إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / انهيار الاتحاد السوفيتي






جمهوريات الاتحاد السوفيتي
جمهورية مولدافيا
جمهورية أوزبكستان
جمهورية أوكرانيا
جمهورية لاتفيا
جمهورية ليتوانيا
جمهورية أرمينيا
جمهورية أستونيا
جمهورية أذربيجان
جمهورية تركمنستان
جمهورية جورجيا
جمهورية روسيا الاتحادية
جمهورية روسيا البيضاء
جمهورية طاجيكستان
جمهورية كازاخستان
جمهورية قيرقيزستان
رابطة الكومنولث الجديد



المبحث الثاني

المبحث الثاني

الاتحاد السوفيتي والحرب الباردة

       شغلت الحرب الباردة رجال السياسة لعشرات السنين، وذلك لما لها من تأثير في العلاقات الدولية، علاوة على إمكان تحولها إلى حرب مدمرة تقضي على جزء كبير من العالم بالفناء، فضلاً عن هذا فالحرب الباردة بما يصحبها من سباق التسلح وإنتاج الأسلحة الفتاكة ووسائل الوقاية، قد كبدت ميزانيات الدول نفقات باهظة، على حساب رفاهية الشعوب، علاوة على إعاقة برامج النمو في بلدان العالم الثالث التي كانت في حاجة ماسة إلى معونة الدول الكبرى.

       وقد انعكست هذه الحرب، في سباق التسلح النووي، وفى الأحلاف العسكرية، حلف شمال الأطلسي، وحلف وارسو، والحرب الأهلية بالصين، وانتصار الجبهة الشيوعية، وقيام الصين الشعبية، وفي الحرب الكورية، وتدخل قوات الأمم المتحدة بناء على تحمس الولايات المتحدة الأمريكية للفكرة وتضحياتها بالرجال والعتاد لهذه الغاية للوقوف في وجه الشيوعية، ورأيناها أيضا في أزمة برلين، وفى الصراع بالهند الصينية، والصراع في فيتنام، وبالاضطرابات التي حدثت في أفريقيا بالكونغو، ونيجيريا، وأنجولا، وموزمبيق، وبالتنافس بلا هوادة في الشرق الأوسط بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، وغير ذلك من نزاعات انتشرت في أرجاء المعمورة بين الكتلتين الشرقية والغربية.

       وخلال الحرب الباردة بدأ نجم الاتحاد السوفيتي يتصاعد بصورة مطردة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى أخذ يتربع مع بداية حقبة الستينيات على قمة النظام الدولي ليصبح إحدى القوتين العظميين المنفردين بالهيمنة على المجتمع الدولي ومقدراته حرباً أو سلاماً. ومن أجل تحرك العملاقين على طريق الوفاق، فقد مرت العلاقات بينهما بالعديد من التحولات في مختلف القطاعات الإستراتيجية والسياسية والعقائدية والاقتصادية والتكنولوجية، وهي التحولات التي امتد تأثيرها على نسيج العلاقات الدولية ـ في ذلك الوقت ـ سواء ما تعلق منها بمضمون هذه العلاقات، أو الهيكل التركيبي لها، والتي تضمنت فترات المجابهات الخطرة بين الكتلتين، ثم انتقالها بفعل التفاعلات الديناميكية إلى مرحلة الوفاق.

وقد مرت هذه الفترة بعدة مراحل كالآتي:

أولاً: سياسات الحرب الباردة، مرحلة التوتر الحاد عام 1946 ـ 1954:

       تميز مناخ السياسة الدولية، في هذه المرحلة، بالتوتر والشكوك، وعدم الثقة المتبادلة بين القوى والتكتلات الدولية الكبرى، وصاحب ذلك انبثاق الحرب الباردة في أكثر صورها تطرفاً من حيث العنف والحرج، وذلك بعد أن انهار بناء التحالف الذي ضم هذه المجموعة الواسعة من الدول ذات الأيديولوجيات النقيضة في صراعها المشترك ضد قوى الفاشية العدوانية في أوروبا، وأخذت تبرز تناقضاتها بشكل لم يعد يجدي معه تقليص ضغوطها أبعد مما سمحت به نتائج الحرب، وبروز الولايات المتحدة الأمريكية قوة ديناميكية هائلة بطاقاتها الاقتصادية الكبيرة، وأسلحتها الذرية التي استطاعت بواسطتها أن تضع نهاية حاسمة للحرب، وبما أصبح لها من ثقل إستراتيجي مؤثر في توازن القوي العالمية الجديدة. أما الاتحاد السوفيتي فقد استطاع أن يحقق هدفه الإستراتيجي الأول من الحرب، والمتمثل في تصفيته لخطر التوسع النازي القائم على حدوده، وبامتداد سيطرته العسكرية والسياسية والعقائدية إلى دول منطقة شرقي أوروبا، ونجاحه في أن يكتلها في حزام أمن عريض يدافع به عن كيانه ونفوذه ومصالحه. وقد أدى كل ذلك إلى إيجاد مجالات جديدة للاحتكاك والصراع الذي كاد أن يصل في مواقف عديدة إلى نقطة الانفجار.

       وقد أدت المتغيرات السابقة إلى توتر العلاقات بين الكتلتين، في مواقفهما وسياساتهما، ومضاعفة حدة التوترات الدولية، ويتضح ذلك من الآتي:

1. ضغط المتغيرات الإستراتيجية على سياسات الكتلتين.

