إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / ثورة 23 يوليه، في مصر




وثيقة التنازل عن العرش
وداع علي ماهر
محمد نجيب وعبدالناصر
محاصرة قصر عابدين
مع ضباط الكتيبة (13) مشاة
لقاء مع الإخوان المسلمين
مقر مجلس قيادة الثورة
مقر رأس التين بالإسكندرية
اللواء محمد نجيب وعلي ماهر
الملك فاروق والسفير البريطاني
الملك فاروق في احتفال
البيان الأول للثورة
اليخت الملكي المحروسة
الرسالة الموجهة للملك فاروق
اجتماع مجلس قيادة الثورة
تعليمات بعودة اليخت المحروسة
دبابة أمام قصر المنتزه
زيارة للوحدات العسكرية





ثورة 23 يوليه، في مصر

تقديم

بدء التنظيمات السرية في الجيش

       حاولت القوات البريطانية إشراك الجيش المصري في الحرب العالمية الثانية، مع قواتها، ثم تراجعت عن ذلك، لما لمسته من خطورة تحريك الجيش في ظل كراهية الشعب المصري لقوات الاحتلال، كما رفض الفريق عزيز المصري، رئيس أركان حرب الجيش، آنذاك، إشراك المقاتلات المصرية في خطة الدفاع البريطانية؛ بدعوى أن مصر لم تعلن الحرب على ألمانيا، كما رفض تحريك قوات مصرية إلى سيوة ضمن خطة الدفاع عن الصحراء الغربية.

       وقد أعلن رئيس وزراء مصر، آنذاك، علي ماهر باشا، موقف مصر وعدم دخولها الحرب، إلاّ إذا غزت القوات الإيطالية الأراضي المصرية وقذفت مدنها بقنابل طائراتها. وأمر، كذلك، بانسحاب القوات المصرية الرمزية من المناطق التي كانت تعسكر بها، إلى مناطق أخرى جديدة عند العلمين غرب الإسكندرية. ولم تمض عدة أيام، على هذا القرار، حتى أقاله الملك فاروق من الوزارة، كما أحال الفريق عزيز المصري إلى التقاعد، بعد ذلك بأيام قليلة.

تنظيم الطيران والجيش

        كان خروج عزيز المصري من الجيش بداية لاتصالاته السرية بالألمان، يُشاركه عدد من الضباط، الذين وجدوا في الاتصال بالألمان فرصة لتحرير مصر من القوات البريطانية دون تقدير لأبعاد الفكر النازي، القائم أساساً على التعصب، والتفرقة العنصرية.

        بدأت محاولات الاتصال بالألمان في مجال سلاح الطيران حيث إمكانية الحركة متوافرة. وفي عام 1939، تكون تنظيم الطيران من مجموعة من قادة الأسراب والطيارين هم: عبداللطيف البغدادي، وحسن إبراهيم، وحسين ذوالفقار صبري، وعبدالمنعم عبدالرؤوف، ووجيه أباظة، وأحمد سعودي، وحسن عزت، وانضم لهم فيما بعد ضابط الإشارة أنور السادات. أُطلق، بعد ذلك، على هذا التنظيم تنظيم الطيران والجيش؛ لدخول بعض ضباط الجيش فيه[1]. وكان محور تفكير هذا التنظيم هو ضرورة إيجاد دور للشعب المصري، في المعركة الدائرة على أرضه، بين الحلفاء من جهة، والقوات الفاشية والنازية، من جهة أخرى.

        ويقول عبداللطيف البغدادي: "وكان علينا أن نقوم بتنظيم أنفسنا وزملائنا في سلاح الطيران، في شكل خلايا سرية صغيرة تتكون كل خلية من خمسة ضباط، على أن يقوم كل فرد من أعضاء الخلية، بالعمل على تشكيل خلية أخرى جديدة من خمسة ضباط آخرين. واشتُرط ألاّ يعرف أفراد الخلية الجديدة أسماء المشتركين الآخرين في الخلايا الأخرى. وأن تقتصر معرفتهم فقط على اسم من عمل على تشكيلها، ضماناً للسرية. وحتى تقتصر الأضرار، في حالة انكشاف سر أية خلية، على أقل عدد من أفراد التنظيم. وعملنا على الاتصال بزملائنا، من ضباط الجيش، حتى نتمكن من إقامة تنظيم آخر مماثل، داخل وحداته، كذلك. واقترح حسن عزت اسم الملازم محمد أنور السادات لينضم إلى مجموعتنا. وكنا قد أطلقنا عليها اسم اللجنة التنفيذية للتنظيم.

