إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / الصهيونية




مناحم بيجين
موشي ديان
هنري كيسنجر
وعد بلفور
إسحاق رابين
إسحاق شامير
تيودور هرتزل
جولدا مائير
حاييم وايزمان
ديفيد بن جوريون
زئيف جابوتنسكي فلاديمير

أبناء ونسل إبراهيم عليه السلام

مناطق الانتداب البريطاني ـ الفرنسي
مشروع الوكالة اليهودية
مشروع برنادوت لتقسيم فلسطين
إسرائيل والأرض المحتلة 1967
إسرائيل عام 1949
الاحتلال اليهودي لفلسطين
تكوين المملكة المتحدة
تقسيم لجنة وودهيد البريطانية (أ)
تقسيم لجنة وودهيد البريطانية (ب)
تقسيم تيودور هيرتزل 1904
تقسيم فلسطين بين الأسباط
فلسطين في القرن الأول ق.م



تقديم

المبحث الثامن

إعلان قيام إسرائيل عام 1948، وتوسعاتها المتتالية والمنتظرة

أولاً: الحرب العربية ـ الإسرائيلية الأولى

خلال الفترة من 29 نوفمبر 1947 إلى 15 مايو 1948 (موعد خروج بريطانيا)، لم ينتظر الصهاينة؛ وإنما بادروا بترويع العرب الفلسطينيين، ودفعهم إلى الهرب من المدن والقرى الفلسطينية، التي كان قرار التقسيم الرقم 181، قد ضمها "للدولة اليهودية" المقترحة. وانتشرت أخبار هذا الترويع، الذي مارسته قوات الهاجاناة، والبالماخ، وشتيرن، وغيرها من ميليشيات الحركة الصهيونية الرسمية، أو التنظيمات السياسية الأكثر تعصباً، وتطرفاً. من أمثله ذلك، الإرهاب الصهيوني للمدنيين الفلسطينيين، مذبحة "دير ياسين"، وهي قرية عربية تقع في نقطة إستراتيجية، على الطريق بين القدس الغربية (اليهودية) وتل أبيب. اجتاحتها قوات شتيرن، وأعطت السكان مهلة ساعة لمغادرتها، صباح يوم الحصار. وقبل انتهاء الساعة، كانت القوات تقتل كل من وجدته في الشوارع، وداخل منازل القرية، بما في ذلك النساء والأطفال. وانتشرت أخبار المذبحة في كل مكان في فلسطين، وساعد الصهاينة على ترويج أخبارها، على الرغم من التأثير الإعلامي السلبي عليهم. فقد كان هدفهم الإستراتيجي هو ترحيل، أو طرد، أكبر عدد من الفلسطينيين، على الأقل، إلى خارج الحدود المرسومة للدولة اليهودية؛ إن لم يكن من كل فلسطين. (اُنظر جدول بيان بحجم العمليات الإرهابية للمنظمات الصهيونية)

والمهم أن أخبار المذابح، فضلاً عن إحساس الرأي العام العربي خارج فلسطين بالغضب والألم، وعدم رضاء العرب أجمعين، شعوباً وحكومات عن قرار التقسيم، دفع جامعة الدول العربية إلى اتخاذ قرار إرسال جيوش عربية إلى فلسطين، بمجرد انتهاء الانتداب البريطاني رسمياً، في 15 مايو 1948. وكان واضحاً أن حماس الشارع العربي لإرسال الجيوش العربية لإنقاذ فلسطين أقوى من أن توقفه أي حسابات عقلانية لموازين القوى. وكان من الواضح، كذلك، أن اعتداد العرب بحقوقهم الشرعية، وكثرتهم العددية تعطي انطباعاً زائفاً بالثقة في النفس، وتستخف بالعدو الصهيوني في إسرائيل. لقد كانت هناك فجوة معلومات شديدة، لدى الرأي العام العربي، بل ربما لدى الحكومات والجيوش العربية، عن الأوضاع اليهودية في فلسطين. وكان الاعتقاد السائد هو أن العملية لن تتعدى أن تكون "نزهة عسكرية"‍‍‍‍!

