهما في لندن كذلك شركات محدودة، إلاّ أنه تم إنشاء فروع لها في بيروت والقدس ويافا والخليل وحيفا وصفد وطبرية.

أمّا "الصندوق القومي اليهودي"، فقد تخصص في تمويل شراء الأراضي من الفلسطينيين، على أن تبقي ملكاً "للشعب اليهودي"، لا يقبل التصرف. وتؤجَّر لليهود من دون سواهم، ولا يُسمح لغير اليهود بالعمل فيها. وعلى الرغم من تسجيله كشركة في لندن، إلاّ انه لم يعتمد على الأسهم، بقدر اعتماده على الجباية والتبرعات وبيع الطوابع. فكانت المحلات، التي يملكها يهود، تضع صناديق صغيرة عند مداخلها، وعليها لافتات تحث العملاء على التبرع لها. كذلك شجعت الحركة الصهيونية الأطفال والشباب على الاحتفاظ بصناديق ادخار (حصالات) خاصة، لوضع تبرعاتهم للحركة فيها. وكانوا يُمنحون شهادات تقدير، كل مرة يرسلون حصيلة هذه التبرعات التوفيرية للصندوق القومي اليهودي.

من المؤسسات المهمة كذلك "مكتب فلسطين" (The Palestine Office)، الذي تأسس عام 1908، للتنسيق بين كافة الأنشطة الصهيونية في فلسطين. وقد تولى إدارته بيروقراطي ألماني يهودي قدير، هو أرثر روبين (1876 ـ 1943). وهو الذي أوعز للصندوق القومي اليهودي والصندوق الاستعماري وشركة تطوير أراضي فلسطين، بتملك الأراضي المتجاورة، في محاور متصلة، يسهل تنميتها جماعياً من ناحية، والدفاع عنها، في المستقبل، من ناحية أخرى. وقد اختار روبين ثلاثة محاور:

الأول: المحور الساحلي، الممتد بين يافا وحيفا.

والثاني: المحور الداخلي الشمالي، بين حيفا وطبرية.

والثالث: المحور الشرقي، في حوض نهر الأردن، من طبرية إلى أعالي النهر.

وقد التزم الاستيطاني الصهيوني بتلك الخطة، منذ بداية القرن وإلى إنشاء إسرائيل. كذلك كان أرثر روبين هو صاحب فكرة المزارع الجماعية ـ الاشتراكية وهو المشرف على تنفيذها، التي عرفت فيما بعد باسم "الكيبوتس"، والتي أصبحت هي رأس الحربة في الاستيطان اليهودي ـ الصهيوني في فلسطين، والذي تسارع بعد وعد بلفور (1917).

ثالثاً: البذور الجنينة للمشروع الصهيوني في فلسطين

لم يبدأ الاستيطان اليهودي، في فلسطين، بالمؤتمر الصهيوني الأول عام 1898. فمن ناحية كان هناك وجود يهودي في فلسطين، وإن كان صغيراً ومحدوداً، طوال القرون التي أعقبت التدمير الثاني للمعبد، والتشريد الثالث لليهود حوالي عام 79 ميلادية. وفي كل عهد استشعر فيه اليهود الأمان، كانت أعداد منهم تعود من الشتات إلى فلسطين، كما سبق ذكره.

وعشية المؤتمر الصهيوني الأول، أي في أواخر القرن التاسع عشر، كان عدد اليهود في العالم يقدر بحوالي ثمانية ملايين، يعيش ثلاثة أرباعهم في روسيا، وبلدان أوروبا الشرقية. ونحو 13 في المائة منهم في أوروبا الوسطى والغربية، ونحو ثمانية في المائة في البلدان الشرقية (شمال أفريقيا، والعالم العربي، والشرق الأوسط). ولم تتعد نسبة اليهود في الولايات المتحدة في ذلك الوقت أربعة في المائة من يهود العالم ـ أي حوالي 300 ألف يهودي. وطبقاً للمصادر الإنجليزية، لم يتجاوز عدد اليهود في فلسطين، عام 1838، أكثر من عشرة آلاف. ونتيجة النشاط الصهيوني المبكر، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والمذابح والاضطهادات التي تعرض لها اليهود في روسيا القيصرية، وخاصة في ثمانينات القرن التاسع عشر، تحركت موجتان من المهاجرين إلى فلسطين، كانت الأولى حوالي ستة آلاف شخص، والثانية، في أوائل القرن، وعددها أربعون ألفاً. أي أنه، مع بداية الحرب العالمية الأولى (1914)، لم يتجاوز عدد اليهود في فلسطين ثمانين ألفاً.

وعلى الرغم من ضآلة عدد اليهود في فلسطين (أقل من خمسة بالمائة)، إلاّ أن موجتي الهجرة الأخيرتين، من روسيا وأوروبا الشرقية، قرب انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول، مثلتا ركناً إستراتيجياً ومعنوياً مهماً للحركة الصهيونية، التي استفادت منهما فشيدت مؤسساتها التي سبق ذكرها. وبتعبير آخر، كان المهاجرون من روسيا، وأوروبا الشرقية، والصندوق الاستعماري اليهودي، والصندوق القومي اليهودي، وشركة تطوير أراضي فلسطين، ومكتب فلسطين، هي البذور الجنينية للكيان الصهيوني في فلسطين، الذي نما وترعرع، خلال الخمسين عاماً التالية، ليصبح البنية الأساسية للدولة اليهودية، التي بشر بها تيودور هيرتزل.

لم يقتصر الأمر على سكان يهود وافدين، ومؤسسات حديثة ناشئة، وإنما امتد ليشمل معتقدات وممارسات، مثل العقيدة الصهيونية (وطن قومي في فلسطين)، والمشاركة الشعبية اليهودية، والتعددية التنظيمية، والممارسة الديموقراطية. وهذه كلها ثمرات الانفتاح اليهودي الإيجابي، على العالم الأوروبي الغربي، طوال القرن التاسع عشر. ولكن كان، ضمن الممارسات المبكرة للحركة الصهيونية في فلسطين، عملية "الفصل العنصري"، بين اليهود والسكان الأصليين من العرب الفلسطينيين. وهذا الفصل العنصري هو بعث وإحياء لروح الجيتو (المعازل) الذي عاشه اليهود، أو فُرض عليهم إلى القرن الثامن عشر.