        وكان الهدف الرئيسي لهذا التنظيم هو العمل على التصدي للقوات البريطانية، المحتلة لمصر، ومن ثم عندما تقدم روميل، في هجومه السريع، نحو الإسكندرية، قرر التنظيم إرسال قائد السرب أحمد سعودي، مندوباً عنهم، إلى روميل لشرح وجهة نظرهم في التعاون ضد بريطانيا. وأُعد له حقيبة من المستندات، بها مفجر يفجرها عند الخطر، وكُلف حسن إبراهيم (عضو مجلس قيادة ثورة يوليه، فيما بعد) بحمل الحقيبة إلى سعودي، حتى الطائرة، بعد اختفائه في أحد الخنادق، كما كُلف وجيه أباظة بإعداد خط سير الرحلة. لم يصل أحمد سعودي إلى الألمان، بل سقطت طائرته، وأذاعت الإذاعة الألمانية خبر إسقاط طائرة قتال بريطانية اقتربت من مرسى مطروح.. وحوكم حسن إبراهيم باعتباره ضابطاً مناوباً وتأخرت أقدميته ليصبح آخر دفعته ونقل إلى المهمات.

        ولم تتوقف محاولة الاتصال بالألمان بعد اختفاء طائرة سعودي فقد ذهب محمد رضوان، الذي كان وجيه أباظة قد استعان به في وضع الخطة، إلى القوات الألمانية، حيث تعاون معها تعاوناً كاملاً، إلى أن اعتقل في برلين، عندما دخل الحلفاء، بعد انتهاء الحرب، وحكم عليه بالسجن 15 عاماً، وبغرامه قدرها ثمانية آلاف جنيه حتى أفرج عنه بعد الثورة.

        ولم تكن هذه هي المحاولات الوحيدة للاتصال بالألمان، فقد كرر الفريق عزيز المصري هذه المحاولة، عقب اشتعال ثورة رشيد عالي الكيلاني في العراق، إلاّ أنه فشل وسقطت الطائرة المصرية، التي كان يستقلها، ويقودها له حسين ذوالفقار صبري، وعبدالمنعم عبدالرؤوف. وقُبض عليهم واعتقلوا، لمدة تزيد عن عام ونصف، إلى أن أفرجت عنهم وزارة الوفد، برئاسة مصطفى النحاس باشا، في 5 مارس عام 1942.

        حاول تنظيم الطيران والجيش الاتصال بالمنظمات، والتنظيمات المدنية الوطنية، الموجودة في ذلك الوقت، وكذا مع شباب الجامعات، كما اتصل بجماعة الإخوان المسلمين، للتعرف على مدى استعدادها للمشاركة في تحقيق هذا الهدف. وقد رحب الشيخ حسن البنا، مرشد الجماعة، في ذلك الوقت بالفكرة، ولكنه اقترح إدماج التنظيمين معاً. وبرَّر هذا الاقتراح بقوله إن لديه الجنود، يُقصد أعضاء الجماعة، ويقدر عددهم بما يقرب من ربع مليون عضو، في ذلك الحين، وإنه في حاجة إلى القادة القادرين على قيادة هؤلاء الجنود، وبالطبع سوف يكونون من تنظيم الطيران والجيش. إلاّ أن التنظيم لم يوافق معه على فكرة الاندماج، خوفاً من أن تذوب المنظمة العسكرية، وهي في بداية عهدها، داخل تنظيم الإخوان  المسلمين. كما أن الاندماج سيمكن الإخوان من التسلل داخل الجيش، ويسهل عليهم بعد ذلك الاستيلاء على السلطة في البلاد. وكان قد اتضح لنا هذا الهدف الذي يرمون إليه من حديث حسن البنا معنا عندما قال: "إننا ندعو إلى الدين لغرض سياسي نأمل تحقيقه، ولسنا مشايخ طرق". وعلى الرغم من أننا اعترضنا على فكرة الاندماج، التي تقدم بها، إلاّ أنه قبل التعاون معنا، في الحدود التي اتفقنا عليها. وهي المساندة في إعاقة تقهقر الجيش البريطاني عند انسحابه، وربما يكون قد قبل هذا التعاون، على أمل أن يحقق الفكرة التي اقترحها علينا، مع مرور الوقت. كما تم الاتصال ببعض زعماء الطلبة في الجامعات، وكلفوا بمهمة مراقبة المباني، التي تشغلها القيادة البريطانية، في مدينة القاهرة، حتى يمكن رسم خططنا في المستقبل على ضوء تلك المعلومات، التي ستتوافر لنا. كما تم الاتصال ببعض المدنيين، المعروفين بوطنيتهم وتحمسهم، ضد الاحتلال البريطاني، وذلك عن طريق عبدالعزيز علي، الذي كان حلقة الاتصال بينهم، وبين تنظيم الطيران والجيش"[2].

