إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / انهيار الاتحاد السوفيتي






جمهوريات الاتحاد السوفيتي
جمهورية مولدافيا
جمهورية أوزبكستان
جمهورية أوكرانيا
جمهورية لاتفيا
جمهورية ليتوانيا
جمهورية أرمينيا
جمهورية أستونيا
جمهورية أذربيجان
جمهورية تركمنستان
جمهورية جورجيا
جمهورية روسيا الاتحادية
جمهورية روسيا البيضاء
جمهورية طاجيكستان
جمهورية كازاخستان
جمهورية قيرقيزستان
رابطة الكومنولث الجديد



المبحث السادس

المبحث السادس

تداعيات الانهيار والانفراد الأمريكي

أولاً: تداعيات الانهيار

       بعد تكوين الكومنولث تكشف أن معدل التضخم يتزايد بنسبة 3% أسبوعياً. وأن 40% من الشعوب السوفيتية السابقة، يبلغ متوسط دخل الفرد الشهري فيها نحو مائة روبل فقط، أي ما يقل عن دولار واحد، وهو لا يغطي سعر كيلو جرام من اللحم.

       ومع إعلان يلتسين شعار الانتقال الفوري وغير المشروط عن إطلاق حرية الأسعار والأجور دون ضوابط، إلا قواعد العرض والطلب، ورغم اعتراض جمهوريات الكومنولث على انفراد روسيا بهذا القرار، إلا أن هستيريا الرأسمالية، أصبحت هي طريق ثراء الوطن والمواطن، وأصبحت أمريكا تضغط على الجميع للسير في هذا الاتجاه.

       وقد قرر المراقبون للأحداث الاقتصادية في جمهوريات الكومنولث، أنه إن آجلاً أو عاجلاً، فإن مسيرات الجوع الجماهيرية الغاضبة سوف تسيطر على الساحة السياسية في هذه الجمهوريات، وبذلك تتعرى ديمقراطيتهم الزائفة وقد يفقدون السيطرة والسلطة.

أبعاد التفكك الاقتصادي في كومنولث الدول المستقلة:

ظهرت أزمة التفكك الاقتصادي في كومنولث الدول المستقلة على مستويات ثلاث هي:

1. المستوى المحلي:

       يعكس معضلات بناء نظام اقتصاد السوق الجديد ليحل محل نظام اقتصاد الأوامر في جميع الجمهوريات السوفيتية السابقة، بما في ذلك دول البلطيق الثلاث التي لم تنضم إلى الكومنولث.

2. المستوى الإقليمي:

       يرتبط بتفكك الروابط الاقتصادية الهيكلية التي تكونت تاريخياً بين الجمهوريات التي استقلت بانهيار الاتحاد السوفيتي السابق.

3. المستوى العالمي:

       ويتجسد في التفكك الموروث بين اقتصاديات الجمهوريات المذكورة والاقتصاد العالمي.

       ونلاحظ أولاً أن أزمة تفكك النظام الاقتصادي في كل من دول الكومنولث تمثل نتاجاً منطقياً لتقويض آليات اقتصاد السوق، فقد تفككت الروابط الاقتصادية بين القطاعات والفروع والمؤسسات والمشروعات الاقتصادية، ولكن بدرجات تتفاوت حسب مدى راديكالية إجراءات تقويض النظام الاقتصادي القديم في كل دولة من الدول الجديدة، وارتبط اتجاه أعضاء كومنولث الدول المستقلة نحو تنفيذ سياسات الاستقرار الاقتصادي والتصحيح الهيكلي وتحرير التجارة، بتدهور أشد لمؤشرات أدائها الاقتصادي نتيجة غياب التناسب الضروري بين هدم النظام الاقتصادي القديم وبناء النظام الاقتصادي الجديد.

       ثانياً: أن أزمة التفكك الاقتصادي الإقليمي تُجسد انهيار آليات تخطيط وإدارة تدفقات السلع والخدمات وتسوية المدفوعات وأجهزة صنع السياسات الاقتصادية، وذلك بانهيار أجهزة الدولة المركزية التي جسدها الاتحاد السوفيتي السابق.

