إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / ثورة 23 يوليه، في مصر




وثيقة التنازل عن العرش
وداع علي ماهر
محمد نجيب وعبدالناصر
محاصرة قصر عابدين
مع ضباط الكتيبة (13) مشاة
لقاء مع الإخوان المسلمين
مقر مجلس قيادة الثورة
مقر رأس التين بالإسكندرية
اللواء محمد نجيب وعلي ماهر
الملك فاروق والسفير البريطاني
الملك فاروق في احتفال
البيان الأول للثورة
اليخت الملكي المحروسة
الرسالة الموجهة للملك فاروق
اجتماع مجلس قيادة الثورة
تعليمات بعودة اليخت المحروسة
دبابة أمام قصر المنتزه
زيارة للوحدات العسكرية





الفصل السادس

23 يوليه في الإسكندرية

        دوائر كثيرة، في الإسكندرية، لم يغمض لها جفن، في هذه الليلة، ومع ذلك، فإن أحداث القاهرة، التي تبلورت في الاستيلاء على القيادة، لم تعرفها المدينة إلا بعد إذاعة البيان الأول، في منتصف الساعة الثامنة، صباحاً، حتى إن الضباط الأحرار، الذين كانوا ينتسبون إلى الخلايا السرية، لم يُخطروا بالتوقيت، في الوقت المناسب.

        في الواحدة والنصف، من صباح هذا اليوم، توجه الفريق محمد حيدر باشا، القائد العام، إلى ثكنات مصطفى باشا، مقر القيادة الشمالية، ولم تكن المسافة طويلة بينها، وبين فندق "سان استيفانو"، الذي كان ينزل به، ودعا الضباط إلى اجتماع، وحاول أن يبدو هادئاً، وأنهى كلمته بقوله: "إن حركة الجيش بسيطة وتافهة، وهي أشبه بزوبعة في فنجان، لا تلبث أن تتبدد"، ثم طلب منهم أن يلتزموا الهدوء والسكينة، وأن يطمئنوا إلى أن جميع طلباتهم ستتحقق.

        في الثانية صباحاً، صدرت تعليمات، إلى ضباط البحرية الملكية، بالتزام أماكنهم، في منطقتهم، فلبوا الأمر، وظلوا في أماكنهم، في انتظار أوامر أخرى. وفي الثالثة صباحاً، اتصل وزير الداخلية الجديد، مرتضى المراغي باشا، تليفونياً بحكمدار القاهرة، (مدير الأمن) اللواء أحمد طلعت بك، ثم باللواء إمام إبراهيم بك، مدير القسم المخصوص، (المباحث العامة)، وأمرهما بإخضاع البوليس للحركة الجديدة، واعتبار اللواء محمد نجيب حاكماً شرعياً، كما أبلغ هذا الأمر إلى حكمدار الإسكندرية، اللواء يسري قمحة بك، لتفادي أي احتكاك، بين القوات المسلحة والبوليس.

        وفي الساعة نفسها، اتصل الفريق حيدر باشا برئاسة الأركان، في القاهرة، فجاءه الرد بأن الفريق حسين فريد قد خرج من توه، وإنهم ينتظرون عودته. (والحقيقة أنه اعتقل منذ الساعة الواحدة)، واتصل القائد العام بقيادة المدفعية، فجاءه الرد بصوت، يمثل لهجة اللواء حافظ بكري بك، بأن الحالة هادئة تماماً (والحقيقة أن اللواء بكري كان قد اعتقل).

        في الساعة السادسة صباحاً، عززت المنطقة البحرية قواتها، على بابي الترسانة، والحوض الجاف، كما عززت الحراسة على مخازن الأسلحة، ومُنع دخول السيارات إلى منطقة الميناء، وشُددت التدابير لتنفيذ الأمر.

        في السادسة والنصف صباحاً، اتصل رئيس الوزراء، أحمد نجيب الهلالي باشا، بسكرتير مجلس الوزراء، محمد ثابت بك، وطلب منه دعوة المجلس إلى اجتماع عاجل، وفي الوقت نفسه، استقبل في منزله، بضاحية المندرة، وزير الداخلية المراغي باشا، الذي أوقفه على تطورات الحالة، والاتصالات التي جرت بينه، وبين قائد الحركة اللواء محمد نجيب.

        في السابعة صباحاً، جرت مكالمة تليفونية أخيرة، بين المراغي واللواء نجيب، في القاهرة وطلب منه، باسم رئيس الوزراء، تأجيل إذاعة البيان، ثم اتصل الهلالي باشا نفسه باللواء نجيب، معاوداً الطلب. ولكن جميع المحاولات لم تثن القيادة الجديدة عن تأجيل إذاعة البيان، ثم عاد وزير الداخلية إلى مقر الوزارة، في بولكلي، لمتابعة الأحداث.

        في السابعة والنصف، استمعت الإسكندرية إلى البيان الأول، لحركة الجيش، وكان مجلس الوزراء في اجتماع، بصفة مستمرة. وفي الساعة 7,45 صباحاً، وصل الدكتور حافظ عفيفي باشا، رئيس الديوان الملكي. واشترك في اجتماع مجلس الوزراء، وفي خلال ذلك، حضر إلى مقر رئاسة الوزراء، في بولكلي، مستر سمسون، السكرتير الأول للسفارة البريطانية. واجتمع بمرتضى المراغي باشا، على انفراد، لبضع دقائق، ثم أخذ تتابع حضور باقي الوزراء.

        ومنذ الصباح الباكر، كانت حالة الطوارئ قائمة، في أنحاء الإسكندرية، وامتدت إلى منطقة الميناء، وجوازات السفر، وحلَّقت أربع طائرات نفاثة، على ارتفاع منخفض، فوق المدينة، وفشل كريم ثابت باشا، الوزير السابق، في اللحاق بالباخرة المسافرة إلى أوروبا. واجتمع، عدة مرات، في منزله، مع زميله إلياس أندرواس باشا، وكلاهما من بطانة الملك، التي أثارت نقمة رجال الحركة.

