إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / التحولات الديمقراطية في أفريقيا









التحولات الديمقراطية في أفريقيا

المبحث الثاني

التحولات الديمقراطية في أفريقيا كعملية سياسية

مثلت عمليات التحول الديمقراطي الظاهرة العالمية الأهم خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين. أما قبل ذلك، فقد كان هناك عدد قليل من النظم الديمقراطية في أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا والشرق الأوسط. وعلى العكس من ذلك، كانت الساحة السياسية وخصوصا في الدول النامية (العالم الثالث)، مليئة بأشكال مختلفة من النظم غير الديمقراطية، التي تشمل نظماً عسكرية، ونظم الحزب الواحد، ونظم الدكتاتوريات الفردية الشخصية. ويلاحظ أنه في منتصف سبعينيات القرن العشرين شهد العالم ما أصبح يعرف بالموجة الثالثة للديمقراطية، التي بدأت في البرتغال وأسبانيا واليونان، وتحديداً منذ عام 1974، ثم انتشرت إلى أمريكا اللاتينية، وبعض أجزاء آسيا، خلال ثمانينيات القرن العشرين، وامتدت إلى أوربا الشرقية والاتحاد السوفييتي، وبعض أجزاء أفريقيا في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات من القرن الماضي.

وفي إطار التناول للتحولات الديمقراطية في أفريقيا، يمكن الإشارة إلى بعض الجوانب ذات الصلة كالتالي:

أولاً. شروط التحولات الديمقراطية في أفريقيا

تسعى الدول الليبرالية التقليدية، جاهدة لوضع تجربتها موضع التنفيذ الفعلي قي دول العالم النامي وعلى رأسه، دول القارة الأفريقية، فكيف هو وضع الديمقراطية الأفريقية على ضوء مثل تجارب تلك الدول، مقارنة بها على ضوء الخبرة والتطور الطبيعي والشروط التي استوفتها سابقاً، قبل أن تصبح أنموذجاً تحاول إقناع الآخرين على ضرورة التمسك به أو إجبارهم  على تطبقه، وكذلك على ضوء الظروف السائدة التي تكابدها تلك الدول في الوقت الراهن، وفي المستقبل المنظور، وإذا كان التحول الديمقراطي في أفريقيا قد أمسى أحد التحديات الرئيسة التي تواجه دوله فإن إمكان نجاح هذا التحول يظل يتوقف على مجموعة من الشروط ومنها:

1. الشرط الاقتصادي

بدأت عملية التحديث مع الثورة الصناعية في أوروبا، وقد كانت وليدة لمجموعة من التغيرات البطيئة التي ألمت بالمجتمع الإقطاعي منذ القرن الثالث عشر الميلادي. ولذلك انتقل مفهوم التحديث إلى القارة الأفريقية من تلك المجتمعات التي نجحت في تحقيقه بالفعل (أي مجتمعات أوروبا الغربية). وفى أفريقيا، ولم تقم مع نهاية العصر الاستعماري، أية ثورة صناعية ولم تظهر أية مبادرة للقيام بها. ويرجع السبب في ذلك إلى خشية السلطات الاستعمارية مما قد ينجم عن عملية التحديث من تمزيق للمجتمعات الأفريقية التقليدية؛ فمن الممكن أن يسبب هذا التمزيق العديد من المشكلات عند إدارة تلك المستعمرات. وقد كانت السلطات الاستعمارية شديدة الحرص على الإبقاء على الاقتصاد المعيشي في أفريقيا؛ ليس حرصاً منها على مصالح هذه الطبقات الاجتماعية، ولكن لعدم تفضيل هذه السلطات لظهور الطبقة العمالية هناك، أو أن تلم بهذه المجتمعات التطورات التي تنتج عن تطبيق النظام الرأسمالي.

وبالرغم مما سبق، فقد ترتب على تأثر النخبة في المستعمرات الأفريقية بحياة الغرب أن أصبح التطور السياسي بوصفه بوابة لحدوث التطور الاقتصادي مطلباً لا مفر منه من قبل الطبقة البرجوازية حديثة النشأة في أفريقا. فقد كان لزاماً على النظام السياسي أن يقود عملية التحديث والتطوير، ويقدم السياق اللازم لها. بمعنى آخر، لقد أدت التغيرات الاقتصادية والاجتماعية في دول غرب أوروبا إلى حدوث التغيرات السياسية المنشودة، وقد أخذت في سبيل ذلك فترات زمنية طويلة، إلا أن العكس قد حدث في أفريقيا. فقد كان ضرورياً أن يكون النظام السياسي متطوراً لكي تستطيع القوى الاجتماعية تحديث المجتمع.

وعلى المستوى الاقتصادي، فإن تدفق الاستثمارات الرأسمالية من الخارج، والمساعدات والقروض الثنائية ومتعددة المصادر سيزداد كلما ضمن النظام السياسي وجود حرية الأسواق. وقد أكد البعض أن كل المجتمعات سلكت طريقاً واحداً من أجل التحديث: ففي البداية، كانت هذه المجتمعات مجرد مجتمعات تقليدية، ثم مرت بمرحلة الانطلاق، ثم وصلت فيما بعد إلى شكل الدولة الحديثة الذي عليه كل دول الغرب في الوقت الحالي. لكن في أفريقيا، لم تتدفق الاستثمارات الأجنبية بوفرة. ومن ثم، يصبح من الصعب القيام بالتحديث في الجانب السياسي، بينما يظل الجانب الاقتصادي يمر بمرحلة ما قبل الرأسمالية.

ومن ثَمّ فإن الدرس الحقيقي الذي يجب أن تستفيد منه تجربة التحول الديمقراطي في أفريقيا، ويعد أحد الشروط الأساسية لاتجاهها نحو التحول الديمقراطي الفعلي، هو أن النظام السياسي في دولة ما لا يقاس بالتوسع في وضع المبادئ المستخلصة من الديمقراطية، أو بمجرد التطبيق لنماذج دستورية ومؤسسية مستنسخة من الخارج، وإنما الأمر يتعلق بالدرجة الأساسية بحرص النظام السياسي على إحداث تحول اقتصادي ملموس، ثم السعي لتمثيل مصالح الجماعات المختلفة بداخله، والقدرة على إحداث التوازن بين المطالب والمصادر والتطوير لحياة الجماهير على أسس المساواة والعدالة الاجتماعية والتوزيعية. وإن كان البعض الآخر يرى أن وجود نظام ديمقراطي يضمن خضوع الحاكمين للمساءلة أمام المحكومين ربما يحفزهم على تخصيص الموارد بكفاءة وفعالية، لضمان بقائهم في الحكم.