‍وغادر آخر معتمد سامي بريطاني، السير آلان كننجهام فلسطين نهائياً، مساء يوم 14 مايو 1948، وفي اللحظة نفسها، التي أبحر فيها المندوب السامي، أعلن دافيد بن جوريون ميلاد دولة إسرائيل. واعترفت الولايات المتحدة الأمريكية بالدولة الجديدة من البيت الأبيض، بعد إعلانها بست دقائق، وهو الأمر الذي كان له وقع الصاعقة على الجمعية العامة للأمم المتحدة، بما في ذلك المندوب الأمريكي نفسه، الذي لم يُحَط علماً بذلك. وفي اليوم التالي 15 مايو 1948، سارع الاتحاد السوفيتي، كذلك إلى إعلان اعترافه. فاكتسبت إسرائيل شرعية دولية أكيدة من جانب كل من: الأمم المتحدة (مركز التقسيم)، والولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد السوفيتي.

وعلى الرغم من ذلك، دخلت طلائع جيوش خمس دول عربية إلى فلسطين، وهي مصر، والأردن، وسورية، ولبنان، والعراق كما كان مخططاً، أي يوم 15 مايو 1948. ومع المقاومة الفلسطينية، والمتطوعين العرب، الذين كانوا قد سبقوا الجيوش العربية بعد أشهر، استطاع العرب تحقيق سلسلة من الانتصارات السريعة، في الأسبوعين الأولين للحرب. من ذلك وصول القوات المصرية، في هجوم سريع، إلى مسافة 22 ميلاً فقط جنوبي تل أبيب، متفادية المستوطنات المنعزلة في النقب. وهاجمت القوات السورية وادي الأردن، ولكنها اضطرت للانسحاب تحت ضغط المقاومة الشديدة عند مستوطنة "دجانيا".

وبسبب حرج الموقف الإسرائيلي في البداية، طالبت أمريكا مجلس الأمن، بوقف إطلاق النار، وهو ما قبلته إسرائيل، يوم 24 مايو 1948؛ ولم يوافق عليه العرب قي البداية، ولكنهم وافقوا عليه بعد 17 يوماً، عندما أُنهكت جيوشهم بسبب حرب العصابات الصهيونية، التي قطعت خطوط الإمدادات والمواصلات بين الجيوش وبلدانها. وبقبول العرب وقف إطلاق النار، يوم 11 يونيه 1948، عينت الأمم المتحدة وسيطاً دولياً هو السويدي الكونت برنادوت، الذي اتخذ من جزيرة رودس مقراً له، وسعي لإيجاد تسوية مقبولة للأطراف المتحاربة. ولم يكن الوضع مريحاً لأي من الأطراف. فالجيوش العربية اكتشفت صعوبة مهمتها، وأن الأمر لم يكن نزهة على الإطلاق، ولم تحقق هدف القضاء على الدولة اليهودية الوليدة. ومن ناحية أخرى نجحت هذه الجيوش في احتلال ثلث المناطق التي كانت مخصصة للدولة اليهودية طبقاً لقرار التقسيم الرقم (181 لسنة 1947). ففي الشمال كان السوريون محصنين في الضفة الغربية للأردن، ويقذفون بسهولة نسبية، المستوطنات الواقعة أسفل مرتفعات الجولان. وفي الوسط كان العراقيون في إحدى النقاط، على بعد عشرة أميال فقط، من ساحل البحر المتوسط. أي أن الوضع الحرج لكل الأطراف كان مناسباً للوسيط الدولي برنادوت لطرح أفكار توفيقية وسط.

وجاءت خطة برنادوت بإعادة تقسيم فلسطين، وضم الأجزاء العربية لشرق الأردن، ثم إنشاء اتحاد فيدرالي بين الأردن بضفتيه وإسرائيل. وقد رفضت كل الأطراف هذه المقترحات. ونشبت الحرب من جديد، في 8 يوليه 1948. ولكن إسرائيل كانت قد استفادت، فائدة قصوى، من الهدنة التي قاربت شهراً. فضمت 25 ألف محارب متطوع من يهود، وغير يهود، من الخارج وحصلت على دبابات ومدافع وأسلحة خفيفة.

