إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / ثورة 23 يوليه، في مصر




وثيقة التنازل عن العرش
وداع علي ماهر
محمد نجيب وعبدالناصر
محاصرة قصر عابدين
مع ضباط الكتيبة (13) مشاة
لقاء مع الإخوان المسلمين
مقر مجلس قيادة الثورة
مقر رأس التين بالإسكندرية
اللواء محمد نجيب وعلي ماهر
الملك فاروق والسفير البريطاني
الملك فاروق في احتفال
البيان الأول للثورة
اليخت الملكي المحروسة
الرسالة الموجهة للملك فاروق
اجتماع مجلس قيادة الثورة
تعليمات بعودة اليخت المحروسة
دبابة أمام قصر المنتزه
زيارة للوحدات العسكرية





الفصل السابع

الفصل السابع

حركة الجيش تقترب من السلطة

المناداة بأحمد فؤاد بن فاروق ملكاً

        قبل رحيل فاروق بدقائق، طلب من رئيس الوزراء، علي ماهر باشا، إعداد الأمور لابنه، أحمد فؤاد، الذي أصبح ملكاً لمصر، فرد عليه بأنه سيقوم بعمل كل ما في إمكانه، ولم يعط وعداً قاطعاً.

        وفي الثامنة مساء، عقد مجلس الوزراء اجتماعه، برئاسة علي ماهر باشا، وأصدر البيان الآتي:

        "في الوقت الذي نزل فيه الملك فاروق الأول عن العرش لولي عهده، وغادر الديار المصرية، ينادي مجلس الوزراء بحضرة صاحب الجلالة، أحمد فؤاد الثاني، ملكاً لمصر والسودان، ويدعو الله أن تنعم البلاد في عهده، بما تصبو إليه من رقي ومجد وسيادة.

        في 4 ذي القعدة عام 1372 ـ 26 يوليه عام 1952

ثم أعلن المجلس البيان التالي:

        "بعد أن نودي بحضرة صاحب الجلالة، أحمد فؤاد الثاني، ملكاً لمصر والسودان، يعلن مجلس الوزراء أنه تولى، منذ اليوم، سلطات الملك الدستورية، باسم الأمة المصرية، وتحت مسؤوليته، إلى أن يحين الوقت، الذي يجب عليه فيه أن يسلم مقاليدها، إلى مجلس الوصاية، وفقاً لأحكام الدستور".

        بحث المجلس، عدة مسائل، منها الأثر الدستوري في دعوة البرلمان، بمجلسيه، للانعقاد. ولكن لم ينته البحث إلى اتجاه معين، كما بحث العلاقة بين السلطة التشريعية، وإنشاء مجلس لقيادة الثورة، له سلطات واسعة في تدبير الأوضاع العامة للبلاد، وأحيط الاتفاق بالسرية والكتمان وعلق إذاعته على ما يتقرر بالنسبة للمسألة الأولى، كما انتهى المجلس من إعداد الوثائق المفصلة، الخاصة بالتنازل، والمناداة بولي العهد، ومباشرة مجلس الوصاية سلطات الملك الدستورية. وكان الملك، قبل تنازله، كما سبقت الإشارة، كتب أسماء الأوصياء على ابنه، في مظروفين، أودع أحدهما بالديوان الملكي، والثاني برئاسة مجلس الوزراء، على أن يُفض المظروفان في البرلمان، طبقاً لأحكام الدستور، وللبرلمان أن يصدق على أشخاص الأوصياء، أو يعين سواهم، غير أن الرئيس لم يعلن عن البرلمان الذي يفض المظروفين، إذ لم ينته المجلس ورجال القانون إلى رأي، وكذلك لم تعلن مدة معينة، يجتمع فيها البرلمان لاختيار الأوصياء.

        وقد كانت هذه المسألة فرصة لإثارة النزعات الحزبية القديمة، فحزب الوفد يؤمل في أن يعقد مجلس النواب المنحل، الذي كان يمثل فيه بأغلبية كبيرة، بينما ترى الأحزاب المعارضة له أن مادة الدستور لا تنطبق، إلا في حالة وفاة الملك، إذ نصت المادة 52 على: "أثر وفاة الملك يجتمع المجلسان، بحكم القانون، في مدى عشرة أيام من تاريخ الوفاة. فإذا كان مجلس النواب منحلاً، وكان الميعاد المعين في أمر الحل للاجتماع، يتجاوز اليوم العاشر، فإن المجلس القديم يعود للعمل حتى يجتمع المجلس، الذي يخلفه". وتنص المادة 54 على: "في حالة خلو العرش، لعدم وجود من يخلف الملك، أو لعدم تعيين خلف له، وفقاً لأحكام المادة السابقة، يجتمع المجلسان، بحكم القانون، فوراً في هيئة مؤتمر لاختيار الملك".