        في التاسعة صباحاً، قرر مجلس الوزراء أن يسافر المراغي باشا إلى القاهرة، للاجتماع بقائد الحركة، فاستقل طائرة مدنية، وبصحبته وكيل الداخلية، اللواء عبدالمنصف محمود باشا. والتقى السفير الأمريكي، جيفرسن كافرى، قبل هذه الساعة، أو بعدها، بالملك، في قصر المنتزه، (وقيل) إن الملك طلب توسطه لتتدخل القوات البريطانية في الموقف، ولكن سياسة نائب رئيس الوزراء، ووزير الخارجية البريطاني، أنطونى إيدين، كانت ضد أي تدخل. وتبادلت السفارتان النظر في الطلب، (كما قيل)، وجاء الرد البريطاني بالرفض.

        في الساعة 9,50 صباحاً، انفض مجلس الوزراء، مؤقتاً، وأعلن الهلالي باشا أنه مستعد لإجابة المطالب المعدلة للقيادة الجديدة.

        في العاشرة صباحاً، عقد ضباط المنطقة الشمالية، (عدا القوات البحرية)، اجتماعاً، وأعلنوا تأييدهم للحركة، وانتخبوا البكباشي أحمد عاطف نصار، قائد المدفعية الساحلية، قائداً للمنطقة. كما انتخب الصاغ عبدالحليم الأعسر، أركان حرب لها، وكان البكباشي نصار، في القاهرة، قبل أيام. والتقى البكباشي جمال عبدالناصر، رئيس اللجنة التأسيسية للضباط الأحرار، الذي أعلمه بأنه سوف يخطره بساعة الصفر، قبل أربع وعشرين ساعة، ولكن حدث ما منع وصول هذه الإشارة. واتخذت قيادة الإسكندرية الجديدة، رياسة الألاي الثاني للمدفعية المضادة، بمنطقة السلسلة، مقراً لها، فلما استكملت سيطرتها على المدينة، انتقلت إلى مقر رياسة المنطقة الشمالية، بثكنات مصطفى باشا، وشملت التحركات احتلال منطقة الغاطس بالميناء، وإحكام مداخله، كما تم تحريك قوات من المشاة، ومن المدفعية الساحلية والمضادة، إلى مواقع جديدة، لحماية المدينة.

        في الساعة 12,40 ظهراً، توجه الهلالي باشا إلى قصر المنتزه، بصحبة وزير الحربية، إسماعيل بك شيرين، صهر الملك. ودامت المقابلة الملكية أربعين دقيقة، وطلب الملك أن يستمر الهلالي باشا، في منصبه، ولكن الهلالي ألح في تقديم استقالته، وكان الهلالي، في محادثته التليفونية، مع اللواء نجيب، قد أبلغه أنه قبل تأليف الوزارة لتطهير أداة الحكم، من جميع نواحيها، وبصفة خاصة، تطهير الجيش، ورجا اللواء نجيب أن يتمهل، حتى تمضي الوزارة في بحث المطالب، الخاصة بالجيش. ولكن قائد الحركة اعتذر، إذ استقر الرأي على دعوة علي ماهر لتشكيل وزارة جديدة.

        في الساعة الواحدة والنصف ظهراً، عاد حافظ عفيفي باشا، رئيس الديوان، إلى قصر المنتزه، بعد أن حضر جانباً من اجتماع مجلس الوزراء، الذي كان قد عاود انعقاده. وفي الساعة الثالثة والنصف عصراً، عاد عفيفي باشا، للمرة الثالثة، إلى رئاسة الوزارة. وتناول طعاماً خفيفاً، مع أعضاء المجلس، وفي هذه الأثناء، اتصل الرئيس بالمراغي باشا، في القاهرة، وطلب منه العودة فوراً، إذ أن الوزارة بصدد تقديم استقالتها.

        في الساعة 4,10 عصراً، أعلن رئيس الديوان أن الملك قبل استقالة الهلالي باشا، ووافق على تكليف علي ماهر باشا، بتأليف وزارة جديدة، وسلم خطاب التكليف، من الإسكندرية، إلى علي ماهر بالقاهرة، الدكتور أحمد النقيب باشا، ثم أعلن علي ماهر:

        "إنى وطيد الثقة في أن تسمو الوطنية، في النفوس، على كل اعتبار، وأن الظروف قد تدعو إلى أن أبدأ تشكيل الوزارة. ويظل الباب مفتوحاً لاستكمال تشكيلها، وبذلك لن يكون تأليفها، دفعة واحدة، وإني لم أحدد الأسماء، حتى الآن، وسأتفرغ الليلة، للبحث في هذا، وسأسافر، في الساعة السابعة صباح غد، إلى الإسكندرية (أي يوم 24)".

        في الساعة الخامسة مساءً، غادر الهلالي باشا مقر مجلس الوزراء، إلى داره بالمندرة. في الساعة السادسة والثلث مساءً، وصل وزير الداخلية السابق، المراغي باشا إلى الإسكندرية، بالطريق الصحراوي، بعد محاولات للاجتماع باللواء نجيب، كان يسودها جو من عدم الثقة بين الجانبين، وفي الساعة الثامنة، توجه إلى دار الهلالي باشا، وعرض عليه تفاصيل مهمته في القاهرة.

        وقد اشتمل التقرير اليومي، الذي رفع إلى الملك، بتاريخ 23، وبإمضاء السكرتير الخاص المساعد، أحمد على يوسف بك، على ملخص لما نشرته الصحف، عن أحداث ليلة 23، ويُلاحظ أن كثيراً من الفقرات، التي وردت في صحف اليوم، وبخاصة الأهرام، أوردت التقرير بأمانة، ومن دون مبالغة، أو تقليل من شأنها. وُجد التقرير، بجوار الوسادة، في غرفة نوم الملك، بقصر المنتزه، قبل انتقاله إلى رأس التين، وبه علامات وخطوط، باللون الأحمر، وضعها الملك، تحت بعض فقرات التقرير.

