إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / ثورة 23 يوليه، في مصر




وثيقة التنازل عن العرش
وداع علي ماهر
محمد نجيب وعبدالناصر
محاصرة قصر عابدين
مع ضباط الكتيبة (13) مشاة
لقاء مع الإخوان المسلمين
مقر مجلس قيادة الثورة
مقر رأس التين بالإسكندرية
اللواء محمد نجيب وعلي ماهر
الملك فاروق والسفير البريطاني
الملك فاروق في احتفال
البيان الأول للثورة
اليخت الملكي المحروسة
الرسالة الموجهة للملك فاروق
اجتماع مجلس قيادة الثورة
تعليمات بعودة اليخت المحروسة
دبابة أمام قصر المنتزه
زيارة للوحدات العسكرية





الفصل السادس

اجتماع الملك برئيس وزرائه

        اجتمع الملك برئيس وزرائه فترة في البهو العلوي من القصر، وكان الملك يرتدي بدلة القائد الأعلى للأسطول، البيضاء اللون، ثم هبط علي ماهر إلى البهو الأرضي، حيث السفير الأمريكي، وعدد من رجال الحاشية، منهم اللواء النجومي باشا، والسكرتير الخاص الدكتور حسن حسنى باشا، والطبيب الخاص عباس الكفراوي باشا، ووكيل الديوان أحمد علي يوسف بك.

نزول الملكة

        وفي الساعة الخامسة والنصف مساءً، نزلت الملكة ناريمان، وعلى عينيها نظارة سوداء، وبصحبتها أمها، السيدة أصيلة، وولي العهد، تحمله مربيته، وتبعتها الأميرات الثلاث: فريال وفوزية وفادية. ثم نزل الملك إلى الطابق الأرضي. وتوجه إلى القاعة، التي بها شقيقتاه، فوزية وفايزة، أما الشقيقة الثالثة الأميرة فائقة، فكانت قد سافرت مع زوجها، فؤاد صادق إلى هلسنكي، يوم 12 يوليه، لمشاهدة الدورة الأولمبية، ثم عاد الملك إلى البهو، حيث وقف المودعون، فسلم على رئيس الوزراء. وقال بصوت مسموع: "أنني أدعو لكم بالتوفيق، وأتمنى كل الخير للبلاد، وأسأل الله للجيش والبلاد كل نجاح". ثم سلم على السفير الأمريكي، وشكره على حضوره مرتين، في هذا اليوم، كما سلم على المودعين، من رجال الحاشية، وكان العلم الملكي قد أنزل من سارية القصر، على إثر نزول الملك، إعلاناً عن رحيله من القصر.

        وكان آلاي من الحرس، يتقدمه ضابط، برتبة ملازم أول، يحمل العلم، قد اصطف على الرصيف البحري للقصر، كما اصطفت موسيقى الحرس في المكان المخصص لها، فتفقد الملك آلاي الشرف، وعزفت الموسيقى السلام الوطني، عند ذلك تقدم حامل العلم، وطواه وسلمه إلى رئيس الوزراء، الذي سلمه إلى الملك كما تقضى بذلك التقاليد العسكرية، وألقى الملك نظرة أخيرة على قصر رأس التين، ولوح بيده محيياً مودعيه في نوافذ القصر، وعلى الرصيف البحري.

        استقل الملك يختاً أبيض، من اليخوت الملكية، وبصحبة بعض رجال الحاشية، حمله إلى المحروسة. وبمجرد صعود الملك إلى سلمها، رُفع العلم الملكي البحري الأزرق عليها، وعزفت موسيقى المحروسة السلام الملكي، وأطلق الطراد "الملك فاروق!" إحدى وعشرين طلقة من مدافعه، تحية للملك. وقد اختير هذا الطراد لوداع الملك، لأن لواءه كان معقوداً لأكبر ضباط البحرية، وهو أميرالاي محمد محمود ناشد، (قائد عام البحرية بعد ذلك). وكان على ظهر الطراد أنور السادات وعدد من ضباط الحركة، حسبما تم الاتفاق عليه مع رئيس الوزراء.

السادسة مساءً في ميناء الإسكندرية

        كان مما استقر عليه الاتفاق، استكمالاً لقواعد العرف الدبلوماسي، أن يكون القائد العام في وداع الملك. خرج القائد العام في عربة جيب واتجه إلى قصر رأس التين، إلا أن السائق ضل الطريق، إلى مدخل القصر. وحين دقت الساعة السادسة، نظر الملك إلى ساعته، واتجه إلى المرسى كما سبقت الإشارة، وبعد دقائق، وصل القائد العام، وصحبه إلى البهو المؤدي إلى الرصيف البحري. وكان رئيس الوزراء ما زال واقفاً. يقول محمد نجيب: "غادرت مقر قيادة المنطقة الشمالية، في وقت مناسب، وغاب عني ما اعترضني، أثناء الطريق، من تجمع أهل الإسكندرية، وازدحامهم لتحيتي، وتعطل المرور، كما أن السائق ضل الطريق، فبدلاً من التوجه إلى الميناء الملكي بقصر رأس التين، توجه إلى ميناء خفر السواحل خلف القصر. ولما عدنا إلى الميناء الملكي، كان الملك قد توجه إلى المحروسة، منذ أربع دقائق، ووجدت علي ماهر، وجيفرسن كافرى السفير الأمريكي، ومعه مستشار السفارة، وإسماعيل شيرين، ومحمد على رؤوف، وبعض ضباط الحرس، وقد بدا عليهم الوجوم، وران عليهم الصمت وسألني علي ماهر عما أنوي عمله الآن، فقلت له: "إني سأذهب إليه في المحروسة لوداعه، وفاء بوعدي". وأخذت لنشاً عسكرياً دار بنا، حول اليخت دورة كاملة، بما يعد تحية، في تقاليد البحرية، ولكني قلت لقائد اللنش إني أنوي الصعود. وكان زملائي يوجهون لي النصح بألا أقف على ظهر اللنش، لأن أحداً من أتباع الملك ربما يطلق علينا النار، وتتعقد الأمور. ولكني رفضت قائلاً: "قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا".

