إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / ثورة عام 1958، في العراق




نوري السعيد
الملك فيصل الأول
الرئيس عبدالسلام عارف
الرئيس عبدالكريم قاسم
عبدالإله بن علي





الفصل الرابع

تأييد الوحدات العسكرية للثورة

      عند سماع إعلان الثورة من الإذاعة اندفع الضباط الأحرار يساندون الثورة بكل طاقاتهم، وحسب إمكاناتهم، وضربوا عرض الحائط بأوامر التحركات التي أصدرها بعض قادة الفرق للقضاء على الثورة؛ فقد أصدر قائد الفرقة الأولى، اللواء الركن عمر علي، التعليمات إلى وحدات فرقته بالاستعداد لسحق الثورة، والزحف على بغداد، واتصل بقائد اللواء الأول في المسيب، وبقائد حامية البصرة الزعيم الركن ناجي طالب، وحثهما على التحرك لسحق الثورة. كما اتصل بشيوخ العشائر في جنوب العراق، وحرضهم ضد الثورة. لكن قـيادة الثورة في بغداد اتصلت به، وأكدت استعدادها للتعاون والتفاوض معه، ولم يمض وقت طويل، إلاّ واستسلم اللواء عمر علي، تحت ضغط من الضباط الأحرار، داخل فرقته في الديوانية، خاصة بعد أن لمس عدم تعاون كل من قائد حامية البصرة، وقائد اللواء الأول معه.

      كذلك أصدر قائد الفرقة الثانية، الزعيم الركن عبد الوهاب شاكر، في كركوك، تعليمات مماثلة بالزحف على بغـداد، إلاّ أن تحركات الضـباط الأحـرار وتدابيرهم في الفرقـة أفشلت خططه، إضافة إلى عدم وجود أية قوة أخرى يمكن أن تساعده.

      وكانت خطة أمن بغداد، التي وضعها رئيس أركان الجيش اللواء محمد رفيق عارف، تقضي بأن يكون اللواء الأول والمُعدّ جيداً، والذي يتمركز في المسيب، ويقوده اللواء وفيق عارف شقيق رئيس أركان الجيش، على أهبة الاستعداد للتحرك عند وجود أي قلاقل أو اضطرابات في بغداد. غير أن هذا اللواء لم يتحرك؛ لأن العقيد أحمد حسن البكر كان قد أبلغ الضباط الأحرار باللواء، في مساء يوم 13 يوليه 1958، بموعد الثورة، فاستعدوا واتخذوا الاحتياطات اللازمة للسيطرة على اللواء، وتمكنوا من اعتقال قائده، وحلّ العقيد فاضل عباس المهداوي مكانه؛ لأنه كان الأعلى رتبة بين الضباط الأحرار. وعلى هذا النحو استطاعت الحركة أن تسيطر على الموقف في جميع أنحاء العراق، بعد أن التفّت حولها جميع الوحدات العسكرية في ساعاتها الأولى.

رد الفعل الشعبي داخل العراق

      لم يكن تأييد الجماهير للثورة عفوياً، وإنما جاء نتيجة إعداد مسبق لهذه الحركة، فتنظيمات الضباط الأحرار كان لها اتصال بالأحزاب السياسية بصورة منفردة أو جماعية، عن طريق جبهة الاتحاد الوطني، ومن ثم عملت أحزاب الجبهة على تهيئة الجماهير لمثل هذا الحدث، ولولا مساهمة الجماهير في تأييد هذا الحدث لما حققت الثورة هذا النجاح، في الساعات الأولى لها.

      وكان للأحزاب السياسية علم بالموعد التقريبي المنتظر للثورة، فحزب البعث العربي الاشتراكي تم إبلاغه عن طريق بعض الضباط الأحرار باللواء العشرين، وطُلِب منه أن يكون على أهبة الاستعداد لمساندة الضباط الأحرار عند الحاجة. وفي الوقت نفسه تم إبلاغ كل من الحزب الشيوعي، وحزب الاستقلال، والحزب الوطني الديموقراطي، وجبهة الاتحاد الوطني بالموعد المنتظر للثورة. وهكذا وقفت الأحزاب السياسية المكونة لجبهة الاتحاد الوطني بجانب الثورة، منذ اللحظات الأولى. وعملت على إلهاب مشاعر الجماهير وتحريكها، وإثارتها لمساندة الثورة.

      واستمرت القيادات الشيوعية، من جبهة الاتحاد الوطني، في تحريض الجماهير وقيادتها، على الإضرابات والتظاهرات، والقتل والسحل، دون توقف، إلى يوم مجزرة كركوك في 14 يوليه 1959. وعن طريق عقد الاحتفالات والمهرجانات، وإطلاق الشائعات عن وجود مؤامرات وتخريبات يعدها أعداء الجمهورية الفتية، وبحجة الحذر والدفاع عن الجمهورية ضد أعدائها في الداخل. كما استخدمت القيادات الشيوعية ما سُمي بجيش المقاومة الشعبية لنشر الرعب والخوف في شوارع بغداد ومنازلها. ومن ذلك ما حدث في 9 مارس 1959، حين انطلقت تظاهرة من عمال "محلة وادي الحجر"، وانضم إليهم الجنود، وقتلوا الكثيرين، منهم المقدم صديق، والقائد الركن نافع، والقائد الركن غانم حنون. وهرب كثير من الضباط إلى المقابر، حيث لاقوا حتفهم هناك.

      أما عمال "عين زالة" فقد شاركوا في أعمال القتل الجماعي، وشكلوا محكمة برئاسة أحد العمال، حكمت على عدد كبير من الضباط بالموت، وتم تنفيذ الحكم على الفور. ولم يتوقف الشيوعيون عن أعمالهم الإرهابية، وموجات القتل إلاّ عندما انقلب عليهم عبدالكريم قاسم، وطالبهم بإيقاف أعمالهم هذه، وكان ذلك بعد مجزرة كركوك، التي أثارت استياءً شديداً داخل العراق وخارجه.

الموقف العربي من الثورة

1. موقف الجمهورية العربية المتحدة (مصر وسورية)

أرسل مجلس السيادة العراقي (وهو المجلس الذي شكله ضباط الثورة، بقيادة عبدالكريم قاسم لإدارة البلاد)، بعد ثلاث ساعات من قيام الثورة، برقية إلى الرئيس جمال عبدالناصر يُعلن اعتراف العراق بالجمهورية العربية المتحدة، جاء فيها: "الجمهورية العربية المتحدة: سيادة الرئيس جمال عبدالناصر، بمزيد الفخر والاعتزاز نقدم اعترافنا بالجمهورية العربية المتحدة، ونرجو الله أن يوفقنا لخدمة العروبة وخدمة الشعوب".