        وقبل نهاية اليوم، قدم حيدر باشا استقالته، من منصب القائد العام، ونصها "مولاي صاحب الجلالة: أتشرف بأن أرفع، لجلالتكم، أنني سبق أن أبديت، مراراً، رغبتي في التنحي عن العمل، والآن أرى أنني في أشد الحاجة إلى الراحة، من عناء الأعمال، فألتمس من جلالتكم التفضل بصدور أمركم الكريم بإعفائي من منصبي. وأنني سأكون، على الدوام، الخادم المخلص الأمين. محمد حيدر".

        وفي خلال اليوم، عقد أعضاء الوفد، بالإسكندرية، اجتماعاً لبحث الموقف، اشترك فيه زكي العرابي باشا، رئيس مجلس الشيوخ، والوزراء السابقون، عثمان محرم باشا، وعبدالفتاح حسن باشا، والدكتور محمد صلاح الدين باشا، وإبراهيم فرج باشا. وفي خلال اليوم، عقدت السفارة البريطانية مؤتمراً صحفياً، للصحفيين الأجانب، وأذاعت بياناً قالت فيه أن بريطانيا لا دخل لها في الحالة، في مصر، وأنها لا تتدخل في شؤونها الداخلية، ما دامت أرواح وأموال البريطانيين لا تمس.

        كان الملك، في يوم 23 يوليه، مقيماً بقصر المنتزه، الذي لا يعتبر مقراً رسمياً للحكم، بل منتجعاً صيفياً، أما المقر الرسمي، في عاصمة البلاد الثانية، فهو قصر رأس التين، فبينما كانت هذه الأحداث تتابع، بين القاهرة والإسكندرية، هُرع، إلى قصر رأس التين، عدد من الشخصيات السياسية والعامة وقيدوا أسماءهم في سجل التشريفات، كما جرى العرف في المناسبات المختلفة، ولعل أحداث ليلة يوليه كانت من بينها، وفيما يلي قائمة الأسماء المدونة في الصفحة الأخيرة، من سجل التشريفات، المحفوظ بقصر رأس التين، مع صفة كل منهم، كما دونها أمام اسمه:

حقي العظم                    رئيس وزراء سورية السابق

سامي العظم                    وكيل وزارة العدل في سورية سابقاً

أحمد زكي بك                    وزير الشؤون الاجتماعية السابق

حسين كامل الغمراوي (بك)                    وزير التموين السابق

محمد علي الكيلاني (بك)                    وزير الزراعة السابق

مؤيد العظم                    قنصل سورية بالإسكندرية

فريق إبراهيم عطاالله (باشا)                    رئيس الأركان السابق

علي زكي العرابي باشا                    رئيس مجلس الشيوخ

محمد صلاح الدين باشا                    عضو مجلس الشيوخ

عبدالقادر مختار بك                    مدير سابق

عزالدين عاصم                    أمين الشهر العقاري بدمنهور.

موقف أحرار الإسكندرية

        فور سماع الضباط الأحرار، بالإسكندرية، بقيام حركة الجيش، من الإذاعة، صباح يوم 23 يوليه، تحركوا بثبات، ووعي، تحت قيادة قائدهم، البكباشي أحمد عاطف نصار (من المدفعية الساحلية) وسيطروا على المدينة تماماً، حسب الخطة الموضوعة.

        ويقول البكباشي أحمد عاطف نصار: "ذهبت إلى القاهرة، قبل الثورة، ببضعة أيام، والتقيت البكباشي جمال عبدالناصر، الذي أخبرني بالاستعداد للثورة، خلال أيام قليلة جداً، وأنه سيخطرني بساعة الصفر، قبلها بأربعة وعشرين ساعة، ثم طلب مني العودة إلى زملائي بالإسكندرية، وأن نكون على استعداد، منذ لحظة وصولي مباشرة إليهم، نفذت كل هذا بدقة شديدة. وقد حدث تقصير في عدم إبلاغنا بساعة الصفر، فقد ذكر لي جمال عبدالناصر، بعد الثورة مباشرة، أن أحمد حمروش، بعد أن تلقى التعليمات، من جمال عبدالناصر، عصر يوم 22 يوليه، بساعة الصفر، سافر إلى بلدته بالبحيرة، ولم يتوجه إلى الإسكندرية. وبالفعل ظهر حمروش بيننا، يوم 25 يوليه 1952، ولم يقل شيئاً. ولقد فسر البعض موقف أحمد حمروش بأنه كان ينفذ تعليمات "حركة حدتو الشيوعية"، التي تضمه سراً، وكانت تعليماتها إلى أعضائها، من الضباط الأحرار، هي العمل على إفساد هذا الانقلاب العسكري، وقد التزم بها حمروش فقط، ولذلك لم يقرر له عبدالناصر معاشاً استثنائياً، ولم يهتم به، إلا بعد التحول نحو الشرق والاتحاد السوفييتي، الذي بدأ مع عام 1962، ومن هنا لم يذكروا اسمه في الوثيقة الرسمية، بأسماء الضباط الأحرار، التي أصدرها الرئيس السادات عام 1972".

        ويبين البكباشي أحمد عاطف نصار الأسلوب، الذي تحركوا به، صباح 23 يوليه 1952 بقوله: "كانت خطتنا، التي وضعتها مع زملائي أن نسيطر على الوحدات العسكرية، من داخل هذه الوحدات، ونقوم بعزل القادة القدامى، من دون أن تتحرك وحداتنا، خارج المدينة. وبعد أن استمعنا إلى البيان الأول للثورة، اتخذت رئاسة الألاي الثاني للمدفعية المضادة للطائرات، بمنطقة السلسلة، مقراً مؤقتاً لقيادة الثورة بالإسكندرية، لقربه من المرافق الحيوية، ولتوسطه الوحدات العسكرية. وسيطرنا على مركز القيادة العامة للقوات المسلحة، بالمدينة، وعلى رئاسة المنطقة الشمالية، بثكنات مصطفى كامل، وأجهزة الأمن العام، بالتعاون مع ضباطها من الشرطة، ومصلحة التليفونات، وشبكاتها، ومطاري الدخيلة والنزهة، وجميع المرافق الحيوية بالمدينة.