        بينما كانت هذه الأحداث الدرامية تتوالى، أبرزت جريدة المصري الوفدية في صدر الجريدة العنوان التالي: دعوة البرلمان المنحل، خلال عشرة أيام، للانعقاد (يلي ذلك) أصبح، في حكم المقرر، دعوة البرلمان المنحل إلى الاجتماع، خلال عشرة أيام، كما يقضي بذلك الدستور، لتفض أمامه رسالة الملك السابق، الخاصة بمن اختارهم، أعضاء في مجلس الوصاية. وسيكون من حق البرلمان أن يقر الأسماء، التي اختارها الملك، أو أن يعدلها بما يراه في صالح البلد. كما أعلنت الجريدة عن اجتماع الهيئة الوفدية، في يوم الاثنين 28 يوليه، بالنادي السعدي. ورد رئيس حزب الأحرار الدستوريين، الدكتور محمد حسين هيكل باشا، عن حكم الدستور، في حالة تنازل الملك، فقال: أنه (أي الدستور) جاء خلوا من النص في هذه الحالة.

        ولوضع حد لهذه المناورات الحزبية، أعلن رئيس الوزراء أن قيادة الحركة أوضحت له موقفها بقولها: "إننا لم نقم بحركتنا هذه ليكسب منها محترفو السياسة، وإنما قمنا بحركتنا، وهدفنا الأول مصلحة البلاد" وعلق علي ماهر على ذلك بقوله: "وعلى هدى هذا الاتجاه سيعمل مجلس الوزراء حتى تجتاز البلاد هذا الظرف الدقيق".

        في العاشرة مساء انفض مجلس الوزراء، بعد أن انتهى من إعداد الوثائق المفصلة بالتنازل، والمناداة بولي العهد، ومباشرة مجلس الوزراء سلطات الملك الدستورية، حتى تشكيل مجلس الوصاية. وفي الحادية عشرة مساء، أذيعت الوثائق الخاصة بتنازل الملك، والمناداة بالملك أحمد فؤاد الثاني.

محمد نجيب ومشكلة الوصاية

        يذكر محمد نجيب في مذكراته: "ولم يكن ممكناً أن يحكم مصر طفل، طرد أبوه إلى المنفى. فماذا نفعل في هذا الوضع؟ معظم أعضاء مجلس القيادة طالبوا بإقامة الجمهورية، لكنني أقنعتهم أن التحضير للجمهورية التي ستحل محل الملكية، يحتاج إلى وقت. وكان، من رأي الإخوان المسلمين، إسقاط الملكية، وإعلان الخلافة الإسلامية فوراً. وكان من رأيي تشكيل مجلس الوصاية على العرش. ووافق الجميع".

موقف الدستور من قضية الوصاية

        ينص الدستور في المادة 51 على ألا يتولى أوصياء العرش عملهم إلا بعد أن يؤدوا أمام مجلس النواب والشيوخ مجتمعين اليمين التي يؤديها الملك أمامهما قبل مباشرة سلطته الدستورية. وللملك حسب أحكام الأمر الملكي رقم 23 عام 1922 اختيار هؤلاء الأوصياء على أن يقر المجلسان اختيارهم. وتنص المادة 55 من الدستور على أن يتولى مجلس الوزراء، بصفة مؤقتة، سلطات الملك الدستورية، حتى يؤدي أوصياء العرش اليمين، أمام البرلمان.

        ويذكر اللواء محمد نجيب: "كانت المناقشة الدستورية، حول هذه النقطة، تستهويني لدراستي القانونية. ولكني لم أتدخل في هذا الموضوع، وتركته لرجال القانون، والحكومة، ومجلس الدولة. وكان أمامنا ثمانية أيام، تنتهي بعدها المهلة الدستورية. وكان مفروضاً أن يدعى البرلمان الوفدي المنحل، للانعقاد طبقاً للدستور، وطبقاً لفتوى، قدمها عدد من رجال القانون الوفديين، لرئيس الوزراء، علي ماهر، وأرسلوا لي صورة منها. ومعروف أن علي ماهر، خلال رئاسة وزارته، بعد حريق القاهرة، رفض أن يحل مجلس النواب الوفدي، بعد أن منحه المجلس الثقة بناء على توجيهات الوفد. وتوقعت أن يصل مجلس الدولة إلى هذه النتيجة، وكان ذلك يبعث في نفسي شعوراً بالرضا، لالتزامنا بأحكام الدستور.