من ذلك مثلاً أن جزءاً لا يتجزأ، من ممارسات الصندوق القومي اليهودي، كان تحريم بيع أي من الأراضي، التي يشتريها من فلسطينيين، إلى فلسطينيين آخرين، أو إلى أي أطراف غير يهودية. ومنها كذلك إعطاء الأولوية في العمل، في المزارع اليهودية، وفي المؤسسات اليهودية لليهود؛ وعدم الاستعانة بالعمالة العربية إلاّ للضرورة القصوى ومؤقتاً. وقد أدى ذلك إلى تميز اقتصاديين منفصلين، أحدهما "عربي ـ عثماني ـ تقليدي"، "والثاني يهودي ـ صهيوني ـ متطور". وقد سمح ذلك، فيما بعد، بقيام كيان سياسي منفصل ومستقل، يعتمد على اقتصاد منفصل ومستقل.

كذلك حرص أرثر روبين وغيره، من الرواد الأوائل، لعملية الاستيطان اليهودي الصهيوني في فلسطين، على تدريب كوادر يهودية على أعمال الحراسة، وتحريم استخدام العرب، أو غير اليهود، كحراس في المزارع والمصانع اليهودية. وتألفت أول مجموعة عمالية ـ فلاحية مسلحة من اليهود، عام 1908 باسم هاشومر (Hashomer) أو "الحارس"، والتي كان من أعضائها الأوائل، دافيد بن جوريون، الذي أصبح فيما بعد، أول رئيس وزراء لإسرائيل (1948). وأصبحت مؤسسة الحارس هذه هي النواة للهاجاناة، ثم لجيش الدفاع الإسرائيلي فيما بعد.

وأخيراً حرص الوافدون اليهود، في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين، بإيعاز من المعتقدات الصهيونية، ودعم من مؤسساتها، وبتأثير الأفكار الثورية الاشتراكية (مثل الماركسية)، على تكوين نقابات واتحادات عمالية يسارية. ولكن الاتجاه اليهودي الانعزالي الاستبعادي، جعل مؤسسي هذه التنظيمات العمالية والمهنية، فيما بعد، يقصرون عضويتها على اليهود.

وهكذا بعقيدة عنصرية، واقتصاد منفصل، وأمن مستقل، وتنظيمات اجتماعية انعزالية، نما الكيان الصهيوني في فلسطين، وهو يحمل، في بذوره الجنينية ومنذ السنوات الأولى، كل عناصر الشك والريبة والتوجس تجاه " الآخر "، العربي ـ الفلسطيني. ويحمل، في ثناياه، كذلك كل بذور التعبئة والمواجهة والإعداد للعدوانية تجاه الآخر غير اليهودي. وكان من المنطقي، ومن غير المستغرب، أن "الآخر غير اليهودي" سرعان ما بادله الشك بالشك، والريبة بالريبة، والعدوانية بالعدوانية. الفارق الكبير والذي سيتسع، هو أن أحدهما كان منظماً تنظيماً أوروبياً غربياً حديثاً، والثاني ظل على تنظيمه الشرقي التقليدي القديم.

رابعاً: تطور الصهيونية بين الحربين

يُعد حصول الحركة الصهيونية على وعد بلفور، في 2 نوفمبر1917، علامة فارقه وحاسمة في تطور الحركة، مثلها في ذلك تماماً مثل انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول، قبل عشرين عاماً. بل إن هذا الوعد هو التطبيق العملي القانوني الدولي، الذي وضعته الحركة في مقدمة أهدافها، في مؤتمرها الأول، وهو: "السعي لإنشاء وطن للشعب اليهودي في أرض إسرائيل مكفول في ظل القانون العام".

1. خلفية الاستعداد البريطاني لمساعدة الحركة الصهيونية

يعود الاهتمام البريطاني بفلسطين إلى أواخر القرن الثامن عشر، بسبب اهتمامها الأكبر بمصر، وتأمين طرق مواصلاتها مع الهند. وحينما غزا نابليون فلسطين عام 1799، من مصر، سارع بإصدار "إعلان ليهود العالم" يعرض عليهم فيه العودة إلى فلسطين، ولم يكن ذلك غريباً تماماً، بسبب موقف الثورة الفرنسية المبدئي في منح اليهود المواطنة الكاملة لأول مرة، كما سبق. كما لم يكن الأمر غريباً على نابليون، الذي كان يسارع إلى شعب كل بلد يغزوه بتعبيرات المودة سعياً إلى الحصول على تأييده. وعلى الرغم من أنه لم يكن هناك شعب يهودي يُذكر في فلسطين، فقد تطلع نابليون إلى اكتساب تعاطف يهود العالم، وخاصة في أوروبا، وبالأخص في فرنسا، التي كان يستعد للعودة إليها، بكل طموحاته السياسية. (اُنظر ملحق نص بيان نابليون بونابرت إلى يهود العالم)