        "ولما كان للشبكة الحديدية الغاطسة، في مدخل ميناء الإسكندرية، أهمية بالغة، في نجاح الثورة فهذه الشبكة، كما هو معروف، تابعة للقوات البحرية، ومن بينها عناصر قيادية مساندة للملك، فقد احتلت قوات المدفعية الساحلية غرف تشغيل الشبكة الحديدية، لمنع تحرك أي قطعة بحرية، يفكر ضباطها في نجدة الملك. وأذكر أن الفريق أول سليمان عزت، قائد القوات البحرية، حتى عام 1967، وكان في بداية الثورة، برتبة بكباشي، حاول أن يستقل لنشاً، ولكن ضباطنا منعوه، وأحكموا غلق الميناء، مع تغطيتها بنيران المدفعية الساحلية، لمنع دخول، أو خروج، أي قطع بحرية تهدد المدينة، أو تعمل على تهريب الملك".

        "ثم قمنا بتحريك قوات المشاة، من مواقعها إلى المواقع الجديدة، طبقاً للخطة، وكلفت، مع وحدات المدفعية الساحلية، وحدات المدفعية المضادة للطائرات، بحماية مداخل الإسكندرية براً، وجواً وبحراً. "وجهنا بعد ذلك المدافع الساحلية إلى قصري رأس التين، والمنتزه، لمنع فاروق من القيام بأي تصرف طائش، كما وجهت بعض المدفعيات لمواجهة عدة قطع بحرية، كنا نعتقد أنها ستساند الملك، وفي صباح 24 يوليه، جاء إلينا ضباط القوات البحرية، وأعلنوا تأييدهم للثورة، وتضامنهم معنا، وعملنا على عزل اللواء محمود بدر قائد البحرية، وتعيين العقيد بحري حمدي ناشد، قائداً موقتاً لها.

        "كما قامت المدفعية المضادة للطائرات، إلى جانب واجباتها الأرضية، بحماية سماء المدينة، وسمحت لطائرات ضباط الطيران الأحرار بالتحليق فقط، وقبضنا على طيار الملك، حسن عاكف، حين هبط بطائرته، في مطار الدخيلة للتزود بالوقود، واستولينا على طائرته.

        وفي الساعة الرابعة من بعد ظهر 23 يوليه، اتصلت تليفونياً بالبكباشي جمال عبدالناصر، في القاهرة. وأبلغته بتمام السيطرة على الإسكندرية، عسكرياً، ومدنياً، ثم نقلت مقر قيادتنا إلى مبنى القيادة العامة، بثكنات مصطفى كامل، وعلمت من أفراد المراقبة، الموضوعة على قصر المنتزه، أن الملك وأسرته، استقلوا عربات لوري للنقل، بعد منتصف ليلة 24 يوليه، إلى قصر رأس التين، فحاصرنا القصر بالقوات والمدفعيات.

        "حاول فاروق استغلال اللواء وحيد شوقي، مدير خفر السواحل، لترتيب مظاهرة من جنوده، تهتف بحياة الملك، وعلمنا أن بعض السياسيين القدامى، ممن كانوا بالإسكندرية، تعاونوا معه، من أجل إعداد هذه المظاهرة، فعملنا على إجهاضها، بأن طفنا بعربات كثيرة، مزودة بالميكروفونات، بين أنحاء الإسكندرية، نشرح للجماهير أهداف الجيش من ثورته، واستمرت هذه السيارات تجوب المدينة عدة أيام، وحولها تجمعات من شباب، وطلبة جامعة الإسكندرية، الذين التحمنا بهم عام 1951، ودربناهم على استخدام السلاح، في منطقة القناة، ضد قوات الاحتلال البريطاني. وكان دور هؤلاء الشباب هو حماية مرافق، ومحال المدينة، من عمليات التخريب، المستترة خلف التجمهر، والهتاف للجيش، واللواء محمد نجيب. وبالفعل، حاول بعض المخربين، بإشراف ضباط البوليس السياسي، أن يقوموا بمظاهرة ظاهرها الترحيب بقائد الثورة، وباطنها الاعتداء على أرواح وممتلكات الأجانب، حتى يكون ذلك ذريعة لتدخل أجنبي عسكري للإطاحة بالثورة، فطلبت من البكباشي جمال عبدالناصر، أن يذيع اللواء محمد نجيب، في الراديو، كلمة تحية لأهالي الإسكندرية، يرسلها لهم من القاهرة، وكانت أجهزة البوليس السياسي قد أشاعت أن اللواء محمد نجيب جاء الإسكندرية، مساء 23 يوليه. وحين أذاع الراديو كلمة القائد العام الجديد، من العاصمة، انصرفت التجمعات، وفشل مخطط أعداء الثورة.

الخميس 24 يوليه

        بدا وكأن الحياة عادت إلى سيرتها، قبل الحركة، فقد نشرت جريدة البلاغ المسائية تقول: "إن القاهرة يسودها الهدوء، وانصرف الجميع إلى أعمالهم، مستبشرين، بعد أن انجلى الموقف عن نجاح حركة الجيش".