وما سبق يوضح أن التحديث الاقتصادي ينبغي أن يكون سابقا للتحديث السياسي، وهو الأمر الذي يصعب تطبيق عكسه في الواقع الأفريقي، فهذه المجتمعات المكونة له، والتي ورثت عبئا ثقيلا من التخلف، الذي تسبب فيه بدرجة أساسية الموروث الاستعماري، وكذلك الاستنزاف المفرط للموارد، قد ترك اقتصاديات هشة لا تقوى على التفاعل الإيجابي مع متطلبات التحول الديمقراطي، في ظل الضغوط المستمرة والمتنوعة من أجل ذلك، بمعنى أن هناك ضرورة لوجود قاعدة اقتصادية/ صناعية، حتى يمكن الحديث عن الظاهرة الديمقراطية في المجتمعات الإفريقية. وينبغي التركيز في هذا الشأن على ضرورة العلاقات المتداخلة والمشتركة بين المجالات الاقتصادية والتعددية السياسية والتجارب الديمقراطية وأهمية ذلك فالمساواة على سبيل المثال ليست فقط فيما بين الجماعات الإثنية والطائفية، ولكن أيضا فيما بين الطبقات الاجتماعية، كما أن التكاليف السياسية للفشل الاقتصادي تكون كبيرة، وقد تؤدى إلى انهيار أنظمة سياسية بكاملها، وهو ما يمكن ملاحظته في أنحاء عديدة في أفريقيا.

2. الشرط الاجتماعي

ويتمثل في ضرورة الحد من الولاءات التحتية (قبلية، إثنية، ...الخ) لصالح الولاء الوطني، والهدف المبدئي في هذا السياق هو اندماج جميع الجماعات المهمشة (إثنية ـ قبلية ـ دينية ...) داخل نظام الدولة، وفى إطار ما يمكن تسميته بالديمقراطية الاجتماعيةSocial Democracy.

وفقاً للتصور السابق عن ضرورة التحديث الاقتصادي بحسبانه مقدمة أولى شرطاً لازماً وسابقاً للتحول الديمقراطي، وهو أيضاً شرط لازم من أجل إحداث قدر من التحول الاجتماعي داخل مجتمعات الدول الأفريقية، بمعنى أن التحديث يتكوَّن من مجموعة من التغيرات في نمط الإنتاج وشكل الحكومة، وفى النظام المؤسسي والاجتماعي، وفى المعلومات، وفى الاتجاهات والقيم، التي تجعل من المجتمع قادراً على مواجهة المنافسة في القرن العشرين.

ليس من السهل التناول والتعامل مع إمكان حدوث تحولات ديمقراطية فعلية داخل دول القارة الأفريقية بمنأى عن الهياكل الاجتماعية/ الاقتصادية داخل مجتمعِات تلك الدول، أو على الأقل دون مراعاتها وأخذها في الحسبان عند مجرد التفكير في كيفية وضع التصورات ذات الصلة موضع التنفيذ الفعلي، فالجماعات المتنوعة التي تتشكل منها شعوب الدول الأفريقية، هي خليط متعدد ومتباين من الثقافات والعادات والتقاليد، والولاءات والانتماءات والظروف المعيشية وغيرها، فأية عملية تحول ديمقراطي يمكن أن تستوعب ، كل هذا التنوع وتحتويه؟ وفي أي وقت؟ وإلى أي مدى زمني يمكن أن يستغرق إنجاز هذا الأمر؟ وفي ظل أية شروط؟ وأية مغريات يمكن التنازل عنها أو التضحية بها؟ وخصوصاً من جانب الأنظمة الحاكمة في تلك الدول، ومن ثم فإن الحكم على مدى التجاوب والفاعلية في هذا السياق ترتبط إلى حد كبير بأمور عديدة منها:

·  طبيعة الجماعات التي تتشكل منها الهياكل المجتمعية.

·  كيفية تعامل الأنظمة الحاكمة مع تلك الجماعات.

·  فرص هذه الجماعات في التنافسات السياسية الحرة.

·  مدى إسهام هذه الجماعات في عمليات صنع واتخاذ القرارات والسياسات.

·  جدوى النتائج الناجمة عن مشاركة هذه الجماعات في العملية السياسية.

ويبدو من التناول للشرط الاجتماعي، أن العقبة الرئيسة التي تواجه التحول نحو الديمقراطية هي تنظيمات الدولة المتحكمة في الاقتصاد. ونتيجة لسيطرتها على الموارد الأساسية للثروة كانت الدولة قادرة على منع ظهور برجوازية قوية مستقلة عن الدولة. فالبرجوازية ينظر إليها أنها العميل الطبيعي للديمقراطية، نظرا لأن إرساء قواعد الديمقراطية يبدو أنها في صالحها، فضلاً عن أن القيم والأيدولوجيا الليبرالية المرتبطة بتلك الطبقة تعلي من الديمقراطية. ولعل الشعار الذي يمكن أن يفسر هذا الواقع السياسي هو: "لا برجوازية، لا ديمقراطيةNo Bourgeoisie، No Democracy".

ومعنى هذا أن الطبقة الوسطى القوية تشكل الأساس لمجتمع مدني قوي، وأن هذا الأمر حيوي لوظائف الديمقراطية الليبرالية. ففي غياب مثل تلك الطبقة في أفريقيا يضعف الضغط لتوسيع الحقوق الديمقراطية، وتتقوض السلطة الحقيقية للدولة. ولعل هذا يفسر ضعف الديمقراطية في أفريقيا حتى التسعينيات من القرن العشرين. يضاف إلى ذلك أن النظام السياسي للدولة بات ينظر إليه على أنه منبع كل المشكلات، ويجب أن تجرى تعديلات دستورية ومؤسسية وتنظيمية وسلوكية من أجل تحرير المجتمع المدني، سواء فيما يتعلق بسوء التنظيم أو عدم الكفاءة، أو بما ينبغي أن تضطلع به من أدوار سياسية. ويلاحظ أن البعض يرى أن حل المشكلات الأفريقية إنما يكمن في التعديلات الليبرالية من النوع الذي اقترحه البنك والصندوق الدوليين. بزعم أن هذا سوف يقلص الدور الاقتصادي للدولة، ويزيل الرابطة بين تكوين الطبقة والتوظيف المناسب للموارد الخاصة بالدولة. وأنه عندما تعتمد هذه التعديلات سوف تظهر طبقة وسطى قوية ومستقلة، وهذا سيقود بدوره إلى ضغوط من أجل تطبيق الديمقراطية.

ولكن على الرغم من الموضوعية النسبية لهذا التفسير، إلا أن ضمانات حدوث ذلك تبقى مثيرة للجدل في ظل انتقال تلك الطبقة المستهدفة إلى الانشغال بأرباحها ومكاسبها، بل وبانتقالها إلى مغنم آخر تحمي به وتعظم مكاسبها ومصالحها الاقتصادية والمتمثل في السلطة السياسية، وهو ذات الشيء المشاهد في الليبراليات الغربية كافة. ومن ثم فإن التعامل مع ضرورة الشرط الاجتماعي ينبغي أن يكون بقدر من الحرص، حتى لا يتحول من شرط إلى قيد.

3. الشرط الأيديولوجي

بمعنى وجود إجماع وطني على الأيديولوجية الليبرالية (الرأسمالية، الديمقراطية)، أي يكون التركيز على المفاهيم الأيديولوجية للديمقراطية، وبهدف انتهاج آداب السلوك الديمقراطي السليم، و ينبغي في هذا الشأن أن تكون القيادات داخل الدولة في مقدمة المطبقين لآداب ذلك السلوك، وهو الأمر الذي يمكن أن يساعد المجتمع على الالتزام بقواعد السلوك العام والتطبيق المتنامي للمواثيق والقوانين.