المهم أن الحملة الفرنسية على مصر والشام فتحت عيون بريطانيا على المنطقة لاعتبارات إستراتيجية. ولكن الساسة البريطانيين، مع تنامي قوة الرأي العام البريطاني، كان لابد أن يغلفوا أي مخطط إستراتيجي تغليفاً معنوياً أدبياً. ووجدوا ضالتهم المنشودة في المشاعر البروتستانتية التي تنامت في بريطانيا، في القرن التاسع عشر، والتي قدمت تفسيراً لنصوص الإنجيل، يفضي إلى السعي لإعادة اليهود إلى فلسطين، اعتقاداً من أصحاب هذا المذهب، أنهم سيتحولون إلى مسيحيين بمجرد عودتهم إلى " أرض الميعاد ". وكان، من أبرز المتحمسين لهذا التفسير الإنجيلي (الساذج)، اللورد شافتسبري، قريب رئيس وزراء بريطانيا الشهير، بالمرستون. ومن ثم كان له تأثير غير مباشر على السياسة الخارجية البريطانية. وفي ثلاثينيات وأربعينيات القرن التاسع عشر، أصبحت بريطانيا تتوجس ريبة إزاء مطامع ثلاث قوى خارجية: فرنسا، وروسيا، ومصر (التي كان ابن واليها إبراهيم باشا قد اجتاح الشام، بما فيه فلسطين واستولى عليها، لعدة سنوات، في منتصف ثلاثينيات القرن التاسع عشر. ولما لم تجد بريطانيا أقلية مسيحية، أو إسلامية، لتتولى الادعاء بالدفاع عنها، عمد بالمرستون إلى تكليف نائب القنصل البريطاني في القدس بأن يبحث عن اليهود، ويعرض عليهم استعداد بريطانيا للدفاع عنهم.

كذلك كتب بالمرستون إلى السفير البريطاني، في إستانبول، بالمعنى نفسه، قائلاً:

"إنه من الأهمية بمكان أن يشجع السلطان عودة اليهود واستقرارهم في فلسطين. فالثروة التي سيأتون بها ستزيد من قاعدة موارد السلطان؛ وبعودة الشعب اليهودي، تحت حماية ورعاية السلطان، وبدعوة منه، فإن ذلك سيمثل حاجزاً وقائياً ضد المخططات الشريرة لمحمد علي أو خلفائه في المستقبل..! احرص على لفت انتباه الحكومة التركية إلى تلك الاعتبارات في سرية وكتمان، مع حث المسؤولين الأتراك على تشجيع عودة اليهود الأوروبيين إلى فلسطين".

وهكذا، فمنذ ما يقرب من قرن قبل إصدار وعد بلفور، حرصت بريطانيا في تنافسها الجيوبولوتيكي، على استخدام فلسطين كحاجز مانع للسيطرة المصرية على المشرق، إضافة إلى حرصها على تأمين مواصلاتها في وجه منافسة القوى الكبرى، مثل فرنسا وروسيا وبروسيا. وقد وجدت في اليهود وآمالهم التاريخية، وفي تعاطف بعض الطوائف المسيحية المحلية مع تلك الآمال، في العودة إلى الأرض الموعودة، فرصة مركبة لضرب أكثر من عصفور، بحجر واحد.

من ناحية أخرى اندفعت الحركة الصهيونية صوب بريطانيا، بعد أن يأست من مساعدة الإمبراطور الألماني والسلطان العثماني، خلال السنوات الخمس التالية للمؤتمر الصهيوني الأول. وكانت العروض التي قدمتها بريطانيا لهيرتزل بأراضٍ بديلة في سيناء (سهل العريش) وأوغندا، والتي قدمها بدوره للمؤتمر الصهيوني السادس (1903)، قبيل وفاته المفاجأة، هي نموذج لهذا الغزل العلني، والذي سيتطور بسرعة إلى أن يصل لأي تحالف إستراتيجي، من خلال وعد بلفور.

وقد سهل، من الوعود البريطانية للحركة الصهيونية اعتبارات أخرى، لم تكن متوفرة، في منتصف القرن التاسع عشر، عندما أرسل بالمرستون رسالته السرية الشهيرة إلى سفير بريطانيا في إستانبول؛ فمع نهاية القرن التاسع عشر كانت بريطانيا قد احتلت مصر (1882)، وأصبحت بذلك مناوئة للإمبراطورية العثمانية. التي اتجهت في تحالفاتها الدولية، إلى ألمانيا، في مواجهة بريطانيا وروسيا. ومع بداية القرن العشرين، ونشوب الحرب العالمية الأولى، ودخول الإمبراطورية العثمانية الحرب، متحالفة مع ألمانيا والنمسا، ضد بريطانيا، شعرت بريطانيا أنها في حل من بقايا أية التزامات، ولو أدبية ومعنوية تجاه الإمبراطورية العثمانية. وبدأت تسعى حثيثاً للإسراع بتقويض أركانها، ووراثتها بعد طول انتظار وفاة "رجل أوروبا المريض". ومع قرب انتهاء الحرب، بات واضحاً أن المعسكر المضاد لبريطانيا سينهزم. ومن ثم دارت مناورات ومخططات ومؤامرات كثيفة للإعداد لعالم ما بعد الحرب.

في تلك الأثناء، دخلت بريطانيا في مداولات، بعضها سري، وبعضها علني، مع ثلاثة أطراف لترتيب أوضاع الشرق الأوسط والمنطقة العربية، التي كانت ما تزال تحت السيطرة العثمانية. فدخلت مع فرنسا، فيما سمي بعد ذلك بمحادثات "سايكس ـ بيكو"، لاقتسام غنائم الحرب. ودخلت مع الحركة القومية العربية البازغة، فيما سمي محادثات "حسين ـ مكماهون"، حيث كان الشريف حسين، أمير مكة، يقود الحركة القومية العربية في ذلك الوقت. وأخيراً دخلت في مفاوضات مع الحركة الصهيونية، بزعامة حاييم وايزمان، وهي المفاوضات التي أسفرت عن وعد بلفور، ولم تعبأ بتناقض الأطراف الثلاثة التي كانت تتفاوض معهم، ما دامت المصالح البريطانية في النهاية محفوظة ومخدومة.