       ثالثاً: إن ما نسميه أزمة فك الارتباط مع السوق العالمي تعكس تشكل اقتصاديات الجمهوريات السوفيتية سابقاً، أو اقتصاديات دول الكومنولث حالياً، في إطار إستراتيجية للتنمية استندت إلى فلسفة الاستقلال الاقتصادي عن السوق الرأسمالي العالمي، وقد ترتب على هذه الإستراتيجية ميراث ضعيف عن الاتحاد السوفيتي السابق في العلاقات الاقتصادية الدولية، أصبح يمثل قيداً رئيساً على إعادة بناء العلاقات الاقتصادية بين دول الكومنولث وبقية العالم.

1. تفكك النظام الاقتصادي في دول الكومنولث:

       ألفت برامج الإصلاح الاقتصادي الليبرالي التي تتبناها دول الكومنولث، من سلسلة مترابطة من السياسات الاقتصادية التي هدفت إلى تحول اقتصاديات السوق. إذ طبقت هذه البلدان في إطار اتفاقات مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لتحقيق الاستقرار الاقتصادي لتصحيح الإختلالات الداخلية مثل عجز الموازنة والدين العام الداخلي والتضخم الجامح. والاختلالات الخارجية مثل عجز موازين التجارة والمدفوعات والمديونية الخارجية وسياسات استهدفت التصحيح الهيكلي مثل تحرير الأسعار، وإخضاعها لآليات السوق ترشيداً لاستخدام الموارد وتخصيصها، وتنفيذ برامج التخصيصية لتقليص هيمنة القطاع العام في الاقتصاد، وتوفير الحوافز للاستثمار الخاص والمبادرة الفردية، إلى جانب سياسات تدفع نحو تحرير القطاع الخارجي مثل تحرير الواردات والصرف الأجنبي وتشجيع الاستثمار الأجنبي.

       الآتي يعد أهم مؤشرات الأداء الاقتصادي الداخلي والخارجي للدول أعضاء رابطة الكومنولث.

أ.       تناقص الإنتاج السلعي:

       طبقاً للإحصاءات الرسمية لدول الكومنولث المستقلة التي نشرتها اللجنة الإحصائية
لأسرة الدولة المستقلة، والتي قد تنزع إلى التهوين من شأن تدهور مؤشرات الأداء الاقتصادي، فإن هذا التدهور كان حاداً في جميع هذه الدول في عامي 1992 و1993 اللاحقين لانهيار الاتحاد السوفيتي مقارنة بعامي 1990 و1991 الأخيرين في عمر الدولة السوفيتية. وهكذا، فإن الناتج المادي الصافي قد انخفض بشدة في جميع دول الكومنولث باستثناء تركمانستان التي زاد فيها بنحو 35.8% بفضل صادراتها البترولية أساساً.

       واستمر تناقص الإنتاج والدخل في دول الكومنولث خلال عام 1993 لمجموع الدول المذكورة حوالي 69.8%، أي انخفض بنحو الثلث، مقارنة بعام 1991.

       وأما التضخم، طبقاً للبيانات الرسمية، فقد تضاعف الرقم القياسي لأسعار التجزئة للسلع الاستهلاكية في عام 1993 بأكثر من 500 مرة مقارنة بعام 1991، كما قدر حجم البطالة بنحو 1.2 مليون مشتغل في الدول الإحدى عشرة المذكورة أعضاء الكومنولث، منهم حوالي 70% في روسيا، وذلك في نهاية عام 1993، وذلك في بلدان لم تعرف البطالة من قبل، وارتبطت البطالة في روسيا بعودة واسعة نسبياً للروس من الخارج، مع معدل سلبي للزيادة الطبيعية للسكان خلال عام 1992 و1993.

       ورغم جهود كبح التضخم وما تولده من بطالة وما تدفع إليه من تدهور للإنتاج، فإن مشروع الموازنة المعدل عام 1994، الذي صدق عليه مجلس الدوما ـ للبرلمان الجديد المنتخب ـ يتضمن عجزاً يعادل 70 تريليون روبل أو نحو 10% من الناتج القومي الإجمالي.

ب. تدهور التجارة الخارجية:

       انعكست أزمة التفكك الاقتصادي التي عاشتها دول الكومنولث المستقلة منذ التفكيك الرسمي للاتحاد السوفيتي السابق، وعجز السياسات الاقتصادية عن إدارة الانتقال الصعب من اقتصاد الأوامر إلى اقتصاد السوق، على أداء القطاع الاقتصادي الخارجي لهذه الدول. وهكذا، فقد تراجعت صادرات الإحدى عشرة دولة المذكورة من 59.7 مليار دولار في عام 1991 إلى 52.2 مليار دولار في عام 1992، ثم إلى 50.9 مليار دولار في عام 1992، وكان تدهور الواردات أشد، حيث انخفضت قيمتها من 59.7 مليار دولار إلى 44.4 مليار دولار ثم إلى 32.9 مليار دولار.