        كانت المحروسة في عرض البحر، وأثناء مرور اللنش بها، رأيت الملك واقفا على سطحها، بملابس القائد الأعلى للقوات البحرية، وينظر إلينا، فحييته التحية العسكرية، أنا ومرافقي من الضباط، ولكن الملك لم يرد التحية. ربما لأنه لم ينتبه إلينا، أو عاكسه ضوء الشمس عند الغروب. وصعدت المحروسة يتبعني القائمقام أحمد شوقي، والبكباشي حسين الشافعي، وقائد الجناح جمال سالم، وسكرتيري العسكري، اليوزباشي إسماعيل فريد. وكان الملك السابق ينتظرني، وعلى مسافة منه، إلى الخلف، وقفت الأميرات بنات الملك: فريال وفوزية وفادية، ولم تكن ناريمان موجودة.

        أديت التحية العسكرية، فرد فاروق بنفس الطريقة، ثم صافحني بيده. ومضت فترة سكون، سكون ثقيل، كأنه جبل. الملك يتوقع أن أتحدث، والقدرة على التعبير ضاعت، من رهبة الموقف، أأودع الشخص الذي كان يملك كل شيء حتى أيام قلائل، بينما كنت في منزلي أتوقع الخطر من جانبه. تخيلتها مباراة، المنتصر فيها يواسي المهزوم. ولكن الهزيمة قاسية، والبعد عن السلطة والوطن أمر غير يسير، بل فظيع.

        مرت اللحظات بطيئة، صمت ثقيل، الحواس توقفت عن العمل، لا نسمع صوت الأمواج، ونكاد لا نرى قرص الشمس، وهو على وشك المغيب. وبدا أن الموقف يتحول إلى مشكلة.

        وأخيراً خاطبته قائلاً: "أفندم" وليس "مولانا" ورويت له موقفي يوم 4 فبراير، منذ عشر سنوات، عام 1942. وقال الملك بعد أن كسرت حاجز الصمت:

        "إن مسؤوليتكم كبيرة، وإني أوصيك خيراً بالجيش المصري، فهو جيش آبائي وأجدادي".

        وقلت له:

        "إني أعرف أن الكولونيل سيف، أو سليمان باشا الفرنساوي، هو الذي بدأ تكوين الجيش المصري.

        ولاحظ فاروق أن جمال سالم يحمل عصاته، وهو في حضرته، فتوقف عن الحديث، وأشار له قائلاً:

        ـ ارم عصاك

        وحاول جمال سالم أن يعترض، ولكني منعته من ذلك، فألقى عصاه، ووقف وقفة فيها شيء من اللامبالاة:

        وقال الملك، وهو يصافحني مودعاً، بعد أن أديت له التحية العسكرية، كلمته التي ذكرتها:

        "انتم سبقتوني في اللي عملتوه، اللي عملتوه دلوقتي، كنت أنا راح أعمله".

        ثم استأذن الملك في تأجيل رحيل المحروسة نصف ساعة، حتى تصل بقية حقائبه، فوافقت بلا تردد، دون تفكير فيما يكون قد حمله معه، يكفي أنه رحل.

        كانت مباراة هزم فيها فاروق، وسباقاً مع الزمن تخلف فيه. وشكرت الله، وأنا أغادر المحروسة على أن المباراة كانت نظيفة وبيضاء. لم تكن مباراة دموية.

        كان علي ماهر مازال ينتظرنا، وكانت آثار الدموع مازالت في عينه، فقد كانت لحظات مغادرة الملك للقصر شديدة التأثير على المحيطين به، من الذين عملوا معه، أو حضروا لوداعه، في لحظاته الأخيرة، كما روى لي علي ماهر.

        كانت الموسيقى قد عزفت السلام الملكي، ثم أُنزل العلم الملكي، وطواه ضابط من ضباط الحرس، وسلمه إلى علي ماهر، الذي سلمه بدوره إلى الملك السابق فاروق. وأطلقت المدفعية 21 طلقة على شرف الملك السابق. وانتهى الوداع، في غاية الوقار، بعد أن أدى حرس الشرف التحية العسكرية ثم وقف الملك، بضع لحظات، مع علي ماهر وجيفرسون كافرى، ثم نظر إلى ساعته وقال:

        ـ الآن يجب أن أذهب فالساعة تكاد تشير إلى السادسة تماماً وصافح مودعيه بينما خدم القصر والمودعون يجهشون بالبكاء.

        سمعت هذه التفاصيل في شديد، ثم غادرت القصر إلى رحاب الجماهير، وأنستني تظاهرات الترحيب، والهتافات بحياة مصر والجيش، لحظات الوداع الخانقة، وجو القصور المصنوع، وشعرت أن صفحة جديدة قد فتحت في تاريخي، وتاريخ مصر.

        وكانت الإذاعة قد مهدت لذلك، منذ الخامسة مساء، بإذاعة بيانات تدعو الناس إلى الهدوء والنظام، وضبط الأعصاب والكياسة، في التصرفات، من دون أن تشتط في الفرح، أو تثور في الغضب.

كانت هذه هي رواية اللواء محمد نجيب، ولا تختلف، في التفاصيل، عن رواية الكاتب أحمد عطية الله، الذي كان مقرباً للواء محمد نجيب باستثناء ما يلي:

        قال محمد نجيب للملك: "يا أفندم أنني آسف للتأخير فقد أخطأ السائق في الاتجاه إلى ميناء السراي واتجه إلى ميناء خفر السواحل، خلف السراي خطأ (وهذه أول مرة يخاطب فيها شخص الملك بدون مولاي)، ثم قلت " يا أفندم لعلك تذكر أنى الضابط الوحيد، الذي قدم استقالته إليكم، في 4 فبراير، عقب الاعتداء البريطاني، وحصار الدبابات، وأنني اعتبرت أن الجيش لم يؤد واجبه نحوكم، فرد الملك بقوله: أنا فاكر وأرسلت لك الاستقالة مرفوضة، مع النجومي (أي الياور عبدالله باشا النجومي، وقد مر على الحادث عشر سنين)!. (وقلت): كان هذا مبلغ ولاءنا لكم. ولكن تبدلت الأمور، وأصبحنا وجهاً لوجه بسبب الحاشية، التي تحيط بكم، فأفسدت الأمور في سبيل منافعها الشخصية، وكان رد الملك أن هز رأسه مؤيداً ـ (قلت) أتمنى لكم رحلة موفقة ومستقبلاً طيباً. (قال): أشكرك ولا تنس أن حكم مصر من أصعب الأمور وكان الله في عونك، أوصيك خيراً بالجيش لأنه جيش آبائي وأجدادي! (قلت) أعرف أن جدك سليمان باشا الفرنساوي هو أول من أنشأه في عهد محمد على عام 1820.