2. وعد بلفور

جاء وعد بلفور الصادر في 2 نوفمبر 1917، نسبة إلى أرثر بلفور الذي كان وزيراً لخارجية بريطانيا، كخطوة عملاقة في إضفاء الشرعية الدولية على الحركة الصهيونية، ليس لأنه صدر عن أقوى دولة في النظام العالمي في ذلك الوقت فحسب، ولكن لأنه تعلق بفلسطين، وليس بأي أرض أخرى. وكانت كلمات الوعد مقتضبة للغاية، كالتالي:

"إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى إنشاء وطن قومي للشعب اليهودي، في فلسطين، وستبذل قصارى جهدها لتسهيل تحقيق هذا الهدف علماً بأنه من المفهوم بوضوح أن شيئاً لن يفعل يكون من شأنه المساس بالحقوق المدنية والدينية للجماعات غير اليهودية، في فلسطين. أو بالحقوق والأوضاع السياسية التي يتمتع بها اليهود في أي بلد آخر". (اُنظر صورة وثيقة وعد بلفور)

ونصه بالإنجليزية كما صدر:

“H. M Government view with favour the establishment in Pal estine of a national home for the jewish people, and will use their best endeavours to facilitate the ahievement of this object, it being clearly understood that nothing shall be done wnich may prejudice the civil and religous rights of non- jewish communities in Palestine or the rights and Political status engoyed by jews in any other Country”.

وقد جاءت هذه الصياغة المختصرة نتيجة تمهيدات، استمرت طوال عقدين من الزمان، وتحديداً منذ العرض، الذي كانت قد قدمته بريطانيا العظمى عام 1903، لإنشاء وطن قومي في أوغندا أو العريش، وهو العرض، الذي رفضه المؤتمر الصهيوني السادس، في حينه، والذي توفى هيرتزل بعده بعدة أشهر (1904).

ولكن خليفة هيرتزل، في قيادة الحركة الصهيونية، وهو حاييم فيتزمان، (1874 ـ 1952) الروسي المولد، والكيميائي المشهور، الذي هاجر إلى بريطانيا، واشتغل أستاذاً في جامعة مانشستر، واصل الاتصالات والمفاوضات مع أقطاب الدوائر السياسية في الحكومة البريطانية وخارجها، طوال الثلاثة عشر سنة التالية. وكثَّف من هذه الاتصالات، أثناء الحرب العالمية الأولى، ووظف المتعاطفين اليهود، وغير اليهود، مع الحركة الصهيونية في الولايات المتحدة الأمريكية، من أجل كسب تأييدٍ موازٍ لما صنعه في بريطانيا. وكان حليفه الأول في هذا الصدد هو المحامي اليهودي، لويس براندايز (1856 ـ 1941)، قريب الصلة بالرئيس الأمريكي، وودرو ويلسون، الذي عيَّنه، بعد ذلك، كأول قاض يهودي في المحكمة الدستورية العليا في الولايات المتحدة الأمريكية. وفي الواقع، تكشف الوثائق، والمذكرات الشخصية لعدد من الأسماء المذكورة في هذه الفقرة، عن أن الحكومة البريطانية ما كان لها أن تصدر وعد بلفور، في ذلك الوقت، إلاّ بموافقة، إن لم يكن بمباركة الرئيس الأمريكي ويلسون نفسه، والتي لعب براندايز دوراً حاسماً في الحصول عليها.

وكان أحد أسباب حرص كل من فايتسمان، وبلفور، على مباركة الرئيس الأمريكي، ليس لإضفاء مزيد من الشرعية فحسب، ولكن، كذلك، للتغلب على المعارضة الشديدة لمثل هذا "الوعد"، بين قطاع من اليهود البريطانيين، والغربيين، المناوئين للحركة الصهيونية، ومنهم وزراء بريطانيون يهود، في ذلك الوقت، مثل اللورد أوين مونتاجيو (1879 ـ 1924). وكانت الأغلبية العظمى من يهود بريطانيا وأمريكا، الذين كانوا مندمجين تماماً، ولا يشعرون بأي اضطهاد ضدهم، إضافة إلى الأوضاع الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية المميزة لهم. وكان اليهود في أمريكا وبريطانيا، وغيرهما من البلدان الغربية الليبرالية الديموقراطية، يتوجسون من اتهامهم بـ "الولاء المزدوج"، إن هم شاركوا في حركة تدعو إلى إنشاء وطن قومي يهودي، غير الأوطان التي يعيشون فيها.

وكان هذا الأمر يسبب الحساسية لليهود الأمريكيين خاصة؛ لأن معظمهم كان حديث الهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية. ومن ثم فمن بين نحو ثلاثة ملايين يهودي في أمريكا في بداية الحرب العالمية الأولى (1914)، وعلى الرغم من مرور 17 عاماً على البداية المنظمة للحركة الصهيونية، فإن عدد الأمريكيين، الذين انضموا إليها، لم يتجاوز 12 ألفاً، ولم تتجاوز ميزانية الاتحاد الصهيوني الأمريكي مائة وخمسون ألف دولار. وبعد صدور إعلان بلفور، واحتفاء أهم شخصية يهودية أمريكية به، وهو لويس براندايز علناً، وهجومه على نظرية " الولاء المزدوج ". قفز عدد اليهود الذين انضموا إلى الاتحاد، مع عام 1919، إلى خمسة عشر مِثلاً (إلى 176 ألفاً)، كما قفزت ميزانية الاتحاد إلى ثلاثة ملايين دولار!

لعبت صحيفة المانشستر جارديان، دوراً مهماً، كذلك، في إصدار وعد بلفور، بتوجيه من صاحبها تشارلز سكوت، الذي كان شديد القرب والتأثير على لويد جورج، رئيس وزراء بريطانيا في ذلك الوقت. وعلى الرغم من أنه لم يكن يهودياً، إلاّ أن صداقته وإعجابه بحاييم وايزمان جعلاه يطلق العنان لكاتب الافتتاحيات، هاري ساكر، اليهودي الصهيوني، واتخذت المانشستر جارديان موقفاً محرضاً، يلح في مطالبة بريطانيا باحتلال فلسطين، في تسويات ما بعد الحرب العالمية الأولى، وعلى منح اليهود وعداً بتأييد مطالبهم في إنشاء وطن قومي فيها. وكانت الحجة، التي تستند عليها المانشستر جارديان، في ذلك هي سهولة الدفاع عن قناة السويس، وطريق مواصلات بريطانيا إلى الهند، ومستعمراتها، في شرق أفريقيا وآسيا.

