إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / الصهيونية




مناحم بيجين
موشي ديان
هنري كيسنجر
وعد بلفور
إسحاق رابين
إسحاق شامير
تيودور هرتزل
جولدا مائير
حاييم وايزمان
ديفيد بن جوريون
زئيف جابوتنسكي فلاديمير

أبناء ونسل إبراهيم عليه السلام

مناطق الانتداب البريطاني ـ الفرنسي
مشروع الوكالة اليهودية
مشروع برنادوت لتقسيم فلسطين
إسرائيل والأرض المحتلة 1967
إسرائيل عام 1949
الاحتلال اليهودي لفلسطين
تكوين المملكة المتحدة
تقسيم لجنة وودهيد البريطانية (أ)
تقسيم لجنة وودهيد البريطانية (ب)
تقسيم تيودور هيرتزل 1904
تقسيم فلسطين بين الأسباط
فلسطين في القرن الأول ق.م



تقديم

المبحث العاشر

علم النكبات العربية، دروس وعبر

مع 29 أغسطس 1997، كان قد مر مائة عام على انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل السويسرية. في أعقاب المؤتمر الذي استمر ثلاثة أيام، وقال تيودور هيرتزل: "إنني في مؤتمر بـازل قد خلقتُ الدولة اليهودية، ولكنني لم اجرؤ أن أقول ذلك علناً، وإلاّ ضحك العالم ساخراً مني، بما في ذلك أغلبية اليهود، ربما في خلال خمس سنوات، وبالقطع خلال خمسين عاماً سيدرك العالم وأغلبية اليهود، أنني لم أكن أهزل، ولن يضحكوا ساخرين مني عندئذ".

وبالفعل قبل أن تكتمل المدة الزمنية القصوى، التي حددها هيرتزل، وهي خمسون عاماً، كانت الدولة اليهودية قد ولدت بالفعل، وأُعلن هذا الميلاد رسمياً، في قرار الأمم المتحدة عام 1947، تقسيم فلسطين القرار الرقم (181). إن الجدية التي أخذ بها الصهيونيين الأوائل حلمهم ـ تخطيطاً وعملاً وتنفيذاً ـ كان يقابلها غفلة عربية ـ إسلامية عامة، كانت أغلبية العرب والمسلمين، إمّا تغط في نوم عميق، أو كانت تشغلها أمور أخرى. فلم يتنبه العرب والمسلمون للمخطط الصهيوني إلاّ مع وعد بلفور البريطاني، في نوفمبر 1917، وقيام الحركة الصهيونية العالمية بمساعدة اليهود بإنشاء وطن قومي لهم في فلسطين. وحتى عندئذ كانت الأغلبية العربية، شعوباً وحكاماً، منشغلة بالآثار الوخيمة للحرب العالمية الأولى، من تقسيم وانتداب واستعمار، أو بمقاومة الاحتلال الأجنبي، الذي بليت به عدة أقطار عربية أخرى، منذ القرن التاسع عشر، مثل: الجزائر، ومصر، وتونس، وبعض بلدان الخليج.

على أي الأحوال ظل العرب غافلين، أو لاهين أو موزعين، وحتى الأقلية الواعية الجادة بينهم، لم تكن قادرة على نشر هذا الوعي، أو تلك الجدية، بين بقية أبناء شعوبهم، حتى حدث ما حدث، من انتصارات يهودية صهيونية، وهزائم عربية إسلامية في فلسطين أولاً (1947/ 1948) ثم فيما حولها (مصر 1956، ومصر وسورية والأردن عام 1967).

مع مرور مائة عام على بداية المشروع الصهيوني تحول حلم هيرتزل إلى "قوة إقليمية عظمى"، هي "إسرائيل" التي تحتل أراضي ثلاثة بلدان عربية، وتفرض شروط الصلح معها، ومع بقية بلدان الوطن العربي، كما يحلو لها. وتمتلك من وسائل وأسلحة الدمار الشامل، بما في ذلك ترسانة نووية، ما يجعلها تتغطرس، وتدير ظهرها لقرارات الأمم المتحدة، وغيرها من المنظمات والمنتديات العالمية.

كتب المفكر العربي الكبير قسطنطين زريق، في أواسط عام 1948، دراسته بعنوان "معنى النكبة"؛ بعد أن هاله قيام إسرائيل وتهجير العرب الفلسطينيين، والعجز الفادح الذي بدا من الدول العربية وجيوشها؛ وحاول فيه أن يحلل الأسباب البعيدة والقريبة لتلك الواقعة، في ضوء الامتحان الداخلي والنقد الذاتي، وأن يتلمس سبل الخلاص من الضعف الذي كان يعانيه العرب، ورصد قسطنطيين زريق الوسائل التي يتحتم على العرب التجهز بها للظفر في المعارك التالية، أو على الأقل، للدفاع عن النفس إزاء الخطر المتفاحل لإسرائيل. فبعكس التفكير الشائع، والغوغائية العربية، في الأربعينيات التي هونت من الوجود الصهيوني في فلسطين قبل عام 1948؛ أو ذلك الذي استهان بإسرائيل، عند إعلانها في 15 مايو 1948، أو ظل يطلق عليها " إسرائيل المزعومة ". كان قسطنطيين زريق واعياً منذ ثلاثينات القرن، وهو يدرس الدكتوراه في الغرب، بحجم الأخطار التي تنطوي عليها الحركة الصهيونية.