        ".. كان خلفي، وعلى بعد عدة خطوات، الأميرات بنات الملك والمربيات، وسمعت بكاءهن، ورأيته وقد أغرورغت عيناه بالدموع، فكان ذلك مثيراً لشعوري فاغرورقت عيناي، (قال لي) لـي طلب عندك وهو تأجيل تحرك المحروسة، نصف ساعة، حتى تصل بعض حاجاتي، فاستجبت لطلبه. وفعلاً تأخرت المحروسة نصف ساعة، وشاهدت، عند انصـرافي، عند رصيف رأس التين، قارباً يندفع إلى المحروسة يحمل 17 صندوقاً، أبرقنا بعد ذلك إلى القنصل المصري، في نابولي، بتفتيش الأمتعة، والتأكد من محتويات المحروسة؛ وفعلاً قدم بعد ذلك كشفاً بهذه المحتويات، ووجدنا، من بينها، صناديق بها مشروبات روحية، مع العلم بأن الملك لا يشرب الخمر!.

        مر هذا الحدث التاريخي من دون أن تسجله صورة فوتوغرافية، حتى أن الملك لمح أحد المصورين، يحاول أخذ صورة، فصاح: "يا جلال (جلال علوبة) ابعد هذا الرجل من هنا". فهرع قائد اليخت، وأبعد الرجل. وهكذا مرت أعظم لحظة، في هذه الدراما من دون أن تُسجل في صورة.

        في الساعة 6,45 مساءًا، تركت المحروسة مرساها قاصدة إيطاليا وأعطيت الإشارات إلى جميع قطع الأسطول فرفعت أعلام "مع السلامة. خرجت المحروسة، من بوغاز ميناء الإسكندرية، في منتصف الساعة الثامنة من مساء 26 يوليه، واتجهت إلى نابولي. وكان طاقمها يتألف من نحو (150)، ما بين ضابط وبحار وعامل، وصحب الملك أربعة من ضباط الحرس عادوا إلى الإسكندرية على المحروسة. أما الحاشية، التي صحبت الملك والملكة وولي العهد والأميرات الثلاثة، فكانت تضم: مربية ولي العهد الإنجليزية، "آن شيرم سايد"، والمربية السويسرية، جانيت ميير (ليست يهودية)، ومربية الأميرات الفرنسية، "سيمون"، ومساعدتها مدام بيكار، (فرنسية كذلك)، ووصيفة الملكة "فيوليت علي"، سويسرية، كان أبوها يعمل في فندق سميراميس. ثم الحلاقين الإيطاليين "جوزيب جارو وبيتر ديلا فالي"، ومدرب الكلاب السويسري "إدوارد كافاتس"، كما ضمت الحاشية حرس الملك الخاص، ويتألف من أربعة من الألبانيين الأشداء، يعرفون بأسمائهم الفردية: "يعقوب، وشاكر، ورستم، وأدهم".

        كانت البرقية الوحيدة، التي التقطتها المحروسة، في السابعة من مساء اليوم نفسه، كالتالي: "فاروق. الباخرة المحروسة في حفظ الله. فؤاد أباظة". وكان فؤاد أباظة باشا مديراً للجمعية الزراعية الملكية، ومن الشخصيات البارزة، التي أدت خدمات جديرة بالتقدير في تنظيم المعرض الزراعي الصناعي، وفي تنمية الوعي الزراعي، وقد تسببت هذه البرقية في فقدانه جميع مناصبه، وتنكرت الحركة لماضيه.

        وفي الوقت نفسه، أرسل رئيس الوزراء برقية، بالفرنسية، إلى سفير مصر في روما، الدكتور محمد عبدالمنعم بدر، يطلب منه إخطار الحكومة الإيطالية بأن يكون استقبال الملك أحمد فؤاد الثاني، بما يقتضيه العرف الدبلوماسي. ومن ثم أرسلت الحكومة الإيطالية إلى السلطات المسؤولة، في ميناء نابولي، تعليمات باتخاذ كل التسهيلات اللازمة، انتظاراً لوصول اليخت المحروسة، وكان من المقرر أن ينتقل الملك وحاشيته، على إثر الوصول إلى نابولي، من المحروسة إلى يخته الخاص "فخر البحار"، الذي غادر ميناء الإسكندرية، في يوم 17 يوليه، بقيادة البكباشي بحري محمد حمدي الكريدلي، ياور الملك البحري، ويضم طاقمه نحو عشريـن من البحارة، ليشترك في مسابقة لليخوت، تجري ما بين كابري ونابولي. وعندما أعلن الملك تنازله عن العرش، يوم 26، كان اليخت في طريق عودته إلى الإسكندرية، لهذا كانت المهمة العاجلة هي إخطار قائد اليخت بالتطور المفاجئ للأحداث، وإعادته إلى إيطاليا، ليكون في انتظار الملك، وكانت هذه تعليمات الملك إلى ضابط اللاسلكي في المحروسة، وبعد محاولات، تم الاتصال باليخت، فأجاب قائده ببرقية إلى المحروسة: "أمرنا بتغيير اتجاه اليخت إلى كابري وانتظار الأوامر. محمد حمدي". كان لهذه البرقية أثر بالغ على الملك، الذي تهلل وجهه فرحاً، وهو يهبط برج اللاسلكي ويردد "عال. عال. برافو حمدي"، ثم دخل غرفته الخاصة، وراح يتابع النشرات الإخبارية من شتى محطات الإذاعة.

        دخلت المحروسة ميناء نابولي، في الصباح وكان في استقبالها السفير المصري د.محمد عبدالمنعم بدر، وعدد قليل من أعضاء السفارة، وعمدة نابولي، وعدد قليل من الشخصيات العامة وبعض الصحفيين، وكان الملك يتفادى المصورين بصفة خاصة، وكانت التعليمات، التي أصدرها البوليس الإيطالي، تقضي بعدم نزول أحد من بحارة المحروسة، وبحارة اليخت فخر البحار، إلى الشاطئ، وعدم السماح لأحد بالنزول، سوى الملك وابنه، والملكة، والأميرات، ولكن لم ينزل منهم أحد، إذ أن اليخت فخر البحار ما أن وصل إلى كابري حتى عاد إدراجه إلى نابولي فكان في انتظار المحروسة، وبدأت عملية نقل أمتعة الملك من المحروسة إلى اليخت وكانت الملكة تشرف، بنفسها، على هذه العملية.