      كان جمال عبدالناصر في يوغوسلافيا، وسمع بقيام الثورة في العراق من راديو بغداد في صباح يوم 14 يوليه 1958، وكان تعليقه الأول، بعد سماع الخبر، هو أن قيام الثورة في بغداد سوف يقلب المنطقة رأسًا على عقب، وأن الساعات القليلة القادمة قد تشهد أخطارًا داهمة؛ لأنّ الغرب والولايات المتحدة الأمريكية في مقدمته قد يتصرفون جميعًا بحالة من الجنون يصعب تقدير عواقبها. وكان تعليقه الثاني هو استعادة كل ما سمعه من عبدالحميد السراج عن الضابطين اللذين اتصلا به[9]، ثم كان تعليقه الثالث، أنه لابد من إعلان حالة التأهب القصوى في الجمهورية العربية المتحدة. واتصل بالفعل بــ عبد الحكيم عامر في القاهرة، وطلب منه إعلان حالة الطوارئ القصوى، ومتابعة كل الإشارات التي تصدر من الباخرة "الحرية" المرافقة لجمال عبدالناصر في يوغوسلافيا. ثم أرسل جمال عبدالناصر بياناً من القاهرة كتبه شخصياً بخط يده تضمن: "إن الجمهورية العربية المتحدة ستقوم بالتزاماتها كاملة تجاه جمهورية العراق، وفقاً لميثاق الضمان الجماعي العربي، وإن أي عدوان على جمهورية العراق يعتبر عدواناً على الجمهورية العربية المتحدة".

      كما بعث إلى دمشق والقاهرة يطلب إجراء اتصالات عاجلة، بكل الوسائل المباشرة، مع القيادات العراقية الجديدة، والتعاون معها إلى أقصى الحدود فيما تطلبه، وفي الوقت نفسه كتب مجموعة من النصائح طلب إيصالها إلى بغداد، وكان أهمها:

  1. التعهد باستمرار تدفق النفط العراقي إلى أسواقه.
  2. التأكيد على استقلالية الثورة العراقية عن كل الأطراف، بما فيهم الجمهورية العربية المتحدة.
  3. عدم التسرع بإبداء اتجاهات وحدوية، حتى لا تثور ثائرة الغرب ضـد الثورة في مرحلة التعرض الأولي للخطر.

      وقطع جمال عبدالناصر رحلته، وعاد سراً على الباخرة "الحرية"، التي عملت كمركز قيادة عائم، ومع صباح يوم 15 يوليه 1958، تلقى نبأ نزول القوات البحرية الأمريكية على الشواطئ اللبنانية قرب بيروت. ثم اضطر إلى العودة إلى ميناء بريوني اليوغسلافي؛ لأن طريق البحر أصبح غير آمن على سلامته.

      وبدأت أجهزة الاستقبال على الباخرة "الحرية"، تتلقى فيضاً من رسائل وكالات الأنباء، وكلها تشير إلى إعلان حالة الطوارئ في كل القواعد الأمريكية في البحر المتوسط وأوروبا الغربية. وكانت هناك إشارات لا يمكن أن يخطئها أحد في تحركات القوات البريطانية، براًّ وبحراً، على القوس الممتد من جبل طارق إلى عدن، وكان هذا السيل من الرسائل ينقل على الفور إلى جمال عبدالناصر. واستقر جمال عبدالناصر على فكرة مؤداها أنه بعد العودة إلى بريوني، سيتوجه سراًّ بالطائرة إلى موسكو، يلتقي فيها القادة السوفييت؛ لكي يتعرف مباشرة على نواياهم. وتوجّه جمال عبدالناصر من بريوني إلى موسكو، بعد اتصاله بخروشوف، فوصل إليها فجر يوم 17 يوليه 1958، وتم اللقاء بين جمال عبدالناصر وخروشوف في الساعة العاشرة من اليوم نفسه، وقال خروشوف موجهاً كلامه إلى جمال عبدالناصر: إن ثورة العراق كانت مفاجأة لهم، لقد سقط حلف بغداد، فهل يتصور أحد الآن حلف بغداد بغير بغداد؟ أو أن بغداد أصبحت فجأة ضد حلف بغداد؟ وكانت وجهة نظر جمال عبدالناصر هي "أن الموقف خطير، وأن الجمهورية العربية المتحدة لا تريد أن تضاعف من خطورته، وأنها سوف تبذل كل جهدها للسيطرة على ردود أفعالها؛ لأنها لا تقبل أن تعرض السلام العالمي للخطر، وأكد جمال عبدالناصر أنه عندما يعود إلى المنطقة اليوم، فإنه سوف يبذل كل جهده لتهدئة أعصاب الأطراف، لكنه يشعر أن بعضهم يدفع الأمور إلى مناطق خطرة.

      وأوضح جمال عبد الناصر لخروشوف مدى علاقته بقادة ثورة العراق بقوله: "أنا لم التق بالقيادات الجديدة للعراق، وإن كنت أتوقع أن يحدث ذلك بعد عودتي إلى المنطقة، لكن شعوري الآن هو الاستعداد لأكبر قدر من التعاون والتنسيق بغير وحدة، (يقصد مع العراق)، فنحن ما زلنا نحاول حل مشكلات الوحدة بين مصر وسورية". واستطرد جمال عبدالناصر قائلاً: "فيما يتعلق بالموقف الراهن فإني أراه في حاجة إلى أعصاب، وأنا أرى أن أعصاب الغرب فالتة، وبصراحة فإني أفهم قلقهم، فالمنطقة تبدو أمامهم كشلال يتدفق، ومهما كان رأيي في سياستهم السابقة واللاحقة في المنطقة، فأنا على استعداد لأن أرى العصبية التي يتصرفون بها، لها ما يبررها ولو جزئياًّ، ولكني لا أعرف كيف ستتطور الأمور". وقال: إنه أرسل فعلاً إلى قادة الثورة بنصيحته أن يحرصوا على استمرار تدفق النفط العراقي إلى الغرب؛ حتى لا يخلقوا لأنفسهم مشكلة لا مبرر لها، وأضاف أنه مع هذا كله أراد أن يعرف مباشرة موقف الاتحاد السوفيتي، في حالة ما إذا أصر الآخرون على التصعيد دون مبرر حقيقي أو قانوني". وكانت وجهة نظر خروشوف أن جمال عبدالناصر مصيب، فعلاً، في تقديره، فالأمر يحتاج إلى أعصاب باردة، وأضاف أن معلوماتهم تؤكد أن الولايات المتحدة الأمريكية، لا تنوي توسيع نطاق العمليات؛ لأنهم يعرفون أنهم إذا فعلوا، فإن العالم العربي كله سيقف ضدهم لا محالة. وقال: "لذلك يجب أن تبنوا موقفكم على أساس أنها مواجهة سياسية، وليست عسكرية، ولا يجب أن تكون عسكرية".