        رأس عبدالرزاق السنهوري، رئيس مجلس الدولة، الاجتماع بنفسه، وفي ذلك الاجتماع، ركز د. السنهوري، بوجه خاص، على أحكام دستور عام 1923، في شأن الوصاية على العرش، لأنها واجهت فقط حالة وفاة الملك، ولم تتناول الحالات الأخرى لانتهاء حكمه، مثل خلعه، أو تنازله عن العرش. وعقب د. السنهوري على ذلك، قائلاً: "لا محيص، إزاء هذا القصور، من استنباط الحل المناسب، وهو إصدار تشريع جديد، بتعديل أحكام الأمر الملكي الصادر، في 13 أبريل 1923، بوضع نظام لتوارث عرش المملكة المصرية، وذلك بإضافة نص جديد، يعالج خصيصاً الحالة المعروضة، حالة نزول الملك عن العرش، وانتقال ولاية الملك إلى خلف قاصر، وفي وقت يكون فيه مجلس النواب منحلاً".

        ويستطرد اللواء محمد نجيب، معلقاً على ذلك، بقوله: "لقد فصلوا قانوناً حسب الحاجة". وبعد أقل من أسبوع على رحيل الملك، كنا نسير في طريق تكييف القوانين، الذي انتهى بنا إلى هاوية اللاقانون، بعد ذلك. وأنا الآن أعتبر هذا الخطأ الصغير بداية مشوار طويل من الأخطاء، التي لم نكن مسؤولين عنها، وإنما كان مسؤولاً عنها الخوف من الضباط".

        وقد انتقدت الصحف هذه الواقعة الجسيمة، فقال أحمد أبو الفتح، في جريدة المصري: "في اعتقادي، أن الخطأ قد بدأ، يوم أن أفتى قسم الرأي، في مجلس الدولة، فتواه في مجلس الوصاية الموقت، وتلاه خطأ آخر، يوم أن استمسك علي ماهر بهذه الفتوى، ويوم نادى بعض الكتاب بالفقه الثوري، وأقول، في اعتقادي، إن، في تلك الأيام، بدأت الأخطاء، فقد جانب الجميع نص الدستور، الذي أعلن الجيش أنه عماد ثورته. وبدأت الأخطاء، وأخذ كل خطأ برقبة خطأ آخر، وإذا بأعاصير الأخطاء تهب، ذات اليمين، وذات الشمال، ومن فوق، ومن تحت. والمرء، وسط كل ذلك، ذاهل، تائه، يحاول أن يصد هذا فيصرعه ذاك..".

        ويقول محمد نجيب: "ماذا نفعل، وهذا رأي أهل الفقه والقانون؟ قُضي الأمر إذاً، وأصبح علينا اختيار أسماء مجلس الوصاية. وبرز اسمان، لا اعتراض عليهما، هما الأمير محمد عبدالمنعم، وبهي الدين بركات باشا. وعندما اقترح اسم رشاد مهنا، اعترضت على أساس أننا لا نريد أن نزج بالجيش فيما لم يخلق له، كما أن موقف رشاد، من ناحية طلبه، النقل إلى العريش، وهو سكرتير نادي الضباط، في وقت الأزمة، مع الملك كان مازال عالقاً بنفسي. ولكن زملائي في المجلس ألحوا على في القبول، فقبلت حتى لا يبدوا موقفي نشازاً. وعين  يومها رشاد مهنا وزيراً للمواصلات، بصفة شكلية، ليستحق عضوية مجلس الوصاية دستورياً".