ووفقاً لما تقدم، ومع افتراض حتمية التحول نحو النهج الديمقراطي، في ظل الضغوط المتلاحقة والمتنوعة من جانب الدول الغربية الليبرالية (المانحة)، فقد كان الأمل معقوداً على إمكان تحقيق التحول الديمقراطي في أفريقيا على مرحلتين هما:

أ. التحول الليبرالي الاقتصادي (الرأسمالي)

يعنى بالتحول الليبرالي الاقتصادي (الرأسمالي)، كما يُروج له التحول إلى اقتصاديات السوق المفتوحة، والتأكيد على قدر مناسب من الحقوق والحريات التي يتمتع بها الأفراد والجماعات، فيما يتعلق بالملكية الخاصة الاقتصادية (الخصخصة) في مواجهة الملكية العامة الخاضعة للسلطة الحاكمة (هيمنة الدولة على عناصر الإنتاج)، أو بعبارة أخرى ضمان عدم تعسف السلطة وانتهاكها للشرعية السياسية فيما يتعلق بإشباع حاجات المواطنين الأساسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية (الأمن الشامل للمواطنين)، والسعي لبناء الدولة والمحافظة على بقائها واستمرارها وسلامتها الإقليمية وتحقيق مصالحها العليا.

ب. التحول الليبرالي السياسي (الديمقراطي)

بمعنى أن يتحقق الانتقال نحو الليبرالية السياسية من خلال عملية تدريجية، تفضي في النهاية إلى إقامة نظام ديمقراطي، وهو يعني حدوث نهضة صناعية تؤدي إلي تنمية اقتصادية، بكل ما يستتبع ذلك من تحضر Urbanization وتعليم حديث، وجهاز إداري حديث، وتفاعل بين مختلف جماعات المجتمع. ويمكن الإشارة إلى أن معظم الدول الأفريقية خالفت هذا المنحى التطوري الليبرالي، وعلى العكس من ذلك اتخذت إجراءات دستورية وقانونية لتعزيز عملية التحول الليبرالي ـ الديمقراطي ومنها:

·   ضمان حق تكوين الأحزاب السياسية.

·   حرية الانضمام للأحزاب السياسية.

·   حرية إسهام الأحزاب في تشكيل الوعي السياسي للمواطنين.

·   إجراء انتخابات على أساس تعددي.

·   إعطاء الأحزاب فرصاً متساويةً، لعرض برامجها من خلال وسائل الإعلام المختلفة.

لذلك فقد اتسمت التحركات الأيديولوجية للعديد من الدول الأفريقية بالتثاقل فيما يتعلق باعتماد الليبرالية السياسية من أجل إحداث التحولات السياسية، ويبدو أنها كانت صعبة وعسيرة على تلك الدول، وهو نتاج طبيعي لمحاولات استنساخ تلك الأيديولوجيا الغربية في البيئة الأفريقية، ومن ثم فإن التجربة الديمقراطية الليبرالية قد فشلت في أفريقيا، وعلى الرغم من أن غالبية الدول الأفريقية قد أخذت بالتعددية الحزبية والانتخابات التنافسية عقب الاستقلال، غير أن هذه التجربة سرعان ما انهارت منذ النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي تحت ضربات الانقلابات العسكرية والحروب الأهلية، أو نتيجة لتحول العديد من الدول الأفريقية للأخذ بنظام الحزب الوحيد، وقد حدث هذا الفشل رغم أن ظروف الدول الأفريقية عقب الاستقلال كانت أفضل بكثير من وضعها الراهن، حيث لا أزمة ديون، ولا فجوة غذائية، وكان الجهاز الإداري محدوداً لكنه على درجة عالية من الكفاءة، ولم ينخر فيه الفساد على نحو ما هو مشاهد حالياً، وكان الشعور الوطني عاليا بدرجة حالت دون تفجر الصراعات الإثنية في القارة؛ فما الذي يجعل خيار الديمقراطية الليبرالية ممكنا فى ظل الظروف الراهنة؟

4. الشرط الوطني

هذا الشرط يبني على الشرط الاجتماعي حيث ينمو ولاءً وطنياً عريضاً يسفر عن إجماع وطني على توجه أيديولوجي، يضفي على النظام الحاكم مشروعيته، وتجعل من الانتماء الوطني أمراً حتمياً. ذلك ما أسفرت عنه الخبرة التاريخية للمجتمعات الأوروبية، والتي كانت منقسمة في داخلها على أسس دينية ولغوية وثقافية، فجاءت الثورة الصناعية لتحدث هذا التحول، في هذه المجتمعات، والذي أسفر عن بزوغ الدولة القومية، وظهور الظاهرة الديمقراطية وترسيخها، وبدون توافر هذه الشروط فليس ثمة إمكان لبزوغ الظاهرة الديمقراطية واستقرارها، ناهيك عن إمكان الحديث عن فرضها، وهاهي الخبرة التاريخية، تثبت، ومنذ الاستقلال، صدق هذه المقولة، فقد انهارت التجارب الديمقراطية في العديد من الدول الأفريقية، ولا ينتظر لهذه الظاهرة أن تستقر في الدول التي أخذت بالتحول الديمقراطي منذ انتهاء الحرب الباردة، نتيجة لانتفاء الظروف الموضوعية لظهورها. 

ثانياً. أبعاد التحولات الديمقراطية في أفريقيا

تتسم عملية التحول الديمقراطي في أفريقيا بالعديد من الأبعاد والتي يمكن التركيز عليها ومنها:

1. البعد الوطني (الداخلي)

يتشكل البعد الوطني (الداخلي) من مجموعة أبعاد فرعية يمكن الإشارة إليها كالتالي:

أ. البعد المؤسسي

يفترض أنه داخل نطاق هذا الإطار المؤسسي تجري عمليات التغير التاريخي طويلة المدى. كما يفترض أن تتحقق عمليات التحول الديمقراطي من خلال دور النخب السياسية وفعلها، تلك التي يقع على كاهلها بالدرجة الأساسية الالتزام والمسؤولية عن حسن إدارة تلك العملية، وبحسبان أن في جميع المجتمعات العديد من بنى السلطة والقوة وهياكلها التي تعمل على تقييد سلوك الأفراد والنخب في المجتمع وتشكل تفكيرهم. وتوجد بنى السلطة والقوة بصورة مستقلة عن الفرد، تقيد نشاطاته وتتيح له بعض الفرص في الوقت نفسه. من ناحية أخرى، فإن الفرد جزء من تلك البنى الموروثة من الماضي ويسهم، مع الآخرين، في استمرارها.