      استطاع جمال عبدالناصر، أن يحرِّض الاتحاد السوفيتي على القيام بمناورات كبيرة على الحدود البلغارية ـ التركية، وحمل الدول الغربية على عدم التدخل في شؤون العراق. والواقع أن خروشوف لم يكن مستعداًّ لتحمل أية مخاطرة قد تؤدي إلى حرب عالمية ثالثة، واكتفى بإعلان مناورات عامة على الحدود البلغارية ـ التركية، وقـال لجمال عبدالناصر: "إنني أقول بصراحة، لا تعتمد على أي شيء أكثر من هذا". ومع ذلك تذكر المصادر السوفيتية أن خروشوف أبلغ جمال عبدالناصر قائلاً: "المتطوعون السوفييت متأهبون في المطارات السوفيتية للذهاب فور الطلب"[10].

      وعاد جمال عبدالناصر، وأبرق بتحياته، وهو في أجواء إيران والعراق، إلى زعماء الثورة، فاقترحوا عليه الهبوط في بغداد، ولكنه رفض معتذراً بأن هذا يوم العراقيين وحدهم، ولا ينبغي التدخل في شؤونهم، ثم وصل إلى دمشق، وأعلن رسمياًّ عن هذه الرحلة السرية، وأكـد جمال عبدالناصر في حديثه للجماهير، التي احتشدت في ساحة قصر الضيافة، مؤكّدًا على أن حكومة الجمهورية العربية المتحدة تعلن أن أي عدوان على الجمهورية العراقية يُعدّ في الوقت نفسه عدواناً على الجمهورية العربية المتحدة. وكانت إذاعة موسكو تذيع بيانًا مؤدّاه أن جيش القوقاز، وقوامه نصف مليون جندي، يقوم بمناورات ضخمة على حدود تركيا وإيران. ولعل الإعلان الواسع عن هذه المناورات لم يكن موجهاً إلى الولايات المتحدة الأمريكية، بقدر ما كان موجهاً لتركيا.

      وفي لندن كانت الدهشة واضحة، ومعها التساؤل عما دار في اجتماع جمال عبدالناصر وخروشوف، وقد طرح هذا التساؤل، في الوقـت نفسه، عنصراً من القلق حول ما يمكن أن يكون الاتحاد السوفيتي قد قطعه على نفسه من تعـهدات.

      وفي إسرائيل، دعا بن جوريون إلى اجتماع للجنة الأمن القومي والدفاع، في مجلس الوزراء، وطرح فكرة أن الوقت مناسب لتوجيه ضربة عسكرية إلى سورية، ولقي معارضة، في ذلك، من جولدا مائير، التي كان رأيها أن أي تحرك عسكري إسرائيلي، في هذا المناخ الدولي، يمكن أن يجيء بمضاعفات ينقلب أثرها على إسرائيل، وكان تقديرها أن ذروة الأزمة قد فاتت، وأنه من الواضح أمامها حرص القوتين العظميين على تجنب الصدام المباشر بينهما، ومن ثم فإن أي مغامـرة إسرائيلية قد تجد نفسها مواجهة بلوم أمريكي شديد لا تستطيع تحمله في الأوضاع الراهـنة. وكانت هناك أغلبية، في لجنة الأمن القومي والدفاع، تؤيد وجهة نظرها.

      بعثت حكومة الثورة العراقية السيد فائق السامرائي، في مهمة سياسية عسكرية، إلى مصر، فاجتمع، حال وصوله، بالمشير عبدالحكيم عامر نائب رئيس الجمهورية، وطلب منه تزويد العراق بالأسلحة فورًا لحاجته الماسة إليها؛ بعد الإنزال الأمريكي في لبنان، والبريطاني في الأردن، والحشود التركية على الحدود الشمالية للعراق؛ ولأن تسليح الجيش العراقي، بوساطة حلف بغداد، لم يكن سوى أكذوبة. وعلى هذا أرسلت القيادة المصرية بالقاهرة باخرة محملة بالأسلحة البريطانية إلى العراق؛ فقد كان تسليح الجيش العراقي بريطانياًّ، عن طريق اللاذقية على أمل أن تُرسل باخرة أخرى بعدها. وبناء على طلب العراق، كذلك، وصلت إلى الحبانية كتيبة مدفعية سورية مضادة للطائرات وسـرب طائرات ميج "MIG"، من سلاح الجو العربي للجمهورية العربية المتحدة، بعد أن بُحث ذلك في اجتماع دمشق بتاريخ 19 يوليه 1958.

      ومن جهة أخرى، قرر مجلس الوزراء العراقي إرسال وفد لمقابلة الرئيس جمال عبدالناصر، بعد وصوله إلى دمشق، عائداً من رحلته السرية إلى موسكو، وفي أعقاب مروره بالأجواء العراقية، وتبادل التهاني بينه وبين المسؤولين في العراق، بمناسبة نجاح الثورة. وتألف هذا الوفد من العقيد الركن عبدالسلام محمد عارف "نائب رئيس مجلس قيادة الثورة" وكل من: محمد صديق شنشل، "وزير الإرشاد القومي"، ومحمد حديد، "وزير المالية"، وعبدالجبار الجومرد، "وزير الخارجية"، ووصل الوفد إلى دمشق صباح يوم 18 يوليه 1958، وسط مظاهرات شعبية واسعة في استقباله، ثم اجتمع بالرئيس جمال عبدالناصر، بعد أن انضم إليه عدد من الضباط.