        وعلى الرغم من أن أحمد حمروش يؤكد انتهاء عمل تنظيم الطيران مع فشل رحلة الفريق عزيز المصري، وانتهاء صلاتهم، التي لم تكن تنظيمية، بالمعنى المعروف للتنظيم، وإنما كانت تضمهم رابطة صداقة، ووحدة هدف وطني، إلاّ أن عبداللطيف البغدادي يؤكد أن تنظيم الطيران استمر، حتى بعد انتهاء حرب فلسطين، عام 1948، قائلاً: "ولكننا لم نفقد الأمل كله، وواصلنا العمل من جانبنا، داخل قواتنا الجوية، متوخين زيادة المنضمين للتنظيم، وربطهم بمبادئنا وأهدافنا. وقد ساعد في ذلك الأمر انتقالي مدرساً بكلية الطيران عام 1944. وقد أتاح ذلك فرصة الاحتكاك والتعرف على كثير من الشبان الملتحقين حديثا بسلاح الطيران. وساعد على أن تزداد الرابطة بينهم وبيننا، وقد مهد هذا كله لتماسك التنظيم داخل القوات الجوية مع زيادة عدد المنضمين إليه حتى قيام ثورة يوليه عام 1952".

        ويكمل البغدادي: "استمررنا كذلك، في الاتصال بجمعية الإخوان، على الرغم من أن الغرض، الذي كان يجمعنا في البداية، قد بعد. وكان حلقة الاتصال بينهم وبيننا، البكباشي محمود لبيب، وكان هو المسؤول عن الناحية العسكرية في تنظيمهم. وقمنا بتدريب الإخوان المسلمين عسكرياً، وأمددناهم بالأسلحة والذخيرة، التي كان قد أمكن لنا تهريبها من مخازن الجيش. وعملنا على تشكيل كتائب فدائية منهم، تحت قيادة ضباط من الطيران والجيش، بغرض القيام بغارات فدائية على القاعدة البريطانية، في منطقة السويس، كما سبق كذلك أن تكونت منهم كتائب فدائية، قام بتدريبها وإعدادها ضباط من الجيش، قبل ذهابها للتصدي للمنظمات العسكرية اليهودية في فلسطين في نهاية عام 1947". ولم يكن تنظيم الطيران والجيش هو تنظيم الضباط الأحرار الذي أقيم بعد ذلك، بعد انتهاء حرب فلسطين عام 1948.

الاتجاهات داخل الجيش بعد هزيمة النازي

        تعددت الاتجاهات داخل الجيش، وتنوعت قوى الجذب المختلفة، في ذلك الوقت، في ثلاثة اتجاهات رئيسية:

الاتجاه الأول: الإرهاب

        كان ضباط الطيران على اتصال ببعض الذين ناضلوا ضد البريطانيين، في جماعة "عصابة اليد السوداء"، خلال ثورة 1919، وما بعدها، مثل عبدالعزيز علي، الذي أصبح وزيراً في وزارة محمد نجيب، وكان عضواً في الحزب الوطني، وكان أعضاء هذه الجماعة يعدون الاغتيال وسيلة من وسائل النضال. والتقى بعض الضباط شباباً، من أعضاء الحزب الوطني، وكونوا مجموعة للاغتيالات، وكانت المحاولة الأولى هي اغتيال مصطفى النحاس، وقام بهذه العملية، التي لم تنجح، أنور السادات، وحسين توفيق، الذي اغتال وزير المالية أمين عثمان، بعد ذلك، وسعد كامل ابن أخت فتحي رضوان وعضو اللجنة التنفيذية العليا للحزب الوطني الجديد فيما بعد، ومحمد إبراهيم كامل وزير خارجية مصر، فيما بعد أيام حكم أنور السادات.

الاتجاه الثاني: مجموعة الضباط الوطنيين

        تزعم هذه المجموعة البكباشي أركان الحرب رشاد مهنا، وتكونت من عدد كبير من الضباط الوطنيين، منهم عبدالرؤوف نور الدين وحسن فهمي عبدالمجيد، وممدوح جبة، وعاطف سعد، ومحمد أحمد حسن، والملازم عبدالقادر طه، وأحمد فؤاد، والبكباشي أحمد يوسف حبيب، والصاغ عثمان نوري.