كما يفترض أيضاً أن التفاعلات المتغيرة تدريجياً لبنى السلطة والقوة ـ الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية ـ تضع قيوداً، وتوفر فرصاً تدفع النخب السياسية وغيرهم، في بعض الحالات، في مسار تاريخي يقود إلى الديمقراطية الليبرالية، بينما في بعض الحالات الأخرى، قد تقود علاقات بنى السلطة والقوة وتفاعلاتهما إلى مسارات سياسية أخرى. ومن ثم فإن هياكل السلطة والقوة وأبنيتهما والتي غالباً ما تتغير تدريجياً عبر فترات تاريخية طويلة، فإن هذا يقود إلى أن عملية التحول الديمقراطي تكون طويلة الأمد. حيث إن المسار التاريخي لأي بلد نحو الديمقراطية الليبرالية أو نحو أي شكل سياسي أخر يتشكل ويتحدد، أساساً وجوهرياً، بالبنى المتغيرة للطبقة والدولة والقوى الدولية، وعبر القومية والمتأثرة بنمط التنمية الرأسمالية، وليس عن طريق مبادرات وخيارات النخب؛ فعلى الرغم أن النخب السياسية تضطلع بمبادرات وخيارات معينة، إلا إن هذه المبادرات والخيارات لا يمكن تفسيرها إلا عبر الإشارة إلى القيود والفرص البنيوية المحيطة بها.

إن الفرصِ التي يراها دعاة الليبرالية لتحسينِ الحراك والأداء السياسيِ في الأنظمة السياسية الأفريقية يُعيقُها في أغلب الأحيان عبءِ المؤسسات المَوْرُوثةِ، عن العديد من الأنظمة، سواء تلك ذات الطابع الماركسي، أو تلك ذات الطابع الاستبدادي/ الفردي، أو تلك ذات الطابع العسكري. ومن ثم فإن الشروط المسبقة الاقتصادية/ الاجتماعية مُفتَرَضة مِنْ أجل الانتقال الفعلي للتناول وللتعامل الجاد مع الديمقراطيةِ، بوصفها عملية سياسيةِ مستمرة وديناميةِ، ومن أجل الوصول إلى إحداث التغييرات السياسية المناسبة.

ويعني ما تقدم أن هناك ضرورة لترجمة القيم والمفاهيم إلى حقائق مؤسسية وبنائية ومرافق عامة، إذا ما كان هناك رغبة وإرادة حقيقية للتغيير وللتحول السياسي داخل الدول الأفريقية، وأن يتحقق ذلك في إطار نوع من الاتفاق حول قواعد الممارسة السياسية، ومثال ذلك وجود برلمان منتخب من الشعب، وغيرها من المؤسسات السياسية القوية والمستقلة سواء ذات الطابع الرسمي، وتلك ذات الطابع غير الرسمي، ومنها وجود الأحزاب السياسية الوطنية ذات البرامج المتنوعة كذلك وجود منظمات للمجتمع المدني نشطة ومنظمة.

ب. البعد الأدائي (الإجرائي)

يقوم هذا البعد على أساس وجود علاقة بين التنمية الاجتماعية والاقتصادية وبين الديمقراطية، بحسبان أن هذا يدخل ضمن العوامل التي تؤدي إلى استمرار الديمقراطية وترسيخها، في إطار ما يمكن تسميته بالشروط والمتطلبات الوظيفية للديمقراطية.

ويبدو أن الفاعلين السياسيين الملتزمين بالديمقراطية يؤدون دوراً حاسماً وجوهرياً لنجاحها. وعلى الرغم من أنهم يشكلون دائماً أقلية، فإن هناك عوامل معينة تتضافر لصالحهم. من أهم هذه العوامل أن أغلبية المواطنين، حتى وإن لم تكن ملتزمة بالديمقراطية بالضرورة، لا تريد عودة النظام التسلطي الذي كانت ترزح تحته. هذا إلى جانب أن الخطاب السياسي التسلطي أضعف إيديولوجياً من الخطاب الديمقراطي عالمياً. وبفضل هذه المزايا يمكن للنخبة الديمقراطية القليلة العدد أن تقود المجتمع السياسي إلى ترسيخ الديمقراطية، خصوصاً إذا استطاعت أن تقوم بتحييد الفاعلين ذوي التوجهات التسلطية المتطرفة، وتشجيع التفضيلات والممارسات المتوافقة مع الأداء الديمقراطي، وزيادة عدد الفاعلين الديمقراطيين، وإعطاء أولوية للإستراتجية التي تضمن عدم تسهيل عودة الحكم التسلطي على أية استراتجيات أخرى (بما في ذلك التنافس فيما بينها).

وبناءً على ما تقدم، فإنه -وفي إطار عملية التحول الديمقراطي- لا بد من تأكيد وجوب تسوية الصراعات السياسية عبر أسلوب تنافسي سلمى، وأن تكون الانتخابات الحرة ذات المضمون التعددي الأداة الديمقراطية الكفيلة بتحقيق التوازن السياسي والاستقرار في المجتمع، ويلاحظ أنه على الرغم من أن تحولات نظم الحكم الإفريقية قد حدثت بسرعة، فإن الوقت المتاح لوضع مثل تلك الإجراءات وترسيخها وتدعيم المؤسسات الديمقراطية إنما هو محدود نسبياً، وهو الأمر الذي يمكن أن يكون له آثار سالبة في السنوات التالية، ومنها أن تتمخض مثل تلك التجارب عن ديمقراطيات هشة Fragile. ولذلك فإن التعجل المرحلي من جانب الدول الأفريقية في هذا الشأن غير مرغوب فيه، كما أن الضغوط التي تمارس على الدول الأفريقية بغرض الإسراع بالتحول قد تؤدي إلى انتكاسات التجربة.

ج. البعد السلوكي (القيمي ـ الثقافي)

ينظر إلي الديمقراطية بحسبانها قيمة عليا في حد ذاتها، تشتمل في الوقت نفسه على معاني الحرية والمساواة والعدالة وسيادة قيم التسامح والتعايش والتفاوض، ويفترض ذلك نشر الثقافة الديمقراطية وتعزيزها في المجتمع. كما ينظر إليها كذلك بحسبانها عملية صراعية وتنافسية، وفى هذا الشأن تبرز العديد من الأمور ومنها:

 (1) أن تاريخ الديمقراطية مليء بالصراعات، وأن تحقيق المكاسب الديمقراطية للجماهير لا يمكن أن يتم بقرار فوقى، وهذا لا يعنى التشاؤم في إمكان تحقيق الديمقراطية في أفريقيا، وإنما لتوضيح أن هذا الأمر يتطلب نضالاً متواصلاً.

 (2) إن تزايد المطالب الشعبية المنادية باحترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية وبإضفاء الطابع الديمقراطي على المؤسسات السياسية والاتجاه نحو الأخذ بنظم التعددية الحزبية يتطلب ضمانات للتحول الصحيح لإحداث التغيير الديمقراطي لأن مسيرة التحول لم تنته بعد.

 (3) أن التحول الديمقراطي بمعناه التعددي محكوم عليه بعدة مؤثرات:

 (أ) مصالح الطبقة البيروقراطية البرجوازية المهيمنة، ومدى استعدادها للتفاوض السلمي من أجل الإصلاحات الديمقراطية.