وهكذا حينما دخلت بريطانيا في محادثات سرية مع فرنسا، وعقدت اتفاقاً، عُرف فيما بعد باتفاق "سايكس ـ بيكو"، استثنت فلسطين من المنطقة، التي وافقت على أن تكون تحت الهيمنة الفرنسية. وعلى الرغم من مفاوضات موازية مع الشريف حسين، عُرفت بمفاوضات حسين ـ مكماهون، والتي وافقت فيها على منح عرب المشرق الاستقلال، والتوحيد، في دولة واحدة، تخلف الإدارة العثمانية، إن هم ثاروا ضد الأتراك، ودعموا مجهودات الحلفاء، إلاّ أنه في النهاية، لم تلتزم بريطانيا إلاّ بوعد بلفور للحركة الصهيونية، وباتفاقية سايكس ـ بيكو مع فرنسا.

وخلاصة القول إن وعد بلفور كان تحقيقاً لإحدى الأماني، والأهداف الصهيونية، ولكنه لم يصدر هكذا بسهولة. بل كان نتاج عمل صهيوني دؤوب، في بريطانيا وأمريكا، وعلى أرض فلسطين نفسها.

3. الانتداب البريطاني والتمهيد الفعلي للدولة اليهودية

في تسويات ما بعد الحرب العالمية الأولى، التي هُزمت فيها ألمانيا والإمبراطورية العثمانية، وفقدت هذه الأخيرة كل ولاياتها، في المشرق العربي، أصبح المناخ ممهداً تماماً لممارسة بريطانيا ما تريد ممارسته من تنفيذ لاتفاقيات والتزامات، منها وعد بلفور. ولكن الحركة الصهيونية لم تأخذ الأمر كقضية مسلم بها. بل حرصت، بعد إصدار وعد بلفور، وبعد احتلال القوات البريطانية لفلسطين، بعد شهر واحد من إصدار ذلك الوعد، على أن تكون قوة ضاغطة في تسيير الشأن الفلسطيني، بل والشأنين البريطاني والدولي، كذلك.

من ذلك، مثلاً، إصرار الحركة الصهيونية على أن يصبح وعد بلفور "وثيقة دولية"، في معاهدات ما بعد الحرب، وضمن مقررات فرساي وسان ريمو، والمنظمة الدولية الجديدة، التي عُرفت باسم "عصبة الأمم"، وهو ما حدث بالفعل. فصدرت من العصبة قرارات تعطى بريطانيا حق الانتداب على فلسطين، وتعترف فيه بالتزام بريطانيا بتسهيل إقامة وطن قومي يهودي، في 24 يوليه 1922.

ومن ذلك، أن الحركة الصهيونية، ضغطت، وحرضت، لاختيار أول مندوب سامي بريطاني على فلسطين بحيث يكون يهودياً صهيونياً. وقد كان، في شخص الوزير هربرت صامويل (1879 ـ 1963)؛ والذي لم يبال بكرسي الوزارة في لندن، وأسرع لكي يخدم في فلسطين، وأثناء ولايته (1920 ـ 1925)، فعل كل ما كانت تريده الحركة الصهيونية، سواء من حيث فتح أبواب الهجرة على مصراعيها، وهو ما كانت تركيا قد قاومته، إلى حد كبير، في أوائل القرن، وإلى عام 1918، بل ورحَّلت، خارج فلسطين، عدة آلاف من اليهود، الذين كانوا يحملون جنسيات روسيا ودول الحلفاء، أثناء الحرب العالمية الأولى. كذلك سهَّل صامويل حصول الصناديق اليهودية المختلفة على الأراضي العامة، التي لم تكن مملوكة لأشخاص. وأخيراً فإنه استحدث من المجالس واللجان المشتركة ما أعطى للحركة الصهيونية مكانة الشريك الفعلي في إدارة فلسطين.

ومن ذلك أخيراً، التواطؤ بين صامويل والحركة الصهيونية في تعطيل تنفيذ مبدأ تقرير المصير، الذي دعا إليه الرئيس الأمريكي ويلسون، وأقره مؤتمر الصلح في فرساي، وميثاق عصبة الأمم. فقد كان من شأن تطبيق ذلك المبدأ، في ذلك الوقت، كما اقترحت لجنة كرين وكنج، التي أوفدها الرئيس الأمريكي ـ أحقية الفلسطينيين في الاستقلال بالبلاد. فقد كانوا يمثلون أغلبية تزيد على التسعين في المائة في ذلك الوقت (1919 ـ 1920). كان مجموع سكان فلسطين 750 ألفاً لم يتجاوز عدد اليهود بينهم ستين ألفاً. لذلك حرص الصهاينة على ألاّ يفتح أي نقاش، حول حق تقرير المصير، إلى أن يصبح عددهم معقولاً، في الأماكن التي خططوا أن تكون قلب دولتهم القادمة وأساسها.

وبالفعل ارتفع عدد السكان اليهود، خلال الانتداب البريطاني، أي بين عامي 1920 ـ 1947 من 56 ألفاً إلى 650 ألفاً ـ أي نحو 12 مرة، في حوالي ربع قرن. وزاد عدد المستعمرات من 50 مستعمرة إلى 259 مستعمرة، أي أكثر من خمس مرات، وارتفعت نسبتهم في مجموع السكان (1.9 مليون) من أقل من 3% إلى 31%. وقد جاء ثلاثة أرباع هؤلاء السكان اليهود عن طريق الهجرة، في عهد الانتداب، وليس نتيجة الزيادة الطبيعية، كما كان الحال بين السكان العرب.