أ.  بالنسبة للإستراتيجية الأمريكية:

         قامت على انتهاج إستراتيجية عنيفة عُرفت دولياً "بإستراتيجية الاحتواء" التي تدرجت فيما بعد، إلى اعتناق إستراتيجية الانتقام الشامل على ضوء تقويمها للآثار الدولية لتنفيذ إستراتيجية الاحتواء لفترة تزيد على الخمس سنوات، كان الهدف المعلن منها، إحباط نزعة التوسع السوفيتية، من خلال تطويق الاتحاد السوفيتي، ودول شرقي أوروبا، بجدار من الأحلاف والقواعد العسكرية التي تحول دون نفاذ السوفيت عبر خط التقسيم الفاصل بين الكتلتين، التي يسيطر عليها الغرب، مع محاولة الضغط على النظام السوفيتي من خلال العزل والاحتواء، حتى ينهار، وتنهار معه بالتالي منطقة نفوذه الواسعة في شرقي أوروبا، ولتنفيذ ذلك الهدف بشقيه أقيم حلف شمال الأطلسي، وحلف جنوب شرقي آسيا، وحلف بغداد، وحلف المعاهدة المركزية فيما بعد. أما إستراتيجية الانتقام الشامل التي تعدّ امتداداً لإستراتيجية الاحتواء في صورة معدلة، فقد بنيت في جوهرها على إنذار السوفيت بطريقة محددة وقاطعة، بتصميم الولايات المتحدة الأمريكية على استخدام أسلحتها النووية بصورة فورية وشاملة في الحالات التي يقع فيها اعتداء ضد الغرب في أي شكل وتحت أي تعليل. ويقترن هذا المفهوم بسياسات حافة الهاوية التي حاول وزير خارجية أمريكا الأسبق جون فوستر دالاس أن يطبقها ضد السوفيت.

ب. بالنسبة للإستراتيجية السوفيتية:

       تركزت في محاولة تثبيت النفوذ السوفيتي في دول منطقة شرقي أوروبا، من خلال عقد سلسلة من مواثيق الدفاع المشترك، أو الأمن المتبادل بين الاتحاد السوفيتي وبين كل من هذه الدول، وقد أعطت هذه المواثيق السوفيت حق الوجود، بل السيطرة العسكرية المباشرة على هذه الدول، يضاف إلى ذلك حرص الاتحاد السوفيتي على إيجاد أنظمة شيوعية فيها، تدين بأيديولوجيته، وتحمل الولاء المطلق له. ويفسر ذلك سلسلة إجراءات التطهير التي نفذها ضد بعض القيادات الحاكمة في شرقي أوروبا، لكي يضمن ولاءها، ولكي يكتلها بعيدا عن تحزبات المصالح الوطنية أو الولاءات القومية في محور واحد يواجه به النظام الرأسمالي العالمي بمركز ثقله المتمثل في قوة أمريكا .وقد رجع الاتحاد السوفيتي عن أسلوب المحالفات الثنائية فيما بعد، مستبدلا إياها بحلف جماعي كبير هو حلف وارسو الذي أصبح أداة المواجهة السوفيتية الرئيسية ضد حلف شمال الأطلسي.

ج. ومن الأمور الأخرى التي يمكن ملاحظتها بوضوح في هذه المرحلة، انهماك القوتين الأعظم في تدعيم ترسانتهما من الأسلحة النووية ومحاولتهما تنويع وسائل الردع فيها، في الوقت الذي استطاعت فيه الكتلة السوفيتية أن تنشئ أكبر قوة برية ضاربة في العالم. وإذا كان التفوق التكنولوجي الأمريكي في قطاع الأسلحة الذرية وقاذفات القنابل الإستراتيجية واضحاً في تلك الفترة، إلا أن ذلك لم يمنع السوفيت من بذل كل ما في استطاعتهم لكي يدعموا من إمكانات مواجهتهم ضد الغرب، وكان هذا السباق في قطاع التسلح الذري بكل مخاطره وتكاليفه، سببا جوهريا آخر من أسباب تفاقم الصراع بين الكتلتين . وقد تمثل الاعتقاد السائد في مفاهيمهما في ذلك الوقت، في أن القوة السياسية والدبلوماسية كانت انعكاساً للقوة النووية لهذه القوي الكبرى.

       هذا وقد ارتكز التوازن الإستراتيجي بين القوتين العظميين على مبدأ القدرة على التدمير بالضربة الأولى، ومؤداه أنه إذا بادرت إحدى هاتين القوتين في مهاجمة الأخرى بالأسلحة الذرية والهيدروجينية، فإن هذا الهجوم كان لابد أن ينتهي بتدمير عصب قوتها العسكرية والاقتصادية، ويشل من مقدرتها الثأرية. وهذه الحقيقة الإستراتيجية المهمة، كانت من أقوى الأسباب الكامنة، وراء تخوف الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد السوفيتي، في الحالات التي كان يتاح فيها لأي منهما قدر من التفوق في التسلح، بما يغذي فيه الميل نحو المبادأة بالهجوم. وقد ضاعف ذلك من عدم الثقة بين الطرفين، والتي انعكست بوضوح في مفاوضات نزع السلاح، وشحن جو العلاقة بينهما بالكثير من أسباب التوتر والخلاف.

2. ضغط المتغيرات المتعلقة بعمليات الاستقطاب الدولي على سياسات الحرب الباردة:

       شهدت هذه المرحلة بداية عملية الاستقطاب الدولي في أعنف صورها، وترتب على هـذا الاستقطاب أن أصبح المجتمع الدولي مقسماً، تقريباً، في نطاق كتلتين توفرت لكل منهما إمكانات هائلة من القوة، وتعتنق الدول المنضمة لكل منها أيديولوجية واحدة كانت تمثل الأساس الذي يرتفع فوقه تصورها لطبيعة دورها إزاء التحديات التي تتعرض لها من الكتلة التي تتصارع معها. كما انتهجت كلا الكتلتين إستراتيجية دولية تحدد مضمونها وهدفها، من واقع المصالح المشتركة للدول التي تشارك في مسؤولية تنفيذها.