 (ب) مدى انتشار الثقافة الديمقراطية و الوعي الديمقراطي بين المواطنين في أفريقيا.

 (ج) القدرة على إيجاد التسوية للصراعات الاجتماعية الممتدة، والتي تأخذ شكل الحروب الأهلية والدولية في عدد من المناطق الإفريقية.

2. البعد الدولي:

يتركز هذا البعد في محاولة الدول المانحة الأوروبية والأمريكية أن تسود عملية التحول الديمقراطي في القارة الأفريقية، وأن يتم الارتقاء بها، وفي سبيل تحقيق ذلك فإنها تعتمد العديد من السياسات والأدوات ومنها:

أ. سياسة الترهيب

في ظل تلك السياسة تستخدم أدوات تخفيض المعونات المقدمة للدول الأفريقية، وسياسة العزلة الدبلوماسية والإدانة لأنظمة الحكم، وتقييد التأشيرات ومنعها لدخول دولها وغيرها. وتسخر النيوليبرالية مجسدة في الولايات المتحدة القانون الدولي ومؤسساته مثل هيئة الأمم المتحدة و مجلس الأمن لحشد الدعم والتأييد لتدخلها العسكري في العالم، وفرض سياساتها التسلطية في العلاقات الدولية من أجل تثبيت هيمنتها.

كما أن العولمة الأمريكية تتستر بالديمقراطية وحقوق الإنسان والأقليات ومسائل البيئة للتدخل في الشؤون الداخلية للدول، من أجل تدمير الهويات المثمرة العريقة مثل الهوية العربية الإسلامية، و الهوية الصينية، والهوية الهندية، والعمل على بعث هويات أخرى طائفية وإثنية، وإقليمية، وتسويقها بما يساعد الولايات المتحدة الأمريكية في السيطرة على العالم؛ كما تستعمل العولمة سلاح المال والمؤسسات المالية و الدولية وفقر الشعوب لفرض أنماط جشعة تخدم مصالح شركاتها الدولية العابرة على حساب الاقتصاديات المحلية. وتحت ستار التبادل الحر والتنمية، تسعى العولمة إلى تشويه الهويات الثقافية، وبناء منظومة ثقافية استهلاكية واحدة تعطي لدورة الاقتصاد الرأسمالي العالمي الجديد اندفاعاته التاريخية التي يبحث عنها.

والجدير بالذكر، في هذا الشأن، أن العديد من الدول الأفريقية الفقيرة تجد نفسها مكرهة على قبول جميع أجزاء برنامج العولمة الليبرالية؛ لأن رفضها مقترن برفض متعدد الأنواع والأساليب لها بوصفها دولاً في المجتمع الدولي سواء على مستوى العلاقات الدولية الثنائية، أو متعددة الأطراف، أو رفض المؤسسات المالية والنقدية والتجارية الدولية تقديم القروض، أو التسهيلات المتعلقة بإعادة جدولة الديون، وغيرها من الأمور المتعلقة بالشؤون المالية والنقدية، فضلاً عن العراقيل والصعوبات التي تقيد من تبادلها التجاري على المستوى الدولي، وإمكان تعرضها لعقوبات اقتصادية. وفي ظل الاتساع الكبير والفجوة الضخمة في الدخل بين الأغنياء والفقراء في العالم تصاعدت الاحتجاجات التي رافقت انعقاد مؤتمرات منظمة التجارة العالمية، لمواجهة العولمة والضغوط والانتكاسات الناجمة عنها.

ويلاحظ أن الدول الصناعية الكبرى تقع، و لو جزئياً، تحت تلك السطوة الرأسمالية للولايات المتحدة الأمريكية، وما يترتب على ذلك من تأثيرات اجتماعية واقتصادية وثقافية، وإذا كان هذا هو وضع مثل هذه الدول، فان السؤال المطروح هو ما المستقبل الذي ينتظر الدول الأفريقية الصغيرة والفقيرة في ظل هذا الوضع؟

ب. سياسة الترغيب

يرى المروجون لليبرالية السياسية أن البلدان الأكثر انفتاحاً سياسياً، ستكون الأكثر انفتاحاً اقتصادياً، وخصوصاً على التجارة الدولية، ومن ثم فهي التي ستتمتع بنمو سريع أكثر من البلدان الأقل انفتاحا. وستكون هي الأقل فقراً، وتتمتع بمستوى جيد من التوظيف، وسيكون لديها مستشفيات و مدارس أفضل.

ومن ناحية أخرى فإن المروجين للديمقراطية في أفريقيا يبشرون دولها، بالعديد من الحوافز التي تتمثل في زيادة المعونات الخارجية، وتعزيز التعاون العسكري، وزيادة حجم التجارة والاستثمارات، بالإضافة إلي أدوات الدبلوماسية التقليدية، والاستمالة (الإقناع) والمشورة والاستعداد للمناصب الجديدة (الريادة الإقليمية). بالإضافة كذلك إلي أن برامج الترويج والارتقاء بالديمقراطية يمكن أن تكون مجزأة على المدى القصير كأنشطة التأييد الانتخابي، وعلي المدى الطويل مثل جهود إعادة البناء المؤسسي والتغييرات الدستورية، وهو الأمر الذي سيحظى بتأييد الدول المانحة ودعمها، من ناحية، وستنعكس إيجابياته على المستوى الداخلي من ناحية أخرى.

ثالثاً. مراحل وآليات التحولات الديمقراطية في أفريقيا

إن التغييرات السياسية التي انتشرت عبر القارةِ الأفريقيةِ منذ 1990، والتي نجمت عن العديد من الأسباب التي يرجع بعضها لضغوط الدول الغربية الليبرالية (المانحة)، وبعضها الآخر لتنامي الاحتجاجات السياسية الرافضة للواقع السياسي المتمثل في دول الحزبِ الواحد Single-Party States، وأنظمة الحُكُم الفردي Individual Rule، والدكتاتوريات العسكرية Military Dictatorships ـ والاقتصاد المتردي لدول القارة، في ذلك الحين، والمطالبة بضرورة الإصلاح السياسي مقدمة أولى نحو إعادة بناء تلك الدول.

ويبدو أن نتيجةِ تلك العملية مازالت غير واضحةُ، وبأنّ هناك مدى واسعاً من الاختلاف بين البلدانِ الأفريقيةِ في مجال التعامل الواقعي مع تلك العملية. وعُموماً، فإن عملية الليبرالية السياسية Process of Political Liberalization والرامية إلى إضْعاف النظم الاستبدادية Weakening of Authoritarianism، والانفتاح الأوسعِ لفرص المشاركة السياسيِة  Political Participationمازالت تفتقد العديد من متطلباتها، ومنها تهيئة الظروف والبيئة المناسبة دستورياً ومؤسسياً وشعبياً وتنموياً قبل أية محاولة للمتابعة والتقييم.