أولاً: غياب الديموقراطية

كانت خلاصة الكتيب النحيل (أقل من مائة صفحة) "معنى النكبة" أن هزيمة العرب وانتصار الصهيونية في تلك المعركة الأولى (1948) يرجع إلى غياب أشياء عندنا، وحضورها عندهم، وهي العقلانية، والعلم، والتكنولوجيا، والديموقراطية، والوحدة. وهذه العوامل مرتبطة ومتداخلة، سواء في حضورها وفعاليتها، أو غيابها وسلبياتها. وقد ذاع شأن الكتيب المذكور بل وأصبح ضمن القراءات الإجبارية لحركة القوميين العرب التي أسسها الدكتور جورج حبش، ولحزب البعث العربي ـ الاشتراكي، الذي أسسه كل من ميشيل عفلق، وأكرم حوراني. وكانت جميع الانقلابات، أو تلك التي سمت نفسها بثورات في الأربعينيات والخمسينيات، قد تأثرت بما ورد في كتيب قسطنيين زريق. وفي الواقع أصبح اسم "النكبة"، أو "نكبة فلسطين"، هو الاسم الذائع لما حدث عامي 1947 و1948، لقد حاول "الانقلابيون" و"الثوريون" أن يأخذوا بمعظم ما جاء في كتيب قسطنطين زريق من "وصايا" إلاّ وصية واحدة، من وصاياه الثلاث الكبرى، وهي "الديموقراطية".

ثانياً: الحق والاستحقاق

حين وقعت هزيمة 1967، وكانت لا تقل فداحة عما حدث عام 1948، كتب قسطنطين زريق كتيباً آخر بعنوان "معنى النكبة مجدداً" وقد أعاد فيه إلى الأذهان ما كان قد كتبه، قبل عشرين عاماً تقريباً، وأضاف إليه المستجدات، التي جعلت من هزيمة 1967 هولاً أكبر وأعمق، فقد أصبحت إسرائيل في الفناء الأمامي لكل الدول العربية الرئيسية، وعلى مقربة من قلبها مباشرة. كذلك أعاد الرجل إلى الأذهان وصاياه الأربع، العقلانية والعلم، والديموقراطية، والوحدة العربية. وعدم الأخذ بهذه الوصايا مجتمعة هو المسؤول عن التخلف الحضاري العربي، في مواجهة الكيان الصهيوني المغتصب. وقد سجل قسطنطين زريق من "معنى النكبة مجدداً" مقولة إضافية غاية في الأهمية، وهي الفارق بين "الحق" و"الاستحقاق".

فالحق الفلسطيني العربي واضح وعادل، ومطابق للمبادئ التي أقرتها الإنسانية، واعترفت به منظمة الأمم المتحدة، وأصدرت في تأكيده، من القرارات الدولية، ما لم يصدر في شأن أي قضية عالمية أخرى في التاريخ، ومع ذلك فقد اُنتهك هذا الحق، كما لم يُنتهك أي حق، في هذا القرن. انتهكته إسرائيل، مرات متتالية، وبشكل سافر مفضوح أمام الدنيا بأسرها. وذلك، طبعاً بسبب تفرق الفلسطينيين والعرب عموماً، وعدم أخذهم بأسباب القوة المطلوبة، والمعروفة لكل دارس، أو مراقب في القرن العشرين، العقل والعلم، والديموقراطية، والوحدة القومية.

ويعترف زريق بأن "الاستحقاق" هو ذلك "الحق" الذي يدافع عنه أصحابه، أو يضحون في سبيل استرجاعه، بعد اغتصابه، أو ضياعه، ويسهرون على صيانته، بجهودهم الذاتية التطوعية المستمرة. فالحق وحده لا يكفي للحصول على العدالة والإنصاف في هذا العالم. إن الدفاع عن هذا الحق هو الذي يحوله إلى استحقاق. ومغزى ذلك واضح، فحقوق العرب لن تتحول إلى استحقاقات إلاّ إذا كانوا مستعدين قولاً وعملاً، وليس قولاً فقط، للنضال بجدية للدفاع عما في أيديهم، ولاسترجاع ما فقدوه.

ثالثاً: نكبة الخليج وعلم النكبات العربية

نشر قسطنطيين زريق، في جريدة "الحياة" اللندنية في 25 يناير 1991، مقالاً أثناء حرب الخليج، أثار التساؤلات نفسها "معنى النكبة" 1948، ومعنى "النكبة مجدداً" 1967؛ وكما يقول هو، أوشك أن يطلق على حرب الخليج، المشتعلة وقتها، وما تنطوي عليه من خسائر محققة للعرب "معنى النكبة مثلثاً" وكما يقول الرجل، وكان قد تجاوز الثمانين من العمر وقت كتابة المقال، إنه اقلع عن اختيار "معنى النكبة مثلثاً" فالواقع إن هذه النوائب ليست محصورة في الحروب، وهزائمها وخسائرها، بل تمتد إلى غيرها من نواحي الحياة".

لذلك اقترح أن يؤسس العرب علماً جديداً يسمونه " علم النكبة "، ولم يكن يهزل في اقتراح هذه التسمية. فالعرب من دون باقي الأمم الحية، لا يبدو أنهم يتعلمون من أخطائهم أو آثامهم، فالدروس والعبر من أول نكبة في التاريخ الحديث عام 1948 واضحة جلية. وقد تحدث الرجل، وكثيرون غيره، عن هذه العبر والدروس. وكان المأمول أن تتعلم كثير من القيادات والحكومات، والقوى الحية الأخرى، في الوطن العربي، من هذه العبر والدروس. ولكنها لم تفعل ذلك خلال العقدين التاليين لإنشاء إسرائيل (1948 ـ 1967). ولم تتعلم بما فيه الكفاية العبر والدروس، طوال العقود الثلاثة التالية للنكبة الثانية عام 1967. وكانت النتيجة أن من سماهم بعض المزايدين العرب في الأربعينات " العصابات "، قد تحولوا، في التسعينات، إلى قوة إقليمية نووية كبرى. وتحولت العصابات من " الاستجداء " من الدول العظمى، في النصف الأول من هذا القرن، إلى " الاستخفاف " بهذه الدول، وبقراراتها في الربع الثالث من هذا القرن، إلى "الاستهزاء" بهذه القوى، بما فيها تلك، التي رعتها، وما زالت تدعمها مادياً، ومعنوياً، ودبلوماسياً إلى الوقت الحاضر. ومن لديه شك في ذلك، فما عليه إلاّ مراجعة سريعة لأحداث الشهر الأخير، من أوائل أبريل إلى أوائل مايو 1998. فقد ضربت بضغوط كل من الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، عرض الحائط في محاولتهما إحياء عملية السلام مع الفلسطينيين والعرب. أي أن العرب والعالم أصبحوا في حالة " الاستجداء " للسلام مع إسرائيل.