        ومما هو جدير بالذكر أن الملك كان شديد الرغبة في أن يكون أنطون بوللي ضمن حاشيته. ولعل، من أسباب هذه الرغبة، أن بوللي وإلياس أندرواس يعرفان الرقم السري لأرصدة الملك في البنوك (وقد اعتقلا في يوم 28 من الشهر)، ولعل هذه الرغبة هي التي أوحت لأحد المغامرين، الذين ينسبون لآل كابوني، ويدعى "نوفارو فرنانديز"، بإرسال برقية تهنئة إلى الملك السابق، يعرض عليه أن يقوم بخطف أنطون بوللي، من معتقله في مصر، بطائرة، أو مظلة، نظير (150) ألف دولار، وكاد الملك أن يقع في الفخ، لولا أن تبين له أن فرنانديز مقامر، ونصاب عالمي. كما يجدر الذكر أن السكرتير الثالث بالسفارة، أمين فهيم، قدم استقالته. وأعلنت الصحف قبولها، بعد يومين، ودخل في خدمة الملك، نحو ثلاثة أعوام، ثم اعتزلها، وعاد إلى الوطن ليباشر نشاطاً خاصاً.

        وما أن انتهت مهمة نقل أمتعة الملك والحاشية إلى فخر البحار، حتى تهيأت المحروسة لرحلة العودة، وليبدأ الملك السابق، وهو بعد في الحادية والثلاثين من عمره، مرحلة جديدة، لم تطل، إذ يظل ينتقل بين إيطاليا وإمارة موناكو، التي منحته جنسيتها، حتى وفاته بمدينة روما في 18 مارس عام1965، ثم نقل جثمانه إلى القاهرة، ودفن أولاً مع جده إبراهيم باشا، في مقبرة واحدة، حتى نقل إلى ضريحه بجوار أبيه، في مسجد الرفاعي.

عناصر نجاح الثورة

        يذكر محمد نجيب، في مذكراته إنه يعتبر رحيل فاروق أهم نجاح عناصر الثورة، فيقول: "لازلت، حتى اليوم، أعتبر رحيل الملك أهم عناصر نجاح الثورة، التي اعتبرها أهم حادث وقع، في تاريخ مصر الحديث. إن كل الذين كتبوا عن الثورة لم يعطوا رحيل الملك، ولا تنازله عن العرش، الاهتمام المناسب لأهمية مثل هذه الحوادث التاريخية، حتى إن الأجيال الشابة، التي لم تعش أحداث الثورة، أحست أن ما فعلناه لم يكن يستحق كل ما يقال عنها.

يقول سليمان حافظ، وكيل مجلس الدولة، ومستشار رئاسة مجلس الوزراء، في صفحة مذكراته الخاصة التي كان محمد نجيب يحتفظ بأوراقها:

        سمعت جلجلة الدبابات، على طريق الكورنيش، في سبيلها إلى قصر المنتزه، وشاهدتها تسير على بعد. انطلقت مسرعاً إلى دار الوزارة ببولكلي، ومنها أبلغت بالتليفون ما رأيت إلى الرئيس علي ماهر، بفندق سان استيفانو، فوعدني بالمجيء فوراً. وما كدت أستقر، حتى تحدث بالتليفون، من قصر رأس التين، من أخبرني أن الجيش يحاصر القصر ويطلق نيرانه عليه، طالباً مني أن أبلغ ذلك إلى رئيس مجلس الوزراء، وفجأة انقطعت المحادثة. ثم تكرر هذا الحديث من السفارة الأمريكية، فأبلغت فحوى الحديثين إلى الرئيس، وفهمت منه أنه سيقصد قصر رأس التين، على الفور، ثم يعود إليّ.

        وبعد دقائق، وصل المستر سبارك، من السفارة الأمريكية، وأخبرني في لهجة، يخالطها كثير من الانفعال، أن الجيش يحاول اقتحام القصر بالقوة، وأن ذلك ليس في مصلحة أحد، فأفهمته أنني لست من رجال السياسة، بل إنني المستشار القانوني، لرئيس الوزراء فيجدر به أن يستبقى حديثه لحين حضوره، ودعوته إلى تناول القهوة معي، فأمسك عن الكلام مستنكراً ما بدا من هدوء مني، ظنه بروداً ثم أجاب دعوتي.

        وجاء القائد العام، لموعد سابق مع الرئيس، فتقابلا على خلوة، وعلى أثر ذلك، عهد إلىَّ الرئيس أن أعد وثيقة لنزول الملك عن العرش، فاشتركت مع الدكتور السنهوري، رئيس مجلس الدولة، في إعدادها. وفي هذه الأثناء، كان القائد قد عاد إلى دار الوزارة، بصحبة قائد الجناح جمال سالم. وبعد تعديل في صيغة النزول، طلب منى التوجه إلى قصر رأس التين، لتوقيعه من الملك السابق.

        ولم أقبل أن يصاحبني، في أداء هذه المهمة، أحد من العسكريين، تفادياً لأي احتكاك يمكن أن يحصل، بينه وبين فاروق، فأصررت على الذهاب بمفردي.

        وقد وقع فاروق الوثيقة، على الصورة التي تناولها تقريري، المؤرخ 11 أغسطس عام 1952، إلى ،رئيس مجلس الوزراء، وقد ضمنته تفصيلاً دقيقاً لما شاهدت وسمعت، في ذلك اليوم المأثور.

أما تقريره الرسمي عن تنازل فاروق فكان نصه:

        "القاهرة في 11 أغسطس عام 1952

        حضرة الرئيس علي ماهر، رئيس مجلس الوزراء

        طلبتم مني تقريراً مفصلاً عن المهمة، التي كلفتوني بها، في خصوص تنازل الملك السابق عن العرش، وإلى سيادتكم هذا التقرير.