      وفي اجتماع دار بين جمال عبدالناصر، مع صديق شنشل، الذي كان صديقًا قديمًا لجمال عبدالناصر، قال جمال عبدالناصر: "إن ما حدث في بغداد كان بالنسبة له أشبه ما يكون بالأحلام مستحيلة التحقيق". وفوجئ جمال عبدالناصر بصديق شنشل يقول له: "على المستوى القومي نعم يا سيادة الرئيس، ولكنه على مستوى الوطن العراقي يمكن أن يتحول إلى كابوس ثقيل"، وبدت الدهشة على وجه جمال عبدالناصر؛ لأن ما قاله صديق شنشل يبدو له أسوأ ما تصور. ومضى شنشل يقول: "إن على رأس الثورة العراقية الآن رجلين، أولهما نصف مجنون، والثاني نصف عاقل". كان نصف المجنون، في تقديره، هو عبدالكريم قاسم رئيس مجلس قيادة الثورة، وكان نصف العاقل، في تقديره، هو عبدالسلام محمد عارف. وراح صديق شنشل يروي لجمال عبدالناصر التفاصيل التي قامت فيها الثورة، وكيف أنه كانت هناك مجموعات تتسابق إلى القيام بها، منذ جرى تأسيس دولة الوحدة بين مصر وسورية في شهر فبراير 1958، ثم كيف أن عبدالكريم قاسم وعبدالسلام محمد عارف انفردا بالعمل في الأيام الأخيرة. ومن خلال هذه التفاصيل بدأت توجسات جمال عبدالناصر تزداد، لحظة بعد لحظة، خصوصًا أنه سمع عن العلاقات المتوترة بين عبدالكريم قاسم وبين عبدالسلام محمد عارف. وقال جمال عبدالناصر لصديق شنشل: "إنني قبلت بالوحدة مع سورية لظروف تعرفـها، ولقد تصورت أننا نستطيع أن نقوم بخطوة كبيرة إلى الأمام، ثم ندعم الخطوط، ونسد الثغرات على مهل، ولكن ذلك لم يحدث، فلا تزال خطوطنا طويلة ومكشوفة حتى الآن، وعلى الرغم من كل محاولاتي فلابد أن أعترف لك أننا لم ننجح بالقدر الذي تصورته أو تمنيته، وأنا لا أريد أن أحمل تجربة الوحدة بين مصر وسورية بتبعات كل هذه التناقضات القائمة في بغداد الآن. ولهذا فسوف تجدني على استعداد لأن أقوم بكل عمل من شأنه تدعيم ثورة العراق، ومن شأنه فتح آفاق التعاون الممكن بين البلدين. ولك نني أرجوكم ألاّ تطالبوني بأي خطوة وحدوية الآن"، وقال صديق شنشل: "إن هذا رأيه بالفعل، وأنه جاء إلى دمشق عازماً على أن يصارح جمال عبدالناصر به، من منطلق قومي، وإنه لو كان قد وجد لديه اتجاهاً آخر لنصحه بعكسه، على الرغم من إيمانه الكامل بحقيقة الوحدة العربية".

      ومن ناحية أخرى تمخض الاجتماع بين الجانبين عن توقيع اتفاقية للتعاون بين الجمهورية العربية المتحدة والجمهورية العراقية.

      كان لهذه الاتفاقية أثر كبير في دعم الثورة وتعزيز مواقعها، إذ اطمأنت حكومة الثورة إلى أنها لن تكون وحيدة إذا تعرضت لهجوم خارجي، سواء من دول حلف بغداد أم من الأردن.

2. موقف باقي الدول العربية الأخرى

      وتوالت اعترافات الدول العربية بحكومة الثورة العراقية بدءًا بالمملكة المتوكلية اليمنية، واستمرت حتى الأسبوع الثاني من قيام الثورة، باستثناء المملكة الأردنية الهاشمية، ولبنان. وقد رحب أمير الكويت، الشيخ عبدالله السالم الصباح، بثورة العراق؛ لأنها خلّصته من ضغوط نوري السعيد، وأبعدته عن فكرة الانضمام إلى "الاتحاد الهاشمي". وزار الشيخ عبدالله السالم الصباح بغداد، في أكتوبر 1958، ليقدم التهنئة لرجال الثورة، ومكث في بغداد خمسة أيام. وكان رئيس الوزراء العراقي، عبدالكريم قاسم، على رأس مستقبليه عند وصوله إلى أرض المطار.

رد الفعل الدولي من ثورة العراق

الموقف السوفيتي

      اعترف الاتحاد السوفيتي بالنظام الجديد في العراق، بعد أربع وعشرين ساعة من إعلان الثورة، وخرجت مظاهـرات كبيرة في موسكو تأييداً لثورة العراق، وضد محاولات التدخل الأمريكية في شؤون لبنان والعراق الداخلية. وأصدر الاتحاد السوفيتي بيانين بهذا الشأن في 16، 18 يوليه 1958، هاجم فيهما ادعاءات الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا حول "حماية استقلال لبنان، والمملكة الأردنية الهاشمية، بطلب من حكومتيهما. كما أكد رئيس وزراء الاتحاد السوفيتي، في رسـالة وجهها، في 19 يوليه، إلى رؤساء حكومات الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، وفرنسا بأن التدخل الإمبريالي المسلح في لبنان والمملكة الأردنية الهاشمية، والخطر الماثل في عدوان مماثل على العراق، والدول العربية الأخرى، قد يؤديان إلى نتائج غير متوقعة، وفي منتهى الخطورة، ويخلقان سلسلة من ردود الفعل التي قد يكون من المتعذر وقفها. واقترحت الحكومة السوفيتية إجراءات عملية وفورية: منها سحب القوات الأمريكية والبريطانية من لبنان، والمملكة الأردنية الهاشمية، وعقد مؤتمر يضم رؤساء حكومات الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا وفرنسا لتسوية مشكلات الشرق الأوسط.

      وفي 20 يوليه 1958، حذر الاتحاد السوفيتي مجدّدًا حكومات الدول الغربية من مغبّة تدخلها في شؤون البلدان العربية، ونبهت حكومات ألمانيا الغربية وإيطاليا إلى ما قد يحدث، لو استخدمت أراضيها وفضاءها الجوي لنقل قوات أجنبية للمنطقة. ومن ناحية أخرى هاجمت صحيفة البرافدا، الناطقة بلسان الحكومة السوفيتية، إنزال الولايات المتحدة الأمريكية أسطولها في لبنان، على أساس أنه "عمل عسكري مباشر وعدوان مكشوف"، وألمحت الصحيفة إلى أنه ما لم تتوقف الولايات المتحدة الأمريكية، عن المضي في تنفيذ نية التدخل المسلح ضد الثورة العراقية فإن المتطوعين سيتوجهون من أقطار الكتلة الشرقية إلى الشرق الأوسط. وفي الوقت نفسه وصلت طائرات مقاتلة سوفيتية، من نوع ميج "MIG "، إلى مطار دمشق في 19 يوليه 1958، كما شوهدت طائرات النقل السوفيتية الكبيرة، وهي تحمل شحنات من الأسلحة في المطار نفسه.

موقف دول حلف بغداد

      أما عن موقف دول حلف بغداد، فكان المفروض أن ينعقد مجلس حلف بغداد في استانبول، في 14 يوليه 1958، على مستوى رؤساء حكومات الدول الأعضاء فيه، إلاّ أن قيام الثورة حال دون ذلك، ثم أصدرت الدول الأعضاء في الحلف بياناً استنكرت فيه أحداث الثورة، ووصفتها بأنها تأثير هدام قادم من الخارج، وأن قادة الانقلاب يستلهمون أفكارهم من دول أجنبية.