رابعاً: من الأندلس إلى فلسطين إلى الخليج

كان الاستخدام العربي الأول لتعبير "النكبة"، في وصف ضياع الأندلس، بعد ما يقرب من ثمانية قرون (711 ـ 1492) على قيام دولة الإسلام. وأصبحت النكبة تعني مصيبة جارفة، مصدرها قوة خارجية. بينما ظل مصطلح "الفتنة" يعني مصيبة جارفة كذلك، ولكن على المستوى الداخلي، مثل: الانقسام والتشرذم، وقد رسَّخ "طه حسين" مصطلح "الفتنة" في تناوله "للفتنة الكبرى" في القرن الهجري الأول، حينما استعر الخلاف في ولاية الخليفة الراشد عثمان بن عفان، ثم تحول إلى صراع مسلح بين الخليفة الراشد علي بن أبي طالب ومنافسيه على السلطة في الإمبراطورية الإسلامية الوليدة.

وقد مثلت كل من الأندلس، وفلسطين، والخليج، مصائب جارفة على العرب والمسلمين؛ وكل منها لها مصدر مزدوج، داخلي وخارجي. أي أن كلاً منها انطوى على " فتنة "، بالمعنى الذي استخدمه طه حسين، ونكبة بالمعنى، الذي استخدمه قسطنطين زريق. ففي الأندلس كان الانقسام، ثم التشرذم الداخلي، بين ملوك الطوائف من العرب المسلمين، وقد بدأ الانقسام بسيطاً بين القبائل العربية المضرية اليمنية، الذين استوطنوا الأندلس في القرن الثامن؛ لكنه استفحل تدريجياً، وغذاه المتنافسون من بني أمية أنفسهم. ثم تعاظم، باعتناق كثير من البربر المسلمين، الذين وفدوا مع طارق بن زياد، فاتح الأندلس، لمذهب " الخوارج "، بينما كان حكام الأندلس الأمويون يعتنقون المذهب السني. وقد استفحلت بذور الخلافات هذه، إلى درجة متصاعدة، مع بداية الألفية الثانية؛ ثم وصلت إلى انقسام الأندلس إلى عدة إمارات عربية إسلامية مستقلة عن بعضها بعضاً، ومتنافسة، ثم متصارعة، مع بعضها، وكانت هذه هي عناصر "الفتنة" الداخلية. وكانت أخطر مظاهر هذه الفتنة استعانة بعض الأمراء، أو الملوك العرب "بالفرنج" من غير العرب المسلمين ضد الأخوة، وأبناء العمومة من الأمراء الأمويين أنفسهم. وقد شجع ذلك، بالطبع، بعض حكام الفرنجة المجاورين على التفكير والتدبير، وتنفيذ الخطط للغارة على الممالك العربية في الأندلس، حتى سقطت "غرناطة" آخر هذه الممالك العربية، في يناير عام 1492. أي أن " الفتنة "، تلتها نكبة. وهذا ما حدث في فلسطين، التي تشرذم أهلها، والعرب من حولها، أي حدثت "الفتنة"، وهو الأمر الذي سهل وقوع "النكبة". وحدث الشيء نفسه فيما يتعلق بالخليج، فقد انقسم العرب أولاً في شأن الحرب العراقية ـ الإيرانية (1981 ـ 1988)، التي شنها صدام حسين، ثم انقسموا وتشرذموا مرة أخرى، بعد غزو صدام حسين للكويت (1990)؛ أي حدثت " الفتنة " أولاً، ثم جاء بعد ذلك، الاستعانة بالقوات الشقيقة والصديقة، والاضطرار إلى إخراج المعتدي، عنوة، من الكويت، فكانت النكبة والخسائر ثانياً. هذه الأخيرة في نظر قسطنطنين زريق، لا تقل عن نكبات العرب الكبرى، لأن استنزاف موارد الأمة العربية، هو الذي يجعل من إسرائيل قوة طاغية كبرى تستأثر وتستحوذ، وتأمر وتتحكم، ليس فقط في فلسطين، وما تبقى منها، ولكن، كذلك، في الوطن العربي والشرق الأوسط بأسرهما.

خامساً: الجد والهزل في إدارة الصراع

يقال إنه بينما كان موكب محمد أبو عبدالله، آخر سلاطين غرناطة خارجاً من المدينة، بعد أن سلمها لفردناند وايزابيل، ملكي كاستيل المنتصرين، لاحت منه نظرة أخيرة على عاصمة ملكه من ربوة صخرية عالية، وانسابت الدموع في عينيه؛ فنهرته أمه قائلة " يحق لك أن تبكي كالنساء، ملكاً لم تدافع عنه كالرجال ". ولا تزال هذه الربوة الصخرية الشاهقة التي أطل السلطان، من قمتها على مملكته الضائعة، قائمة إلى يومنا هذا، ويُطلق عليها الأسبان (التمو سيرو دل مورو)؛ وترجمتها "زفرة العربي الأخيرة"[1].

سادساً: ميزان القوى المتحاربة عشية معركة 1948

1. الجانب الصهيوني ـ الإسرائيلي

أ. 600.000 مستوطن يهودي حشدوا 67.000 مقاتل أي بنسبة 11 في المائة من السكان، لديهم 67.500 بندقية حديثة، و21.300 رشاش و675 مدفعاً مضاداً للطائرات، و250 مدفع ميدان، 24 مليون رصاصة؛ و25 طائرة " مسر شميت " بعتادها وذخيرتها لعشرة طلعات. وكان ثلث القوات الصهيونية (20.000 مقاتل) قد تدرب مع الجيش البريطاني في الحرب العالمية الثانية، وخاض معارك قتالية بالفعل، وخاصة في إيطاليا.