       وقد قام تركيب هاتين القوتين على وجود قوة متفوقة في مركز التحكم والسيطرة، تتبعهما مجموعة من القوى أو الدول الأقل، وتتمتع هذه القوة المسيطرة بسلطة شبه مطلقة في تقرير كافة الأوضاع المتعلقة بهذه الإستراتيجية وتحديد أهدافها، بل أن الكتلتين في هذه المرحلة لم تخرجا في واقع الأمر عن كونهما أدوات تستخدمها كل منهما في إدارة صراعها وفرض تفوقها في مواجهة الأخرى. ويلاحظ في هذه الفترة، أن الاتجاهات الحيادية في السياسة الدولية لم تكن قد ظهرت بعد، ومن هنا فإن عملية الاستقطاب الدولي الثنائي استمرت على قدم وساق، ومن ثم كان تصنيف الدول على أساس انحيازها لهذه الكتلة أو تلك، أي بمعيار تبعيتها لأي من الطرفين. وقد أدي ذلك الوضع إلي زيادة التوتر نتيجة تسابق الكتلتين نحو ضم الدول الأخرى إليها، مستخدمة في ذلك أساليب التهديد والترغيب.

3. ضغط المتغير الأيديولوجي:

       لعل من أقوى الأسباب التي غذّت صراع القوتين العظميين، ووضعتهما في حالة من التأهب والمواجهة، ووصلت بسباق التسلح بينهما إلى درجة عالية من الخطورة، هو تعاظم دور الأيديولوجية في تعميق مجريات هذا الصراع، حتى لجأ الكثيرون إلى تصوير الحرب الباردة، على أنها كانت صراعا عقائديا بحتاً، وأن كل ما كان يحدث في الساحة الدولية لم يكن أكثر من رد فعل أو نتاج تلقائي لهذا الصراع العقائدي . بل إن هناك من كان ينظر إلى صراع الأيديولوجيات في هذه الفترة على أنه كان حرباً صليبية متعصبة من نوع جديد.

       وقد شهدت هذه الفترة صراعا بين الماركسية والرأسمالية، وامتدت جاذبيتها إلى الكثيرين من الشعوب والمجتمعات، بل وأصبحت في عالم ما بعد الحرب بمثابة إحدى القوي الرئيسية الحاكمة في سلوك الدول. كما أن هذه الأيديولوجيات أصبحت أداة الإستراتيجية غير المباشرة التي تنتهجها بعض القوي العظمي في المجتمع الدولي، وبخاصة الكتلة الشيوعية، كما تحولت الأيديولوجيات إلى وسيلة فعالة من وسائل حرب الدعايات الموجهة، وعمليات التشهير السياسي، والتحريض ضد أنظمة الحكم والتخريب الداخلي، والتأثير في اتجاهات الرأي العام.

4. الدعاية السوفيتية:

       ارتكزت دعاية الشيوعية الدولية، في نطاق التخطيط والتوجيه السياسي السوفيتي على تصوير الصراع الذي كان يدور على الصعيد العالمي، على أنه كان صراعا بين قوى السلم وقوي الحرب، وبين قوي الخير وقوي الشر، بين نظام اقتصادي واجتماعي أكثر اتفاقاً وتلاؤماً مع مقتضيات التطور الإنساني الهادف، وهو النظام الاشتراكي، وبين نظام آخر يتصادم ومنطق التطور التاريخي، وهو نظام تسيره الاحتكارات ويتغذى على الحروب، ويستمد قوته من استغلال الأقلية للأغلبية. ومن هنا أطلقت الدول الشيوعية على نفسها "جبهة القوي الدولية المحبة للسلام".

       وقد صور السوفيت الكتلة الغربية بأنها؛ على وشك الانهيار تحت ضغط التناقضات الحادة التي تصطدم وتتفاعل في كيانها، على حد إدعاء الشيوعيين، وبفعل الاستنزاف الاقتصادي والصراع السياسي والعقائدي الذي عانت منه هذه الدول نتيجة للحرب. ومن هنا، فقد عَّول السوفيت على الانتظار حتى تتحقق مثل هذه النتيجة المتوقعة، وعندها يمكن لسياساتهم أن تتأقلم بحسب ما سيسفر عنه الواقع الدولي الجديد. كما أن الأمم المتحدة أصبحت الساحة الرئيسة للحملات والمناورات الدعائية، التي كان يظن بالطبع أنها تخدم مخططات كل من الكتلتين إزاء الصراع الشامل الممتد الذي دار بينهما.

5. تأثير المتغير التكنولوجي:

       أدي ضعف تأثير المتغير التكنولوجي إلى أوضاع الحرب الباردة وسياساتها، وإلى زيادة التصلب في سلوك الكتلتين، وأسهم في تعميق الهوة التي تفصل بين مواقفهما وسياساتهما.

ثانياً: السياسة الدولية في مرحلة الانتقال أو بداية الانكسار من عام 1955-1962

       هناك العديد من المتغيرات الأساسية في الصورة العامة للحرب الباردة التي تمثلت في الآتي:

1. بداية التصاعد في تأثير المتغير التكنولوجي، وانعكاسه على ظروف الإستراتيجية الدولية:

       بدأ تأثير المتغير التكنولوجي في التنامي بشكل واضح خلال هذه المرحلة، وقد حدثت هذه الطفرة نتيجة لاختراع القنابل الهيدروجينية، وغيرها من الأسلحة النووية المتطورة، يضاف إلى ذلك عنصر الوفرة في الإنتاج مقترناً بالجهود التكنولوجية المكثفة التي بذلت لتنويع ترسانة الأسلحة النووية من إستراتيجية وتكتيكية، لتلائم الأنماط المختلفة من الصراعات والمجابهات الدولية، ثم جاء اختراع الصواريخ عابرة القارات حاملات الرؤوس النووية، ليدعم قدرات الحرب النووية ووسائل إداراتها، وفضلا عن ذلك كله، فإن التسلح النووي في مختلف قطاعاته، كان قد وصل مع نهاية هذه الفترة إلى ما اصطلح على تسميته بين خبراء الإستراتيجية الدولية، "بالتعادل النووي التقريبي" بين القوتين الأمريكية والسوفيتية. هذا وقد تحددت أبعاد التأثير الناتج في ظروف المتغير التكنولوجي في الآتي:

أ. بالنسبة للإستراتيجية الأمريكية: فقد أخذت تتحول من اعتناقها لمبدأ الانتقام الشامل، إلى تبني نظرية الحرب المحدودة، التي يمكن أن تستخدم فيها الأسلحة النووية التكتيكية أو الصغيرة.

       وذلك تضييقا لرقعة الحرب النووية، والحيلولة دون تصاعدها إلى حرب نووية إستراتيجية عامة. وهو الاحتمال الذي كان يحتم التوصل إلى ضوابط فعالة على استخدام الأسلحة النووية، من حيث القوة التدميرية والنطاق الجغرافي والأهداف السياسية لحروب المواجهة النووية بين القوتين العظميين، عندما تصبح مثل هذه المواجهات أمراً لا سبيل إلى تجنبه.

       ثم أخذ الاتجاه يتحول نحو اعتناق نظرية الاستجابة المرنة أو "الرد المرن" . وهى الإستراتيجية التي حاولت أن تصمم أنواعا محددة من الردود العسكرية، سواء تمت بالأسلحة النووية أو بالأسلحة التقليدية أو بكليهما على مختلف التحديات التي تواجهها القوة الأمريكية.

ب. أما بالنسبة للإستراتيجية السوفيتية: فقد أخذت هي الأخرى في التحول عن مبدأ حتمية الصراع بين النظامين الشيوعي والرأسمالي، إلى المبدأ الذي روّج له نيكيتا خروشوف، ودعا فيه إلى الإقرار بإمكانية التعايش السلمي بين الدول ذات الأنظمة السياسية والاجتماعية المختلفة، بل ذهب إلى حد التسليم بمشروعية تعدد الطرق نحو الاشتراكية.

       ولم يكن هذا التحول في مضمون الإستراتيجية السوفيتية منذ منتصف الخمسينيات بالأمر العفوي، وإنما جاء على سبيل الاستجابة الواعية لحقائق العصر النووي بكل ضغوطه وتوتراته ومحاذيره، إذ لم يكن من المتصور منطقيا أن يظل السوفيت معتنقين لمبدأ حتمية الصراع، وواثقين من إمكانية النصر النهائي على الرأسمالية العالمية، في الوقت الذي كان قد ثبت فيه، بما لا يدع مجالا للشك، أن الحرب النووية إذا وقعت فستكون حرب تدمير متبادل ونهاية لجميع أطرافها دون تمييز بين نظم شيوعية وأخرى رأسمالية، ومن ثم كان هذا التحول أقرب إلى مسايرة ضغوط القوة النووية المتصاعدة.

2. بداية التقلص في ضغوط القطبية الثنائية:

       تعرض هيكل النظام الدولي خلال هذه المرحلة والمرتكز على الثنائي القطبية، إلى العديد من الشروخ والتصدعات نتيجة للآتي:

أ.   تعاظم إمكانات بعض الدول الداخلة في نطاق هذه التكتلات مثل السوق الأوربية المشتركة التي أخذت تؤكد على استقلالها في مواجهة النزعات التسلطية للولايات المتحدة الأمريكية.

ب. تمّرد الصين على زعامة الاتحاد السوفيتي للحركة الشيوعية العالمية، بعد إدانة جوزيف ستالين وأساليبه التسلطية من قبل الزعامة السوفيتية الجديدة في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي عام 1956.

ج. الشكوك التي ثارت بين الكتلتين حول قيمة وفعالية ضمانات الحماية النووية التي تقدمها القوتان العظميان لحلفائهما، وكانت أكثر الدول التي تأثرت بهذه الشكوك هي فرنسا والصين ومن ثم عارضت هاتان الدولتان سياسة حظر الانتشار النووي واندفعتا على تنفيذ برامجهما الوطنية لإنتاج الأسلحة النووية لتكون بديلاً لضمانات الحماية المشكوك فيها.

د.   شهدت هذه المرحلة بداية التحول في العلاقة القائمة بين الأقطاب والتوابع من النمط التسلطي إلى النمط القائم على المشاركة.

هـ. ظهور العالم الأفرو ـ آسيوي قوة غير منحازة في السياسة الدولية، واتساع رقعة الأرض المحايدة.

3. التغير في أشكال الأنماط الدعائية التقليدية للكتلتين ومضامينها:

       بدأت أنماط الدعاية التي جاءت بالمرحلة الأولي في التغير شكلاً ومضموناً عما كانت عليه لتصبح أكثر مسايرة وتعبيراً عن حقائق الوضع الدولي الجديد. وقد عملت الدعايات السوفيتية والغربية إلى التركيز على حقائق الوضع الدولي بدلا من اعتمادها على الشعارات والمثاليات المجردة. فلم يكن من المنطقي مثلاً أن ينتهج الاتحاد السوفيتي إستراتيجية دولية تبني في أساسها على الدعوة إلى تطبيق مبدأ التعايش السلمي في علاقات الكتلتين، في الوقت الذي تستمر فيه الدعايات السوفيتية في حربها الدعائية ضد الدول الغربية الرأسمالية، فذلك أن حدث كان يخلق تناقضاً مصطنعاً بين ما يدعيه الاتحاد السوفيتي كسياسة رسمية له وبين ما تروج له أجهزته الدعائية.