        وتصدى هذا التنظيم لفكر رئيس أركان حرب الجيش، اللواء إبراهيم عطا الله، الذي ذهب مع بعثة من كبار الضباط، لزيارة الولايات المتحدة الأمريكية، وبعد عدة أسابيع، عاد ليصدر قراراً بأن يرتدي جميع الضباط من  كل الرتب، عدا رتبة اللواء بنطلونات قصيرة، أثناء وجودهم في المعسكرات، الأمر الذي أثار الضحك على بعضهم لكروشهم البارزة. ونفاقاً للسراي، أصدر قراراً بأن يلبس ضباط الجيش ربطات عنق سوداء، يوم 28 أبريل، ذكرى وفاة الملك فؤاد، ولكن عدداً ملحوظاً من صغار الضباط رفضوا تنفيذ الأمر، كما أنه أوعز إلى ضباط سلاح المدفعية بأن يجمعوا نقوداً لشراء (عصا الماريشالية) لتُقدم هدية للملك فاروق، عند زيارته للسلاح، ورفض عدد من الضباط أن  يسهموا في ذلك. وكانت زيارة فاروق لمطعم المدفعية، في ألماظة هي زيارته الأولى والأخيرة، إذ أثارت مشاعر الضباط لما حوته من بذخ في الطعام والترفيه، فقد أقاموا مسرحاً خارجياً استضافوا فيه فرقة الريحاني، وإحدى فرق البالية الأجنبية، التي حضرت من الطائرة إلى المدفعية، مباشرة قبل أن تظهر في كباريه الأوبرج، وأعدوا مرقصاً لم يشارك فيه إلاّ عدد محدود من زوجات الضباط، اللاتي قبلن الحضور، فقد رفض أغلبية الضباط إحضار زوجاتهم في حفلة يحضرها الملك. ويُذكر، خلال هذه الليلة، أن الصاغ عبدالمنعم رياض (رئيس أركان حرب القوات المسلحة بعد نكسة عام 1967) كان خالعاً طربوشه، فاقترب منه كبير التشريفاتية، وأبلغه أن ذلك ممنوع في حضرة الملك، وحدثت بينهما مناقشة انتهت إلى استدعائه في اليوم التالي إلى القصر وتصفية الأمر، بعد ما لمسوه من غضب الضباط، واحتجاجهم على هذا الأسلوب، في مخاطبة أحد المدنيين لضابط مرموق.

        وقررت مجموعة من تنظيم الضباط الوطنيين، اغتيال إبراهيم عطا الله، وأصدرت منشورات أعدها مصطفى كمال صدقي، الذي كان ضابطاً للمخابرات في مكتب إدارته، الأمر الذي كشف مجموعته وأدى إلى اعتقاله، مع 23 ضابطاً وصولاً من بينهم البكباشي محمد رشاد مهنا، واليوزباشية عبدالرؤوف نور الدين، وحسن فهمي عبدالمجيد، وممدوح جبة، وعاطف سعد، ومحمد أحمد حسن، والملازم عبدالقادر طه، وأحمد فؤاد، والبكباشي أحمد يوسف حبيب، والصاغ عثمان نوري.

        واعتُقل أفراد هذه الجماعة بسبب وشاية أحد صولات إدارة المخابرات (جمال الدين جلال)، الذي استعانوا به في عملية تهريب سلاح إلى الفلسطينيين، عن طريق بورسعيد، وذلك بعد اتصالهم بالحاج أمين الحسيني في القاهرة. ولم ينته اعتقال هذه المجموعة إلى محاكمة عسكرية، وإنما إلى الإفراج عنهم، وعودتهم إلى أعمالهم، وإعفاء إبراهيم عطا الله من منصبه، وتعيين اللواء عثمان المهدي بدلاً منه، كما عُين محمد حيدر وزيراً للحربية.

الاتجاه الثالث: تنظيم السراي (الحرس الحديدي)

        شُكل هذا التنظيم للدفاع عن الملك والسراي عام 1947..ولم يكن هذا التنظيم خاضعاً للحرس الملكي أو الجيش، وإنما كان تنظيماً سرياً خاصاً، يرتبط بالسراي، عن طريق يوسف رشاد، الطبيب البحري وياور الملك فاروق، ويضم من الجيش: الصاغ (الرائد) أحمد يوسف حبيب، ومصطفى كمال صدقي، وسيد جاد، وعبدالرؤوف نور الدين، وخالد فوزي، وحسن فهمي عبدالمجيد. وإن كان خالد فوزي ينفي أنه كانت له صله بالحرس الحديدي، ولا شك أنه كان الوحيد بين هؤلاء، الذي انضم إلى تنظيم الضباط الأحرار، وكان له دور إيجابي معهم في التحضير لحركة الجيش. إلاّ أن خالد محيي الدين يؤكد أن خالد فوزي كان ضمن مجموعة الحرس الحديدي. وكان هذا الحرس بزعامة مصطفى كمال صدقي.