في أوضاع التطور الطبيعي لعمليات التغيير السياسي التي تمر بها الدول، فإن مثل هذا الأمر غالباً ما يأخذ وقتاً، ويتطلب جهداً وقدرات وإمكانات وظروف مناسبة، لضمان نجاح هذه التغييرات، لكن بالنسبة للتجربة الأفريقية، فالسؤال الذي يبدو ملحاً، هو الكيفية التي تجري وفقاً لها عمليات التغيير السياسي، والتحول الديمقراطي، والمراحل والآليات ذات الصلة بها؟ ويمكن الإشارة إلى ذلك كالتالي:

1. مراحل التحولات الديمقراطية في أفريقيا

يزعم البعض أن هذا النوع من عمليات التحول نحو الديمقراطية يتطلب مدخلاً تطورياً تاريخياً، يمكن أن يصبح مساراً عاما تتبعه كل البلدان خلال عملية التحول الديمقراطي، وليس مجرد البحث عن الشروط والمتطلبات الوظيفية للديمقراطية. ويتكون هذا المسار من خمسة مراحل أساسية، يمكن الإشارة إليها كالتالي:

أ. مرحلة تحقيق الوحدة الوطنية

والتي تشكل خلفية الأوضاع Background Condition، أو أساس عملية التحول، ويرى البعض أنه فيما يتعلق بتحقيق الوحدة الوطنية لا يتوجب توافر الإجماع والاتفاق العام، بل مجرد بدء تشكل هوية سياسية مشتركة لدى الغالبية العظمى من المواطنين.

ب. مرحلة الإعداد Preparatory phase

وخلال هذه المرحلة يمر المجتمع القومي بفترة تتسم بصراعات سياسية طويلة وغير حاسمة، على شاكلة الصراع الناجم عن تزايد أهمية نخبة صناعية جديدة خلال عملية التصنيع تطالب بدور وموقع مؤثر في المجتمع السياسي في مواجهة النخب التقليدية المسيطرة التي تحاول المحافظة على الوضع القائم. ورغم اختلاف التفاصيل التاريخية لحالات الصراع من بلد لآخر، فإن هناك دائماً صراعاً رئيساً وحاداً بين جماعات متنازعة. أي أن الديمقراطية تولد من رحم الصراع، بل وحتى العنف، وليست نتاجاً لتطور سلمي. وهذا ما يفسر هشاشة الديمقراطية في المراحل الأولى، وعدم استطاعة العديد من البلدان تجاوز المرحلة الإعدادية إلى مرحلة الانتقال والتحول المبدئية. قد يكون الصراع حاداً بالدرجة التي تؤدي إلى تمزيق الوحدة الوطنية، أو أن يؤدي إلى تزايد قوة إحدى الجماعات بالدرجة التي تمكنها من التغلب على قوى المعارضة، وإنهاء الصراع السياسي لصالحها، وسد الطريق أمام التحول الديمقراطي.

ج. مرحلة القرار Decision Phase

وهي مرحلة الانتقال والتحول المبدئي، وخلالها، وهي لحظة تاريخية تقرر فيها أطراف الصراع السياسي غير المحسوم التوصل إلى تسويات، واعتماد قواعد ديمقراطية تمنح الجميع حق المشاركة في المجتمع السياسي. وخلال هذه المرحلة فإن قرار اعتماد القواعد الديمقراطية خلال "اللحظة التاريخية" قد يكون قراراً ناتجاً عن أحساس أطراف الصراع غير المحسوم بضرورة التوصل إلى تسويات وحلول وسط، وليس ناتجاً عن قناعة هذه الأطراف ورغبتها في اعتماد القواعد الديمقراطية. بيد أنه، تدريجياً مع مرور الوقت، تتعود الأطراف المختلفة على هذه القواعد وتتكيف معها. قد يقبل الجيل الأول من أطراف الصراع القواعد الديمقراطية على مضض، وبحكم الضرورة، إلا أن الأجيال الجديدة من النخب السياسية تصبح أكثر تعوداً وقناعة وإيماناً بالقواعد الديمقراطية؛ وفي هذه الحالة يمكن القول إن الديمقراطية قد ترسخت في المجتمع السياسي.

د. مرحلة التفاعل والتعود Interaction & Habituation Phase

وهي مرحلة الانتقال إلى إقامة التحول الديمقراطي، ووضع القرارات والسياسات المتخذة المتعلقة به موضع التطبيق، وتبدأ هذه المرحلة بفترة من عدم التأكد أو التيقن، ومن التشكك والترقب، حيث تظل المخاطر والهواجس تعتمل بداخل كل من الأنظمة الحاكمة رهبة وخوفاً من افتقاد السلطة والثروة والنفوذ، وغيرها من القوى والتنظيمات السياسية التي تخشى من ارتداد تلك الأنظمة إلى ماضيها الاستبدادي، ويلاحظ أن عملية التفاعل الحادثة بين مؤسسات الأنظمة الحاكمة والنخب والجماعات المرتبطة بها، وتلك المؤسسات وجماعات الضغط والمصالح الجديدة المؤيدة والداعمة لعمليات التحول الديمقراطية، يكتنفها قدر كبير من افتقاد الثقة والصدق، تجاه بعضهما البعض.

هـ. مرحلة النضج والاستقرار

وهذه المرحلة تشهد مشاركة واسعة للقوى والتنظيمات السياسية/ المدنية وللجماعات والأفراد في مغانم الثروة والسلطة على أسس المساواة والمواطنة وتكافؤ الفرص وتتعزز قدرات المجتمع من خلال تمكين الجماعات والقوى المختلفة، بما في ذلك الشرائح الأكثر ضعفاً ومعاناةً كالأقليات والجماعات المهمشة والمرأة وغيرها، لتستقر بذلك قواعد ونظم العمل التي تحكم عملية التحول.

2. آليات عملية التحولات الديمقراطية في أفريقيا

مع ضرورة إحداث عملية التحول الديمقراطي في أفريقيا، فقد كان لزاماً عند البدء والأخذ بها، وجود آليات تساعد على ذلك ومن هذه الآليات ما يلي:

أ. المؤتمرات الوطنية

تعد صيغة تأسيس المؤتمر الوطني من أبرز آليات التغيير السلمي للبناء التسلطي من خلال المفاوضات بهدف الوصول إلى صيغة ملائمة للتحول الديمقراطي، ويبدو أن مثل تلك المؤتمرات الوطنية يمكن أن تكون مناسبة للواقع الأفريقي بدرجة كبيرة، وهى إما أن تتم نتيجة لضغط شعبي كبير، أو لتذمر عام في صفوف المؤسسة العسكرية، أو لتردى الحالة الاقتصادية ـ السياسية، أو لضغوط خارجية متزايدة، حتى ينساق النظام القائم لبدء عملية التحول الديمقراطي من خلال المفاوضات السلمية، وهو الأمر الذي يمكن أن يساعد في تدعيم شرعيته السياسية من ناحية وخلق مناخ من القبول – القومي العام لسياسات الإصلاح التي تنتهجها الحكومة، وتتسم مثل هذه المؤتمرات الحكومية . الوطنية بالتمثيل الواسع من جانب جماعات ومؤسسات المجتمع المدني، بما في ذلك الجماعات المعارضة، وهى تتيح الفرصة للمشاركين في عرض أخطاء الحكومات السابقة والحالية ومناقشتها واقتراح الإصلاحات المناسبة (بنين مؤتمر 1990، الكونغو، توجو، النيجر، مدغشقر...).