4.التدهور في أهمية المتغيرات الأيديولوجية:

       اكتسب الخط الأيديولوجي أو العقائدي للكتلتين، درجة كبيرة من المرونة التي ساعدت على كسر حدة التقلب القديم في أوضاع المجابهة بينهما، ولم تعد الأيديولوجية قوة ضاغطة في اتجاه لا يخدم السلم والاستقرار في العالم.

ثالثاً: سياسات الحرب الباردة في مرحلة الانفراج عام 1963-1968.

       في هذه المرحلة، بدأت الحرب الباردة تدخل طوراً جديداً ومهماً من أطوارها التاريخية، تميزت بحدوث انفراج سياسي ضخم نسبيا في العلاقات المتبادلة للقوتين العظميين من جهة، وفي علاقات شطري القارة الأوروبية بعضهما ببعض من جهة أخرى. وقد اقترن بهذا الانفراج بروز محاور جديدة للحركة في السياسة الدولية، وهي المحاور التي عاقت ظروف الحرب الباردة في السابق دون استخدامها بطريقة تستطيع أن تدعم من المصالح المشتركة للدول، وتضيق من فجوة عدم الثقة بينها وتساعدها على تنفيذ السياسات والتدابير الضرورية لصيانة السلم الدولي. وفي الحقيقة إن الانفراج في العلاقات الدولية على هذا النحو، قد تحقق بعد التأثيرات الإيجابية المتزايدة لعدد من المتغيرات، وفيما يلي عرض للكيفية التي تم بها هذا التأثير:

1. التعاظم المستمر في ضغط المتغيرات التكنولوجية على الإستراتيجية الدولية.

       أخذ الضغط المتولد عن التطور في ظروف المتغيرات التكنولوجية العسكرية يتضاعف بشكل خطير، ومن ذلك مثلاً؛ أن الخصائص التكنيكية للصواريخ النووية الهجومية كانت قد تحسنت بدرجة ضاعفت كثيراً من مقدرتها التدميرية، يضاف إلى ذلك دخول القوتين العظميين مرحلة إنتاج الصواريخ الهجومية ذات الرؤوس النووية المتعددة ـ ميرف Merv ـ وهو ما كان يحقق إضافة ضخمة جديدة إلى مقدرات الحرب النووية، وقد اقترن بذلك عمل الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي على تنويع وسائل الردع المتاحة ونشرها بما يضمن تقليل احتمالات الدمار الذي يمكن أن تتعرضا له في حالة وقوع حرب نووية إستراتيجية، وهو بالتالي ما كان يزيد من فعالية هذا الردع ويرفع من درجة المخاطرة في حالة تفكير أحد الطرفين في القيام بحرب نووية هجومية ضد الطرف الآخر.

       وقد شهدت هذه المرحلة كذلك، دخول الصين الشيوعية لحلبة التسليح النووي، وهو ما كان يهدد بحدوث خلل في أوضاع التوازن الإستراتيجي بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، كما شكل تحدياً خطيراً لأمنهما القومي ومصالحهما الإستراتيجية في فترة السبعينيات، وبدأت الولايات المتحدة الأمريكية في التفكير جدياً في إنشاء شبكة الصواريخ الدفاعية التي أثارت جدلاً سياسياً وإستراتيجياً عنيفاً، بسبب تكاليف هذا المشروع المادية الخيالية، علاوة على أنه يخلق ردود أفعال عنيفة في سباق التسلح الإستراتيجي بين القوتين العظميين في المجالين الدفاعي والهجومي معا، مهدداً بذلك أوضاع الاستقرار الإستراتيجي التي سادت بينهما، وهذه النقطة بالذات، كانت من بين أهم دوافع التقارب الأمريكي ـ السوفيتي حول ضرورة التوصل إلى ضوابط محددة وفعالة على عمليات التسلح الإستراتيجي.

2. اطراد التفكك في نظام القطبية الثنائية:

       تزايدت النزاعات الاستقلالية وتعددت مظاهر حرية الحركة داخل الكتلتين التي كان من بينها على سبيل المثال:

أ.   انسحاب فرنسا من القيادة العسكرية المشتركة لحلف شمال الأطلسي عام 1966.

ب.              اتجاه رومانيا نحو الاستقلال في سياستها الخارجية عن السياسة السوفيتية، وتأكيدها على أن التكتلات والأحلاف العسكرية أصبحت فاقدة لروح العصر وأنها لم تعد تتفق واعتبارات السيادة القومية.

ج. تطبيق ألمانيا الغربية لسياسات الانفتاح على الشرق، من أجل إنهاء المواجهة بين شطري أوروبا وإيجاد مناطق أكبر للاتفاق مع الاتحاد السوفيتي ودول أوروبا الشرقية، وقد استجابت الدبلوماسية السوفيتية بسرعة لسياسات ألمانيا الغربية في الانفتاح على الشرق.

 

رابعاً: السياسة الدولية في مرحلة الوفاق الدولي 1969-1979م

       تميزت هذه المرحلة بحل المشكلات بين القطبين عن طريق التفاوض والحدّ من الأسلحة النووية، وبداية التعاون التكنولوجي والاقتصادي بين المعسكرين، والتوصل المشترك إلى أوضاع مصلحية توازنية في البؤر الساخنة من العالم، وفي المجال الإستراتيجي أصبح يحكم القطبين قواعد توازن الردع النووي بعد توازن الرعب النووي.

       والواقع أن الوفاق، مثل في منهجه قمة الثورة على سياسات الحرب الباردة، حيث هيأ مجالات واسعة للتعاون السياسي والاقتصادي والفني والتكنولوجي والثقافي بين القوتين العظميين.