        وقد بدأ الحرس الحديدي فور تكوينه، في ممارسة عملياته الإرهابية، وكانت عملية اغتيال مصطفى النحاس ضمن هذه العمليات، فقد أطلق عبدالرؤوف نور الدين الرصاص، ومعه أنور السادات، على مصطفى النحاس يوم 5 أبريل 1948، من عربة من عربات القصر الملكي، أحضرها اليوزباشي عبدالله صادق من مطافئ القصر، كان يقودها حسن فهمي عبدالمجيد، فأخطأه، على الرغم من قرب المسافة، ثم شرع مصطفى كمال صدقي، وعبدالرؤوف نور الدين، في نسف منزله بسيارة، حملت كمية كبيرة من المفرقعات يوم 25 أبريل. وكان ذلك نتيجة موقف النحاس باشا المتشدد، ورفضه لكافة محاولات التقرب من الوفد على غير أساس إجراء انتخابات جديدة. واستمر هذا التنظيم يواصل عملياته الإرهابية السرية، ويتعرف على أخبار الضباط، ليبلغها للسراي، ويحاول أن يحيط الملك بها. وكان يساند هذا التنظيم، محمد حيدر، وزير الحربية، والقائمقام إسماعيل شرين، مدير إدارة شؤون فلسطين، وزوج الأميرة فوزية.

        وكان الملك فاروق، في أواسط الأربعينات، لا يزل محبوباً، من قطاعات من الجيش، وكان البعض منهم يرى أن ولاءه للملك جزء من ولائه لمصر، وأنه يكمل عداءه للاستعمار ولعملاء الاستعمار، ومن ثم فقد أقام يوسف رشاد، علاقة مع بعض الضباط، ومنهم مصطفى كمال صدقي، ومجموعته المسماة "بالحرس الحديدي" وكان القصر يحرك هذه المجموعة، لارتكاب أعمال إرهابية، ضد خصومه السياسيين، بحجة أنهم عملاء للاستعمار، وفعلا قام الحرس الحديدي بأكثر من محاولة لاغتيال النحاس باشا.

علاقات رجال الثورة بيوسف رشاد

        أكد أنور السادات، في مذكراته، أنه كان على علاقة بيوسف رشاد، وأن رشاد هو الذي أعاده إلى الخدمة في الجيش، بعد فصله منه، ويقول أنور السادات في مذكراته: "وبلغت بنا الصداقة حد التلازم فكنا لا نكاد نفترق إلاّ ساعة النوم، نطهو طعامنا معاً، ونأكل معاً، ونتحدث، ونفكر، ونقرأ معاً.

        وكان هو الذي توسط لإلغاء نقل خالد محي الدين من سلاح المدرعات إلى سلاح الحدود، وأبدى خالد محي الدين دهشته الشديدة، وعلم أن يوسف رشاد هو يد الملك التي يحركها وسط ضباط الجيش. وقال إن هناك احتمالاً أن يكون صاحب العلاقة المباشرة مع يوسف رشاد هو الضابط مصطفى كمال صدقي الذي أسَّس في ذلك الحين مجموعة [الحرس الحديدي] والتي كانت على علاقة وثيقة بيوسف رشاد".

الاتجاه الرابع: الإخوان المسلمون

        تعود صلة الضباط بالإخوان المسلمين إلى الحرب العالمية الثانية، ولكنها لم تظهر كتيار رئيسي في مجال الحركة السياسية بالجيش إلاّ بعد انتهاء الحرب. ولم تكن اتصالات الإخوان مقتصرة على فرد أو أفراد محدودين، وإنما امتدت إلى أكبر عدد متاح من الضباط. وكان للإخوان تنظيم هرمي يقف المرشد على قمته، ولهم تنظيم عسكري خاص يشرف عليه ضابط مصري سابق، هو البكباشي محمود لبيب[3]، الذي اتصل بمعظم الضباط الذين جندوا في الجماعة، هذا إلى جانب تنظيم الجهاز السري، الذي كان يصل إليه الموثوق فيهم، وكان تحت إشراف عبدالرحمن السندي.

        كان ضباط الطيران على اتصال بهم، منذ عام 1942، وقد لعب البكباشي عبد المنعم عبدالرؤوف دوراً نشيطاً في الإخوان المسلمين، استمر إلى ما بعد قيام ثورة 23 يوليه. وانضم إلى الجهاز السري العسكري للإخوان اليوزباشيان عبدالمنعم عبدالرؤوف، جمال عبدالناصر حسين، والملازمون الأول كمال الدين حسين، سعد حسن توفيق، خالد محيي الدين، حسين محمد أحمد حموده، صلاح الدين خليفة ومجدي حسنين، أحمد مظهر، وحسين الشافعي، كما كان أنور السادات على صلة شخصية بحسن البنا، الذي كان أول من أتاح له فرصة التعرف على عزيز المصري، ومع تدفق الضباط على تنظيم الإخوان وكثرة عدد الذين ارتبطوا به، إلا أن كثيراً منهم لم يجدوا في الإخوان ما يرضي نزعاتهم فتركوهم.