ب. كانت القيادة موحدة، ولها هدف إستراتيجي واضح، هو الدفاع عن الأرض التي حددها قرار التقسيم للدولة اليهودية، والاستيلاء على أية أراض أخرى للدفاع الوقائي عن الدولة اليهودية.

2. الجانب العربي

أ. 50 مليون عربي من سبع دول (مصر، والعراق، وسورية، والأردن، ولبنان، والسعودية، واليمن)، حشدوا 21.000 مقاتل، أي بنسبة أقل من نصف في المائة من السكان، وأقل من ثلث القوة الصهيونية التي كانوا يواجهونها.

ب. كانت القوات المصرية (لواءين) والعراقية (لواءين) مجهزة تجهيزاً متوسطاً، من حيث عدد البنادق والذخائر، ولديهما معاً نحو أربعين طائرة مروحية قديمة. أمّا القوات العربية الأخرى فقد كان تجهيزها بدائياً، وبعضها مثل القوات السورية، لم يكن لديه ذخيرة تكفي لأكثر من أسبوع.

ج. كانت هناك خمس قيادات عربية مختلفة (حيث انضمت القوة السعودية إلى القوات المصرية، وانضمت القوة اليمنية إلى القوات العراقية) لها هدف إستراتيجي واحد معلن، وهو منع ولادة الدولة اليهودية، وأهداف قطرية أخرى غير معلنة، منها اقتطاع أجزاء من فلسطين وضمها إلى دول عربية مجاورة!

وهكذا أُرسيت قواعد إدارة الصراع العربي ـ الإسرائيلي، منذ عام 1948: كثرة عددية عربية هائلة. وحشد عسكري هزيل (أقل من نصف في المائة) وتسليح متخلف، وانعدام، أو محدودية الخبرات القتالية. وانقسام إستراتيجي، وتشرذم في القيادات، مقابل أقلية عددية إسرائيلية، وحشد عسكري إسرائيلي هائل (11% من السكان)، وتسليح متقدم، وخبرات قتالية عالية، وهدف إستراتيجي موحد وقيادة موحدة.

لذلك كانت نتيجة المواجهات العسكرية العربية ـ الإسرائيلية دائماً محتومة، ومعروفة للمراقبين العسكريين المحايدين. وكان الاستثناء الوحيد في أربع موجهات عربية ـ إسرائيلية عسكرية نظامية (1948، و1956، و1967، و1973) هو حرب أكتوبر 1973. فقد كان الحشد والاستعداد والتدريب والهدف والقيادة على مستوى الجانب الإسرائيلي نفسه. لذلك كان أداء الجانب العربي فيها رفيع المستوى. فيما عدا ذلك، فقد أدار العرب صراعهم مع الصهيونية، على امتداد قرن من الزمان، ومع إسرائيل، على امتداد نصف قرن، بهزل يشبه الجد، لقد أداروه مثلما أدار ملوك الطوائف في الأندلس صراعهم مع الفرنجة، فجاءت نكبة الأندلس. وقالت أم آخر ملوك الطوائف لولدها، وهو يزفر زفرته الأخيرة على غرناطة "يحق لك أن تبكي كالنساء، مُلكاً لم تدافع عنه كالرجال"، فهل للعرب في النصف قرن القادم أن يديروا صراعهم مع إسرائيل بالجدية نفسها، التي أداروه بها في لحظة أكتوبر 1973، أو بالجدية نفسها، التي أدار بها " أطفال الحجارة " انتفاضتهم (1987 ـ 1990)، أو بالجدية نفسها التي يدير بها " حزب الله " مقاومته الباسلة للاحتلال الإسرائيلي، في جنوب لبنان، طوال السنوات العشر الأخيرة[2].

سابعاً: العرب من الغفلة إلى الإذعان

·   بين غفلة العرب، وإدراكهم، لبداية المشروع الصهيوني كان قد مر عشرون عاماً (1897 ـ 1917).

·   وبين إدراك العرب لجدية المشروع الصهيوني، ومحاولة احتوائه، كان قد مر ثلاثون عاماً (1917 ـ 1947).

·   وبين هزيمة العرب الأولى، وهزيمتهم الساحقة، كان قد مر عشرون عاماً (1948 ـ 1967).
أي أنه إلى عام 1967 كان العرب والمسلمون إمّا غافلين، أو متغافلين، عما يقوم به الصهاينة على أرض فلسطين العربية وبشعبها. كان اليهود في نظر العرب، خلال تلك الفترة " عصابات " أو " شذاذ الآفاق " وكان الكيان الذي خلقوه باعتراف دولي، وهزم جيوش سبع دول عربية، هو " إسرائيل المزعومة "!

·   ولكن مع الهزيمة العربية الساحقة. واحتلال أراضي الدول العربية المحيطة بإسرائيل، ونقل التليفزيونات العالمية لذلك، لم يعد أمام الزعماء العرب، بد من وقف " إنكار الواقع " (Reality Denial)، والاعتراف المر بالحقيقة، والانخراط في طريق التسوية، وقد مر هذا التحول الرسمي والشعبي الجماعي بثلاث مراحل:

1. المرحلة الأولى: 1967 ـ 1973

وهي مرحلة "الرفض" للهزيمة. وللتفاوض مع إسرائيل، وللاعتراف بها، وقد كان عليها ما يشابه الإجماع، وعرفت "بلاءات" قمة الخرطوم. ولكن مع هذا الرفض العلني والفعلي، كانت خلفيات المسرح الرسمي العربي، في بعض البلدان، إن لم يكن كلها، تتداول في شروط التعامل مع العدو الإسرائيلي، الذي وقر في الذهن الجماعي، انه "خُلق ليبقى" ولكن حتى أنظمة تلك البلدان، كانت من الضعف المعنوي والسياسي الداخلي، بحيث لم تقدم على أي خطوة سياسية جريئة، وبات الرفض هو أسلم المناهج بالنسبة لها.