وترجع أسباب هذا الوفاق لعدة عوامل منها على سبيل المثال:

1.   الإدراك الكامل أن الاستمرار في سباق التسلح بينهما لزيادة فاعلية الردع، أدّى إلى تفجّر صراعات دولية ساخنة في مناطق مختلفة من العالم.

2.   وجود أوضاع من التخلخل والتفكك داخل كلا الكتلتين، مثل الصراع الصيني – السوفيتي في الكتلة الشيوعية والنزعات الانقسامية أو الاستقلالية حول السياسات والمصالح القومية في مجموعة دول شرقي أوروبا .

3.   وجود حزام عريض من الدول غير المنحازة في السياسة الدولية، أو ما يطلق عليه "العالم الثالث" التي لا تدخل دوله في إطار السيطرة المباشرة لأي منهما، علاوة على الانقسامات في اتجاهات الأحزاب الشيوعية في العالم.

4.   رغبة الاتحاد السوفيتي في توفير مناخ ملائم لعمليات التطور والتنمية الداخلية وبخاصة في النواحي الاقتصادية والإدارية.

المتغيرات التي أدّت إلى الوفاق الدّولي:

1. بدأ اقتناع القوتين العظميين، بأن نظم الأسلحة الإستراتيجية، لم تعد تضيف فرصاً جديدة للشعور بالأمن والحماية لأي منهما، وأخذت تتردد بعض الحجج بضرورة تقييد سباق التسلح لهذه الأنواع من الأسلحة وعلى سبيل المثال:

أ.   أنه لا يمكن التخيل أن تشن أي قوة منهما هجوماً نووياً ضد الأخرى، دون أن يتوقع أن يكون رد الفعل ضده أعنف بكثير، وهذا كله ما يجعل من فكرة السباق في مجال الأسلحة الإستراتيجية أمراً غير مرغوب فيه.

ب. أن النفقات المالية الهائلة التي تتكبدها الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي في إنتاج أسلحة إستراتيجية، لا تعطي أي قيمة عسكرية توازي هذا الإنفاق، إنما تستخدم لأغراض نفسية بالدرجة الأولى.

ج . أنه من الأفضل تقييد إنتاج هذه الأسلحة في ظروف التوازن الإستراتيجي بين القوتين، بدلاً من ترك سباق الأسلحة الإستراتيجية بينهما، يتصاعد أبعد مما وصل إليه.

       وتأثراً بجانب كبير من وجهات النظر تلك، بدأت مباحثات الحد من الأسلحة الإستراتيجية بين البلدين في نوفمبر عام 1969، وانتهت المرحلة الأولى بتوقيع معاهدة الحد من الأسلحة الإستراتيجية بموسكو في مايو 1972.

2. في مارس 1969 أصدر زعماء دول حلف وارسو في اجتماعهم ببودابست، إعلاناً بعنوان:

"رسالة من دول حلف وارسو إلى كل الدولة الأوروبية"، واشتمل الإعلان على ثلاثة مقترحات لدعم أواصر التقارب الأوروبي هي:

أ.   تقوية علاقات التعاون السياسي والاقتصادي بين الدول الأوروبية جميعاً وبلا استثناء.

ب. الاعتراف بالأمر الواقع في أوروبا، مع البحث عن سبل لحل المشكلة الألمانية.

ج. الدعوة إلى عقد مؤتمر عام للأمن الأوروبي.

       ثم كان هناك الاجتماع الآخر الذي عقده رؤساء حكومات ووزراء خارجية دول حلف وارسو في أغسطس 1970، عقب التوقيع على المعاهد السوفيتية – الألمانية، وصدور بيان يعرب عن ارتياح دول الحلف البالغ لتوقيع هذه المعاهدة.

       وقد وجدت دعوات حلف وارسو تجاوباً حقيقياً من الدول الغربية، وهو التجاوب الذي أدى فعلاً إلى انعقاد مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي عام 1972 بحضور أكثر من ثلاثين دولة أوروبية، وباشتراك الولايات المتحدة الأمريكية وكندا[1].

خامساً: مرحلة التشدد الأمريكي "الحرب الباردة الثانية" 1979-1985:

       امتدت هذه المرحلة من أواخر السبعينيات وحتى منتصف الثمانينات، وتميزت هذه المرحلة بمحاولة كل قطب التفوق في ميادين الأسلحة الإستراتيجية لإحداث خلل في توازن الردع النووي، وتعدى السباق مجال الصواريخ بأنواعها إلى مجال الفضاء.

       والواقع أن الطفرة التي حققتها الولايات المتحدة الأمريكية في مجال تعزيز مكاسبها الإستراتيجية في الشرق الأوسط، تعرضت لانتكاسة هائلة بفعل حدثين جديدين، فقد نشبت الثورة في إيران وتحرك الاتحاد السوفيتي لاحتلال أفغانستان عام 1979، وتم هذا كله في بضعة شهور، وأصبح واضحاً أن الولايات المتحدة الأمريكية أخذت تفقد زمام السيطرة على حركة الأحداث في تلك المنطقة، ومن هنا بدأت تعيد حساباتها، وسط قناعة تامة في تغير ميزان القوة في العالم لصالح الاتحاد السوفيتي، بالإضافة إلى تزايد التدخل السوفيتي في بعض المناطق الإستراتيجية المهمة من العالم، مثلما حدث في جنوب غربي آسيا[2]. ومن ثم كان التشدد الأمريكي تجاه علاقته مع الاتحاد السوفيتي، ومثال ذلك عدم التصديق على اتفاقية سولت-2  Salt-2للحد من الأسلحة الذرية، كما وضعت القيود في علاقاتهما الاقتصادية ومقاطعة الدورة الأولمبية في موسكو وتشكيل قوة للتدخل السريع، لسرعة تدخل القوات الأمريكية في مناطق الصراع من العالم في: آسيا – الشرق الأوسط – مناطق أخرى، وكذلك السعي نحو إيجاد قواعد عسكرية لها في مناطق عديدة من العالم، وتزايد اهتمامها بالتركيز على تطوير قوات حلف شمال الأطلسي.