الاتجاه الخامس: التنظيمات اليسارية

        من المعروف أن التنظيمات اليسارية لم تعاود نشاطها في مصر، بعد ضرب الحزب الشيوعي المصري عام 1924، وحل تنظيماته، ومطاردة وسجن أعضائه، إلاّ خلال الحرب العالمية الثانية بعد الانفراج السياسي، الذي صحب تحالف الاتحاد السوفييتي مع بريطانيا، والولايات المتحدة الأمريكية، في حربهم المشتركة ضد محور النازية والفاشية.

        وتشكلت عدة تنظيمات جديدة منها "تنظيم اسكرا" وهي كلمة روسية تعنى "الشرارة" بالعربية، وكانت واجهته العلنية دار الأبحاث العلمية. وتنظيم طليعة العمال، وهو تنظيم سري، أصدر مجلة "الفجر الجديد"، وعمل في أوساط الطلبة والعمال، وكانت له داران للنشر هما دار القرن العشرين، ولجنة نشر الثقافة الحديثة، وكان أعضاؤه على صلة وثيقة بالشباب الوفدي، وتنظيم الحركة المصرية للتحرر الوطني، وكانت أكثر الحركات الشيوعية ارتباطاً بالواقع وانتشاراً بين التجمعات الجماهيرية وكانت لها صحيفة "أم درمان" العلنية. وقد حدث اندماج عام 1947 بين تنظيمي إسكرا، الحركة المصرية للتحرر الوطني في تنظيم سري باسم الحركة الديموقراطية للتحرر الوطني أو (حدتو). ويقول خالد محيي الدين: إن حدتو قد نجحت في إقامة تنظيم متكامل، داخل القوات المسلحة. وفي عام 1950 كان القاضي أحمد فؤاد قد أصبح مسؤولاً عن هذا التنظيم.

        وطلب أحمد فؤاد من خالد محيي الدين ترتيب مقابلة مع قائد تنظيم الضباط الأحرار، جمال عبدالناصر، عندما علم أن خالد يسهم في هذا التنظيم. ويقول خالد محيي الدين: وتجاوب معه جمال عبدالناصر بشكل ملحوظ ولم يبد أية حساسية من التعامل مع الشيوعيين، فقد كنا أنا وهو نعتقد بأن الاتجاه الاشتراكي هو بالضرورة اتجاه قريب منا ومن حركتنا". وأقام خالد محيي الدين علاقة فردية من نوع خاص مع أحمد فؤاد ووجد أنه من غير الملائم أن يكون أحد قادة تنظيم "الضباط الأحرار" بينما يتلقى أوامر أو تعليمات تنظيمية من جماعة أخرى أو تنظيم آخر.

        كانت الأفكار اليسارية، التي حرصت هذه التنظيمات على نشرها في صفوف العمال والطلبة والمثقفين، قد بدأت تمثل مركز جاذبية ملحوظة حتى لعدد من الضباط، الذين بهرتهم الأفكار والتنظيمات النازية في المرحلة السابقة لهزيمة المحور.

        اتصل عبداللطيف بغدادي ومجموعة الطيران، ضمن اتصالاتهم المتعددة بجمعية الرياضة وأوقات الفراغ، التي أسسها حسني العراقي أحد الأعضاء السابقين في الحزب الشيوعي المصري القديم، ولكنهم لم يستقروا بها لأنها لم تشبع رغبتهم في العمل والحركة. كما حدث اتصال بين هذه المجموعة وبين ميكانيكية الطيران، الذين بدأ انتشار الأفكار الماركسية بينهم، ولكن لم يحدث اندماج تنظيمي نتيجة فروق الرتبة والاتجاهات الطبقية والميول الفكرية المتنافرة بين الضباط وضباط الصف.

        كانت الصلة قد بدأت بين (الحركة المصرية للتحرر الوطني)، وبين ضباط الصف المتخرجين من مدرسة ميكانيكا الطيران، والتي كانت قد فتحت أبوابها كمدرسة جديدة عام 1937.

        كان قادة هذا النشاط من المنضمين سراً إلى الحركة المصرية للتحرر الوطني،الذين وضعوا خطة برنامج يحقق المطالب الوطنية والاقتصادية، وكونوا تنظيماً سرياً من (42) شخصاً لكل سرب، أو قسم، اثنان من المندوبين، وتكونت لجنة تنفيذية عليا من 11 شخصاً، كان النفوذ الرئيسي فيها للشيوعيين".