2. المرحلة الثانية: 1974 ـ 1990

وهي مرحلة "الواقعية النصفية" ويرمز لها باستعداد مصر للتفاوض المباشر، مع العدو الإسرائيلي، وعلناً، بدءاً بمحادثات "الخيمة 101" (1973) على طريق القاهرة ـ الإسماعيلية، ومحادثات جنيف (1974)، وانتهاء بزيارة السادات إلى القدس (1977)، وكامب دافيد (1978)، ومعاهدة السلام المصرية ـ الإسرائيلية (1979). وما كان لهذه الواقعية المصرية أن تظهر بهذا الشكل العلني إلاّ بعد حرب أكتوبر، التي اعتبرتها مصر رداً للاعتبار الوطني المصري والقومي العربي، أي أنها اعتبرت الأداء العربي في تلك الحرب بمثابة التئام للجراح، وردم للهوة السحيقة، التي فصلت بين المنتصر الإسرائيلي في حرب يونيه، والمنتصر العربي في حرب أكتوبر، أو هكذا صُور الأمر للرأي العام المصري. وعلى الرغم من معارضة عدد كبير من المثقفين والقوى السياسية المصرية والعربية، وعلى الرغم من العقاب الرسمي العربي بتعليق عضوية مصر في جامعة الدول العربية، إلاّ أنه يبدو من استقصاءات الرأي العام المحدودة والمستقلة في مصر، أن الأغلبية كانت تؤيد السادات، في نهجه الواقعي، في التعامل مع إسرائيل.

3. المرحلة الثالثة: 1991 ـ 1997

الواقعية العربية، وهي المرحلة التي أعقبت تطورين عربيين كبيرين، وتطوراً عالمياً فاصلاً، فعلى الساحة العربية حدثت الانتفاضة الفلسطينية (1987) واستمرت بأكثر مما توقع الإسرائيليون والعرب والعالم. وكان تأثيرها الإيجابي واضحاً في كسر حاجز الخوف، والخسارة الإعلامية والمعنوية لإسرائيل، في الغرب والعالم. وبهذا المعنى كانت الانتفاضة، بالنسبة للشعب الفلسطيني، مثل حرب أكتوبر، بالنسبة للشعب المصري، أي أنها ردت الاعتبار للمهزوم، أو المهضوم، في مقابل غطرسة القوة الإسرائيلية، ومن ثم أصبح هناك استعداد فلسطيني ـ إسرائيلي للاعتراف المتبادل، والتفاوض حول شروط التعايش على أرض فلسطين، وهو ما كان يرفضه الفلسطينيون إلى عام 1967، وما كان يرفضه الإسرائيليون إلى عام 1990، ثم جاءت أزمة الخليج، بعد الغزو العراقي للكويت، كتطور آخر على الساحة الإقليمية، أضعف العرب كثيراً، عسكرياً، واقتصادياً، وسياسياً، ومزقهم نفسياً، وجعل بعض البلدان العربية، ليست فقط مستعدة، بل وراغبة، كذلك، في التفاوض المباشر مع إسرائيل للوصول إلى تسوية سلمية للصراع العربي ـ الإسرائيلي.

وباختصار أصبح العرب في المرحلة الثالثة (الحالية) واقعيين تماماً، ومستعدين للتفاوض مع إسرائيل والاعتراف بها، والخلاف بينهم هو فقط حول الشروط!

لقد عرف الفلسطينيون والعرب " الإسرائيلي القبيح "، منذ اليوم الأول للمشروع الصهيوني، الذي يتزامن ذكراه المئوية مع احتدام الصراع في فلسطين هذه الأيام. لقد عرفوا نماذج للإسرائيلي القبيح في العقدين الأخيرين، في أشخاص مثل مناجم بيجين، وإريل شارون، ومائير كاهانا، وشيمون شامير، ولكن الأكثر قبحاً، من هذه الشخصيات على الإطلاق، كان بنيامين نتانياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق (1998). وهو الأشد قبحاً، لأنه الأشد " استذكاءاً "، والأشد ادعاءا، والأشد "استظرافاً"!

يشترك الإسرائيلي القبيح، مع " الأمريكي القبيح "، في تدني مستوى الحساسية لآلام البشر ومبادئ العدالة. ويشترك معه، في احترام القوة والتخايل بها، وفي الاعتقاد بأن هذه " القوة " مساوية " للحق". والتعبير الإنجليزي الأمريكي عن هذه المقولة هو MIGHT MAKES RIGHT. ويشترك الأمريكي القبيح، مع الإسرائيلي القبيح، في عنصريتهما الشديدة، سواء كانت معلنة أو مستترة، نحو "غير الأمريكي" أو "غير الإسرائيلي"، أو بتعبير أدق "غير اليهودي". 

غير أن الإسرائيلي القبيح، من أمثال بيجين، وشارون، وشامير، عادة ما تنقصهم خفة الظل، والقدرة على التواصل مع الرأي العام العالمي عموماً، والغربي خصوصاً، فعنصريتهم وتعصبهم، ليهوديتهم، يأتيان عادة بصورة صارخة، وأكثر كثيراً مما يمكن أن يتستر عليه الرأي العام الغربي، أي أنه حتى لو كانت هناك قواسم عنصرية مشتركة بين الأمريكي القبيح والإسرائيلي القبيح، فإن الأول " يتستر " عليها، ويحاول الادعاء بغيرها، أكثر مما يفعله الثاني، أي أن الأمريكي القبيح مثلاً يجيد فن العلاقات العامة، والدعاية والتمويه، أفضل من زميله الإسرائيلي القبيح.