      وأصدرت الحكومة التركية في الوقت نفسه بياناً جاء فيه: "إن المغامرين السياسيين في العراق يرتأون، من وراء القـيام بالانقلاب، القضاء على حلف بغداد، الذي يُعدّ مصدر السلام في الشرق الأوسط، وإن اختيار يوم اجتماع مجلس الحلف لتنفيذ هذا الانقلاب خير دليل على ذلك". وفي أعقاب هذا البيان، وبالتحديد في 15 يوليه 1958، توجه الملحق العسكري الإسرائيلي إلى وزارة الدفاع التركية، واقترح على رئيس أركان الجيش التركي المشروع الآتي: "إن نظام الحكم في المملكة الأردنية الهاشمية ستضمن سلامته إنجلترا. وأمَّا نظام الحكم في الجمهورية اللبنانية فسوف تضمن سلامته الولايات المتحدة الأمريكية، وإن إسرائيل ستفصم عرى الوحدة بين مصر وسورية، وعليه يجب أن تتآزر تركيا مع إيران لإعادة النظام الملكي في العراق". وتحدث وزير خارجية تركيا في المؤتمر الصحفي، الذي عقده بأنقرة في 18يوليه 1958، عن أحداث العـراق فقال: "في اعتقادي الجازم ليس هناك أي سؤال فيما يتعلق بالنظام الجديد في العراق اليوم، إن رئيس الاتحـاد الهاشمي هو الملك حسين، وإن الحكومة الشرعية الآن هي حكومة المملكة الأردنية الهاشمية". ومن ناحية أخرى فقد صرح عبدالمجيد حيدر، السفير الأردني في أنقرة، "بأن الملك حسين طلب من الولايات المتحدة الأمريكية، وتركيا، المعونة العسكرية لمقاومة الوضع الجديد في العراق".

      وإزاء هذا الوضع، وجّه الاتحاد السوفيتي مذكرة إلى الحكومة التركية، في 18 يوليه 1958، جاء فيها: "إنّ هناك استعدادات واسعة النطاق في تركيا للقيام بهجوم ضد العراق"، وحذّر من الاعتداء على العراق، فردّت الحكومة التركية على المذكرة، في 22 يوليه 1958، مؤكدة أن أعمال تركيا هي دفاعية في طبيعتها. إلاّ أن الحكومة السوفيتية بعثت بمذكرة أخرى، في 24 يوليه 1958، حذرت فيها من مغبة القيام بتحركات عسكرية ضد ثورة العراق، وجاء في المذكرة كذلك أن تركيا ستصبح مسؤولة عن نتائج أي عمل عدائي تقوم به ضد النظام الجديد في العراق. وعلى الرغم من ذلك فقد استمرت تحركات الجيش التركي نحو الجنوب،غير أن النشاط الأمريكي القوي، وإبداء النصيحة لعدنان مندريس، حال دون تصعيد الموقف.

      اتضح من مذكرات خير الدين آركمن، خلال محاكمة عدنان مندريس ووزرائه، على أثر انقلاب 27 مارس 1960، أن فطـين رشدي زورلو، وزير خارجية تركيا السابق، اقترح أن تتدخل تركيا عسكرياًّ في العراق. وبعد مباحثات جرت بين جلال بايار رئيس الجمهورية وعدنان مندريس أعلنا موافقتهما على هذا الاقتراح. وقد أعدت وزارة الدفاع التركية خطة لتنفيذ ذلك، واتخذت قراراً بالتدخل دون علم المجلس الوطني التركي، غير أن الولايات المتحدة الأمريكية منعت تركيا من تنفيذ هذا القرار.

      وفي إيران: تجمعت عناصر من المرتزقة الأوروبيين بغرض التسلل إلى العراق، وإحداث بعض العنف والتدمير والاغتيالات، كما أعلن شاه إيران الحداد العام، لمدة ثمانية أيام، على أرواح من قُتل في ثورة 14 يوليه 1958.

      ومما تجدر الإشارة إليه أن ثورة 14 يوليه 1958، كشفت عن حقائق مهمة حول حلف بغداد، أبرزها وجود اتفاق غير معلن هدفه سيطرة باقي دول الحلف على العراق، من الداخل، في حالة حدوث أي تغيير ضد نظام الحكم فيه.

رد فعل إسرائيل

      صرح بن جوريون رئيس الوزراء الإسرائيلي، أمام أعضاء لجنة الأمن والخارجية في الكنيست الإسرائيلي، بقوله: "إن أمن إسرائيل قد تأثر تأثراً خطيراً بسبب ثورة العراق؛ ولذلك سوف نجدد طلبنا للحصول على أسلحة ثقيلة من الغـرب، كما سنطالب الدول الغربية الثلاث بتجديد ضماناتها التي سبق أن وعدت إسرائيل بها في عام 1955، بشـأن المحافظة والإبقاء على حدودنا الحالية". وذكر ولدمار غولمان سفير الولايات المتحدة الأمريكية، في العراق أن وفاة نوري السعيد كانت خسارة لإسرائيل كذلك.

      وفي واشنطن نادى البعض، ومنهم شخصيات من الاستخبارات المركزية، بأهمية التعاون مع إسرائيل ودعمها عسكرياًّ. وأرسل بن جوريون عددًا من الرسائل إلى أيزنهاور، بدءاً من يوم 16 يوليه 1958، أي بعد الثورة العراقية بيومين أوضح فيها حاجة إسرائيل إلى رادع قوي يحمي أمنها من مخاطر تيار الوحدة العربية، ورد عليه أيزنهاور بقوله: "إن الولايات المتحدة الأمريكية تعلق أهمية كبيرة على سلامة دولة إسرائيل".

الموقف الأمريكي والبريطاني

      كان السفير الأمريكي في بغداد آنذاك، والتر جولمان، يتابع الموقف عن كثب، أولاً بأول، ووصف تجمع المتظاهرين في بغداد حول القصر الملكي أثناء قصفه. وذكر أن أحد رجال نوري المقربين هرع إلى مبنى السفارة الأمريكية، طالبًا اللجوء. واستضافته السفارة الأمريكية بالفعل، وجعلته يترجم لها بيانات الثورة من العربية على الفور.

      وفي يوم 15 يوليه 1958، وهو اليوم التالي للثورة، عندما ذاع خبر إنزال الأسطول السادس الأمريكي في لبنان، تملك الخوف السفير الأمريكي من اشتعال التظاهرات ضد أمريكا، أو الإقدام على اقتحام السفارة، على الرغم من إحاطة السفارة بالدبابات، ووجود قوات عسكرية مقيمة في أراضي السفارة لحماية الدبلوماسيين الأمريكيين. ومع ذلك عُلقت على مدخل السفارة لافتة كبيرة معادية لأمريكا، ورُسمت على أسوار حديقة السفارة شعارات وهتافات ضد أمريكا. ثم ذكر السفير ـ بعد ذلك ـ حيلته في تهريب اللاجئ السياسي إليهم، في ملابس سائق في إحدى سيارات السفارة الأمريكية، حيث حملته إلى مكان آمن.