        ولم يقتصر نشاط هذه المجموعة على سلاح الطيران، وإنما أمتد، كذلك، إلى ميكانيكية سلاح الصيانة ثم الطيران المدني، وتحرك (6000) طالب وخريج منهم متوجهين إلى قصر عابدين، ولكن المسؤولين صرفوهم على وعد بتحقيق مطالبهم، ثم اعتقلوا بعضهم. وانتشر هذا النشاط حتى وصل إلى خريجي مدرسة الكتاب العسكريين والموسيقيين، ووجدت الأفكار اليسارية مجالاً للانتشار، بعد هزيمة روميل في العلمين، وظهور الاتحاد السوفيتي كقوة حربية وسياسية هائلة.

        كان هناك حركات أخرى في صفوف الجيش اليوناني المعسكر في مصر، وكانت اليونان تحت ديكتاتورية الجنرال ميتكساس منذ عام 1936، ولذا كان الحزب الشيوعي اليوناني هو الذي يتولى قيادة الكفاح السري المسلح في اليونان، وتشكلت جبهة التحرير الوطني (إيام EAM) في خريف عام 1941، وتشكل جيش التحرير الشعبي (إيلاس) في ربيع عام 1942. ومع ذلك ظلت (إيام وإيلاس) تهاجمان الملك باعتباره عدواً للشعب اليوناني، وممثلاً لعصبة فاشية، وامتلأت جدران الشـوارع في القاهرة والإسكندرية، بكتابات يونانية وعربية، تعلن شعارات المنظمتين، وأخذت إحدى المجلات اليونانيـة هذا الاتجاه، الذي عارضته القوات البريطانية في مصر لما استشعرته فيه من خطر. وكان اليساريون، في صفوف الجيش المصري، على صلة بهذه الحركات يقدمون لها المساعدة، ويتخذون منها مادة للإثارة والهجوم على البريطانيين من دون أن يتورطوا في تأييد النازيين. وكان تجنيد التنظيمات اليسارية، داخل الجيش المصري، عملاً شديد الصعوبة، بالغ التعقيد محفوفاً بخطر العصف به من القوى الرجعية المتربصة بأي نشاط تقدمي، وخاصة في صفوف الجيش.

        وخلال هذه الفترة، تكونت نواة من الضباط وضباط الصف اليساريين في صفوف الجيش، يصدرون منشورات تلاحق الأحداث وتفسرها وتنقد ما فيها من أخطاء، وكانت تصدر بتوقيع (رجال الجيش). ولم يحدث أن كُشف أمر هذه التنظيمات إلاّ في سلاح الطيران، عندما اشتدت موجة المطالبات الاقتصادية، وما كشفته من اتجاهات سياسية، أدت إلى نفي أربعين ضابط صف إلى سيوه. وكانت الأحداث السياسية قد بدأت تأخذ اتجاهاً جديداً مؤثراً، كانت له انعكاسات شديدة في صفوف القوى العاملة داخل الجيش.

حرب فلسطين وأثرها في نفوس الضباط

        كانت قضية فلسطين تشغل بال الرأي العام المصري، وبالأخص بعد صدور قرار تقسيمها في 29 نوفمبر 1947 من الأمم المتحدة، ولكنها كانت تأتي بالتأكيد بعد قضية الجلاء والوحدة مع السودان والديموقراطية. ولكن بعض التنظيمات السياسية، مثل "الإخوان المسلمين"، و"مصر الفتاة"، دفعت بهذه القضية إلى المقدمة، وجعلت منها موضوعها الرئيسي، ودعت إلى الكفاح المسلح ضد الصهيونية، ونظرت إلى فلسطين كمجال لحرب مقدسة وطنية ودينية. وأخذت جماهير التنظيمين تتظاهر وتهاجم بعض اليهود المقيمين في مصر، وارتفعت دعوة التطوع للقتال، وسافر أحمد حسين، رئيس مصر الفتاة إلى سورية، وألف الإخوان المسلمون كتائب الجهاد.

        اتصلت مجموعة الطيران بفوزي القاوقجي، قائد جيش التحرير السوري عن طريق عبداللطيف البغدادي، الذي أبدى استعداده للتعاون معه، بعد أن رفضت الحكومة المصرية تطوع الطيارين، عن طريق الهرب إلى سورية بطائرات مقاتلة، ولم يكن في سورية، وقتئذ، سلاح للطيران، ولا مطار سري يصلح للهبوط. وقال فوزي القاوقجي أنه سوف يحتاج لهم في المعركة الفاصلة، وطال انتظار الطيارين المصريين طويلاً، فلم يتصل بهم فوزي القاوقجي، حتى قامت الحرب فعلاً بعد أن جندوا خمسة عشرة طائرة سبتسفير صالحة للقتال.