ولكن بنيامين نتانياهو جمع بين صفات الأمريكي القبيح والإسرائيلي القبيح. فهو على الرغم من "يهوديته" و"إسرائيلية" و"وصهيونيته"، إلاّ أنه نشأ وتربى في الولايات المتحدة الأمريكية، وقضي ثلثي عمره هناك، بما في ذلك فترة الدراسة الثانوية والجامعية، كما عمل في وفد إسرائيل في الأمم المتحدة، عدة سنوات بعد ذلك. أي أنه اكتسب من هذه الخبرة الأمريكية الطويلة كل ما يؤهله لأن يكون "سياسياً أمريكياً" بارعاً، ولكنه، في الوقت نفسه، انضم إلى صفوف حزب الليكود الإسرائيلي الصهيوني المتشدد، وخدم في حكومات الليكود المتعاقبة منذ أواخر السبعينيات. وأهم من ذلك أنه اشتغل مساعداً، ثم متحدثاً باسم شيمون شامبر، وزير الخارجية، ثم رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، وشيمون شامبر، هو أحد نماذج القبح في الحياة السياسية العامة في إسرائيل، هذا معناه أن بنيامين نتانياهو قد تشرب أقوى ما تنطوي عليه الثقافة الأمريكية، من فنون العلاقات العامة والدعاية والتمويه، وتشرب من الثقافة الإسرائيلية الصهيونية اليهودية أشد ما تنطوي عليه من شوفينية وعنصرية واستعلاء.

ثامناً: نظرة اليمين الإسرائيلي القبيح للعرب

منذ بداية الحركة الصهيونية، وعلى امتداد مائة عام، كانت تضم أجنحة مختلفة، وتتفاوت في عداوتهـا نحـو العرب عموماً، والفلسطينيين خصوصاً، فهناك جناح عمالي اشتراكي ليبرالي كان وما يزال أقل عداوة للعرب، ويرغب في التعايش معهم والاعتراف ببعض، وليس كل، حقوقهم في فلسطين. في مقابل ذلك، كان هناك، وما يزال جناح يميني متشدد ومتعصب، ينكر وجود الفلسطينيين، وبالتالي لا يعترف لهم بأي حقوق، وإذا جوبه هذا الجناح بحقيقة وجود "فلسطينيين"، فإنه ينكر عليهم كونهم "شعباً" أو "أمة" ويعتقد أن الطريقة المثلى للتعامل معهم، هي طريقة التعامل مع الأفاعي والثعابين والعقارب والحشرات السامة الأخرى، التي كانوا يصادفونها في أرض فلسطين، عند أوائل القرن. وتعني هذه الطريقة في التعامل " الإبادة " الفردية، أو الجماعية، أو الثقافية.

لقد كان أول وأبرز رموز هذا الجناح فلاديمي جابوتنسكي، الذي تتلمذ في مدرسته كل من مناجم بيجين، وشيمون شامير، وهؤلاء هم الذين قادوا عصابات الإرهاب الصهيونية، التي ارتكبت حوادث الاغتيال ضد الشخصيات العربية التي حاولت أن تحد حلولاً وسط، مثل اللورد موين البريطاني في القاهرة، ومثل مبعوث الأمم المتحدة الكونت برنادوت (السويدي). كما نسفت فندق الملك داود في القدس، والذي كان مقراً للقيادة البريطانية في الأربعينيات، حينما أحست بأن بريطانيا تفكر، مجرد التفكير، في أخذ مواقف أكثر حيادية بين العرب واليهود، بعد طول تحيز لليهود. هذه هي عصابات "الأرجون" نفسها، التي ارتكبت المذابح ضد الفلسطينيين، في دير ياسين، وكفر قاسم، وقبية، لترويعهم، حتى يتركوا قراهم ومدنهم في فلسطين، وذلك هو الجناح نفسه، الذي تتلمذ عليه بنيامين نتانياهو مع فارق مهم، أنه بينما أتي جابوتنسكي، وبيجين، وشامير، من بولندا، وأوروبا الشرقية، في الثلاثينيات والأربعينيات، ومن تجربة "الجيتو" الممعنة في ضيق أفقها، أتى نتانياهو من خلفية غربية أمريكية، تعتنق الأفكار والمعتقدات نفسها، ولكنها على استعداد لاستخدام أساليب مقبولة أكثر لدى الرأي العام الأمريكي.

من ذلك أن الرجل كان يستعين بخبراء العلاقات العامة الأمريكيين، ويظهر بملابس وتسريحة شعر تتوافق مع المذاق الأمريكي، ويستخدم من الألفاظ والعبارات الشائعة والمقبولة، في المجتمع الأمريكي الشيء الكثير، والتي يشعر معها المستمع، أو المشاهد الأمريكي، أنه يتعامل مع أمريكي مثله، من بوسطن، أو فيلادلفيا، ومن ثم كان الاستقبال الحافل لخطابه في الكونجرس الأمريكي، بعد انتخابه رئيساً للوزراء، بأسابيع قليلة. لقد استخدم نتانياهو في خطابه في الكونجرس كل الشعارات والكلمات الطنانه (BUZZ WORDS) التي يطرب لها الأمريكيون، من قبيل "أن إسرائيل هي الديموقراطية الوحيدة في المنطقة"، وأنها ترغب في " السلام مع الأمان " وأنها " تنوي الاستغناء عن المساعدات المالية الأمريكية "، وأنها لن تطلب أبداً أن يموت الشباب الأمريكي من أجل الدفاع عنها، كل ما في الأمر أنهم يطلبون الدعم التسليحي والدبلوماسي من الصديق الإستراتيجي الأمريكي.

ويوحي اليمين الإسرائيلي المتشدد للساسة الأمريكيين أنهم (أي اليمين الإسرائيلي):

ـ يعرفون الفلسطينيين والعرب جيداً، ويعرفون أكثر من غيرهم كيف يتعاملون معهم، فقط دعوهم وشأنهم.

ـ إن القاعدة العامة هي انقسام الدول العربية، وأن الاستثناء هو توحدهم على رأي واحد، وحتى عندئذ، فهم قلما ينفذون ما ينطوي عليه هذا الرأي من قرارات عملية.

ـ إن العرب حتى إذا ثاروا وغضبوا، فإن ذلك يكون " لحظياً "، سرعان ما ينسون سبب الثورة أو الغضب، في غضون أيام أو أسابيع، فالعرب، في النهاية، " أغبياء ".