      عبّرت الولايات المتحدة الأمريكية عن موقفها من ثورة 14 يوليه، على لسان رئيسها أيزنهاور، بأن الوضع خطير، وأن الولايات المتحدة الأمريكية، سـوف تكون مطالبة بالتصرف فيه، بحيث لا يخطئ أحد منهم نواياها. وفور سماعه نبأ الثورة، أصدر أوامره بأن تكون القواعد البرية والجوية والبحرية، في أوروبا الغربية، جاهزة للعمل بمقتضى حالة الطوارئ القصوى، واستفسر من الجنرال "توايننج" رئيس هيئة الأركان المشتركة عن القوات الجاهزة للتدخل السريع، إذا ما تطلّب الأمر ذلك. وعلى الفور، طلب عقد مؤتمر لمجموعة عمل تضم وزارتي الخارجية والدفاع وأجهزة الاستخبارات في الجيش والأسطول والطيران، إلى جانب الاستخبارات المركزية لدراسة الموقف والخروج بالتوصيات اللازمة، وقرأ أيزنهاور تقرير مجموعة العمل. وتم الاتفاق على ضرورة التدخل العسكري؛ لأن الامتناع عن التدخل سيترتب عليه:

  1. سيطرة جمال عبدالناصر على المنطقة بأكملها.
  2. ضياع نفـوذ الولايات المتحدة الأمريكية، ليس في الدول العربيـة وحدها، ولكن في المنطقة كلها بشكل عام.
  3. أن يصبح الاعتماد على تعهدات الولايات المتحدة الأمريكية بتقديم المساعدة، عند الحاجة، موضع شك في جميع أنحاء العالم.

      ودعا أيزنهاور إلى الاجتماع بمجلس الأمن القومي الأمريكي، في صباح اليوم التالي، وسجل في يومياته عن هـذا اليوم قوله: "في هذا الصباح دعوت مجموعة مستشاري إلى اجتماع في مكتبي، لكي أتأكد للمرة الأخيرة أن احتمالات الموقف كافة قد تم بحثها، كما أن آخر المعلومات الدقيقة متوافرة لدي، وقد كان ذلك يومًا بدأته وأنا أعرف ما ينبغي عليّ أن أفعله فيه، كنت مقتنعاً بأننا أمام ضرورة التدخل في الشرق الأوسط. لقد جاء الوقت الذي يتحتم علينا فيه أن نتدخل، وبالذات في لبنان، لكي نمنع تردّي الموقف إلى حالة من الفوضى الشاملة، وكان هناك عنصر آخر في تقديري، وهو أن حياة الرعايا الأمريكيين في لبنان قد تكون في خطر".

      ويستمر أيزنهاور في قوله: "إنه طلب من آلان دالاس مدير وكالة الاستخبارات المركزية أن يبدأ بعرض ما عنده من مستجدات، ورد آلان دالاس قائلاً: "إنّ المعلومات المتيسّرة لدينا تؤكد أن الانقلاب قام به عناصر موالية لجمال عبدالناصر، وإن كنا لا نملك حتى الآن معلومات توضح لنا صلة جمال عبدالناصر بهم، وما إذا كان هـو شخصياًّ وراء الانقلاب، وهناك حظر تجول الآن في بغداد، الأمر الذي تصعب معه فرصة جمع معلومات دقيـقة، وقد بلغنا أن حوالي خمسين ضابطا من الضباط الموالين للغرب قد أُحيلوا إلى التقاعد، وليست لدينا معـلومات عن القوات خارج بغداد، ومن المحتمل أن توجد في مكان ما قوات موالية للملكية. ولما كان اختفاء الملك فيصل ورئيس وزرائه نوري السعيد قد حرم مثل هذه القوات الموالية للملكية، على فرض وجودها، من قيادة توجهها، فإن الملك حسين، كما علمنا، باعتباره الرجل الثاني في الاتحاد الهاشمي يظن أنه يستطيع أن يعطي هذا التوجيه. وقد أصدر بالفعل أوامر، أذاعتها عمان، إلى وحدات الجيش العراقي التي تصورها موالية للملكية. ولكننا لا نعرف إلى أي مدى يمكن أن يتحقق مثل هذا الأمر، والمعلومات المتوافرة لدينا، من إسرائيل، تفيد أن رئيس الوزراء دافيد بن جوريون في حالة هيجان شديدة، وأنه قد ينتهز الفرصة مدفوعًا ببعض المتشددين إلى احتلال الضفة الغربية للأردن. وفي لبنان أبلغنا كميل شمعون، أنّ الموقف ينذر بأسوأ العواقب. وقال لسفيرنا إنه إذا لم نتدخل عسكرياًّ نحن وبريطانيا، فإنّ كل شيء سوف يضيع، إنّ شمعون يشعر بمرارة شديدة؛ لأننا لم نسانده حتى وقعت الكارثة".

      ويستطرد آلان دالاس قائلاً: "إن الملك سعود في حالة قلق شديد، وهو يطلب من دول حلف بغداد التدخل العسكري في بغداد. ويذكر أيزنهاور، في مذكراته، تحليل وزير خارجيته جون فوستر دالاس للموقف بقوله: "إنه يعتقد أن السوفييت سوف يحدثون بعض الضجيج، وبعض إشارات التهديد الموجهة ضد تركيا وإيران بالذات، ولكنهم لن يذهـبوا إلى أبعد من هذا، إلاّ إذا تصوّروا أنّ نتائج قيام حرب عالمية، في هذا الوقت، قد تكون مواتية لهم، وإن كان لا يعتقد أن السوفييت يريدون مثل هذا الاختبار لقوتهم في مواجهة قوتنا، خصوصـاً إزاء تفوقنا عليهم في القاذفات". وأضاف دالاس أنه إذا تدخلت الولايات المتحدة الأمريكية عسكرياًّ في لبنان، فإن رد الفعل العربي هو الذي يجب أن يحسب حسابه؛ فقد نتعرض لحملات سياسية، وقد يكون هناك خطر على خطوط أنابيب البترول، وقد تُغلق قناة السويس في وجه بواخرنا، ثم إنّ البريطانيين سوف يجدون أنفسهم مضطرّين إلى إعادة احتلال الكويت لحماية بترولهم".

      ويذكر أيزنهاور في مذكراته: "لقد وصلنا الآن إلى مفترق الطرق، فمنذ سنة 1945 وسياستنا تقوم على ضرورة الوصول إلى منابع البترول، وضمان سيطرتنا عليها، دون أية عوائق من جانب أي طرف، وأن يتحـقق ذلك سلمياًّ إذا أمكن، والآن فإنّ علينا أن نناضل لكي نمنع ناصر من السيطرة على هذه الموارد، وإلاّ نكون قد تركنا له المال والنفوذ والقوة، التي يتمكن بها من تدمير العالم الغربي. لقد كان علينا، في نقطة ما على الطريق، أن نواجه هذه المشكلة، وقد وصلنا إلى هذه النقطة الآن". وعلى هذا أصدر أيزنهاور أوامره إلى الجنرال توايننج بالتدخل العسكري.