        وجدت فكرة التطوع أنصاراً كثيرين في الجيش، من بينهم محمد نجيب، الذي آمن بأن الوسيلة المثلى للقتال في فلسطين لا تكون إلا باستخدام حرب العصابات. وكان الجيش المصري قد وضع تقليداً جديداً، بموافقة الملك فاروق، وهو أن الضابط الذي يريد أن يتطوع في حرب فلسطين يمكنه الحصول على إجازة مفتوحة، وفور عودته يلتحق مرة أخرى، بالقوات المسلحة.

        وخلال فترة حرب فلسطين، وما بعدها، كانت صلة الإخوان المسلمين التنظيمية بضباط الجيش قد ضعفت، نتيجة عدة عوامل، منها حركة الوحدات إلى فلسطين وما صحبها من تنقلات أو انصراف البعض عن تنظيم الإخوان، لما لصق به من تهمة الإرهاب. ولم تضعف صلة الإخوان المسلمين التنظيمية بالضباط فقط، ولكن ضعفت، كذلك، صلة الضباط بالتنظيمات اليسارية، لعوامل أخرى، إلى جانب حركة القوات المفاجئة وما أثرت به على استقرار التنظيم، منها أن عدداً من الضباط لم يقتنع بموقف التأييد لمشروع التقسيم، وجرفته حماسة الشعور التي ألهبتها الدعاية المكثفة للقتال، كما أن فتح المعتقلات، واحتجاز المئات من الشيوعيين أضعف الصلة التنظيمية للحركة بصفة عامة. الأمر الذي أدى إلى كتابة المنشورات بخط اليد على ورق الكربون.

        أدت حرب فلسطين، ومواجهة الخطر المشترك، وإدراك ما يحيط بالجيش والمجتمع، من فساد ورشوة وانحلال، إلى إيجاد رابطة فكرية مشتركة، بين عدد من الضباط، ذوي الميول الوطنية النابعة من اتجاهات سياسية مختلفة، وتركزت النقمة على الملك وحاشيته، وعلى أحزاب الأقلية كذلك، التي صادرت الحريات، وانتهزت فرصة حرب فلسطين، لتمارس ضد الإخوان عنفاً وإرهاباً، لم تشهده مصر من فترة بعيدة.

        لقد كانت حرب فلسطين هي الجرح الحقيقي في قلب رجال ثورة 23 يوليه، على الرغم من أن تنظيمهم، أي تنظيم الضباط الأحرار لم يتشكل بعد، كان عبدالناصر في الفالوجا وحوصر مع قواته، وكان معه زكريا محيي الدين، وصلاح سالم، بينما تطوع للحرب في فلسطين، عبدالمنعم عبدالرؤوف، وحسن فهمي عبد المجيد، وكمال الدين حسين.

حل جماعة الإخوان المسلمين (8 ديسمبر 1948)

        بسبب بعض الأحداث، التي أتُهم فيها الإخوان المسلمون. أصدر النقراشي باشا بصفته حاكماً عسكرياً، أمراً عسكريا يوم 8 ديسمبر 1948، يقضي بحل جماعة الإخوان المسلمين وشُعبها ومصادرة أموالها وأملاكها.

        في 28 ديسمبر 1948، وقبل وصول النقراشي باشا إلى المصعد الخاص بوزارة الداخلية، وكان يحيط به الحرس، هاجمه شاب في زي ضابط بوليس، وأطلق عليه ثلاث رصاصات من مسدسه، قضت عليه في الحال، وكان الجاني طالباً بمدرسة الطب يدعى عبدالمجيد أحمد حسن، اعترف إنه من جماعة الإخوان المسلمين وأنه قام بهذا العمل انتقاماً من تصرفات النقراشي ضد هذه الجماعة. وألف إبراهيم عبدالهادي الوزارة الجديدة في 28 ديسمبر 1948، وفي عهد وزارته تم التحقيق، واستخدام العنف والتنكيل مع كل من حامت حوله الشبهات من الإخوان. وبلغ الأمر ذروته بقتل حسن البنا مرشد عام الإخوان في 12 فبراير 1949.



[1]  أوضح البغدادي أن هذا التنظيم تكون في بداية عام 1940 وليس عام 1939، كما ذكر أحمد حمروش.

[2]  ذكر البغدادي أنه عند قيام ثورة 23 يوليه عام 1952 عين عبدالعزيز علي وزيراً في أول وزارة تشكلت كوزير للشؤون البلدية والقروية.

[3]  البكباشي محمود لبيب كان ضابطاً بالجيش المصري عام1941 وكان يخدم في سلاح الهجانة بميناء السلوم مع الملازم صالح حرب الذي أصبح فيما بعد وزيراً للدفاع في مصر عام1936.. وكان محمود لبيب هو المسؤول عن الجناح العسكري في الإخوان المسلمين.