ففي غرب أفريقيا التقت بعض القوى الاجتماعية في مؤتمرات وطنية، وأعلنت التمرد الشعبي ضد حكم الحزب الواحد والحكم العسكري في الإقليم. وتمكنت جماعات محلية في بنين من القيام بأدوار مختلفة، في عام 1989، في الإطاحة بالنظامِ الاستبدادي. وانتهت في عام 1991، بتنصيبِ رئيس ديمقراطي جديد من طريق الانتخابات الحرّةِ والعادلةِ، ربما كان هناك تأثير للضغطِ الخارجيِ الفرنسي خاصة. إلا أن المظاهراتَ التي انفجرت في أرجاء متفرقة من البلاد، بسبب الصعوباتِ الاقتصادية، تأثير كذلك على عملية التغيير والتحول.

لقد كان واضحاً مع نهاية عام 1989، أن من الصعب أمام النظام الحاكم أن يتجاهل الضغوط الشعبية التي تقودها المعارضة، وقد حاول الرّئيس كيريكو Kerekou البقاء في السلطة والسيطرة على الأوضاع من خلال عمليةِ لتخفيفِ هذه الضغوط. إلا أنّ قوّةَ التعبئةِ، وغياب القمعِ المفتوحِ مِنْ جانب قوى الأمن الداخلي، وإعادة الاصطفاف بين أحزابِ المعارضة، وانضمام العديد مِنْ مؤيدي النظام إليهمِ، أفَسح المجال أمام وضع ترتيبات جديدة تمثلت في انعقاد مؤتمر وطنيNational Conference في فبراير 1990. قرّرتْ فيه أحزاب المعارضة إعطاء الأولوية لإصْلاح دولة الحزب الواحد، وإقامة جمعية وطنية ذات سيادة في البلاد، وهو الأمر الذي دفع الرّئيس كيريكو والجيش لتهديد جماعات المعارضة باستخدام ِالقوة ضدهم، ولكن أمام استمرار ضغوط المعارضة. أذعن الرئيس والجيش لمطالبهم.

وسرعان ما انتشرت "حمى المؤتمرات الوطنية" وامتدت لتصل إلى وسط إفريقيا. ولقد كان من تبعات المؤتمر الوطني الناجح في بنين، أن عقدت مؤتمرات مماثلة في كل من مالي والجابون وتوجو وزائير. وأقيمت أول انتخابات حرة عادلة في بنين، واستطاع المدير السابق بالبنك الدولي ينسيفور سوجلو أن يهزم ماثيو كيريكو، ويصبح الرئيس الجديد في عام 1991. وبعدها بخمس سنوات نجح كيريكو فى هزيمة سوجلو والفوز بمنصب الرئاسة. في حين نجحت النظم القديمة في كل من الكاميرون والجابون وتوجو في الاستمرار، وإحباط محاولات هؤلاء الذين احتشدوا في المؤتمرات الوطنية كافة، معلنين فجر عصر جديد من الديمقراطية.

وفى زائير (الكونغو الديمقراطية الآن)، سقط حكم موبوتو بوفاته، تاركاً دولة تعثرت طويلاً، ذات اقتصاد معيشي متدهور. وباحتلال الحلف الهش للقوات المسلحة الذي وضع لوران كابيلا في الحكم، بدأت مرحلة جديدة من الصراع الداخلي الممتد من أجل أنجولا؛ ولكن مع الفارق إذ لم يكن هناك هذه المرة حكومة تتمتع بأي شكل من أشكال الشرعية الدولية.

ب. المؤتمرات الإقليمية والدولية

على صعيد المؤتمرات الإقليمية فقد اجتمع قادة أفارقة في العاصمة النيجيرية أبوجا، أواخر شهر مارس 2002، للتوقيع على إعلان غير مسبوق لتأكيد التزام الدول الأفريقية بالديمقراطية، وحكم القانون والفصل بين السلطات، ومواجهة الحروب المدمرة والفساد. ويأتي ذلك بهدف تمهيد الطريق أمام استثمارات غربية ضخمة يتوقع تدفقها نحو القارة الأفريقية. وقد حضر قمة أبوجا قادة 15 دولة من اللجنة التنفيذية للشراكة الجديدة للتنمية الأفريقية (نيباد). التي تسعى للإسراع بعملية النمو في أفقر قارات العالم. وكان ويزمان نيكولا رئيس لجنة التوجيه في نيباد قد ذكر أن الإعلان السياسي في قمة أبوجا يمثل أحد أهم الضمانات لتوفير الدعم الغربي للمبادرة الأفريقية التي تحتاج إلى نحو 64 مليار دولار استثمارات سنوية لاستمرار النمو. وأكد نيكولا أهمية هذا الإعلان في كسب ثقة المجتمع الدولي، في حين أعرب عن استيائه من إعلان الولايات المتحدة الأمريكية أن فوز الرئيس الزيمبابوي روبرت موجابي في الانتخابات الرئاسية، فبراير 2002، يمكن أن يؤثر على الدعم الغربي لمبادرة نيباد. ويشمل الإعلان السياسي التأكيد على تطبيق مبادئ الديمقراطية وحكم القانون، والفصل بين السلطات، واستقلال القضاء، وفعالية البرلمانات في إصدار القوانين، إضافة إلى العمل على تأمين حرية المجتمع المدني وحرية الصحافة واحترام حقوق الإنسان، ومواجهة الفساد.

ج. التحول الموجه (التحول من أعلى)

تتسم عملية التحول في ظل هذا النموذج بالتعقيد والتطويل (مثال ذلك مصر، ونيجيريا، وغانا، وإثيوبيا...) وتحدث عملية التحول بقيام النظم القائمة بالبدء في الإصلاحات استجابة لأزمات قائمة أو محتملة، وذلك بغرض التحكم في مدى عملية التحول ومضمونها. وعادة ما يكون التحول عملية طويلة نسبياً، وتحدث عندما يقرر نظام الحكم التسلطي، وبدون ضغوطات قوية من قوى المعارضة أو من المجتمع بأجمعه، وبعد جدل داخلي، أن من مصلحته إدخال تغييرات وإصلاحات سياسية. قد يؤدي هذا النمط من عملية التحول الديمقراطي إلى احتفاظ القوات المسلحة بحق الاعتراض (الفيتو) على الترتيبات السياسية المستقبلية وإيقافها.