      وفي حديث تليفوني بين أيزنهاور وهارولد ماكميلان، رئيس وزراء بريطانيا، في شأن تدارس الموقف في المنطقة، أوضح أيزنهاور أنه لا يمكن التدخل في سورية والعراق دون إذن من الكونجرس. ويبدو أنّ ماكميلان اقترح عليه عملاً عسكرياًّ مشتركاً لا يتوقف عند حدود لبنان، وإنما يمتد إلى سورية والعراق.

      جاءت الأخبار من الجنرال توايننج إلى أيزنهاور عن نزول طلائع القوات البحرية إلى شاطئ بيروت، وقد بلغ تعدادها 14357 جنديًا أمريكيًا، وكان قائد الجيش اللبناني اللواء فؤاد شهاب في استقبالها، ومعه السفير الأمريكي في بيروت "روبرت ماكلينتوك". وما يلفت النظر هنا، أنّ أيزنهاور سأل الجنرال "توايننج" عما إذا كانت القوات، التي نزلت في لبنان قد أخذت معها أية إمكانات نووية؟، قال الجنرال توايننج: "إنّ هذه القوات قد صحبت معها كتيبة مدفعية صواريخ من نوع "ليتل جون" المزوّدة برؤوس نووية، ورد أيزنهاور بأن هذا أفضل. وهذا يدل على أنّ أيزنهاور كان يضع في تقديره إمكانية تدخل الاتحاد السوفيتي في المنطقة.

      ذكر السفير الأمريكي المتجول، روبرت مورفي، أنه زار العراق عقب الثورة، وعلم أن ثلاثة من رجال الأعمال الأمريكيين، قد قبضت عليهم القوات العراقية، أثناء وجودهم في بهو فندق بغداد، وحملتهم مع سائر الأجانب في (لوريات) عسكرية إلى وزارة الدفاع. ولكن الجماهير الثائرة أوقفت السيارات، وأخرجت جميع المحتجزين، وقتلتهم.

      ثم قام ذلك السفير الأمريكي بزيارة رسمية لعبدالكريم قاسم، في وزارة الدفاع، في غرفته التي كان يقيم بها منذ نشوب الثورة، وأكد له عبدالكريم قاسم، أنّ الثورة طابعها محلي خالص، ولأسباب وطنية بحتة. ومن ثم فإنه يشك في الأمريكيين، بعد إنزال قواتهم في لبنان، وأنه يعتقد أنهم لن يتورّعوا عن غزو العراق. ولكن السفير الأمريكي أكَّد له أن ليس لدى الرئيس أيزنهاور أية نية لإرسال قوات أمريكية لغزو فيافي العراق المقفرة. ويبدو أنّ عبدالكريم قاسم اقتنع بهذه التأكيدات، وأعرب عن رغبته في إقامة علاقات طيبة مع الولايات المتحدة الأمريكية، وسائر دول الغرب. كما أكد أنه لم يجازف بالثورة بقصد تسليم العراق إلى الاتحاد السوفيتي، ولا بقصد جعل العراق خاضعاً لمصر. وأكد أنّ العراق يريد زيادة صادراته من النفط إلى دول الغرب.

      فيما يتعلق بدور بريطانيا وعلاقتها بالتدخل العسكري بالمنطقة، كتب أيزنهاور، في يومياته، عن هذا الاتصال التليفوني يقول ما نصه: "إن ماكميلان أبلغني أنه تلقى طلباً بالمساعدة العاجلة من شمعون وحسين، وقلت له إننا تصرفنا، فعلاً، فيما يتعلق بطلب شمعون وقواتنا بدأت نزولها، فعلاً، في بيروت، ورد عليّ ماكميلان ضاحكاً بقوله: "إذًا فأنت تواجهني بسويس أمريكية"، وقلت له إننا لا نريدهم معنا في لبنان، وإنه من الأفضل الآن أن يرتب نفسه للتحرك إلى المملكة الأردنية الهاشمية بقوات مظليين، ثم أضفت قائلاً له إنه لا ينبغي أن يظهر أننا متواطئون معاً، ثم وعدته أن نقدم له أي مساعدات في الإمداد والتموين، ثم أكدت عليه مرة أخرى: "إننا لا نريد البريطانيين معنا في عملية لبنان، ثم أكدت له أنّ عليه أن يكون واثقًا من أننا لن نتخلّى عن حليف لنا، ولكن طلبات ماكميلان تبدو لي غير معقولة، فهو يريد منّا الآن أن نقوم بتنظيف كل المنطقة مرة واحدة، خلال عملية مشتركة كثيفة، ولا نكتفي بلبنان وحدها أو المملكة الأردنية الهاشمية، وإنما تمتد إلى العراق وسورية. إنّ مثل هذه الخطط تثير مخاوفي، فأنا أريد أن أحدد تدخلنا ولا أسعى إلى تصعيده، وقد رفضت طلب ماكميلان بحزم".

      أما عن الصحف البريطانية، فقد عبّرت صحيفة الإيكونومست البريطانية عن تخوّفها بقولها: "سيحمل الموقف الحاضر في الشرق الأوسط أكبر تهديد لاستقرار هذه المنطقة، وربما لسلام العالم كله، منذ انتهاء الحرب الثانية، وإنّ هذه اللحظة أسوأ بكثير من أن تجعلنا نفكر في شيء سوى تقدير الأخطار التي ستواجهنا؛ لأن الموقف لا يمكن أن يزداد سوءاً عمّا هو عليه، بعد انهيار العراق، وتدهور مركز الغرب إلى هذا الحد. وإذا ما وازنّا بين التدخل العسكري وعدم التدخل، فإنّ نتائج عدم التدخل، تُعد أكثر ضرراً لمصالحنا الاقتصادية والسياسية والإستراتيجية من نتائج التدخل".

      وهكذا سببت ثورة العراق ضجة كبيرة داخل بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، وبصفة خاصة داخل الكونجرس الأمريكي؛ لأن العراق عضو في حلف بغداد، وكان يُنظر إليه على أنَّه الحصن المنيع للاستقرار في المنطقة. وعلى مستوى الاستخبارات المركزية الأمريكية (C.I.A.) جاء إلى المسؤولين عنها استفسار من لجنة العلاقات الخارجية في الكونجرس الأمريكي عن سبب عدم علم الولايات المتحدة الأمريكية بهذه الثورة مسبقاً، وهذا يؤكد أن الاستخبارات الأمريكية فوجئت بهذه الثورة.