        في ضحى السبت 26 يوليه 1952، وفي مصيف الوزارة ببولكلي، عهدتم إلى  بصياغة وثيقة تنازل الملك فاروق عن العرش، فآثرت ألا أنفرد بهذا الأمر، واشتركت مع حضرة الدكتور السنهوري، رئيس مجلس الدولة، في إعدادها.

        وكنا بين أن تصاغ في صورة كتاب، من الملك إلى رئيس الوزراء، أو في صورة كتاب ملكي، فآثرت الأخرى، واستلهمنا أسباب الأمر من مقدمة الدستور، ثم عرضنا المشروع عليكم بحضور اللواء محمد نجيب، القائد العام للقوات المسلحة، والبكباشي جمال سالم من سلاح الطيران الملكي. وبعد مناقشة وتعديل قليل، بناء على طلبهما، أقررتم المشروع، وأمرتم بنسخه على الورق المعد للمراسيم. وطلبتم مني التوجه إلى قصر رأس التين، لتوقيع الأمر من الملك، وقد وعد القائد العام بالاتصال، بالقوة التي تحاصر القصر للسماح لي بدخوله. وقد طلب البكباشي جمال سالم أن يكون في صحبتي ضابط، من القيادة العامة يحضر التوقيع، فصرفناه عن ذلك. واستقللت سيارة من حرس الوزارة منفرداً إلى قصر رأس التين. وفي طريقي إليه شاهدت بطارية من مدفعية الميدان الثقيلة أمام ثكنة خفر السواحل بالأنفوشي، مصوبة مدافعها إلى القصر، وهي على استعداد تام للعمل. وعند وصولي إلى ساحته الخارجية، رأيت نطاقاً من مدافع الميدان، والدبابات المسلحة، والمدافع الرشاشة، مضروباً على الساحة.

        وطلب مني الملازم المنوط بهذا الموقع، أن أستحضر له من القيادة العامة، إذناً مكتوباً بالمرور، فأبلغته أني في مهمة، يعلمها القائد العام للقوات المسلحة، وإنه كان قد وعد بإصدار هذا الإذن إليه مباشرة، وكلفته بالاتصال به تليفونياً، في هذا الشأن، فقصد الضابط إلى قائد القوة المحاصرة، وظللت، حوالي ثلث ساعة، حتى جاء البكباشي أنور السادات، في عربة جيب، فأمر بإفساح الطريق لي معتذراً من عدم وصول أوامر القيادة إلى القوة المحاصرة، لعطل مفاجئ في آلة اللاسلكي، وتبعني بعربته إلى الباب الخارجي للقصر، وكان مقفلاً، ثم انصرف.

        وعلى باب الفيلا استقبلني سيد، يرتدي الملابس المدنية، قال إنه الأميرالاي أحمد كامل، وأدخلني إلى صالة فسيحة مستديرة، في وسطها منضدة كبيرة، من الرخام الأسود المموه باللون الأبيض، وفي محيط الصالة، مقاعد كبيرة، تتخللها أخرى صغيرة، وإلى يمين الداخل إليها طرقة عريضة، فأجلسني على أحد المقاعد الكبيرة، وغاب داخل الطرقة برهة. ثم عاد، بعد قليل، وأخبرني أن الملك قادم لمقابلتي، ثم عاد ليغادر الحجرة لبرهة أخرى، وجاء ليقول ما محصلته أن الملك له أمنية، يريح خاطره أن تتحقق، فقد اعتقل رجال الجيش بوللي، والأميرالاي محمد حلمي حسين، عند خروجهما من القصر، صباح ذلك اليوم. وبوللي عزيز على الملك، إذ يلازمه منذ الطفولة، وهو سيسر، في هذا الظرف العصيب، إذا أمكن، بتوسطي، أن يُسمح لبوللي بالرحيل معه اليوم، لغير رجعة. وكذلك الأميرالاي محمد حلمي حسين، لو كان هذا مستطاعاً، وإلا فيكفي الإفراج عن بوللي، وتحدث في هذا الشأن طويلاً، فكنت أعده أن أتوسط في ذلك.

        ومر حوالي ربع ساعة، وأنا جالس في مكاني، وإلى جانب الطرقة اجتمع بعض الضباط، وبينهم قليل، ممن ظننتهم من المدنيين، وعلمت فيما بعد أنهم من ضباط الحرس الخاص، ثم خرج الملك من الطرقة وهو يرتدي اللباس الصيفي لادميرال في البحرية، وقصد المنضدة التي في وسط الصالة فنهضت، عند رؤيته، وقصدتها كذلك حتى التقينا، في جانب منها، فصافحني وأخرجت وثيقة التنازل من غلافها، وقدمتها له فتناولها سائلاً عما إذا كانت مُحكمة الوضع، من الناحية القانونية، فقلت: نعم وألقى عليها نظرة عاجلة، ثم سألني عن أسباب النزول عن العرش، فقلت إننا استلهمناها من مقدمة الدستور. وكان الملك يبدو هادئاً لكنني لاحظت، من سرعة خطواته، ومن سعلات قصيرة سريعة، كانت تنتابه عند مجيئه، أنه كان في حالة انفعال عصبي، يعمل جهده للسيطرة عليه.

        وعاد إلى قراءة الوثيقة مرة، ثم تناول قلما من جيبه، وقرأها مرة أخرى كلمة فكلمة فقال: "ألا يمكن إضافة كلمة "وإرادتنا" بعد عبارة "ونزول على إرادة الشعب"، قلت: "لقد وضعنا نزولكم عن العرش، في صورة أمر ملكي قال: "تريد أن تقول إن الأمر الملكي ينطوي على هذا المعنى"، قلت: "نعم"، قال: "فليس إذن ما يمنع من إضافة تلك الكلمة، فقلت: أننا لم نصل إلى الصيغة المعروضة عليه إلا بصعوبة، قال في اهتمام: إذن فقد كانوا يريدون مني أن أوقع ورقة أخرى، قل لي يا بك ماذا فيها، قلت لم أطلع عليها. قال: أنت تمسك عن ذكر ما فيها حتى لا يجرح شعوري، لكنني أعدك ألا أتأثر مما أسمع، فأكدت له بشرفي أنني لم أطلع عليها، فوقَّع الأمر الملكي، ثم قال: لعلك تقدر، الظروف فتلتمس لي العذر في أن التوقيع لم يكن، كما أود، ولذا سأوقع مرة أخرى، ثم وقع في أعلا الوثيقة، وهنا اعتذرت من عدم إمكاني الحضور، بغير الملابس البيضاء، التي كنت أرتديها، وحاولت أن أهون عليه الأمر، مشيراً إلى قضاء الله والرضاء به، فقال: "لا بأس"، بلهجة فيها من الأسى والأسف بقدر ما فيها من حزن لاح على وجهه وقتئذ.