وفي أحسن الأحوال، تتمثل النتيجة الأكثر احتمالاً لهذا الشكل من التحول الديمقراطي في قيام ديمقراطية محدودة تتسم باستمرار الهيمنة السياسية لعدد صغير نسبياً من النخب، وغالباً ما تحتفظ النخب المسيطرة في النظام التسلطي بسيطرتها على السلطة والقوة في الترتيبات الجديدة. ولقد كان ذلك النمط الغالب لعمليات الانتقال الديمقراطي في العديد من بلدان أمريكا اللاتينية وبعض البلدان الآسيوية. ولعل الأمر الجوهري في هذا النمط من عملية الانتقال الديمقراطي يتمثل في أن الحكام المتسلطين لا يتنازلون طوعاً عن السلطة والقوة، كما أنهم غير مستعدين، بصفة عامة، لتعديل نظام الحكم إذا كان ذلك يهدد سيطرتهم على السلطة. فضلاً عن أن القرارات المتعلقة باعتماد المؤسسات الديمقراطية يتخذها المسيطرون على السلطة مدفوعين بمصالحهم الخاصة الشخصية والجماعية.

د. ممارسة الضغوط للتحول إلي الديمقراطية

يتمثل هذا العنصر في تنامي الاحتجاجات المطالبة بالإصلاحَ، نتيجة لانهيار الشيوعيةِ والاشتراكية في الاتحاد السوفييتي (سابقاً) وفي أوربا الشرقية، وهو الأمر الذي لم يترك أمام الدول الأفريقية مجالاً للتفكير فيما ينبغي عليهم أن يفعلوه، في ظل هذا التصدع الأيديولوجي العالمي، لاسيما أنها كانت إحدى ضحايا هذا الصراع طوال حقبة الحرب الباردة. وقد سمح هذا الفراغ الأيديولوجي بالضغط على الأنظمة الحاكمة الأفريقية من أجل سرعة الاستجابة، وعدم التردد في المبادرة الطوعية بالتفاعل الإيجابي مع الأيديولوجية الليبرالية، في ظل وَضعَ قضيةَ الديمقراطية على جدولِ أعمال الدول المانحةِ، كما سمح هذا الوضع من جانب آخر للعديد من الحركات والتنظيمات السياسية والشعبية للقيام باحتجاجات سياسية مِن أجل تَطبيق سياسة التغييرِ Change Policy.

عندما تبدأ ممارسة الضغوط من أجل التحول إلي الديمقراطية، فإن الضغوط في هذا الصدد تكون داخلية من أجل الأخذ بالتعددية الحزبية، ومن خلال انتخابات حرة وسيلة للانتقال السلمي للسلطة لزامبيا 1991 مثالاً، إن الاعتراف والقبول بالوجود المزمن للضغوط الإثنية من أجل إحداث تغييرات هيكلية Structure Changes في تلك الدول الأفريقية لا يمكن النظر إليها على أنها معوقه للتحول الديمقراطي؛ حيث إن إحداث تلك التغييرات الهيكلية ربما يساعد تلك الدول على التخفيف من مشكلات الإثنية بها، تحدد بالإشارة إلى أن التغييرات الهيكلية قد تختلف من دولة إلى أخرى، وهى تتحرك من مجرد المركزية الإدارية إلى ترتيبات فيدرالية كاملة، ولعل الاستجابة لمثل تلك الضغوط يمكن أن يسهم إسهاما فاعلاً في تثبيت الديمقراطية وتعزيزها أكثر من أن تكون أداة للاتصال.

هـ. النضال المسلح

يبدو أن حدوث هذا النمط من التحول يأتي غالبا في أعقاب أزمة وطنية خطيرة، لا يستطيع النظام التسلطي حلها، وتؤدي إلى حدوث تعبئة جماهيرية واسعة النطاق ضد النظام. ويمثل هذا النمط نوعاً من عملية الانتقال والتحول التي لا تهيمن عليها النخب. بدلاً من ذلك، يأتي التغيير أساساً، على الأقل في بداياته، من الضغوطات المنبثقة من القاعدة الشعبية، وتُرغم النخب على الخضوع للإرادة الشعبية؛ بعبارة أخرى، فإن المطالب الشعبية هي التي تؤسس هذا النمط من عملية الانتقال وتحركه، وليس المواثيق بين النخب. من غير المحتمل أن يؤدي هذا النمط إلى الانتقال، حيث يؤدي الضغط الشعبي إلى إرغام النخب الحاكمة على التخلي عن السلطة، لكن عدم وجود اتفاقات ومواثيق خلال مرحلة الانتقال يمثل عقبة كبيرة أمام بروز أجواء الاعتدال والتصالح الضرورية لعملية ترسيخ الديمقراطية والمميزة لها؛ فالواضح أنه من غير المحتمل أن يؤدي تغيير النظم التسلطية عن طريق التعبئة الجماهيرية والضغوط الشعبية إلى قيام نظم ديمقراطية ليبرالية مستقرة. على العكس، فهناك احتمال لأن تنتكس النظم الجديدة وتحل محلها أشكال جديدة من النظم التسلطية.

ومعنى ما تقدم أن توظيف آلية النضال المسلح في إحداث عملية التحول الديمقراطي تبدأ بأعمال مسلحة في محاولة لإكراه النظام الحاكم للانصياع والإذعان لمطالب الضالعين في تلك الأعمال، وينتهي هذا الأمر باستمرار تلك الأعمال إلى أن يتغير هذا النظام، وقد تكون هناك حكومة انتقالية، تعمل من أجل وضع دستور جديد للدولة، وتحديد موعد لإجراء انتخابات ديمقراطية، وتولي نظام حاكم جديد للبلاد، مثال ذلك ما حدث جنوب أفريقيا ـ إثيوبيا ـ موزمبيق.

و. المفاوضات

تعد عملية التحول في جمهورية جنوب أفريقيا أحد النماذج البارزة في تقديم الحلول الديمقراطية، وذلك من خلال مسار من المفاوضات المطولة والمصالحة التاريخية، والتي أسفرت عن نظام ديمقراطي لحكم الأغلبية السوداء. وإذا كانت بعض الدول قد تعجلت الأخذ ببعض مظاهر التحول فإنها في حاجة شديدة لإعادة النظر فيما أقدمت عليه من خطوات في هذا المجال، وإلى اللجوء إلى مصالحة فعلية بين جماعات الدولة الواحدة للوصول إلى صيغ توافقية ومرضية لتسوية النزاعات والصراعات قبل الترويج والإدعاء بالتزامها بالديمقراطية كما هو الحال على سبيل المثال في كل من إثيوبيا ونيجيريا والسودان وغيرها.

ويلاحظ أن الدول الأفريقية في تعاملها مع منظومة المتطلبات Requirements غير متساوية في هذا الشأن، وإنما تتفاوت على مستويات عدة، سواء تعلق الأمر بالإرادة والرغبة السياسية، أو القدرات والإمكانات الوطنية، أو درجة الوعي والاستعداد لدى القوى الوطنية/ الشعبية، ولا يتوقف الأمر في هذا الشأن على مجرد البدء في تدشين التحولات الديمقراطية، ومع كونه أمر جد صعب بالنسبة لتلك الدول، إلا أن أنماط السلوك والممارسات من جانب جميع الفاعلين السياسيين سواء فيما يتعلق بالنخب الحاكمة أو التنظيمات والقوى السياسية والشعبية تعد الأمر الأصعب في المعادلة الديمقراطية. بحسبان أنها البرهان على القناعة بها، والاستعداد والقدرة على التضحية من أجل إنفاذها.