ـ إن العرب في النهاية لا يفهمون إلاّ لغة " القوة "، وإن المشكلة، في الماضي، أن هذه " القوة " أو اليد الغليظة لم تستخدم مع العرب بما فيه الكفاية، وإن اليمين الإسرائيلي كفيل باستخدام هذه القوة بالشكل المناسب، وأن العرب في النهاية " جبناء ".

ـ إن المهم هو ألاّ يتسبب العرب أو يتصورون أنهم يمكن أن يحدثوا " فجوة "، أو " وقيعة "، أو " تباعداً " بين أمريكا وإسرائيل، فقط عندئذ فإن العرب سيذعنون ويستكينون، فهم في النهاية، " متخلفون " و" جبناء ".

هذه النظرة، أو العقيدة النمطية، التي يحملها اليمين الإسرائيلي المتشدد حيال العرب هي التي جعلت شخصاً مثل نتانياهو لا يصدق أن ثورة الغضب العربي في فلسطين، وخارجها، يمكن أن تستمر، وذكر للخاصة في مجالسه، أو مقابلاته في الولايات المتحدة الأمريكية، إنه بعد غضب العرب بسبب فتح " نفق البراق " في سبتمبر 1996، قرب المسجد الأقصى، أذعنوا واستكانوا للأمر الواقع، وهو يعتقد أن الشيء نفسه، سيحدث فيما يتعلق ببناء المستوطنة الجديدة على جبل أبو غنيم، والطريف أن الاسم العربي لهذه المستعمرة هو "راح حوماه" أي "الحائط الواقي" أو "السوار العازل"، وربما القصد هو الوقاية أو العزل ضد "البرابرة المتخلفين أو المتوشحين العرب"!

إن نصف الشعب الإسرائيلي يؤمن بالتعايش مع الفلسطينيين والعرب، ويريد سلاماً معقولاً معهم. ويشعر نصف المجتمع الإسرائيلي بأن البقية الباقية من قيمة " الليبرالية " بات مهدداً بسبب غطرسة اليمين المتشدد، ومعه الأحزاب الدينية المتعصبة، التي أصبح لها نفوذ يفوق حجمها العددي، بسبب اضطرار نتانياهو للتآلف معها في الوزارة، حيث لا يملك حزبه "الليكود" أغلبية، ولا حتى أكثرية في الكنيست، وإذا كانت حكومة هذا اليمين الليكودي المتشدد، ومعه الأحزاب الدينية المتعصبة، قد سقطت فلابد أن يكون ذلك بفعل الضغط الإسرائيلي الداخلي أساساً، فإسرائيل تتبع نظاماً برلمانياً ديموقراطياً، وتنشئ فيه الحكومات، أو تسقطها بواسطة أغلبيات في الكنيست (برلمان إسرائيل). ومن ثم لابد للفلسطينيين والعرب، وكل قوى السلام العالمية، أن تضغط من أجل أن تشتد وتضغط قوى السلام الإسرائيلية بدورها، وتسقط أي حكومة عنصرية. ولابد من استمرار "الانتفاضة"، و"المقاومة"، و"المقاطعة". لا ينبغي للفلسطينيين والعرب أن يرفضوا "التفاوض" أبداً. وفي الوقت نفسه لا ينبغي أن يوقفوا الانتفاضة الشعبية في الأراضي المحتلة. أو المقاومة في جنوب لبنان. أو المقاطعة الاقتصادية لإسرائيل، فكل الأسلحة، ما عدا الحرب النظامية، ينبغي أن تُشهر.

إن لحظات الجدية العربية، في إدارة الصراع مع إسرائيل، ارتبطت دائماً بالمشاركة الشعبية الكثيفة، فثورة القسَّام كانت عملاً شعبياً خالصاً، والمقاومة اللبنانية عمل شعبي خالص. والانتفاضة الفلسطينية عمل شعبي خالص، حتى لحظات الجدية القصيرة التي قادت فيها الحكومات العربية هذا الصراع مع إسرائيل، كان النجاح حليفها فيه، مثلما كان في حرب أكتوبر، بسبب المشاركة الشعبية الكثيفة، والالتفاف الجماهيري العربي حول المعركة. ولعل في ذلك كله عبرة في إدارة الصراع مستقبلاً، سواء حرباً أو سلماً. إن الشعب هو مستودع العبقرية الحقيقية في إدارة السلام، والمقاومة والحرب. من هنا الإلحاح على الانتفاضة الفلسطينية، وعلى المقاومة اللبنانية، فليتفاوض من الحكومات من يريد التفاوض، وليتحاور من المثقفين من يريد التحاور، ولكن، في كل الأحوال، لابد من تشجيع ودعم المقاومة مع المفاوضة، والانتفاضة مع الحوار، والمقاطعة الاقتصادية مع حديث السلام. لابد أن يشعر اليمين المتشدد، أن العرب جادون في إدارة الصراع هذه المرة، وفي المستقبل، وأنهم قد تعلموا حقاً أن يستخدموا كل الأسلحة المتاحة حرباً وسلماً.

إن المرجعيات الحقوقية الدولية الصادرة عن مجلس الأمن، والتي يتمسك بها العرب، تبدأ بقرار "التقسيم" الرقم (181) عام 1947؛ وقرار "الانسحاب" من الأراضي العربية المحتلة في حرب 1967 الرقم (242)؛ وقرار "الانسحاب والاعتراف بالفلسطينيين مقابل السلام والاعتراف بإسرائيل" (338)، وقرار "الجلاء عن جنوب لبنان" الرقم (425) ولكن هذه المرجعيات والمبادئ بما فيها إعلان مدريد (1991)، واتفاقية أوسلو بين الفلسطينيين والإسرائيليين (1993) لن تُطبق، إلاّ إذا صاحبتها مقاومة عربية، وبناء قوة ردع عربية.

ودروس لحظات الجدية العربية في إدارة الصراع على قلتها وندرتها، هي الدروس الوحيدة المستفادة، إذا كان للعرب أن يديروا الصراع، إدارة أكثر كفاءة، فيما تبقي من سنوات القرن العشرين.