        واقترب الأميرالاي أحمد كامل منا وقال للملك، على مسمع مني، أنه حدثني في شأن بوللي، والأميرالاي أحمد علي حسين، فكرر الملك الرغبة في الإفراج عنهما، باهتمام  شديد، كان من أثره أنني وعدته بالسعي لدى سيادتكم، ولدى القائد العام، لتحقيق رغبته.

        "وسألته: "هل من رغبة أخرى"، فقال: "إن لديه في الخارج من المال ما يكفيه ليعيش، عيشة. بسيطة، ولكنه يرجو لو بقيت أمواله، في المملكة المصرية، على حالها، حتى تؤول بالميراث إلى أولاده، فإن تعذر ذلك، فإنه يود أن توزع عليهم، من الآن، بنسبة حصصهم الميراثية، فوعدته كذلك بالعمل، بقدر المستطاع، على تحقيق هذه الرغبة.

        انصرفت عائداً إلى رئاسة مجلس الوزراء، وسلمتكم الأمر الملكي، موقعاً من الملك السابق، وأبلغتكم رغبته في خصوص بوللي، ومحمد حلمي حسين، فأبديتم أنها عسيرة التحقيق، إذ أن رجال الجيش لن يسلموا بهما.

        لكني ذهبت إلى القيادة العامة، براً بوعدي، وحادثت القائد العام، والموجودين من ضباطه، في رغبة الملك هذه، فاعتذروا من عدم إمكانهم إجابة هذه الرغبة. أمَّا الرغبة الأخرى، فأظن أنها تحققت، بالمرسوم بقانون رقم 136 لعام 1952، في شأن الحراسة على أموال          الملك السابق.

        وتفضلوا بقبول عظيم احترامي.

        وكيل مجلس الدولة

        ومستشار الرأي لرئاسة مجلس الوزراء

        وديوان المحاسبة والموظفين

        سليمان حافظ

الوثيقة التي كتبها محمد نجيب

        هي وثيقة كتبها محمد نجيب، في 19 أكتوبر 1952، "لأرد فيها على ما قاله الملك فاروق، من مغالطات، لصحافة العالم، وهو يروي لها قصة خروجه من مصر. وقد تحولت هذه الوثيقة إلى بيان، أُذيع في نفس اليوم، الذي كتبتها فيه. قالت الوثيقة- البيان:

        "كنت أربأ بالملك السابق، وقد اعتز بماضيه، الذي لا يُحسد عليه، أن ينزل إلى مستوى المتهم، الذي لم يجد أمامه سوى أن يقول أي شيء، خشية اتهامه بالرضى، والسكوت عن مخاز، يخجل لها هذا الماضي حياء وتأدباً.

        يقول صاحب الجلالة السابق أنه يتكلم لصالح المخلصين الطيبين، الذين ماتوا، وسيموتون دفاعاً عنه، ونسي أن العالم كله قد بهره نجاح حركتنا بدون أن تُزهق روح لبريء، كأحد هؤلاء الأبرياء، الذين كان يأمر هو باغتيالهم، غدراً وافتئاتاً، إذا ما أحس أنهم يأبون أن يكونوا من العبيد، أمَّا الذين اعتقلهم الجيش، فهؤلاء لا ينتظرون الموت، كما يقول ولكنهم ينتظرون أن تقول العدالة كلمتها، في تصرفاتهم السابقة. وهؤلاء جميعاً ـ ومنهم بطانته ذاتها وحاشيته ـ ليس بينهم واحد يذكر فاروق بالخير، فكلهم يلعنونه، ويلعنون الظروف التي جمعتهم به.

        وإني لأعجب لتمسك فاروق بحبه لمبدأ حظر الحريات، فيظن أننا سنمنع نشر قصته هذه، في مصر. وكنت أتمنى أن يكون دفاعه دفاعاً لا يزيده اتهاماً، ولكننا لم نمنع نشـر القصـة، فنشرتها الصحف لكي تكتمل، أمام عيون الشعب، تلك الصورة البشعة لذلك الماضي، الذي حطمه الشعب بيده، وبإرادته، ممثلاً في جيشنا الحر الأمين.

        ولعل أحداً لم ينس كيف كان فاروق يمنع صحف العالم من دخول مصر، خشية أن يعلم الشعب أنباء الفضائح والمخازي، التي كان يرتكبها، والتي أساءت إلى مصر، فكان العالم كله يعلمها، والشعب لا يعلم، إلا فئة آلت على نفسها ألا تسمح بنور المعرفة أن يصل إلى أعين الشعب.

        أما اليوم، فليطمئن على الحريات، التي لم تكن، في الماضي، ممنوعة، إلا لمعاول الهدم الاجتماعي، وشياطين الفساد الخلقي، الذين يصلي الآن من أجلهم، كما كان يصلي لموائد الميسر والشراب، في شهر رمضان، يوم كان ملكاً لأمة إسلامية، لها مكانتها المرموقة، بين شقيقاتها في العروبة والدين، فأولئك الذين يصلي الآن من أجلهم، ليسوا في حاجة إلى هذه الصلاة، لأن مصر كلها تصلي من أجل رجولتهم، التي قدموها قربانا على مذبح شهواته وجبروته، ونسوا أن الوطن أبقى من الأشخاص، فاشتروا الضلالة بالهدى. ولذلك كانوا عنده في مقام المخلصين، الذين يتحتم عليه حمايتهم، والدفاع عنهم، ونسى أن العدالة الآن، بعد أن زال هو من أمامها، قد وجدت طريقها حراً منيراً إلى كل مظلوم، فأفرجنا عن المعتقلين، الذين كان يرمي بهم خلف القضبان، ويأمر بارتكاب أبشع أنواع التعذيب البدني والأدبي معهم، ومع ذويهم الأبرياء.