1. القاهرة في 24 يوليه

        في الساعة الرابعة صباحاً: دب النشاط في القيادة العامة، بكوبري القبة، وظهر اللواء محمد نجيب في مكتبه. وكان قد غفا، أقل من ساعة، في غرفة مجاورة، حيث أُعد لنومه سرير صغير، وتوافد الضباط لاستكمال بحث التطورات. وفي السادسة والنصف صباحاً، خرج اللواء محمد نجيب، في سيارة صفراء مكشوفة، تحت الحراسة، وبصحبته ضابطان هما البكباشي جمال عبدالناصر، واليوزباشي إسماعيل فريد. واتجه الموكب إلى منزل علي ماهر باشا، في الجيزة، والذي كان مقرراً أن يسافر بالسيارة، في الساعة السابعة، ثم عدل عنها إلى السفر بقطار الساعة الثامنة، وكان في استقباله محمد علي ماهر، الذي انتدبه أبوه من وزارة الخارجية، سكرتيراً خاصاً له، واجتمع اللواء محمد نجيب برئيس الوزراء، في الطابق العلوي، لمدة ربع ساعة، خرجا بعدها إلى محطة باب الحديد، في سيارة رئيس الوزراء، تتبعها سيارة القيادة، وبها الضابطان جمال عبدالناصر، وإسماعيل فريد، وفي المحطة، التي ازدحمت بالمواطنين، دخل الجميع من باب الوزراء، الذي فُتح لهم، وأحاط بهم جمهور كبير. وارتفع الهتاف بحياة علي ماهر، منقذ البلاد، وبحياة محمد نجيب، بطل اليوم، مطهر الجيش، وارتفع هتاف: "الجيش هو الشعب، والشعب هو الجيش"، واستمرت المحادثات بين علي ماهر وممثلي القيادة، في عربة القطار، حتى تحرك.

        في الثامنة صباحاً، عاد اللواء نجيب إلى القيادة، بعد مبارحة المحطة، وفي طريقه، زار الكلية الحربية، وتفقد معتقل كبار الضباط، للاطمئنان على راحتهم، ثم انتقل إلى إدارة التدريب، واجتمع بممثلي أسلحة الجيش، من رتبة صاغ وبكباشي، واشترك، في هذا الاجتماع، البكباشي جمال عبدالناصر والبكباشي زكريا محيي الدين، وقائد الجناح عبداللطيف بغدادي، والصاغ عبدالحكيم عامر، وناقش معهم الموقف، من جميع نواحيه.

        ويذكر اللواء نجيب: "ذهبت لزيارة كبار الضباط، المقبوض عليهم، في معتقل الكلية الحربية، ووعدتهم بالإفراج عنهم، في أقرب وقت. وفي اليوم نفسه، قررنا الإفراج عنهم جميعاً، ما عدا 34  شخصاً، من بين 236 سجيناً، كانوا من ذوي الميول الشيوعية ".

        في التاسعة والنصف صباحاً، استقبل القائد العام النائب العام السابق، محمود عزمي بك، الذي نُحي عن منصبه، بسبب موقفه من محاكمة رجال الحاشية، ممن وردت أسماؤهم في قضية الأسلحة الفاسدة. وفي العاشرة والنصف صباحاً، وصل مصطفى صادق بك، عم الملكة، إلى القيادة، وتقدم بعروض جديدة، ولكنها رُفضت.

        في الثانية ظهراً، عقد اللواء محمد نجيب اجتماعاً، في مكتبه، حضره رجال الصحافة. وأعلن فيه أن الأمن مستتب، في أنحاء البلاد وزمامه في يد قيادة الجيش، وأكد أن الحركة لا علاقة لها بالسياسة ولا الحزبية، وصرح بأنه قرر الإفراج عن عدد آخر من كبار الضباط المعتقلين كما أشار، في ختام حديثه، إلى أنه وزملاءه، لم يذهبوا إلى بيوتهم، منذ أيام، وأنهم ينامون على مقاعد العمل، بملابس العمل.

        في الرابعة عصراً، عقد القائد العام مؤتمراً صحفياً، اشترك فيه مندوبو الصحف المصرية والأجنبية، ووكالات الأنباء، وأجاب على أسئلة أكثرها من ممثلي الصحف، والوكالات الأجنبية، وتضمنت ردوده:

  1. إننا لا نتدخل في السياسة، وحركتنا غير سياسية على الإطلاق، وكل ما قمنا به من عمل إنما هو لصون الأمن العام من أي اضطراب.
  2. أهم واجبات الحركة هو حماية الأجانب.
  3. هدف الجيش تطبيق الدستور، وعدم تدخل الطفيليين، لأن جميع المتاعب، التي أصابت البلاد كانت منهم.
  4. قلناها صريحة إننا نريد تطبيق الدستور، الذي ينص على أن بلادنا ملكية دستورية.
  5. إننا لا نفكر في إشراك رجال القوات المسلحة في الانتخابات، وفي إعطائهم هذا الحق، وهذا رأيي، منذ ست سنوات.
  6. يظل إشراف الجيش على الإذاعة، والأماكن، التي يعسكر فيها، حتى تتبين القيادة أن الأمور تحسنت. وأن الأمن قد استتب وأن الحركة حققت النتائج التي أردناها للوطن والجيش.
  7. إن عدد المعتقلين من الضباط بسيط. والمقصود إبعاد الضباط الكبار عن وحداتهم، حتى لا تتعدد الأوامر.
  8. عن اشتراك مصر في قيادة الشرق الأوسط، رفض القائد العام الإجابة، باعتبار أن موضوعه سياسي.

        في الخامسة مساءً، استقبل القائد العام ستة، من ضباط قيادة الإسكندرية، ودامت المقابلة ربع ساعة. وفي 8,45 مساءً، ذهب قائد الحركة إلى دار الإذاعة، بشارع علوي، حيث استقبله وكيلها، علي خليل بك، وكبير المذيعين، حسني الحديدي. وبعد أن أجرى بعض التجارب، أمام الميكروفون، انتقل إلى استديو التمثيليات، وأذاع أول بيان بصوته.