وتكررت القصة نفسها مع ملكية الأرض. فقد بلغ ما تملَّكه اليهود، عشية الحرب العالمية الأولى عام (1914) 430 ألف دونم (الدونم يساوي ربع فدان) من مجموع مساحة فلسطين الكلية، البالغة 27 مليون دونم ـ أي 1.5 %. ولكن، خلال ربع قرن من الانتداب البريطاني، ازداد أربع مرات ـ أي إلى 6%، ولكن كانت الملكية، على الرغم من ضآلتها المئوية، في غاية الأهمية من ناحية الكيفية، لأنها سادت، حسبما خطط لها أرثر روبين في أوائل القرن. فقد كانت على شكل حرف N، بحيث يشكل الضلع الأيسر الاستيطان الساحلي بين يافا وحيفا، والضلع الأيمن الاستيطاني بين بحيرة طبرية وأعالي حوض نهر الأردن، والضلع الأوسط الاستيطاني عبر السهل الداخلي (مرج بن عامر).

إلى جانب السكان وملكية الأرض، كان هناك تكريس التنظيم الاقتصادي ـ الاجتماعي، لهذا الوجود اليهودي في فلسطين. من ذلك أن العاملين في قطاع الصناعة والتعدين والبناء، بين هؤلاء اليهود، وصلت نسبتهم إلى 37% من قوة العمل اليهودية. وهي نسبة مقاربة لمثيلتها في الدول الصناعية، في ذلك الوقت. ومن ثم نشأت حركة عمالية قوية، نظمت نفسها في اتحاد عام، أُطلق عليه اسم (الهستدروت)، وكان الهستدروت يضم بين أعضائه، العاملين في المستوطنات. بتعبير آخر، كانت معظم قوة العمل اليهودية، في فلسطين، منظمة في اتحادات نقابية أو تعاونية. وكان ذلك يعني أن الفرد اليهودي، في فلسطين، كان له سياج اجتماعي منظم يوفر له ضمانات الأمان والتأمين، بحيث لا يواجه صعوبات البيئة الجديدة وتحدياتها منفرداً.

في هذه الأمور كلها كانت المقارنة، مع الفلسطينيين العرب، هي مقارنة بمجتمع زراعي تقليدي. فقوة العمل الصناعية لم تتعد 12%، وعدد التعاونيات العربية لم يتعد 125 جمعية للإقراض، عدد أعضائها ستة آلاف، ورصيدها 27 ألفاً (مقارنة بأكثر من خمسة آلاف جمعية يهودية، يتجاوز أعضاؤها 355 ألفاً، ورصيدها عشرة ملايين جنيه) وقد انعكس ذلك في مستويات الدخل، فكان متوسط دخل الفرد اليهودي عام (1947) 141 جنيهاً مقابل 50 جنيهاً للفلسطيني، وبلغت قيمة ودائع اليهود في البنوك، 77 مليون جنيه مقابل 18 مليوناً للعرب.

كذلك نمت المؤسسات الخدمية اليهودية، في فلسطين، بشكل متسارع. ففي عام 1946 كانت نسبة القيد في المدارس الابتدائية 67% لليهود، مقابل 33% للعرب. وكان لدي اليهود 33 مدرسة فنية زراعية، مقابل 6 مدارس عربية. وبلغ ما أنفقته حكومة الانتداب على الصحة، مثلاً، في أواسط الأربعينات نحو نصف مليون جنيه، بينتما أنفق صندوق الصحة اليهودي، ضمن الهستدروت وحده، في العام نفسه 1.2 مليون جنيه.

والشيء نفسه يمكن أن يقال عن المؤسسات السياسية؛ فقد جاءت بعض هذه المؤسسات جاهزة التكوين، من أوروبا، على شكل تنظيمات حزبية، معظمها أحزاب يسارية. ولكن، إلى جانب هذه التنظيمات الحزبية، نظم اليهود في فلسطين، أنفسهم في شكل مجلس عام، له لجنته التنفيذية، التي تحدثت مع سلطات الانتداب البريطانية باسم يهود فلسطين، طبقاً لمرسوم بريطاني صدر في ذلك الصدد، عام 1926. وكان المرسوم يسمح للعرب بعمل الشيء نفسه. ولكن العرب رفضوا، لأن المرسوم كان يفترض أن المسلمين يشكلون مجلساً عاماً، والمسيحيين مجلساً آخر مستقلاً. وقد رفضوا مبدأ هذا التقسيم الطائفي، الذي ذكَّرهم بأيام السلطة العثمانية. وكانت النتيجة أن ظل العرب، لمدة طويلة، لا يتحدث باسمهم أو يمثلهم أحد تجاه سلطة الانتداب. وكانت أهمية هذا المجلس أنه خول حق جمع الضرائب للإنفاق منها على شؤون أبناء الملة، وهو الأمر الذي أتاح للمجلس العام اليهودي Va`AD LEUMI أن يكون له قاعدة موارد دائمة تمكنه من الإنفاق على الشؤون البلدية، والخدمية، في المدن، والقرى، والمستوطنات اليهودية. كذلك كان صك الانتداب يسمح بمنح الوكالة اليهودية صفة تمثيل اليهود، في الاشتراك مع سلطة الانتداب، في تقديم "النصح والتعاون" (ADVISING AND COOPERATING).