       وكان الرئيس الأمريكي رونالد ريجان ووزير خارجيته ألكسندر هيج ينظران إلى سياسة الوفاق على أنها سياسة الاتجاه الواحد في تقديم التنازلات للكتلة السوفيتية، وهي السياسة التي أدت إلى إصابة الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في أوروبا الغربية بالشلل. وفي ضوء هذا التصور للموقف الدولي من زاوية العلاقة الإستراتيجية مع الاتحاد السوفيتي، كانت قناعة إدارة الرئيس رونالد ريجان بأن سياسة حرية الحركة التي كانت الولايات المتحدة الأمريكية تنتهجها تجاه دول العالم الثالث، لم يعد ثمة معنى للإصرار عليها أو المضي فيها، وإنما كان عليها أن تختفي لتحل محلها سياسة جديدة هدفها ردع السوفيت من استغلال الخلافات الداخلية في هذه الدول، سواء في الشرق الأوسط أو في أمريكا اللاتينية وأفريقيا وغيرها.

       وتأسيساً على الاعتبارات السابقة، فقد أعلنت حكومة الرئيس ريجان عن تبنيها لمبدأ الإجماع الإستراتيجي، الذي يرتكز في تأسيسه على مجموعة متكاملة من السياسات التي تهدف إلى عقد اتفاق بين الدول المعتدلة الموالية للغرب في منطقتي الشرق الأوسط وجنوب غربي آسيا لتحييد تهديدات القوة السوفيتية، وفي الوقت نفسه إقامة حزام أمن إقليمي في وجه محاولات التوسع السوفيتي، كما قامت الولايات المتحدة الأمريكية بنشر الأسلحة النووية في أوروبا، خاصة الصواريخ متوسطة المدى، إضافة إلى دعم قوات حلف شمال الأطلسي، وكذلك اتجاهها نحو اتباع سياسة التدخل في مناطق عديدة من دول العالم، مثل التدخل العسكري في جرينادا في أمريكا الوسطى، ومحاربة أي توسع شيوعي جديد.

سادساً: مرحلة انحسار المد السوفيتي مع تولى ميخائيل جورباتشوف 1985–1991:

       عندما تولى الرئيس السوفيتي ميخائيل جورباتشوف مقاليد السلطة في الاتحاد السوفيتي وانتهج سياسة البريسترويكا والجلاسنوست[3]، واتجاهه لإحداث تقارب بين الفكر السوفيتي من ناحية والفكر الغربي من ناحية أخرى، كان ذلك التوجه مبنياً على أساس أن هناك عالماً واحداً يواجه تحديات مشتركة، ومن لا يعي ذلك فمصيره الفناء.

       واتضحت الممارسات السوفيتية الجديدة في عدة صور منها على سبيل المثال:

1. نزع جيل كامل من الصواريخ متوسطة المدى من أوروبا الشرقية.

2. ضرورة تسوية الصراعات الإقليمية، ومنها الصراع العربي ـ الإسرائيلي، بصورة أو بأخرى، ولكنه لم يحدد كيفية تحقيق هذه التسوية، نتيجة لأن فكرة توازن المصالح التي تمت على أساسها التسوية في الفكر السوفيتي، كانت غامضة إلى حد كبير.

3. ضعف الدور السوفيتي نتيجة انغماسه في مشكلاته الداخلية ومشكلات دول حلف وارسو.

الإستراتيجية السوفيتية في مواجهة الإستراتيجية الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط .

       كان حلف جنوب شرق آسيا وحلف بغداد أقل نجاحاً في تحجيم القوى الشيوعية، بل أدى إلى توجيه اهتمام الاتحاد السوفيتي تجاه منطقة الشرق الأوسط، فوجهت سياستها تجاه دول المنطقة من خلال حملة دعائية إلى الوجود البريطاني بالمنطقة، واستغل الدين في محاولة لجمع الجاليات الأرثوذكسية والأرمنية في جانبه. غير أن هذه السياسة لم تنجح، فقد كانت من نتائجها دخول الولايات المتحدة الأمريكية إلى المنطقة بقوة، وإثارة عداء الحكومات العربية ومخاوف البورجوازية العربية ذات الاتجاه القومي، وتحويل أجهزة الأمن بكاملها ضد الأحزاب الشيوعية سواء في العراق أو إيران أو مصر.

       وكان واضحاً أن التفكير السوفيتي في المنطقة بحاجة إلى تقويم عام، لكن تأخر ذلك إلى أوائل الخمسينيات، فقد تلاشى التقسيم القديم الذي قسمت الحرب الباردة العالم بموجبه إلى معسكرين متناقضين اشتراكي ورأسمالي، فقد خططت الهند ودول أسيوية عديدة سياستها نحو طريق ثالث بين المعسكرين المتحاربين، وبدأ الاتحاد السوفيتي وحلفاؤه يخرجون من عزلتهم الدولية بجس نبض الدول التي لم تشترك في الحرب الباردة، من خلال تفحص دور البورجوازية الوطنية في آسيا والشرق الأوسط وأفريقيا، وقد أدى هذا النهج من التفكير دوراً متزايداً خلال المؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي السوفيتي في يوليه 1952 حين أعلن جيورجي مالينكوف[4] حق الشعوب في اختيار أيديولوجيتها الخاصة، ووجه نداء للتعاطف مع الحكومات التي تتبع سياسة سلمية مستقلة.