بيـان الثورة

        يذكر اللواء محمد نجيب:

        وبعد العشاء، أذعت أول بيان بصوتي، قلت فيه:

        "إخواني أبناء وادي النيل، لشد ما يسرني أن أتحدث إليكم، مع ما أتحمله، في هذه اللحظات، من مسؤوليات جسام، لا تخفى عليكم، فقد حرصت على أن أحدثكم بنفسي، لأقضي على ما ينشره خصومكم، وخصوم الوطن، من شائعات مغرضة، لهذا أعلنا، منذ البيان الأول، أغراض حركتنا، التي باركتموها، من أول لحظة، ذلك لأنكم لم تجدوا فيها مغنماً لشخص، ولا كسباً لفرد بل أننا ننشد الإصلاح والتطهير في الجيش، وفي جميع مرافق البلاد، ورفع لواء الدستور والمواقع، إن أشد ما أسفت عليه أن بعض ذوي النفوس الضعيفة، لا يزالون ينشرون الشائعات المغرضة عن حركتنا. إن حركتنا نجحت لأنها باسمكم، ومن أجلكم، وبهديكم، وما يملأ قلوبنا من إيمان إنما هو مستمد من قلوبكم.

        بني وطني:

        "إن كل شيء يسير على ما يرام، وقد أعددنا لكل شيء عدته، فاطمئنوا إلى نجاح حركتنا المباركة، ولا تنصتوا إلى الشائعات، واتجهوا بقلوبكم إلى الله العلي القدير، وسيروا خلفنا، إلى الأمام، إلى رفعة الجيش، وعزة البلاد، والله نسأل أن يسدد خطانا، وأن يطهر نفوسنا. وأنتهز الفرصة، لأؤكد لكم أن كل شيء يسير، على ما يرام، مرة أخرى. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته".

        والملاحظ، في كلمة قائد الحركة، اللواء محمد نجيب، أنه أشار إلى الحركة بأنها" "الحركة المباركة"، ولم يصفها بأنها انقلاب، أو ثورة. وقد شاع لفظ "الحركة المباركة"، في وسائل الإعلام، على أثر ذلك.

        دارت هذه البيانات، والبلاغات والتصريحات، والردود الصحفية، التي توالت في يوم واحد، على لسان القائد العام، حول محاولة التأكيد بأن الحركة قد استقرت، بعد أن جاوزت مرحلة المغامرة وذلك بسبب مساندة الشعب لها، لأنها قامت باسمه، وتعمل من أجله، في ظل دستور البلاد، ثم التأكيد بأن الأمن مستقر على الرغم من الشائعات. ولا جدال في أن هذا التأكيد المتكرر يعني أن القلق، ما زال مستولياً، على قادة الحركة، حتى بعد نجاح مرحلتها الأولى، إذ الموقف مازال غامضاً، بالنسبة لتحركات الملك، وكذلك بالنسبة للحكومة البريطانية على الرغم من البيانات، التي أذاعتها.

        في هذا اليوم، أجاب رئيس الوزراء البريطاني، تشرشل، في مجلس العموم على سؤال لزعيم المعارضة، ورئيس حزب العمال "أتلى"، أشار فيه إلى أن فريقاً من ضباط الجيش في مصر، لم يكن راضياً عن الأوضاع القائمة، قد تولى زمام السلطة في القاهرة، وأن الأمن مستتب، والواضح أن البوليس يستجيب لرغبة الجيش، ويتعاون معه في صون النظام، وليس، في هذا كله تهديد لأرواح البريطانيين وممتلكاتهم.

       ولكن في الوقت نفسه، استدعت الحكومة البريطانية سفيرها في القاهرة، السير "رالف ستيفنسون"، الذي كان يقضى إجازته بفرنسا، ومن ناحية ثالثة، وصلت إلى ميناء بور سعيد، ناقلة الجنود البريطانية "شارلتون ستار"، قادمة من فاماجوسا في قبرص، تقل 750 عسكرياً. وترددت شائعات بأن الملك اتصل بالمستر جيفرسن كافرى، وطلب منه أن يتوسط لدى حكومته، في تيسير هروبه من مصر، على مدمرة أمريكية، وأن السفير رد بأن هذه طريقة غير لائقة، لخروج ملك من بلاده. ويبدو أن هذه الشائعات كانت متعمدة لتهيئة الرأي العام لخروج الملك.

        أعلن الرقيب العسكري، باسم القائد العام، أنه بسبب ما بدر، من بعض الصحف، من محاولة لنشر أنباء مشوهة، على الصحف أن تلتزم بالتعليمات، والضوابط، التي يرسلها إلى إدارات الصحف.

        أعلنت القوة، التي توجهت إلى منزل اللواء حسين سري عامر، مدير سلاح الحدود السابق، بضاحية الزيتون، لاعتقاله، بأنها لم تجد له أثراً في المنزل، بعد تفتيشه، وتردد أنه غادر البلاد إلى تركيا، وقيل أنه غادرها إلى ليبيا، وقيل أنه استقل طائرة، مع الطيار حسن عاكف، وهبط بها في منطقة فايد (أي معسكرات الجيش البريطاني). وفي الوقت نفسه، اتصل رئيس مخابرات الجيش، في مرسى مطروح برئاسة الجيش، في الإسكندرية، وأبلغها أن اللواء عامر، عبر الحدود الغربية إلى كابوتزو، في برقة. (ثبت بعد ذلك أنه مازال داخل الحدود المصرية).

        ويذكر البكباشي أحمد عاطف نصار قصة القبض على اللواء حسين سري عامر، كالتالي: "توجه اليوزباشي عمر عيد إلى مرسى مطروح، حيث وردت لنا معلومات، تفيد بأن اللواء حسين سري عامر يحاول جمع الأعراب، في الصحراء الغربية، لحساب الملك، وهناك اكتشف تجمعاً داخل أحد المخيمات، ووجد، بداخله، اللواء حسين سري عامر، يعمل على استنفار القبائل، مع بعض قوات الحدود، لنجدة الملك في الإسكندرية، فقبض عليه".