        وأعود فاربأ بفاروق أن ينزل ميدان الاستجداء السياسي، فيتملق دول الغرب بفرية، يظنها سترضيهم، ويصف حركتنا بأنها شيوعية، ونسى أن ساسة الدول، وحتى أبواق أذنابه، لم تجد، في حركتنا، سوى روحاً نموذجية من الوطنية المخلصة.

        واختلط الأمر، من هول الواقع، على فاروق، فوصف رجالي بأنهم من الإخوان المسلمين. وهم براء من أي لون سياسي خاص، كما نسى أن العداء معروف بين الشيوعية والإسلام. وبالتالي يصبح من غير المعقول أن يصدق العالم أن سفارة روسيا تمدنا بالأموال. إننا لسنا في حاجة إلى تلك الأموال مادمنا أغنياء بثروة الإيمان بحقوق الشعب.

        أما الخوف من حرب كورية ثانية في مصر، فإني أشفق على خوفه هذا بالسياسة، التي تتبعها حكومتي، وهي توفير الحياة الكريمة لكل مواطن صالح، بدلاً من ترك الشعب على أبواب السفارة الروسية، كما يقول الملك السابق كذباً. وهذا، للأسف، اعتراف منه بسوء الحالة، التي وصلت إليها رعيته، تحت ظل عهده الإقطاعي، الذي كان يدفع الجماهير دفعاً إلى الشيوعية، فجاءت ثورتنا لإقرار مبادىء الديمقراطية الصحيحة، وهي هدفنا، الذي قررنا أن نصل إليه بهذه الأمة، التي زال عن صدرها كابوس الحكم الاستبدادي، الذي كان يتستر خلف دستور، لم يحترمه مطلقاً.

        "ومما يدهش أيضاً، أنه يدعى أن رجال الحرس دافعوا عنه، مع أن الواقع أنهم انضموا إلى قوات الجيش، التي كانت تطوق قصره، لحراسته خوفاً من بطش الجماهير، أما الدبابات فلم تخرج من ثكناتها، إلا بعد وصوله إلى قصر رأس التين، كما لم يصدر أي قرار بحظر التجول. ومن عجب أن يلجأ فاروق إلى اختلاق وقائع، تدل على تفاهة الخيال، ثم ينسبها إلى الضباط الأحرار، فيقول أنهم قتلوا كلاب بناته، وفقأوا عين المهرة، وقد وصف الضباط، الذين قاموا بالحركة، بأنهم فئة قليلة، من رتب صغيرة، تطمع في الترقي، مع أن العالم كله يشهد أنه لم يرق ضابط، من ضباط القيادة، إلى رتبة أعلى، من بدء الحركة حتى الآن، فإنكار الذات دستورنا.

        وقد كنا كراماً في معاملته وتوديعه، حتى آخر لحظة، غادر فيها البلاد. والسفير الأمريكي نفسه قد شهد هذا الموقف المشرف لرجال يقدرون الواجب، عندما يطالبون بالحقوق.

        ولما كنا في شغل بما هو أجدى وأهم من تتبع كل قصة خيالية، ينشرها فاروق، استجداء لعواطف الدول، فإننا، من أجل الصالح العام، سوف نجعل صالح أعمالنا خير رد على قصة كاذبة؛ لأن مصر الآن أولى بأوقاتنا، لنوفر لها حياة حرة كريمة، في نظام ديمقراطي سليم، بدلاً من الاهتمام بالرد على الأكاذيب، التي تكذب نفسها بنفسها.

        والله ولى التوفيق،

الرئيس اللواء (أ.ح)

محمد نجيب

 

بيان محمد نجيب بخلع فاروق

وفي السادسة والنصف أذيع البيان التاريخي مسجلاً بصوت محمد نجيب:

        "بني وطني، إتماماً للعمل، الذي قام به جيشكم الباسل، في سبيل قضيتكم، قمت، في الساعة التاسعة، من صباح يوم السبت 26 يوليه عام 1952 الموافق 4 من ذي القعدة عام 1371هـ، بمقابلة حضرة صاحب المقام الرفيع، علي ماهر باشا، رئيس مجلس الوزراء، وسلمته عريضة موجهة إلى مقام حضرة صاحب الجلالة، الملك فاروق الأول، تحمل مطلبين على لسان الشعب.

·    الأول: أن يتنازل جلالته عن العرش لسمو ولي عهده، قبل ظهر اليوم.

·        الثاني: أن يغادر جلالته البلاد، قبل الساعة السادسة مساء.

        "وقد تفضل جلالته فوافق على المطلبين، وتم التنفيذ، في المواعيد المحددة، دون حدوث ما يعكر الصدر. وإن نجاحنا إلى الآن، في قضية البلاد، يعود إلى تضافركم معنا، بقلوبكم، وتنفيذكم لتعليماتنا، وإخلادكم إلى الهدوء والسكينة، وإني أعلن أن الفرح قد يفيض عن صدوركم لهذا النبأ، غير أنني أتوسل إليكم أن تستمروا في التزام الهدوء، حتى نستطيع مواصلة السير بقضيتكم، في أمان. ولي كبير الأمل في أنكم ستلبون ندائي، في سبيل الوطن، وفقنا الله لما فيه خيركم، ورفاهيتكم، والسلام"

جماهير مصر تؤيد محمد نجيب

        يقول محمد نجيب: "سمعت الجماهير البيان من الإذاعة، وشاهدت موكبنا، عائداً من رأس التين، فاحتشدت في الشوارع، مهللة مبتهجة، حتى أصبح عسيراً على العربة أن تشق طريقها.

        أول ما فكرت فيه، عندما وصلت ثكنات مصطفى كامل، هم الجنود، الذين سالت دماؤهم، في هذه العملية السلمية.

        قتل جنديان في القيادة العامة للقوات المسلحة بالقاهرة، عند مهاجمة البكباشي يوسف صديق لها، ليلة 23 يوليه، وجرح شاويش، حاول منعهم من الصعود إلى الطابق العلوي. وجرح، في اشتباك اليوم، في الصباح الباكر، ستة جنود من الحرس الملكي، كان يمكن أن يزيدوا عن ذلك، لولا حكمة الضابط، وإصداره الأمر بوقف إطلاق النار. ولعل دماء هؤلاء الجنود كانت أحد الدوافع، التي دفعت الملك لسرعة التنازل وعدم جدوى المقاومة. وأمرت بإرسال الحلوى لهؤلاء الجنود، في المستشفى، مع بطاقة مني، تحمل لهم التمنيات بالشفاء، مع صرف مكافأة لأسرتَي الجنديين اللذين قُتلا.