       وفي المحصلة حققت كل من روسيا وكازاخستان وأوكرانيا وتركمانستان وأذربيجان فوائض متواضعة في موازينها التجارية لعام 1993، تراوحت بين 100 مليون و900 مليون دولار فقط للدول الأربع الأخيرة.

       ورغم أن فائض الميزان التجاري لروسيا قد تجاوز 16 مليار دولار في عام 1993، فإن نمو صادراتها إلى 42.1 مليار دولار في هذا العام مقابل 42.4 مليار دولار في عام 1992، كان محدوداً للغاية بحيث بقيت الصادرات الروسية أدنى بكثير من قيمتها في عام 1991 حين بلغت 50.9 مليار دولار.

2. تفكك الروابط الاقتصادية بين ورثة الاتحاد السوفيتي:

       إن تقويض آليات إدارة الاعتماد الاقتصادي المتبادل بين الجمهوريات الوريثة للاتحاد السوفيتي السابق، يمثل قيداً حاسماً على تطوير العلاقات الاقتصادية بين الكومنولث الروسي وبقية العالم، ويبدو هذا الاعتماد المتبادل غير متكافئ من زاوية تفاوت مستوياته المقارنة بين الورثة. وينعكس في صورة تفاوت القدرات على إعادة بناء العلاقات الاقتصادية الدولية بعد الاستقلال.

       الروابط والمصالح والمخاوف المتبادلة بين دول الكومنولث وتأثيرها في إمكانات إعادة بناء وتوسيع العلاقات الاقتصادية بينها وبين دول العالم.

أ. عوامل الانضمام للكومنولث:

       الواقع أن ميراث الاعتماد الاقتصادي المتبادل وتكامل الهياكل الإنتاجية يظهر بوضوح من تحليل نسب التدفقات السلعية للجمهوريات السوفيتية سابقا إلى الناتج المحلي الإجمالي لكل منهما ولكن باستبعاد معظم الخدمات وفق التعريف السوفيتي.

       وهكذا، وفقاً للبيانات المتاحة فإن نسبة التدفقات السلعية للجمهوريات السوفيتية سابقاً إلى الناتج المادي الصافي قد بلغت 70% لروسيا البيضاء، وترواحت بين 61% و66% لكل من أستونيا وليتوانيا، وهو ما يفسر عمق الأزمة الاقتصادية في دول البلطيق، وبلغت نحو 64% لأرمينيا، ونحو 62% بالنسبة لمولدافيا، و59% بالنسبة لأذربيجان.

       وينطبق ذات الأمر على جورجيا التي انفردت في نهاية الأمر، برفض المشاركة في تأسيس الكومنولث وعضويته تحت زعامة رئيس جورجيا السابق جامسا خورديا، وبعد تولي إدوارد شيفرنادزة انضمت إلى الكومنولث مخاطبة ود موسكو،خاصة بعد انتصار الانفصاليين في إقليم أفخازيا، علاوة على مصاعب الروابط الاقتصادية الموروثة والتي يعكسها بلوغ النسبة المذكورة حوالي 54%. أما طاجيكستان، فقد بلغت النسبة حوالي 42%.

       وإذا كانت تركمانستان وقيرقيزستان لا تواجهان ضغوطاً ثقيلة تدفع للاندماج الأوثق في الكومنولث، فإن ضعفهما الاقتصادي النسبي وموقعهما الجيوبوليتكي الداخلي يفسر استقرار عضويتهما في الكومنولث الروسي، لكنه لا ينبغي تجاهل أن مؤشر اندماج اقتصاد كل منهما في التخصص الإنتاجي الموروث يزيد على 50%، ويمكن أن نخلص إلى ذات الاستنتاج بشأن أوزبكستان حيث تبلغ النسبة أكثر من 43%.

       وتبقى أوكرانيا حالة خاصة، حيث، إن مؤشر اندماجها في التخصص الإنتاجي بين الدول المستقلة تزيد على 39%، وهكذا فإن أوكرانيا الأكثر اعتماداً على غيرها من أعضاء الكومنولث وخاصة روسيا من الناحية الاقتصادية، جابهت ضغوط العزلة الدولية، وغير ذلك من الضغوط والمخاوف التي تضعف نزعات الاستقلال القومي وتقوى اتجاهات الارتباط بروسيا والكومنولث الروسي.