وأخذت إسرائيل المبادرة، وخلال 38 يوماً، أي قبل إقرار الهدنة الثانية، استطاعت تحقيق انتصارات مهمة قي الشمال والوسط. فاستولت على 201 من مجمل 219 قرية عربية تقع قي نطاق الدولة اليهودية، فضلاً عن 14 مدينة عربية، منها:(عكا، وصفد، والناصرة، وطبرية، وحيفا، وبيسان، ويافا، والمجدل، والشدود، واللد، والرملة، والقدس الغربية) وفي المقابل، استولت القوات العربية على 14 موقعاً يهودياً فقط، بما فيها الحي اليهودي في القدس الشرقية. وكانت هذه، باستثناء مستوطنة واحدة، تقع في المناطق المخصصة أصلاً للعرب في قرار التقسيم.

وتقررت هدنة ثانية قي 18 يوليه 1948. ثم نشبت الحرب مجدداً في 15 أكتوبر 1948، بسبب رفض القوات المصرية السماح لقوافل الإمدادات بالوصول إلى المستوطنات المنعزلة في جنوب. وبالفعل ركزت القوات الإسرائيلية على الجهة الجنوبية في الجولة الثالثة، بعد أن كانت قد حققت انتصاراتها في الشمال والوسط خلال الجولة الثانية. واستمرت القوات الإسرائيلية، في انتصاراتها على القوات المصرية، وإجبارها على الانسحاب، إلى أن وصلت إلى الحدود الدولية المصرية، واخترقتها في ديسمبر 1948، وأصبحت على مقربة من قاعدة العريش المصرية الرئيسية. وهنا تدخلت بريطانيا، ووجهت إنذاراً للقوات الإسرائيلية بالانسحاب فوراً من الأراضي المصرية، تنفيذاً لالتزامها بأحكام معاهدة 1936 " للصداقة والتحالف " بين مصر وبريطانيا. وانسحبت القوات الإسرائيلية فعلاً، بعد محاولات للمماطلة والتسويف. وفي 7 يناير 1949، توقف القتال مع مصر وانتهت بذلك الحرب العربية ـ الإسرائيلية الأولى، والتي استغرقت، في جانبها النظامي، حوالي سبعة أشهر، من 15 مايو 1948 إلى 7 يناير 1949.

وقد أدهش انتصار إسرائيل على جيوش خمس دول عربية العالم، بل وأدهش اليهود أنفسهم. وقد كلفتها تلك الحرب أربعة آلاف قتيل من المحاربين، وألفين من المدنيين. ولكنها كسبت شرعية إضافية، وأراض إضافية لم تكن تحلم بالاستيلاء عليها بهذه السرعة. وضمن هذا الإنجاز الإسرائيلي المبكر التخلص من حوالي 750 ألف فلسطيني أي أكثر من عدد كل السكان اليهود، الذين لم يتجاوزوا في ذلك الوقت 650 ألفاً. وقد أصبح هؤلاء الفلسطينيين هم نواة اللاجئين، الذين ازداد عددهم، مع كل حرب عربية إسرائيلية قادمة (1956، 1967، 1973). وأصبح ذلك هو النمط المعتاد في إدارة الصراع العربي ـ الإسرائيلي، خلال الخمسين عاماً التالية.

كانت إسرائيل هي عادة صاحبة المبادرة في الحروب والاشتباكات المسلحة، باستثناء حرب أكتوبر 1973، وكانت أهم ملامح الإدارة الصهيونية للصراع، كما يأتي:

ثانياً: جدلية السكان والأرض والعقيدة في مائة عام 1897 ـ 1997

في عام 1905 زار الزعيم اليهودي الروسي، مناحيم أوشكين (1863 ـ 1941) فلسطين. وبعد العودة، كتب منشوراً بعنوان " برنامجنا " أشار فيه إلي أن هناك ثلاثة طرق للاستيلاء على الأرض في أي بلد:

الأولى: "الشراء" طبقاً لقوانين العرض والطلب المعتاد.