أمّا المؤسسات العسكرية للكيان الصهيوني، فقد بدأت نواتها، بمنطقة "الحراس"، في أوائل القرن. وفي عام 1920، أسس دافيد بن جوريون حزب "وحدة العمل" (احدوت هافوداه) الاشتراكي القومي. وفي عام 1930، أشرف على دمجه في حزب "العامل الشاب" (هبوعيل هتسعير)، ليؤلفا حزب "ماباي" الذي تولى هو زعامته، والذي كان العمود الفقري للوكالة اليهودية في قيام إسرائيل. والمهم أن معظم التنظيمات السياسية والنقابية الرئيسية كان لها أجنحتها العسكرية. وقد كان الجناح العسكري الرئيسي للمنظمات، التي أشرف عليها، أو قادها، دافيد بن جوريون هو الهاجاناة. ويذهب كثير من المراقبين إلى أن قرار الحرب، أو استخدام القوة، من جانب الحركة الصهيونية، لم يُتخذ في منتصف الأربعينيات، وإنما قبل ذلك، بنحو عشرين عاماً، أي في منتصف العشرينيات، وبعد الاحتجاجات الجماهيرية العربية، في أعقاب وعد بلفور، وفرض الانتداب البريطاني على فلسطين، وتعرض بعض المستوطنين اليهود لأعمال العنف. وهناك من يذهب إلى أن استخدام القوة المسلحة لم يكن رد فعل لأي تحرش عربي، وإنما هو سابق على ذلك، ومن صميم العقيدة الصهيونية. فهي لا تبالي منذ البداية، وبطبيعتها، بضرورة القبول العربي المسبق لأي من الخطط، والسياسات الصهيونية، في فلسطين. ومن هنا كانت ندرة لجوئها للتفاوض مع عرب فلسطين أنفسهم في أي قضايا محورية. لقد كانت الحركة الصهيونية تلجأ دائماً إلى سلطة أو قوة أو "محكمة أعلى"، مثل قيصر ألمانيا، أو سلطان تركيا، أو إلى بريطانيا، أو الولايات المتحدة الأمريكية، أو عصبة الأمم. وفي الوقت نفسه، قرنت الحركة الصهيونية سعيها، إلى دعم أطراف خارجية قوية، بالاستعداد العسكري للتعامل مع العرب. بتعبير آخر بدا كما لو كانت "الدبلوماسية" الصهيونية، منذ بداية الحركة الصهيونية قد خُصصت للتعامل مع قوى خارجية عظمى، بينما خُصصت "العسكرية" الصهيونية للتعامل مع القوى الفلسطينية العربية المحلية.

وكانت الحركة الصهيونية حريصة على تدريب أكبر عدد ممكن من المجندين اليهود، في صفوف الجيوش الغربية، وخاصة البريطانية. وهذا ما حدث، في الحربين العالميتين الأولى والثانية. فكان عماد تنظيم الهاجاناة نحو ثلاثين ألف مقاتل من الذين تلقوا تدريباً عملياً، واكتسبوا خبرات قتالية في صفوف الحلفاء. كذلك حرص بن جوريون على تدريب وتسليح صف ثانٍ، من الشباب الصهيوني، فيما سمى "بشرطة المستعمرات اليهودية" (JEWISH SETTLEMENT POLICE). ومع منتصف الأربعينيات، كان قوام هذه الشرطة حوالي عشرين ألف مجند. وبذلك كان في حوزة الوكالة اليهودية، والمنظمة الصهيونية، وحزب الماباي، وهي كلها مؤسسات رئيسية وسيطة، تحت إمرة بن جوريون، قوة عسكرية مدربة، ومسلحة، على أعلى مستوى، حجمها خمسون ألف مقاتل. هذا عدا الميليشيات والتنظيمات العسكرية للأحزاب اليهودية الأخرى، على يسار ويمين، التنظيمات الصهيونية الرئيسية.

وبذلك اكتسب الكيان اليهودي الصهيوني، في فلسطين، معظم مقومات المجتمع وسمات الدولة الحديثة في النصف قرن، الذي تلا المؤتمر الصهيوني الأول. وتبلورت هذه المقومات والسمات، ونمت بوتيرة متسارعة، في العقود الثلاثة للانتداب. ولم يكن قد بقى إلاّ إعلان الدولة. وهو الأمر الذي بدأ بقرار الأمم المتحدة لتقسيم فلسطين (القرار الرقم 181) لعام 1947، ثم إعلانه رسمياً من تل أبيب في 14 مايو 1948.

4. قرار تقسيم فلسطين: 1937 ـ 1947

على غير ما يُظَن، فإن فكرة تقسيم فلسطين، لم تظهر للوجود أول مرة، بقرار مجلس الأمن الدولي الرقم 181 في نوفمبر 1947. بل سبقه مشروع قدمته إحدى اللجان البريطانية الملكية برئاسة اللورد بيل (Peel) في يوليه 1937، في أعقاب نشوب الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936. كانت هذه الثورة، التي ارتبطت باسم زعيمها، عزالدين القسام، أقوى انفجار عربي خبرته سلطة الاحتلال البريطانية، والمستوطنون اليهود معاً. ولذلك سارعت بريطانيا بإرسال تلك اللجنة الملكية لتقصي الحقائق، وإصدار توصياتها. وبالفعل هدأت الثورة مؤقتاً إلى أن انتهت اللجنة من عملها.

وبمجرد صدور تقرير اللجنة بتقسيم فلسطين، بين العرب واليهود، وترحيل العرب من القسم اليهودي، وضم القسم العربي إلى شرق الأردن، انفجرت الثورة الفلسطينية الكبرى من جديد، واستمرت إلى عشية الحرب العالمية الثانية ـ أي إلى عام 1939. ولكن المهم، في هذه النقطة، هو أن تقرير اللجنة الملكية البريطانية كان أول اعتراف رسمي بريطاني بمقولة "دولة يهودية"، وليس مجرد وطن قومي يهودي، كما جاء في وعد بلفور. وعلى الرغم من أن العرب قد عارضوه بشده، واستأنفوا أعمال المقاومة المسلحة، وعلى الرغم من إعلان بريطانيا، في حينه، تجميد توصيات لجنة بيل، وطلبها إلى الزعماء العرب، من الدول المجاورة، التدخل لتهدئة الثورة الفلسطينية، إلاّ أن الحركة الصهيونية، كذلك، رفضت تقرير اللجنة الملكية.

ففي المؤتمر الصهيوني العشرين، المنعقد في زيورخ عام 1937، لقي مشروع قرار التقسيم البريطاني معارضة شديدة، وخاصة من الأعضاء الأمريكيين، الذي بدأ نفوذهم يشتد في هذه المؤتمرات الصهيونية، وفي منظماتها، نتيجة ازدياد أعدادهم في صفوف الحركة، ونفوذهم المالي، وتأثيرهم على صانع القرار الأمريكي. وكانت المعارضة، في زيورخ، لمشروع قرار التقسيم؛ لأنه يعني التخلي عن بقية ما كان يعتبره غلاة الصهيونية "أرض إسرائيل" والقبول بجزء منها فقط. ولكن الحركة الصهيونية، وخاصة الفريق الذي كان يتزعمه بن جوريون، رأت قبول المشروع لأسباب تكتيكية، أهمها عدم الاصطدام ببريطانيا في تلك المرحلة، التي أوشكت فيها على دخول الحرب ضد ألمانيا. ومنها إلقاء تبعية رفض القرار على كاهل العرب، وتزكية الخلاف بينهم وبين بريطانيا، بحيث يستمر صدامها المسلح، والذي ينهكهما لمصلحة الحركة الصهيونية في نهاية المطاف.