ب. أبعاد الاعتماد المتبادل:

       تكشف المؤشرات السابقة عمق الاعتماد الاقتصادي المتبادل، ومدى تكامل البني الإنتاجية بين اقتصاديات كومنولث الدول المستقلة، انعكاس هذا المعطى على إمكانات الارتقاء بالعلاقات الاقتصادية الدولية لهذه المجموعة من الدول مع العالم خارج حدود الاتحاد السوفيتي السابق، هو الترابط الاقتصادي المتبادل بين دول الكومنولث ووهن علاقاتها الاقتصادية الدولية مع العالم الخارجي، وهكذا، فإن نسب صادرات دول الكومنولث، فضلاً عن دول البلطيق غير الأعضاء في الكومنولث إلى الناتج المادي الصافي لكل منهما، تعدّ شديدة الانخفاض مقارنة بالنسبة المقابلة لصادراتها البيئية إلى ذات الناتج. كما تبدو نسب الصادرات البينية إلى الناتج المادي الصافي لكل منهما أدنى بكثير من نسب إجمالي تجارتها الخارجية مع الجمهوريات السوفيتية السابقة وبقية دول العالم إلى الناتج المادي الإجمالي لكل منهما.

ج. الاعتماد على روسيا:

       أن اعتماد كل من الجمهوريات السوفيتية سابقاً على روسيا أشد من اعتمادها على بقية الجمهوريات، وهو ما توضحه نسبة تجارة كل من هذه الجمهوريات مع روسيا إلى إجمالي تجارتها مع بقية الجمهوريات، ويلفت انتباهنا بقوة أن هذه النسبة هي الأعلى لأوكرانيا التي مثلت تجارتها مع روسيا حوالي 70.1%من تجارتها مع بقية الجمهوريات، وكانت النسبتان التاليتان لكازاخستان، حيث بلغت 62.1% وروسيا البيضاء حيث بلغت 61.1% وتراوحت النسبة المذكورة بين 54.4 و 59.5 لخمس جمهوريات هي: أستونيا وليتوانيا وجورجيا وأذربيجان وأرمينيا مرتبة أيضاً تنازلياً، حسب هذا المؤشر للاعتماد الاقتصادي، على روسيا أما فيما يتعلق بالجمهوريات الأربع وهي: لاتفيا وتركمانستان وقيرقيزستان وطاجيكستان، فقد تراوحت النسبة بين 43.4% و51.8% بذات الترتيب.

3. ميراث فك الارتباط بالسوق العالمي:

       تشكلت اقتصاديات الجمهوريات السوفيتية سابقاً أو اقتصاديات دول الكومنولث حالياً في إطار إستراتيجية للتنمية استندت إلى فلسفة الاستقلال الاقتصادي ونزعت إلى فك الارتباط بالاقتصاد الرأسمالي العالمي، كما عمقت الاعتماد الاقتصادي المتبادل في إطار السوق الداخلي الواسع في ضوء المحددات التالية:

أ. ضآلة الصادرات السوفيتية:

       إن ضعف التجارة الخارجية للاتحاد السوفيتي السابق، أي القدرة التجارية الخارجية التي ورثها بالأساس أعضاء كومنولث الدول المستقلة، تكشف مؤشرات الحصة السوفيتية في الصادرات العالمية، والتركيب السلعي للتجارة السوفيتية، فضلاً عن التوزيع الجغرافي لهذه التجارة. وهكذا، طبقاً للمؤشرات الواردة في World Economic Outlook  فإن حصة الاتحاد السوفيتي السابق في إجمالي الصادرات العالمية للسلع والخدمات لم تتجاوز 2.5% في عام 1990.

ب. تدهور شروط التجارة

       باستبعاد تجارة الاتحاد السوفيتي السابق مع أعضاء منظمة الكوميكون التي ضمت دول الكتلة السوفيتية الاشتراكية سابقاً، من جانب وكل من الصين الشعبية وكوريا الشمالية ويوغسلافيا السابقة، من جانب آخر، فإن التجارة السوفيتية مع البلدان غير الاشتراكية متقدمة ونامية، تكشف الأسباب الهيكلية لتدهور شروط التجارة الناجم أساساً عن تدهور أسعار الصادرات السوفيتية وخاصة صادرات النفط والغاز التي مثلت أكثر من نصف إجمالي صادرات الاتحاد السوفيتي السابق مع بدء ثورة البيروسترويكا في منتصف الثمانينات.