والثانية: "البيع القسري" أي بنزع الملكية لأغراض عامة.

والثالثة: "الاستيلاء بالعنف" على أرض الغير.

وقد لجأت الحركة الصهيونية إلى الطرق الثلاثة تباعاً، خلال المائة عام التالية للمؤتمر الصهيوني الأول (1897)، ففي السنوات العشرين الأولى، حين كانت فلسطين ما تزال تحت الحكم العثماني، اتبعت الحركة الصهيونية الطريقة الأولى، أي الشراء من السكان العرب، طبقاً لقوانين العرض والطلب. ولكن ملكيتها، طبقاً لهذه الطريقة المسالمة، لم تتجاوز، مع عام (1918) 440 ألف دونم (أي 110 ألف فدان).

ولكن في السنوات الثلاثين التالية (1918ـ 1948)، أي في ظل الانتداب البريطاني، وبحمايته وتشجيعه، لجأت الحركة الصهيونية إلى الطريقة الثانية، إضافة إلى الطريقة الأولى. فاستمرت في شراء الأرض ممن قبل البيع من الفلسطينيين، ولكنها، كذلك، استلمت أراض حكومية عامة من سلطات الانتداب، أو جعلت هذه الأخيرة تتملكها من الأهالي الفلسطينيين بالبيع القسري. وخلال العقود الثلاثة المذكورة، استولت الحركة الصهيونية على 1.2 مليون دونم (300.000 فدان )، أي ثلاثة أمثال ما كانت قد حصلت عليه قبل الانتداب.

ولكن بطريق الحرب، استطاعت إسرائيل أن تستولي على 21 مليون دونم، في أقل من عام واحد (ديسمبر 1947ـ ديسمبر 1948). وكانت الطريقة الثالثة هذه هي أربح الطرق، وأسرعها، فقد حصلت في عام واحد على عشرة أمثال ما كانت حصلت عليه، في ثلاثين عاماً.

ومن هنا أُعيد تشكيل العقيد الصهيونية، في جدلية مترابطة بين الأرض والسكان والحرب. فجلب مزيد من السكان، يعطي القدرة على التجنيد والحشد، ويزيد الطلب على الأرض. ومن خلال الحرب يتم الحصول على الأرض المطلوبة، ويزيد النشاط الاقتصادي المصاحب للحرب وللاستيلاء على الأرض؛ ويتبع ذلك زيادة في الطلب على عمالة جديدة وجنود جدد، فيتم جلبهم عن طريق الهجرة. وهكذا.

ثالثاً: جدلية "المهاجر" بمال "القادر" إلى أرض "الآخر"

تجاهلت الأيديولوجية الصهيونية الفلسطينيين أصحاب الأرض تماماً. بل وروجت، في العقود الأولى، مقولة "شعب بلا أرض يسعى إلى أرض بلا شعب". وهكذا صُوّر ليهود العالم، وغيرهم، في الغرب، أنهم شعب مشرد مضطهد في كل مكان يبحث عن ضالته المنشودة في فلسطين، التي هي أرض بلا شعب.

وعلى الرغم من أن عتاة الصهيونية كانوا يدركون كذب هذه المقولة، إلاّ أنها كانت مفيدة، وأخاذة، لتعبئة الرأي العام، وتصوير الأمر كما لو كان فقط، مجرد إرسال اليهود التعساء، من أوروبا إلى أرض فقراء في فلسطين، يصلحونها ويعمرونها، ويعيشون فيها. وكان هذا الانتقال من أوروبا، أو من أي مكان آخر يحتاج إلى أموال. وهنا لجأ قادة الحركة الصهيونية إلى أغنياء اليهود، وعلى رأسهم عائلة روتشيلد الشديدة الثراء، بفرعيها الفرنسي والبريطاني، كذلك لجأوا إلى الطبقة الوسطى المهنية الأعرض، وأخيراً إلى كل من يستطيع حتى من بسطاء اليهود.