        وانتويت أمراً، لم أتردد في إذاعته، في الساعة الثامنة مساء، بعد خروج الملك بساعتين فقط.

        خاطبت أبناء وطني قائلاً: "إن ما ينسب إلى من عمل مجيد، إن هو، في الحقيقة، إلا مجهود وتضحيات لرجال الجيش البواسل، من جنود وضباط، ولم يكن لي إلا شرف قيادتهم". ثم قلت لهم "وقد أمر جلالة الملك فاروق، عندما طلب الجيش إسناد منصب القيادة العامة إليّ، بأن ينعم على برتبة الفريق، بدرجة الوزير، فلم أعلن رفضها حتى لا يعرقل ذلك غرضاً أسمى، وهو تنازل الملك عن العرش. والآن وقد انتهت الأمور فإني أعلن تنازلي عن هذه الرتبة، قانعاً برتبة اللواء، مراعاة لحالة الدولة المالية":

        واستراح صدري بعد إذاعة البيان على الشعب بصوتي، لأني كنت حريصاً على أن يفهم كل مصري، أن المشاركة في الحركة لم تكن لكسب شخصي مادي، وإنما كانت لتحرير الوطن والمواطن. أردت أن أضرب المثل دون تردد.

محمد نجيب يغادر الإسكندرية

        غادر اللواء محمد نجيب الإسكندرية، ظهر اليوم التالي 27 يوليه، إلى القاهرة بالطائرة، ويقول: "توجهنا إلى القاهرة بالطائرة، التي حملنا فيها أنطوان بوللي، بعد عدم قبولنا لسفره مع الملك. كانت الأيام الأولى مزدحمة بمقابلة الوفود، والزعماء، وكبار الشخصيات، وعقد الاجتماعات، لمناقشة المسؤولية الكبيرة، التي ألقيت على عاتقنا فجأة".

        "وأصبح جمال عبدالناصر مديراً لمكتبي. وأصبحت رئيساً لمجلس القيادة، الذي اجتمع، بكامل أعضائه، لأول مرة. وكان جمال عبدالناصر رئيساً له، قبل الثورة، لأني لم أكن أحضر اجتماعاته، لدواعي الأمن؛ ولأني لم أكن أجد مبرراً لارتباطي بأعمال تنظيمية، يمكن أن يقوم بها الأعضاء، الذين كنت أنظر إليهم نظرتي إلى أبنائي في الأسرة، وأركان حرب في السلاح، أو الوحدة".

        أقبلت على العمل بروح صافية ودودة لا تعرف الحساسية. أشرك معي أعضاء المجلس في بعض ما يعرض علي من أمور، أو فيما أفكر في اتخاذه من قرارات. وكانت زحمة الأيام الأولى لا تسمح لنا بالتقاط وقت فراغ للتأمل، أو التفكير العميق.

زعماء الأحزاب يؤيدون محمد نجيب

        حضر لزيارتي، بالقيادة، كل زعماء الأحزاب. وأذكر أن مصطفى النحاس باشا قد حضر إلى القيادة، وهو في طريقه من المطار إلى منزله، في الثانية بعد منتصف ليل 28 يوليه، وكنت وقتها قد أويت إلى سريري، الذي فرشته في مكتبي. واستيقظت على صوت يبلغني بوجود النحاس باشا في القيادة. وأسرعت في ارتداء ملابسي، وطلبت من الأعضاء الموجودين أن يحضروا المقابلة. وبعد أن رحبت بالنحاس باشا، وفؤاد سراج الدين باشا، وتبادلنا كلمات المجاملة، لم نجلس لحديث لأنهما فضلاً العودة للمنزل، والساعة فعلاً كانت تقترب من الثالثة صباحاً.

        لم تتوقف وفود الهيئات والنقابات عن الحضور. ولم نجد بُداً من الخطابة فيهم. وهكذا كان يتبدد الوقت، في الأيام الأولى، دون أن نعرف حقيقة الخطة التي سنمضي عليها. كان هذا يشغل تفكيري قليلاً، ولكن الأحداث والمقابلات السريعة المتتالية كانت تطرد هذا التفكير مؤقتاً.

        وأول زيارة قمت بها لوحدات الجيش، بعد عودتي للقاهرة، يوم 27 يوليه، كانت لمعسكر الاعتقال في الكلية الحربية، لمقابلة زملائي السابقين من لواءات الجيش، لأطمئن على حالتهم، وأطمئنهم على أن أحداً لن يصبه الضرر مطلقاً، إلا إذا كان ذلك نتيجة لادعاءات قانونية، وأن إجراء التحفظ عليهم هو لتأمينهم، أولاً وتأمين الحركة ثانياً. وقد أمضيت معهم نصف ساعة كانت عامرة بالمرح، إلى الحد الذي أسعد قلبي، لأني أزلت من نفوس زملائي قلق الخوف والترقب. وأمرت الضباط، من حرس المعسكر، بأن يقدموا لهم كل ما يحتاجون إليه من طعام، أو ملبس، أو مشرب. واتخذت في نفسي اليوم قراراً بالإفراج عن بعضهم.

        وحضر إلى مكتبي، في ملابس مدنية، كل من الفريق محمد حيدر باشا، الذي كان قد اعتقل ليلة واحدة، في نادي الضباط بالإسكندرية، والفريق حسين فريد، الذي اعتقله البكباشي يوسف صديق ليلة الحركة. وشعرت بنوع من الحرج لأني أجلس في مكتب القائد العام بملابسي الرسمية، وهو يجلس بجانبي في ملابسه المدنية.




[1]  ومصطفى صادق كان ضابطا بسلاح الطيران ثم شغل منصب مدير شركة طيران سعيد.

[2]  وقد انتحر الأميرالاي محمد وصفى بك فيما بعد.

[3]  الكلفوات عبارة عن آنسات تركيات. يختارهن القصر وهن صغيرات السن من اللقيطات من ملاجىء تركيا!..وفى مصر يربين تربية خاصة لكي يصبحن رفيقات وخادمات خصوصيات للملكة والأميرات. وكان عدد الكلفوات الموجودات في قصر رأس التين يوم التنازل ستة.