       وهكذا، فقد بلغ متوسط تدهور شروط التبادل التجاري للاتحاد السوفيتي السابق مع البلدان غير الاشتراكية حوالي6.4% سنوياً خلال الفترة بين عامي 1986 و1989. وقد عكس هذا التدهور هيمنة صادرات المواد الأولية والسلع الوسيطة التي تراجعت شروط التبادل التجاري الدولي لها مقارنة بتحسن شروط هذا التبادل للصادرات من الآلات والمعدات ذات المحتوى التكنولوجي الأرقى وهكذا، مع انهيار أسعار النفط في عام 1986، بلغ تدهور شروط تجارة الاتحاد السوفيتي السابق مع البلدان غير الاشتراكية حيث هيمنت صادرات النفط والغاز بنسبة 22.4% في عام 1986 حين انهارت أسعار النفط في السوق العالمي، ثم تدهورت شروط التجارة بنحو11.2% في عام 1988 للسبب نفسه من حيث الأساس.

ج. تأخر تحديث الاقتصاد:

       يمثل التخلف البنيوي للصادرات السلعية يمثل السبب الجذري لضعف القدرة التجارية للاتحاد السوفيتي السابق، وعلى هذا الأساس فان تعظيم المشاركة السوفيتية في التجارة الدولية وتطويرها كانا مشروطين ببناء أسس اندماج أرقى في التخصص الدولي وتحديث جذري لآلية وبنية الاقتصاد، ومن الواضح أن ركود الصادرات السوفيتية إلى الدول النامية، قد ارتبط ارتباطاً وثيقاً بالتأخر عن مواكبة إنجازات الثورة الصناعية التكنولوجية في موجتها الثالثة وهو ما ارتبط بدوره بجمود آليات اقتصاد الأوامر وقصور سياسات التنمية المشتعلة.

د.  حصاد ثورة البريسترويكا:

       تدهور مؤشرات التجارة الخارجية للاتحاد السوفيتي السابق في سنوات عمره الأخيرة، إلى أسباب هيكلية تتصل بإستراتيجية التنمية المستقلة ومأزق اقتصاد الأوامر وأعباء الحرب الباردة وجمود النظام الشمولي.. الخ، وغير ذلك مما يمتد بجذوره إلى مدي زمني أبعد من منتصف الثمانينيات حين بدأت تدريجيا ثورة البريسترويكا، بيد أن هذه الثورة التي دفعت في اتجاه هدم نظام اقتصاد الأوامر، بمعدلات أسرع بكثير من بناء نظام اقتصاد السوق، قادت إلى أزمة من نوع جديد انعكست في مجال العلاقات الاقتصادية الدولية للاتحاد السوفيتي السابق على صورة تدهور أشد في مؤشرات التجارة الخارجية والميزان التجاري وميزان المدفوعات أخذ صورة تزايد العجز الخارجي وتضاعف المديونية الخارجية.

       وهكذا علي سبيل المثال، فقد تراجعت قيمة الصادرات السوفيتية بالعملات الحرة من 82.6 مليار دولار في عام 1990 إلى 50.9 مليار دولار في عام 1991، أي تراجعت بنحو 38.4% بين العامين السابقين مباشرة لإعلان نهاية الاتحاد السوفيتي السابق. والفترة ذاتها تدهورت الواردات السوفيتية بمعدل أشد حيث انخفضت من 82.9 مليار دولار إلى 44.5 مليار دولار أي بنحو 46.3%، وهو ما أدى إلى تفاقم القدرتين الاقتصادية والتصديرية لها، بمعنى تزايدت الاستدانة الخارجية وتضاعفت حجم المديونية وكذلك نسبة خدمة الدين الخارجي[1].