وحينما اتضح لعدد كبير من اليهود، وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية، وفرض الانتداب أن فلسطين بها شعب فعلاً، وأن هؤلاء الفلسطينيين يمثلون أكثر من 90 في المائة من السكان، ويملكون أكثر من 80 في المائة من الأرض، بصورة طبيعية أصلية، اتضح للكثيرين زيف مقولة " شعب بلا أرض يسعى لأرض بلا شعب ". ولأن كشف هذا الزيف لم يوقف المشروع الصهيوني، أو يبطئ من مسيرته، فقد استحدث أحد مفكري اليهود، وهو "ألفرد ليلنتال" مقولة أخرى لوصف المشروع الصهيوني بأنه توليفة "المهاجر" (اليهود طبعاً) بأموال "القادر" (اليهودي الثري الذي لا يهاجر بنفسه) للاستيلاء على أراضي الآخر الفلسطيني (سواء بالبيع الطوعي، أو القسري، أو الاستيلاء بالقوة).

رابعاً: جدلية يهود الشتات والعائدين

كانت الحركة الصهيونية في أواسطها، بين عامي 1935 و1965، تنتقد تقاعس يهود الشتات في "العودة" إلى الوطن الجديد، والدولة الجديدة، التي بُعثت، أي إسرائيل. وكانت تلح في إشعار هؤلاء اليهود، وخاصة في الغرب، بالذنب لعدم "العودة"، التي وضع لها آباء الدولة اليهودية قانوناً خاصاً، منذ عام 1949/ 1950، يتيح لأي "يهودي" تطأ قدماه أرض فلسطين ـ إسرائيل ـ اكتساب الجنسية فوراً، ومعها كل حقوق المواطنة.

وكان هذا الشعور بالذنب، عند يهود الشتات، يدفع قلة منهم بالفعل إلى العودة. أمّا الذين لم "يعودوا" لتمسكهم بأوطانهم، الأكثر تفوقاً ورخاء وحرية وأماناً، فإنهم كانوا يحاولون التقليل من الشعور بالذنب بتكرار الزيارات، والإغراق بالتبرعات، والانخراط في الجماعات الصهيونية والتنظيمات اليهودية في الشتات، أي في أوطانهم الأصيلة، ويكوّنون بذلك جماعات ضغط قوية للغاية تناصر إسرائيل.

وقد خفت حدة انتقال اليهود في الشتات، بعد حرب 1967، والانتصار الكبير الذي أحرزته إسرائيل على الجيوش العربية. فمن ناحية، أصبح اليهود، في كل العالم، فخورين بالإنجاز الإسرائيلي الباهر. وأصبح معظمهم مشدوداً لإسرائيل، يهاجر إليها أو يقضى فيها بعض الوقت، أو أجازته العائلية. وأيقنت إسرائيل أن يهود الشتات الغربيين يؤدون لها خدمات جليلة في بلدانهم، سياسياً، واقتصادياً، وتكنولوجياً، واستخباراتياً.

وفي السنوات العشرين الأخيرة، بدأت الحركة الصهيونية تركز على اليهود، في البلدان غير الغربية، من إثيوبيا إلى الصين، إضافة إلى المستودع الطبيعي الأكبر، وهو اليهود في روسيا، والاتحاد السوفيتي السابق، وعلى الرغم مما يسببه هؤلاء المهاجرون من المشكلات في الاستيعاب، وعلى الرغم مما يعانونه هم أنفسهم من صعوبات العيش والاضطهاد على أيدي اليهود الغربيين (الاشكناز)، إلاّ أن استمرار تلك الجدلية بين يهود الشتات والعائدين والأسبقين، تحدث توتراً وديناميكية خلاقة داخل الكيان الصهيوني في إسرائيل.