      وفي اجتماع دار بين أيزنهاور وسلوين لويد، وزير الخارجية البريطاني، وجون فوستر دالاس يوم 17 يوليه 1958 بالبيت الأبيض، تمّ فيه عرض كل جوانب الموقف. وكتب جون فوستر دالاس مذكرة عن هذا الاجتماع، جاء في بعض أجزائها: "إنه جرى حديث موجز عن تحركات القوات البريطانية داخل عمَّان، ولم تتوافر هناك إلاّ معلومات قليلة، وشأنها في ذلك شأن المعلومات عن وجود مؤامرة ضد الملك حسين، دفعته إلى طلب القوات. وقد ذكر الوزير أنه تم الاتصال به في الساعة الثانية صباحاً؛ لأن الإسرائيليين أصرّوا على أن نؤيد الطلب البريطاني بتعزيز أمريكي، قبل أن يأذنوا للقوات البريطانية بعبور أجوائهم إلى عمَّان، وأنه وافق على تقديم تعزيز أمريكي للطلب البريطاني. وقد ذكر سلوين لويد أن البريطانيين نقلوا (2200 جندي) من جنود المظلات إلى عمَّان، وأنهم سوف يحتفظون في الاحتياطي بقوة لواء، وهم لا يرغبون في إرسال عدد أكبر من القوات بسبب مشكلة التموين الذي يتعين نقله جواًّ. وذكر الوزير أنه تحدث مع سلوين لويد حول مشكلة الخليج الفارسي، ومنشآت البترول الغربية هناك ومطالب تأمينها، واتفقا على إحالة هذا الموضوع إلى اللجنة المشتركة للخبراء. وفي اعتقاد سلوين لويد، أنه بصرف النظر عما يمكن أن يقوله الخبراء، فهناك مواقف لابد من التمسك بها، إذ يوجد لبريطانيا قوات في البحرين، واتفاقية مع شيخ الكويت للدفاع عن هذه المنطقة. وفي نهاية الاجتماع، عاد سلوين لويد، فأثار مع الرئيس، آمال بريطانيا في احتمال الاشتراك في عملية أوسع، ولم يعطه الرئيس أي تشجيع، ولكنه طلب إليه أن يطمئنّ؛ لأننا لن نرضى أن يصبح البريطانيون في ورطة وحدهم".




[1]  ويذكر عبد السلام محمد عارف في مذكراته: لقد كان الاعتداء الأثيم على مصر عاملاً من أهم العوامل التي دعتنا إلى عقد اجتماع سريع مع خـلايا الضباط الأحرار، وفي هذا الاجتماع قررنا أن نضرب ضربتنا. وقمت بتوزيع الواجبات على الأفراد، وتحدد لكل منهم دوره، ولم يبق سـوى التنفيذ، وقـبل أن تحين ساعة الصفر، خرجت من وزارة الدفاع قوائم تشمل نقل وإبعاد وإحالة للتقاعد لعدد كبير من الضباط مذيلة بالتنفيذ فوراً.

[2]  يذكر أحمد فوزي في كتابه "غرب أم غروب": اجتمع في تلك الليلة ما يقرب من مائة وثمانين ضابطاً في أبي غريب لتنفيذ العملية.

[3]  كثرة تأجيل الحركة من قبل اللجنة العليا، خاطب عبدالسلام محمد عارف أعضاء اللجنة قائلاً: ` سوف نقوم بالحركة لوحدنا ـ يقصد هو وعبدالكريم قاسم ـ ولا نريد منكم مساعدة، وإنما نطلب فقط ألا تقفوا ضدنا، وألا تجعلوا من أنفسكم أبطالاً عند نجاحها`. عبدالسلام محمد عارف.

[4]  يذكر العقيد شمس الدين عبد الله أنه كان جالساً مساء الخميس 10 يوليه 1958، مع جماعة من الضباط الأحرار في النادي العسكري، وجاء العقيد عبدالسلام محمد عارف، ودار الحديث عن الثورة وموعدها، فقال عبدالسلام محمد عارف إن خطة الثورة تم تأجيلها؛ لأن ظرف الثورة لم يكتمل بعد، ومن الصعب تنفيذها في الوقت الحاضر.

[5]  وهو يذكر كذلك أنه أخبر الآتيين بعد بتوقيت الحركة: ( عبدالكريم قاسم – العقيد عبداللطيف الدراجي ـ العقيد عادل جلال ـ الزعيم أحمد صالح العبدي ـ العقيد عبدالرحمن عارف ـ المقدم وصفي طاهر - الرائد جاسم العزاوي ـ الرائد إبراهيم التكريتي ـ الرائد إبراهيم عباس اللامي).

[6]  والمعروف أن عبدالكريم قاسم كان من المتحمسين لقتل الثلاثة الكبار بما فيهم فيصل، وقد سبق أن وضعت خطة للثورة في 6يناير 1958 والتي كانت تقضي بقتل الثلاثة.

[7]  طوقت السرية بيت نوري السعيد إلا أنها لم تجده، فقد هرب إلى جهة مجهولة، بعد أن أخبرته خادمته البدوية أنها شاهدت بعض الوحدات العسكرية في الطريق.

ويقال إن المقدم وصفي طاهر جاء مبكراً، قبل الفجر، إلى قصر نوري السعيد، وأخبره بما سيحدث. ويبدو أنه فعل ذلك، حتى إذا فشلت الثورة، يكون قد أسدى جميلاً إلى نوري السعيد. بينما يذكـر مجيد خدوري: لما كان المقدم وصفي طاهر أول الداخلين إلى بيت نوري السعيد فقد لمح خادمته البدوية التي سبق أن عرفها من قبل، وأشيع أن وصفي لا شك أخبر البدوية بالهجوم الوشيك على بيت نوري السعيد، ونقلت بدورها الخبر إلى نوري حتى ينجو هو بنفسه في حال إخفاق الثورة.

[8]  ذكر العقيد رجب عبدالمجيد: أن نوري السعيد استعمل مسدسه للدفاع عن نفسه، وأن أحد الجنود تمكن من أخذ المسدس منه، وأطلق عليه الرصاص.

[9]  كان اثنان من الضباط العراقيين قـد اتصلا بعبد الحميد السراج، حددهما السراج بأنهما عبدالكريم قاسم وعبد السلام محمد عارف، إذ شرحا له موقف الضباط الأحرار ووجها إليه بعض الأسئلة عن ظروف إجراء انقلاب في العراق، وعن إمكانية نجاحه، والقوى الخارجية التي يمكن أن تسانده، وقد أبلغ السراج ذلك لجمال عبدالناصر.

[10]  ويذكر خروشوف في رسالته إلى عبد الناصر في إبريل 1959، أثر تأزم العلاقات بين البلدين جاء فيها: تذكرون يا سيادة الرئيس ـ أنه عندما حدثت الثورة في العراق بحثنا في موسكو المسائل المتصلة بالأعمال التي يحتمل أن تصدر عن المعتدين ضد الشعوب العربية، وقد خشينا أن يؤدي تأييدنا غير المحدود لمشاعرك، إلى حثك على اتخاذ إجراء عسكري اعتبرناه دائماً غير مرغوب فيه، كما خشينا أن نفسر مثل ذلك التأييد بمثابة موافقة منا على إجراء عمل عسكري.