       وهكذا فإن السياسة الخارجية السوفيتية الجديدة التي افتقدت الحوافز الأيديولوجية لتوسيع النفوذ مع الأزمة الاقتصادية السوفيتية الموروثة والمتفاقمة التي زادت الحاجة إلى التمويل الخارجي، قد دفعت إلى تراجع مصلحة الاتحاد السوفيتي السابق وقدرته في مجال تقديم المساعدات الاقتصادية على أسس أيديولوجية، فضلا ًعن تدهور القدرة على تطوير التبادل التجاري على أسس اقتصادية، وقد مثلت هذه المعطيات نقاط انطلاق العلاقات الاقتصادية الدولية بين دول الكومنولث وغيرها من الدول.

ثانياً: التداعيات العسكرية

إعادة بناء قوات مسلحة مستقلة:

       واجهت الدول المستقلة بعد الانهيار، العديد من الصعوبات من أجل إعادة بناء قوات مسلحة مستقلة لكل دولة للتعامل مع التهديدات التي تواجه أمنها القومي بعيداً عن القوات الروسية، ومن هذه الصعوبات عدم القدرة على بناء قوات مسلحة دون التعاون مع الجيش الروسي؛ وذلك بسبب مشكلة عنصر الكيف الديموجرافي، فبينما تمكنت بيلاروسيا، التي لا يزيد عدد سكانها عن 10.5 مليون نسمة، من تشكيل قوات مسلحة تضم 92 ألف جندي نظامي، فإن كازاخستان، التي وصل عدد سكانها 18.2 مليون نسمة، لم تتمكن إلا من تشكيل قوة عسكرية تضم 40 ألف جندي نظامي. يضاف إلى ذلك عامل القدرة الاقتصادية، فحجم الناتج القومي الإجمالي لمعظم دول الكومنولث لا يتيح لها سوى تخصيص ميزانية محدودة نسبياً للدفاع، وقد أدت هذه الأوضاع إلى عدم قدرة معظم دول آسيا الوسطى، ودول ما وراء القوقاز على تشكيل قوة مسلحة كافية للتعامل مع التهديدات التي تعرضت لها في مرحلة ما بعد الاستقلال، مما أدى إلى طلب تدخل القوات الروسية في أحوال مختلفة بما في ذلك دول ذات ميول استقلالية عالية مثل جورجيا وأذربيجان.

       وكانت مشكلة الخبرة العملية لبناء القوة العسكرية لدى معظم دول آسيا الوسطى وما وراء القوقاز، سبباً في اعتماد دول مثل جورجيا وطاجيكستان على ميليشيات من محترفي الإجرام في التعامل مع المعارضة المسلحة مما اضطرها للتعاون مع روسيا في بناء قواتها المسلحة، وظهر نمط التعاون الكامل من خلال اتفاق أمني توكل فيه لروسيا مهمة بناء الجيش تبعاً لنموذج كازاخستان، أو خضوع العناصر المسلحة الوطنية لقيادة مشتركة، تبعاً لنموذج تركمانستان.

       كما لم تتمكن معظم دول الكومنولث من تشكيل قوات قطاعين هامين هما؛ قوات الحدود وقوات الدفاع الجوي؛ مما أدى إلى استمرار القوات الروسية داخل هذه الدول، استناداً على معاهدات الدفاع المشترك، واتفاقيات أمنية موقعة بين روسيا وكل من أوزبكستان وأرمينيا وأذربيجان وجورجيا وغيرها.

       وكانت التوجهات الخاصة ببناء القوات المسلحة، تتجه إلى قيام كل دولة بمحاولة تشكيل قوات مسلحة منفصلة، فقد طرحت مسألة إنشاء جيوش خاصة خلال الأيام الأولى لتشكيل الرابطة، وتم إقرار مبدأ السماح بتشكيل قوات مسلحة مستقلة عن القوات المشتركة في الثلاثين من ديسمبر عام 1991 وكان هناك اتجاهان:

1. الاتجاه الأول: ويدفع باتجاه تشكيل قوات مسلحة مستقلة لكل دولة، وهو اتجاه أوكرانيا وأذربيجان ومولدافيا، لأسباب مختلفة ترتبط بالخلافات الحادة بين أوكرانيا وروسيا، أما أذربيجان فيأتي هذا الاتجاه بسبب صراعها الحدودي مع أرمينيا، وميولها الانفصالية الحادة في ذلك الوقت، أما مولدافيا فلها ميول تجاه رومانيا.