خامساً: اللوبي الصهيوني في بلدان "الشتات"

يرتبط بالنقطة السابقة ما أصبح شائعاً عن " اللوبي اليهودي "، في معظم بلدان العالم التي يوجدون فيها، خاصة اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة الأمريكية، والتي أصبحت "الأيباك" (أو اللجنة الأمريكية ـ الإسرائيلية للشؤون العامة) American – Israeli Public، Affairs Committee – APIAC وهي لجنة تنسيق بين مئات المنظمات اليهودية الأمريكية، تمارس نشاطها، في الدفاع عن الحقوق اليهودية والإسرائيلية، بوصفها جزءاً لا يتجزأ من "المصالح القومية الأمريكية" فهي، بهذا المعنى، تعد كل ما هو في صالح إسرائيل هو كذلك في صالح الولايات المتحدة الأمريكية.

بدأ اللوبي اليهودي في أمريكا، على استحياء، خلال الحرب العالمية الأولى. ولكن بفضل شخصية القانوني اليهودي البارز، لويس برانديز، الذي أصبح قاضياً في المحكمة العليا، نما هذا اللوبي بشكل مطرد، حتى أصبح من أقوى جماعات الضغط، بعد الحرب العالمية الثانية، ثم أقواها على الإطلاق في العقدين الآخرين (الثمانينيات والتسعينيات). ويقال مثلاً، على سبيل المفارقة أن رئيس وزراء إسرائيل، بنيامين نتانياهو، يحكم بأغلبية صوت واحد في الكنيست الإسرائيلي؛ ولكنه يتمتع بأغلبية 85 صوتاً (من مائة صوت) في مجلس الشيوخ الأمريكي. وهذه الملاحظة الساخرة هي للدلالة على السهولة التي يوقع بها هذا العدد من أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي على أي طلب لإسرائيل، ومن دون مناقشة. وفي ذلك قد يتصرف أعضاء الكونجرس ضد رغبة الرئيس الأمريكي نفسه، وضد توجهات وزارة الخارجية الأمريكية.

وتعود قوة اللوبي اليهودي ـ الصهيوني في الولايات المتحدة الأمريكية، ليس إلى قوة اليهود العددية بقدر ما هي للتنظيم والكيف. فعلى الرغم من أن عدد اليهود، في الولايات المتحدة الأمريكية، لا يتجاوز ستة ملايين، من بين أكثر من 260 مليون أمريكي، إلاّ أنهم الأكثر تبرعاً للأحزاب والمرشحين، والأكثر ذهاباً وانتظاماً، والتزاماً، بالتصويت في كل انتخابات عامة. وفي كل هذه المتغيرات، فإنهم يمثلون ضعف المتوسط العام للمجتمع الأمريكي. فإذا كان متوسط ما يتبرع به الأمريكي غير اليهودي مائة دولار، فإن اليهودي يتبرع لمرشحه في المتوسط بضعف هذا المبلغ، أي مائتي دولار. وإذا كانت نسبة من يقرأون الكتب والمجلات الجادة هي 20 بالمائة في المجتمع الأمريكي ككل، فإنها بين اليهود تصل إلى 40 في المائة، وهكذا. ومن ثم فإن معظم مرشحي الكونجرس، يعملون ألف حساب للأصوات اليهودية، ويتقربون لأصحابها.

وما يصدق على اللوبي اليهودي في أمريكا، يصدق على اللوبي اليهودي، في كل الديموقراطيات الغربية: بريطانيا، وفرنسا، وهولندا، والدول الاسكندنافية، وإن كانت ليست بقوة اللوبي اليهودي في أمريكا. والمتتبع لمسار ومسيرة الحركة الصهيونية، خلال القرن الماضي، لابد أن يُلاحظ كيف انتقل مركز ثقلها من شرق أوروبا، في أواسط القرن التاسع عشر، إلى وسط أوروبا (ألمانيا والنمسا) في أواخر القرن التاسع عشر، إلى بريطانيا في الربع الأول من القرن العشرين، إلى أمريكا في بقية القرن العشرين. أي أن الحركة كانت تشم اتجاه الريح في النظام الدولي، وكما اتجهت الريح غرباً، اتجهت معها بل وسبقتها الحركة الصهيونية غرباً