        يكمل خالد محيي الدين مشكلة الوصاية بقوله: "ووقع الجميع في المأزق، فقد كان من الضروري أن يدعى مجلس النواب ليصادق على قرار التنازل، وعلى تشكيل مجلس الوصاية على العرش، واقترح البعض دعوة مجلس النواب لإنجاز هذه المهمة، ثم يحل على الفور، ذلك أن استمراره سوف يعني عودة حكومة الوفد فوراً. لكن وحيد رأفت أفهم الضباط أن دعوة مجلس النواب ثم حله، سيعني، وفق أحكام الدستور، ضرورة إجراء انتخابات نيابية، في ظرف ستين يوماً. وكان رأي وحيد رأفت بمفرده، أمام مستشاري مجلس الدولة، أن التنازل، مثل الوفاة والمرض؛ لأن الدستور ملكي لا يمكن أن يأتي فيه التنازل، ولذلك كان لابد من تطبيق حالة التنازل، مثلها مثل المرض، والوفاة، أي دعوة مجلس النواب لإقرار الوصاية، أما باقي المستشارين، فقد كان رأيهم أنها حالة جديدة، تستدعي وضعاً جديداً، يمكن فيه اعتبار مجلس الوزراء هو السلطة التشريعية، وهو الذي يعين مجلس الوصاية نيابة عن مجلس النواب.

        وأُسقط في يد البعض، قال عبدالناصر إنه يوافق على دعوة مجلس النواب، ثم حله، ودعوة الناخبين لانتخاب مجلس جديد، وفق أحكام الدستور، خلال ستين يوماً، ولكن ضباط المدفعية والطيران وقفوا ضد هذه الفكرة بشدة، وقالوا بصراحة إنهم قاموا بالحركة، ولن يسلموها للآخرين جاهزة. حاول عبدالناصر أن يفهمهم أننا التزمنا أمام أنفسنا، وأمام ضباط الجيش، وأمام الشعب، باحترام الدستور، واحترام الحياة النيابية، لكنهم تكاتفوا ضده، ووجد عبدالناصر نفسه وحيداً، في مواجهة ما يشبه الإجماع. وكان يعرف أنني سأقف معه بالقطع، ولهذا قلب الدنيا بحثاً عني. وعندما وجد عبدالناصر نفسه وحيداً أعلن أنه سيستقيل وترك الاجتماع إلى بيته، وأسرعوا خلفه، وعاد عبدالناصر، لكنه عاد متنازلاً عن فكرته.

        وسألت عبدالناصر في دهشة: ولماذا تراجعت عن وجهة نظرك، فهي وجهة النظر الصحيحة؟ قال: أصل الحقيقة وجدت أن المسألة لا تستحق أن ننقسم بشأنها، ومش ضروري نعمل انتخابات بعد شهرين، ممكن بعد ثلاثة أو أربعة، وقال: لاحظ أن إحنا عندنا مشاكل، فرشاد مهنا بدأ يرجع المدفعية ويكتلها وراءه، وعبدالمنعم أمين (مدفعية كذلك) "لسه جديد معنا ومش مضمون"، فأنا قلت أتراجع حتى نعيد الإمساك بالخيوط في أيدينا. وأراد عبدالناصر أن يتخلص من نفوذ رشاد مهنا في المدفعية، وفي الجيش عموماً، فقرر أن يعينه في مجلس الوصاية على العرش، وكان بذلك يرضي غروراً مشحوناً ومتأججاً، عند رشاد مهنا، لكنهم اكتشفوا أن الدستور يشترط أن يكون عضو مجلس الوصاية وزيراً، فعين وزيراً ثم عينه مجلس الوزراء في مجلس الوصاية. وهكذا بدأت حسابات السلطة تتدخل فيما بيننا. تلك الحسابات التي كان جمال عبدالناصر أول من مارسها، وأكثر من أتقنها.

بداية التطهير واختراق المصالح المدنية

        يعلق اللواء محمد نجيب على ما حدث بقوله: "كان تعيين رشاد مهنا في منصب كبير، خارج الجيش فاتحة لتعيين 18 من اللواءات، وكبار الضباط، في وظائف مدنية ودبلوماسية. وتولد في داخلي إحساس بأننا فتحنا باباً، أمام باقي الضباط، ليخرجوا منه إلى المناصب المدنية، ذات النفوذ القوي والدخل الكبير، وحاولت، قدر استطاعتي، إغلاق هذا الباب، وابتعاد الجيش عن الحياة المدنية، وعودته إلى الثكنات، وترك البلد للسياسيين. لكن كان الوقت، على ما أعتقد، قد فات. فقد اخترق العسكريون كل المجالات، وصبغوا كل المصالح المدنية، باللون الكاكي".