2. الاتجاه الآخر: دول لا تؤيد تشكيل قوات مستقلة وهي جمهوريات آسيا الوسطى، فبحكم تكوينها العرقي ووجود نسبة كبيرة من الروس داخلها، أيدت وحدة جيش الاتحاد السوفيتي السابق في إطار الكومنولث، وترتيبات الأمن الخاصة بوضع القوات المشتركة المتمركزة على أراضيها تحت القيادة المشتركة، إلا أنها سرعان ما بدأت تهتم بتشكيل قوات مسلحة نسبياً بفعل تطورات الوضع في طاجيكستان لحماية نظمها، إضافة إلى التطور الطبيعي للأمور.

       أما روسيا فتعدّ حالة خاصة، فقواتها المسلحة تمثل قضية ذات أبعاد تتجاوز بكثير مسألة الجيوش المستقلة المتصلة بدول الكومنولث. (انظر جدول عناصر القوة العسكرية لدول رابطة الكومنولث "قوات دول منطقة شرقي وجدول عناصر القوة العسكرية لدول رابطة الكومنولث "قوات دول آسيا الوسطى" وجدول عناصر القوة العسكرية لدول رابطة الكومنولث "قوات دول ما وراء القوقاز) 

المشكلات التي ارتبطت ببناء قوات مسلحة مستقلة:

1. مشكلة امتلاك القدرة على بناء قوات مسلحة:

       بمتابعة عملية بناء قوات مسلحة مستقلة لدى عدد من دول الكومنولث خاصة دول آسيا الوسطى وما وراء القوقاز ـ توضح وجود حدود واسعة للقدرة على امتلاك قوات مسلحة حقيقية يمكنها أن تحقق المهام التي يفترض أن تطلع بـها القوات المسلحة، ومن ثم اضطرت للتعاون مع روسيا لبناء هذه القوات، فهناك مصاعب عديدة تواجه هذه الدول في عملية البناء مثل مشكلة السكان، عنصر الكيف الديموجرافي ـ وجود نسبة كبيرة من الروس في البعض منها ـ والتمويل. وقد أدي ذلك إلى طلب تدخل القوات الروسية في أحوال مختلفة.

       كذلك برزت مشكلة أخرى واجهت عملية بناء قوات عسكرية متكاملة لكل دولة منها، الخبرة العملية وإمكانيات التصنيع الحربي والإمكانات التكنولوجية، ولذلك اضطرت بعض هذه الدول إلى توقيع معاهدات دفاع مشترك واتفاقيات أمنية مع روسيا مثل: أوزبكستان وأرمينيا وأذربيجان وجورجيا وغيرها.

2. مشكلة تقسيم القوات المسلحة السوفيتية:

       لم تثر عملية تقسيم القوات السوفيتية التقليدية مشكلات مهمة بين دول الكومنولث، فيما عدا ما ثار بين روسيا وأوكرانيا بشأن أسطول البحر الأسود الذي كان يتألف من 300 وحدة بحرية متوسطة وصغيرة و45 وحدة كبيرة و28 غواصة، إضافة إلى الطيران البحري.

       وقد نشأ هذا الخلاف في فترة ما قبل الانهيار، إلا أنه احتدم بعده، حيث أصرت أوكرانيا على الاحتفاظ بنصف هذا الأسطول تحت سيطرتها على أساس أنه يقع على أراضيها، كما تعمل به قيادات بحرية أوكرانية، بالإضافة إلى تحملها جزء من ديون الاتحاد السوفيتي السابق، وإزاء هذا الخلاف وبعد مفاوضات، اتفقت الدولتان على وضع الأسطول تحت القيادة المشتركة لهما، إلا أن الخلاف سرعان ما نشب مرة أخرى بينهما حول الرموز السياسية مثل العلم والقسم الوطني ونوعية الولاء، واستمر التوتر والخلاف حتى تم الاتفاق على اقتسام الأسطول بنسبة 18-20% لأوكرانيا والباقي لروسيا بحيث يكون لكل منهما قواعد منفصلة.