كذلك كان من رأي بن جوريون أن قبول مشروع التقسيم، وقيام دولة يهودية معترف بها، يمثل خطوة حاسمة في مسيرة الحركة الصهيونية. وفي خطابه أمام مؤتمر حزب ماباي، قال بن جوريون "إن تحقيق الدولة اليهودية يمر بمرحلتين: الأولى مرحلة البناء وإرساء القواعد. وتستمر من عشر إلى خمس عشرة سنة. وهي مقدمة إلى المرحلة الثانية التي هي مرحلة التوسع (EXPANSION). وغاية المرحلتين معاً تجميع المنفيين، من الشتات، في كل أرض إسرائيل". ويكشف بن جوريون في هذه الكلمات عن إحدى ركائز الصهيونية منذ بدايتها، وهي أخذ ما يمكن أخذه "الآن"، والمطالبة، أو العمل على الحصول على، المزيد فيما بعد.

وبعد عشر سنوات من قرار اللجنة الملكية، بتقسيم فلسطين إلى دولة يهودية تحتوى أكثر من نصف فلسطين، وإلى مناطق عربية تضم الجزء الباقي إلى شرق الأردن، جاء قرار تقسيم آخر يكاد يكون مشابهاً، في 26 نوفمبر 1947، ولكن هذه المرة من خلال أهم منظمة دولية، وهي الأمم المتحدة، التي تأسست بعد الحرب العالمية الثانية. ففي سنوات تلك الحرب (1939 ـ 1945) حدثت تطورات كثيرة مهمة، كان من أهمها ما تعرض له اليهود من اضطهادات، ومحارق على يد ألمانيا النازية العنصرية، بقيادة أدولف هتلر؛ وانطوت على مآس إنسانية بكل المقاييس. ولكن، كالعادة، وظفت الحركة الصهيونية تلك المأساة اليهودية الجماعية لمصلحة مشروعها في فلسطين؛ فضغطت على بريطانيا لفتح أبواب الهجرة، أمام ضحايا النازية، والفارين من محارقها. وكانت بريطانيا قد أغلقت باب الهجرة تقريباً لتهدئة العرب الفلسطينيين، بعد ثورتهم الكبرى (1936 ـ 1939). وهكذا تضاعف عدد اليهود في فلسطين مرة بين عامي 1930 و1935: من 165 ألفاً إلى 355 ألفاً. ثم تضاعف هذا العدد مرة أخرى إلى 650 ألفاً مع نهاية الحرب العالمية الثانية.

وكان بن جوريون، كمسؤول عن الوكالة اليهودية، قد قرر منذ بداية الثورة العربية الكبرى عام 1936، ورؤيته للقدرات العربية القادرة على المقاومة المسلحة أن يضاعف من بناء القدرات الصهيونية المسلحة بشكل منهجي، كان منه تدريب الشبيبة اليهودية على القتال، في صفوف الحلفاء، أثناء الحرب العالمية الثانية. وكذلك قام ببناء قاعدة للصناعات العسكرية اليهودية في فلسطين، واستعد للقيام بعمليات عسكرية، ضد العرب، لترحيلهم بالقوة من المناطق، التي توقع أن يشملها قرار تقسيم جديد، بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية، القاعدة الجديدة للصهيونية العالمية. أكثر من ذلك خطَّط لصدام مسلح مع قوات الانتداب البريطاني في فلسطين، وهو ما حدث بالفعل، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية مباشرة، فقد شعر أن الوجود الصهيوني قد وصل إلى حد من القوة، لا يحتاج فيه إلى استمرار حماية الانتداب البريطاني، خاصة، أن هذه الأخيرة كانت قد بدأت تأخذ الدول العربية، الحديثة الاستقلال، في حسبانها، وهي تتعامل مع الأطراف المختلفة في فلسطين. وكان تأسيس الجامعة العربية، بمباركة بريطانيا، عام 1945، رمزاً لتغير الحسابات البريطانية في عالم ما بعد الحرب.

على أي الأحوال، عجَّل بن جوريون، بشن حرب عصابات ضد القوات البريطانية، كما كثّف العرب الفلسطينيون من احتجاجاتهم ضد بريطانيا، وهو الأمر الذي دفعها إلى إحالة القضية برمتها إلى الأمم المتحدة عام 1947. وأرسلت المنظمة الدولية، بدورها، لجنة تقصي حقائق، عادت بتقرير يشبه تقرير اللجنة الملكية عام 1937 (Peel)، أوصت فيه بتقسيم فلسطين إلى دولتين يهودية، وعربية. وتبنت كل من الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد السوفيتي، مشروع التقسيم. وفي 29 نوفمبر 1947 صدر القرار الرقم 181. وأعلنت بريطانيا عزمها على الانسحاب من فلسطين، في 15 مايو 1948. وتكرر سيناريو 1937 نفسه، رفض العرب واليهود قرار التقسيم. ولكن الرفض اليهودي جاء خافتاً ومتأخراً، بينما جاء الرفض العربي مبكراً وصاخباً. وبدا للعالم الخارجي كما لو أن العرب هم الذين يعدون العدة لافتراس الدولة اليهودية المقترحة من الأمم المتحدة. وبدا اليهود كما لو كانوا مغلوبين على أمرهم، ولكنهم أعلنوا أنهم سيدافعون عن "دولتهم" بالسلاح، إذا استلزم الأمر ذلك!