تاسعاً: توقعات مستقبلية: سيناريو العملية السياسية السلمية

من المتوقع أن يستمر سيناريو العملية السلمية، على الرغم من الهبوط والصعود، الواضحين في المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية، والسورية ـ الإسرائيلية.

وليست دول المنطقة، بما فيها إسرائيل، في وضع يجعلها ترحب بالحرب، فإسرائيل من القوة عسكرياً واقتصادياً، بحيث تستطيع إملاء معظم شروطها بلا حرب، فهي تدرك جيداً أن ما لديها من مهاجرين سوفييت واستيعابهم، هو التحدي الأكبر طوال العقد القادم، ثم إن حرباً جديدة من شأنها تقويض فرص النمو الاقتصادي، الذي يسير بشكل غير مسبوق في التسعينيات، حيث تضاعف الدخل القومي والفردي بالفعل، في أقل من سبع سنوات، ومجرد مجيء رئيس وزراء متشدد، يهدد (مجرد تهديد) بالقوة قد أدى بالفعل، خلال عامي 1996، 1997 إلى تباطؤ هذا النمو الاقتصادي وانكماش الاستثمارات الأجنبية. إن إسرائيل تريد " استقراراً " أعمق، و" سوقاً " أكبر، و" قبولاً " أوسع، والحرب بالنسبة لها تعني تقويضاً لهذه المطالب الثلاثة، كما أنها لا تريد مزيداً من أراضي الغير حالياً، بل إن ما لديها من أراضي الغير، هو الذي يتم التفاوض للجلاء عنه.

والدول العربية من الضعف العسكري والاقتصادي، بحيث يعد خيار الحرب بالنسبة لها يمثل مزيداً من الخسائر والدمار، ومزيداً من الأخطار على الأنظمة الحاكمة. ومن ثم فليس لديها إلاّ التفاوض، وحشد مصادر جديدة للقوة، للمساومة بها مع إسرائيل.

هذا، عن الدول أو الحكومات. ولكن يظل على المسرح وفي الأفق، قوى أخرى غير الحكومات. وهي التنظيمات السياسية المسلحة، أو التي يمكن تسليحها، والتي يمكن أن تفجر الأوضاع في المنطقة وتجر الدول إلى حرب لا تريدها. ومن تلك التنظيمات: " حزب الله " في لبنان، و" حماس " في فلسطين. وهذه تبقى علامات استفهام كبيرة. والمد، أو الانحسار، في شعبيتها وقوتها يتوقف على ما تحرزه الحكومات من تقدم في العملية السلمية. وتظل هذه التنظيمات تمثل قوة ضغط متوسطة على كل صناع القرار في الجانبين.

ولا يُتوقع إحراز كثير من التقدم في العملية السلمية، في ظل وجود حكومة يمينية متشددة في إسرائيل، ولكن السيناريو الأكثر تفاؤلاً، مع سقوط حكومة نتانياهو، وعودة حزب العمل بقيادته الجديدة (أيهودا باراك)، والذي أقر بمبدأ حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني وقيام دولته المستقبلية. ومن ثم، فهو الأقدر على المضي بالعملية السلمية إلى الأمام. كل هذا التوقع، أو سيناريو التشاؤم وسيناريو التفاؤل هو للأجل القصير، أي للسنوات العشر التالية. أمّا بعد ذلك، فإن احتمالات إدارة الصراع مع إسرائيل ستكون أفضل، لسببين رئيسيين.

أولهما: استكمال مسيرة الإصلاح الاقتصادي، وظهور فئات وطبقات جديدة.

وثانيهما: استكمال مسيرة الإصلاح السياسي، ودخول الفئات والطبقات الجديدة ساحة العمل العام.

إن الإصلاح الاقتصادي والإصلاح السياسي معاً، سيعنيان قوة عربية اجتماعية، اقتصادية، ثقافية كبرى، تدير العلاقات مع إسرائيل وغيرها إدارة رشيدة، سواء حرباً أو سلماً. وهنا، أي مع عام 2010، ستتوقف إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية والغرب عموماً عن الاستهانة والاستخفاف بالعرب

 



[1] يقول سعد الدين إبراهيم: تذكرت هذه الواقعة التاريخية وأنا في مسجد الصخرة في القدس الشريف، بعد صلاة العصر يوم الأحد 3 مايو 1998. فقد كانت إسرائيل قد فرغت على التو من الاحتفال بعيد ميلادها الخمسين، في أول مايو طبقاً للتقويم العبري، ويوشك العرب على إحياء ذكرى ` النكبة ` يوم 15 مايو، وهو تاريخ دخول ` الجيوش ` العربية إلى فلسطين لإنقاذها من الضياع. وتذكرت ما كنت قد سمعته طفلاً، في التاسعة، في تلك الأيام من مايو 1948، سواء من الراديو أو الأهل أو الأقارب أو مظاهرات المدارس في المنصورة. قيل لنا أن الجيوش العربية على وشك الذهاب إلى فلسطين فيما يشبه ` النزهة العسكرية`، لعدة أيام، أو لعدة أسابيع، على الأكثر، لتأديب العصابات الصهيونية، أو اقتلاعها تماماً ومنع ولادة الدولة اليهودية ` الحرام ` أو ` السفاح`، وأذكر من طفولتي كيف كان حماسنا وهتافنا يخرق عنان السماء في تلك الأيام من ربيع 1948.

[2] يقول سعدالدين إبراهيم، لقد دعوت الله في صلاتي في صخرة الأقصى، إلاّ تكون صخرة زفرة العربي الأخيرة في الأندلس. وليكن عهدنا وتواصلنا في الذكرى الخمسين لنكبة فلسطين، أن نكف عن الفتن، وأن نأخذ بأسباب القوة التي أوصى بها شيخ المؤرخين قسطنطين زريق، وأهمها العقلانية والعلم والديموقراطية، والوحدة العربية. إن ذلك وحده هو الذي يجنبنا النكبات المستجدة