       أما عن الأسلحة النووية: فقد عقدت بشأنها عدة اتفاقيات، ففي 21 ديسمبر 1991، أبرمت في المآتا معاهدة بين الدول الأربع النووية "روسيا، أوكرانيا، كازاخستان، بيلاروسيا"، اتفق فيها على خضوع القرارات المتعلقة بالأسلحة النووية لمسؤولية رئيس روسيا، وبموافقة الرؤساء الأربعة وفي اجتماع "منسك" في 31 ديسمبر 1991، أعطيت كل من كازاخستان وبيلاروسيا وأوكرانيا حق الاعتراض "الفيتو" على استخدام الأسلحة النووية القائمة على أراضيها. (انظر جدول اتفاقيات دول الكومنولث المستقلة)

       وفي 23 مايو 1992، وقّع على اتفاقية بمدريد زعماء كل من بيلاروسيا وأوكرانيا وكازاخستان بصفتهم هدف الاتفاقية، كما وقعت عليها كل من روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، وكانت الاتفاقية تهدف إلى تحويل الدول النووية الثلاث الأولى إلى دول غير نووية في أقصر وقت ممكن، وقد أصرت أوكرانيا في البداية على الاحتفاظ بالقوة النووية على أراضيها للحفاظ على أمنها واستقلالها، لكنها سرعان ما تراجعت ووافقت على تدمير أسلحتها النووية، وطلبت في المقابل بعض الضمانات والتعويضات منها؛ عدم استخدام القوة أو التهديد باستخدامها، ونبذ كل أشكال الضغط الاقتصادي ضدها، وتقديم الدعم المادي والتكنولوجي للمساعدة في تدمير أسلحتها النووية.

       وفي بداية عام 1994، ومن خلال اتفاقية وقعتها أوكرانيا مع كل من روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، بعد ممارسة الضغوط المباشرة والحفز والإغراء، وافقت أوكرانيا على الخروج من النادي النووي والتعهد بتصفية ترسانتها النووية التي تشكل ثالث أكبر ترسانة عالمية من خلال نقل حوالي ألفي صاروخ عابر للقارات و1800 رأس نووي إلى روسيا لتفككها على مدى سبع أعوام تالية.

       وهكذا فإن الصعوبات التي واجهتها عملية بناء قوات مسلحة مستقلة لدول الكومنولث عدا أوكرانيا، قد أدت إلى استمرار تمركز القوات الروسية التقليدية داخل عدد من دول الرابطة بأحجام تزيد أحياناً على حجم القوات الوطنية، والتي وصلت إلى 12 ألف جندي روسي في كازاخستان و120 ألف في جورجيا و5 آلاف في أرمينيا، وسيطرة عسكرية شبه كاملة في تركمانستان، وقوة جوية في روسيا البيضاء، ويرجع ذلك لعدم قدرة هذه الدول على التعامل مع التهديدات التي تتعرض لها داخلياً والتي ساعدت روسيا نفسها في تعميق بعضها أو تفجيره.

       إن عدم قدرة دول الكومنولث على بناء قوة عسكرية مستقلة لكل منها، والتي تكفي لحماية حدودها وأجوائها قد أدى إلى إيجاد قوة رابطة عسكرية قوية بينها وبين الاتحاد الروسي، وافقت عليها بعض هذه الدول مضطرة مثل؛ أذربيجان وجورجيا.


 



[1]  زادت نسبة الديون قصيرة الأجل من 6.9 مليار دولار عام 1985 إلى 12.8 مليار دولار عام 1991، وزاد حجم الاقتراض من الولايات المتحدة الأمريكية من 5.3 مليار دولار عام 1985 إلى 20.4 مليار دولار عام 1991.

[2]  يقصد بالعقيدة الروسية الجديدة: هي العقيدة التي برزت بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، والتي ركزت في الأساس على حماية الأمن القومي للدولة وما يتعلق بها من تأمين حدودها ومياهها وأجوائها، وتأمين الأوضاع الداخلية، وتأمين مصالحها مع دول رابطة الكومنولث خاصة في الإطار الأمني.

[3]  تهدف نظرية الاحتواء الشامل إلى احتواء دول المنطقة أمنيا واقتصادياً كالآتي: * في اتجاه الشمال : الحلف التركي – الإسرائيلي * في اتجاه الشرق : احتواء مزدوج لإيران والعراق، مع فرض نوع * من الاحتواء على دول الخليج بعيداً عن الدول العربية. * في الغرب : محاولة عزل ليبيا عن باقي الدول العربية. * في الجنوب : محاولة فصل جنوب السودان عن شماله.

[4]  ومثال ذلك : * الضغط على كوريا الشمالية لوقف توريد صفقة الصواريخ ارض * أرض الموقعة بين كوريا الشمالية وسوريا. * الضغط على الصين من أجل منعها من إبرام أي عقود تسليح مع سورية. * الضغط على روسيا : لإيقاف إمداد إيران بالمفاعلات النووية الروسية.