       وعلى كل، توالت الحوادث لمصلحة الاتحاد السوفيتي، فالبلاد التي استقلت حديثاً في آسيا والشرق الأوسط كانت شديدة الثقة بنفسها، ولذلك اصطدمت بمستشاريها الغربيين السابقين، وكان من المهم لموسكو أن تتفق وتنسجم مع هذه العاطفة الجديدة الحيوية المعادية للاستعمار حتى لو كانت غير شيوعية.

       ففي الشرق الأوسط، أخفق الغرب في أن يجعل من نفسه حليفاً للعرب، بسبب عدم ثقتهم في قوى الاستعمار القديم، ومن ثم عدم قبوله حليفاً لهم ضد التهديد العسكري السوفيتي. بل واتهم العرب الدول الغربية ببناء دولة معادية لهم في المنطقة، تجمع شتات يهود العالم، هي إسرائيل. إضافة إلى استمرار وجودها العسكري والسياسي في أجزاء عديدة من العالم العربي، وهكذا بدا للعديد من الدول العربية أن الغرب هو العقبة الرئيسة ضد استقلالهم ووحدتهم، ورأوا أن حلفاً دفاعياً ضد الاتحاد السوفيتي ـ طبقاً للرؤية الغربية ـ سوف يبعدهم عن معركتهم الأساسية ضد إسرائيل، ويعيد إليهم الاستعمار بشكل جديد ومُقنَّع، وتحت ضغط من الغرب بالانضمام للحلف، تراجعوا إلى فكرة الحياد.

       ورأى قادة الاتحاد السوفيتي أن حياد العرب كان كافياً لإحباط الخطط الدفاعية الغربية، ولم يكن السوفيت بحاجة إلا إلى خطوة صغيرة من جانبهم كي يرفعوا قادة البورجوازية الوطنية العربية إلى مركز حلفاء مرموقين في معسكر النضال ضد الإمبريالية. وهكذا كان الطريق ممهداً لتقارب العرب مع الاتحاد السوفيتي ودول أوروبا الشرقية، فمهدت لعلاقاتها بحملات إعلامية واسعة وإمدادات دفاعية ودعم سياسي ومساعدات اقتصادية.

       وكانت مصر في طليعة الدول التي استفادت من السياسة الجديدة للاتحاد السوفيتي، من خلال صفقة الأسلحة التشيكية عام 1955، ثم تلتها سورية بعد ذلك، حيث استرعت اهتمام السوفيت منذ سقوط الحكومة السورية برئاسة أديب الشيشكلي في أوائل عام 1954[5]، فوقف بجانبها في أزمة حلف بغداد في فبراير عام 1955، ثم تعاقد معها على العديد من الصفقات، حيث وصلت قيمة مشتريات سورية من الأسلحة السوفيتية خلال الفترة من عام1954 حتى 1957 إلى مائة مليون جنيه إسترليني.

       وكان أكبر المكاسب التي حققها الاتحاد السوفيتي في الشرق الأوسط، هو الوقوف بجانب مصر في العدوان الثلاثي عام 1956، وإصدار الإنذار السوفيتي إلى إنجلترا وفرنسا، وقد كان لهذا الموقف السوفيتي أثره الكبير في تزايد التيار المؤيد له، وبدأت الأحزاب الشيوعية تنشط وتزدهر في البلدان العربية. وهكذا، بينما فشلت السياسة الأمريكية في ملء الفراغ بمنطقة الشرق الأوسط، حقق الاتحاد السوفيتي مكاسب كبرى بالمنطقة.

       واتجه الاتحاد السوفيتي ناحية سورية، خاصة بعد ظهور الحزب الشيوعي بقيادة خالد بكداش بوصفه إحدى القوى المؤثرة في الساحة السورية، ولكن كانت الوحدة التي تمت بين مصر وسورية عام 1958 ضربه للمخطط السوفيتي في المنطقة حيث منعت سورية من الوقوع في الفلك الشيوعي، ومن ثم بدأ النزاع بين الرئيس جمال عبدالناصر والاتحاد السوفيتي، حتى حدوث الانفصال في عام 1961.

       وفي أعقاب حرب يونيه 1967، حقق الاتحاد السوفيتي مكاسب كبيرة من خلال زيادة السيطرة على مصر وسورية وإدخالهما ضمن مناطق النفوذ السوفيتي، مستفيداً من روح العداء للولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط بعد الحرب، كما تمكن الاتحاد السوفيتي من السيطرة على جنوب اليمن.

 



[1]  كما عقد الزعيمان السوفيتي والأمريكي اجتماعاً في مايو 1972 وصدر عنهما بيان مشترك لإرساء مبادئ العلاقات بين البلدين من أجل إعطاء هذا الوفاق مضموناً حقيقياً.

[2]  استغل الاتحاد السوفيتي سياسة الانفراج، وبدأ يعمل على تحقيق عدة مكاسب كما حدث في أنجولا وإثيوبيا عام 1977.

[3]  الجلاسنوست: تعني سياسة المكاشفة أو المصارحة بالأمور والمواقف خاصة على المستويين الاقتصادي والسياسي من أجل تعريف الشعوب بما يدور على مستوى الاتحاد خاصة في المجال الاقتصادي.

[4]  جيورجي مسكيميليا نوفيتش مالينكوف: تولى رئاسة الوزارة 1953 – 1955 بعد وفاة ستالين، عمل على تقليص الاعتمادات المخصصة لإنتاج الأسلحة وعلى زيادة إنتاج السلع الاستهلاكية، طرد عام 1964 من عضوية الحزب الشيوعي.

[5]  وكان أديب الشيشلكي هو أحد الضباط السوريين الذين نفذوا انقلاباً عسكرياً واستولوا على الحكم في سورية.