مجلس قيادة الثورة يقرر عزل الملك

        في مساء 24 يوليه، أبلغ علي ماهر قيادة الحركة، من الإسكندرية تليفونياً، أن الملك وافق على بعض المطالب ولكنه لم يوافق على طرد أفراد حاشيته، ثم لم يلبث الملك أن أذعن لمطالب الجيش، الخاصة بإبعاد أنطون بوللي، ومحمد حسن، (خادمه) الخاص والياس أندرواس، المستشار الاقتصادي، ويوسف رشاد، كبير أطباء اليخوت الملكية، وحسن عاكف، طيار الملك الخاص، والأميرالاي محمد حلمي حسين، مدير إدارة السيارات الملكية، وكان المطلوب إبعاد كريم ثابت كذلك، وتبين أنه استقال. وكانت لجنة قيادة الحركة، برئاسة اللواء محمد نجيب، قد قررت عزل الملك في اجتماعها، يوم 24 يوليه.

ويذكر اللواء محمد نجيب

        "كنا قد قررنا في اجتماع طويل، استمر ليلة 23 ـ 24 يوليه، أن نعزل الملك. وقررنا ألا يعرف علي ماهر هذه الحقيقة. وفي هذا الاجتماع كذلك، قررنا إرسال بعض المدرعات والمدفعية لدعم قواتنا، بالإسكندرية، استعداداً لعملية عزل الملك. وكانت قوات الإسكندرية، في ذلك، الوقت لا تتجاوز لواء مشاة، وبعض وحدات مدفعية السواحل والمدفعية المضادة للطائرات، وقد لا تكون كافية لحصار الملك، وإخراجه في هدوء. وكلفت البكباشي زكريا محيي الدين، بإعداد خطة تحرك القوات إلى الإسكندرية، وحصار الملك، وذلك امتداداً للخطة التي وضعها لتحريك القوات بالقاهرة".

        "وبدأ تحرك القوات للإسكندرية، القائمقام أحمد شوقي، قائد الكتيبة الثالثة عشرة مشاة، التي أدت دوراً بارزاً، ليلة الحركة، ليقود المشاة، والبكباشي يوسف صديق، قائداً لمدافع الماكينة، والبكباشي حسين الشافعي، قائداً للمدرعات، والبكباشي عبدالمنعم أمين، قائداً للمدفعية".

حضور رشاد مهنا من العريش

        كان رشاد مهنا، الذي أشار بفكرة اشتراك الضباط الأحرار في إنتحابات نادي الضباط، وهو المحرك الأساسي للانتخابات، وهو الذي رشح محمد نجيب ليوضع على رأس قائمة المرشحين، وليكون هو الرئيس، إذا نجحت الثورة. وهو الذي فاتحه في أمر الترشيح، لرئاسة النادي. كان لا يزال بالعريش يوم 23 يوليه، واتصل به، صباح 23 يوليه، الصاغ صلاح سالم، من رفح، وأخبره بقيام الثورة، وأنه سيكون مسؤولاً، عن رفح، ورشاد مهنا يكون مسؤولاً عن العريش. وكان، بحكم مركزه، مالكاً لزمام السيطرة على جميع قوات العريش. ومع ذلك، فإنه استمر في قيادته لهذه القوات، إلى أن تلقى ثلاث إشارات، من البكباشي عبدالمنعم أمين، عضو مجلس قيادة الثورة، من القاهرة، تطلب حضوره إلى القاهرة.

        وسافر إلى القاهرة، يوم 25 يوليه، ونظراً لمكانته بين ضباط المدفعية بصفة عامة، وبين ضباط أحرار سلاح المدفعية، بصفة خاصة، فقد استقبله عدد كبير منهم، عند وصوله إلى مطار القاهرة، بالاحترام والحماس، وتوجه معهم إلى مقر القيادة، فقوبل بفتور، من أعضاء مجلس القيادة اعتقاداً منهم أنه حضر، من دون استدعاء، وبشكل مظاهرة من ضباط المدفعية.

        يقول عبدالمنعم أمين: "اتصلت شخصياً برشاد مهنا، لكي يحضر إلى القاهرة. وكان ذلك  بوحي من عندي، من دون الرجوع للواء محمد نجيب، والبكباشي جمال عبدالناصر، أو مجلس قيادة الثورة، وكان ذلك، من خلال إحساسي به، كأحد قادة المدفعية، وكضابط من جيل الأساتذة، له قاعدته العريضة، من ضباط السلاح، ووجوده سيصبح عاملاً إيجابياً في تدعيم الثورة.

2 - الإسكندرية في 24 يوليه

وصول علي ماهر للإسكندرية:

        في الساعة 10,40 صباحاً، وصل القطار، المقل لرئيس الوزراء، علي ماهر باشا، إلى محطة سيدي جابر (ضاحية الإسكندرية) وكان، في استقباله، محافظ الإسكندرية، كمال الديب بك، والحكمدار لواء يسري قمحة بك، ورابطت، أمام المحطة، ست سيارات جيب، محملة بالجنود المسلحين، واحتشد جمهور راح يهتف باسم علي ماهر، منقذ البلاد، وسار الموكب العسكري إلى فندق سان استيفانو.

        وكان قائد حرس الوزارات، قد تلقى أمراً من القيادة العامة، بالقاهرة، بأن حراسة رئيس الوزراء أصبحت موكولة إلى الجيش وحده، ثم تم الاتفاق، بعد ذلك، على أن يشترك حرس الوزارات، مع رجال الجيش، في الحراسة، بحيث يؤدي كل فريق مهمته، في حدود التعليمات الصادرة له[2].

        في الساعة 11,50 صباحاً، استقبل رئيس الوزراء، في جناحه بالفندق، وفداً يمثل حزب الوفد، ضم رئيس مجلس الشيوخ، العرابي باشا، والوزيرين السابقين، محمد صلاح الدين باشا، وإبراهيم فرج باشا، وكان علي ماهر قد أعلن، قبيل ذلك، أنه سوف يجتمع مع زعماء الأحزاب، للتشاور في المسائل الكبرى.

        في الساعة 11,50 صباحاً، استقبل رئيس الوزراء، في جناحه بالفندق، إبراهيم عبدالهادي باشا، رئيس الوزراء الأسبق، ورئيس حزب الهيئة السعدية. ودامت المقابلة ثلث الساعة.

        في الساعة الثانية عشرة، غادر الإسكندرية وفد، يمثل القيادات العسكرية في الإسكندرية، إلى القاهرة للاجتماع بالقائد العام.

علي ماهر يقابل الملك

        في الساعة 1,15 ظهراً، قصد الرئيس علي ماهر قصر المنتزه لمقابلة الملك، واستمرت المقابلة نحو أكثر من ثلاث ساعات، وفيها أبلغ رئيس الوزراء الملك بمطالب الجيش، كما أشار، في لباقة، إلى التهم، التي توجهها قيادة الجيش الجديدة إليه، كتأليف الحرس الحديدي للانتقام من خصومه، وقرأ رئيس الوزراء أسماء رجال الحاشية، الذين يطلب الجيش إبعادهم، فوافق عليهم جميعاً باستثناء: بولي "الحلاق"، محمد حلمي حسين "قائد السيارات"، محمد حسن السليماني "الشماشرجي" باعتبار أنهم خدمه الخصوصيين، فرد علي ماهر معترضاً بقوله: كانوا في خدمة جلالتكم فعلاً، ولكنكم منحتم بولي رتبة البيكوية، من الدرجة الأولى، وكلفتموه بمهام، ليست مهام الخدم، ومنحتم محمد حلمي حسين رتبة الأميرالاي، وكلفتموه مقابلة ملوك العرب، وجعلتم خادمكم الخاص يشتغل بالسياسة، ويدير أعمال الدولة". وانتهت المناقشة بالموافقة على أن يستقيل الجميع من مناصبهم، ثم عرض رئيس الوزراء أسماء المرشحين لعضوية الوزارة الجديدة، وبعد المقابلة، أعلن علي ماهر أن الملك وافق على مطالب الجيش، ولم يبق منها سوى مسائل بسيطة لم يتسع الوقت لها.

وزارة علي ماهر تؤدي اليمين الدستورية أمام الملك

        في الساعة السابعة والنصف مساء، استقبل الملك في قصر المنتزه، رئيس الوزراء، وأعضاء الوزارة الجديدة لتأدية اليمين الدستورية، بحضور رئيس الديوان، الدكتور حافظ عفيفي باشا، والأمين الأول علي رشيد باشا، وكبير الياوران، بالنيابة عن اللواء عبدالله النجومي باشا. وفي نهاية المقابلة، دعا لهم الملك بالتوفيق إلى ما فيه خير الوطن.

        وكان الملك قد وجه كتاب التكليف إلى علي ماهر باشا، وجاء فيه: "عهدناكم صادق الوطنية، عظيم المقدرة، واسع الخبرة، والوطن اليوم، في اللحظات العصيبة، التي يمر بها، في أشد الحاجة لجهود الأمناء الأقوياء، من رجاله، ليؤدوا واجبهم نحوه، بما يحفظ كيانه، ويدعم بنيانه، ويوحد صفوفه إلخ.." وجاء في جواب علي ماهر قوله: "تفضلتم جلالتكم فحملتموني أمانة الحكم، في هذه الظروف الدقيقة، التي يواجه فيها الوطن أخطر الأزمات.. وأنى يا مولاي لمقدرٌ، أعظم التقدير، شرف ما أسبغتم علي من ثقة، فاستلهمت العون من الله، ومن عطف جلالتكم، معتمداً على ثقة الشعب الكريم، وتأييده، لما أنا متوجه إليه، من عمل حاسم منتج سريع، يرد الأمور إلى نصابها".

        ويُلاحظ أن رئيس الوزراء، الذي اختارته القيادة، لثقتها فيه، لم يشر أية إشارة، ولو عابرة، إلى الجيش، أو إلى قيادته الجديدة، بل كانت الإشارة إلى "ثقة الشعب الكريم"، وكذلك الإشارة إلى ما يشكو منه المواطنون، من دون تخصيص فئة معينة.

        ضمت هذه الوزارة، عند تأليفها عشرة وزراء فقط، (كانت وزارة الهلالي المستقيلة تضم خمسة عشر وزيراً)، وهؤلاء العشرة هم، مع حفظ الرتب: د.إبراهيم شوقي، إبراهيم عبدالوهاب، سعد اللبان، محمد علي رشدي، عبدالجليل العمري، ألفونس جريس، د. محمد زهير جرانة، محمد كامل نبيه، فؤاد شرين، عبدالعزيز عبدالله سالم، واحتفظ رئيس الوزراء بثلاث وزارات، هي الداخلية، والخارجية، والحربية.

        وفي الساعة الثامنة وخمس دقائق مساء، ذهب الوزراء، إلى قصر رأس التين، وقيدوا أسماءهم في سجل التشريفات كما جري العرف بذلك.




[1]  ومصطفى صادق كان ضابطا بسلاح الطيران ثم شغل منصب مدير شركة طيران سعيد.

[2]  وقد انتحر الأميرالاي محمد وصفى بك فيما بعد.

[3]  الكلفوات عبارة عن آنسات تركيات. يختارهن القصر وهن صغيرات السن من اللقيطات من ملاجىء تركيا!..وفى مصر يربين تربية خاصة لكي يصبحن رفيقات وخادمات خصوصيات للملكة والأميرات. وكان عدد الكلفوات الموجودات في قصر رأس التين يوم التنازل ستة.