        فمن العسكريين كونا لجان تطهير الجيش، التي طهرت حوالي 800 ضابط في المشاة، والبحرية والطيران، والشرطة كذلك. وأحالت بعضهم إلى الاستيداع، وقدمت البعض الآخر إلى محكمة الثورة. ومن العسكريين كونا لجان تقصي الفضائح، مثل فضيحة الأسلحة الفاسدة، وفضيحة بورصة القطن، وفضيحة بيع أراضي الحكومة، بطرق غير قانونية. ومن العسكريين كونَّا محكمة الثورة، التي صادرت أموال الذين أثروا، بطرق غير مشروعة، وأمرت بإنفاق هذه الأموال على بناء المدارس، والمستشفيات، والإسكان الشعبي.

زعماء الأحزاب يهنئون قيادة الثورة

        في الواحدة بعد ظهر السبت 26 يوليه، ذهب بعض زعماء الأحزاب إلى ثكنات مصطفى باشا، برمل الإسكندرية[1]، حيث اتخذتها قيادة الثورة مقراً لها، وقابلوا القائد العام ليعبروا له عن تمنياتهم للثورة بالتوفيق، والنجاح، وهم: أحمد لطفي السيد، إبراهيم عبدالهادي، محمد حسين هيكل، بهي الدين بركات، أحمد خشبه، طه السباعي، أحمد عبدالغفار، رشوان محفوظ، إبراهيم دسوقي أباظه، أحمد علي علوبه، محمود محمد محمود، عبدالسلام الشاذلي، وهم يمثلون السعديين والدستوريين، والمستقلين.

        قابلهم القائد العام. وأعرب أحمد لطفي السيد، نيابة عن زعماء الأحزاب، عن شعورهم الطيب نحو الحركة المباركة، وشكرهم للضباط والجنود، الذين أدوا واجبهم بأمانة لتطهير البلاد، فرد عليهم القائد العام شاكراً. وكذلك ذهب مكرم عبيد لتهنئة القائد العام، بالنيابة عن حزب الكتلة الوفدية. وكان مصطفى النحاس رئيس الوفد المصري يصطاف في أوروبا، فبادر بالعودة إلى مصر، ومعه فؤاد سراج الدين، في منتصف الساعة الثانية من صباح يوم 27 يوليه، وقابلا القائد العام. وقال له النحاس: على أثر وصولي إلى أرض الوطن، رأيت أن أول واجب علي أن أزور محرر الوطن، وأن أرى من أنقذ شرف الوطن!

        ويقول عبدالرحمن الرافعي: وذهبت أنا كذلك لتهنئة القيادة باسم الحزب الوطني.

الهيئة التأسيسية للضباط الأحرار (مجلس القيادة)

        يذكر خالد محيي الدين: "وكان لابد أن نجتمع معاً لنقرر خطواتنا المقبلة. رتب جمال عبدالناصر الأمر، أخلى غرفة في مقر قيادة الجيش، وأوقف عليها حراساً من الضباط الأحرار واجتمعنا[2]. قليلون هم الذين يعرفون أسماء "لجنة القيادة"، وكثيرون هم الذين كانوا يتطلعون إلى الجلوس الآن، في "مجلس القيادة"، البعض، عن حق، بسبب ما أداه للحركة، أو ما أداه ليلة الحركة، والبعض، تعبيراً عن تطلع ذاتي ومن ثم كان اجتماعنا يشكل حرجاً شديداً لنا، إزاء الآخرين. وأول مظاهر هذا الحرج، كان العلاقة بالقائد الجديد للجيش، والذي برز أمام الجميع كقائد للحركة: الفريق محمد نجيب. فكيف ستكون العلاقة معه؟ وهل سنجتمع لنتخذ قرارات ثم نبلغها له؟ وهل سيقبل منا ذلك؟ المهم، عند اجتماعنا الأول، فاجأنا جمال عبدالناصر بحركة رومانسية، غير متوقعة، أعلن فيها استقالته من قيادة اللجنة، قال: لقد نجحت الحركة وسيطرنا على الجيش، وطردنا الملك، ولهذا فإنني أقدم استقالتي كي تنتخبوا قائداً جديداً. وكان طبيعياً أن نعيد انتخابه، وبالإجماع". وبينما كنا مجتمعين، فُتح الباب، ودخل محمد نجيب، كان يبحث عن صلاح سالم، فوجدنا معاً، كان الموقف بالغ الحرج للجميع، طلبنا منه أن يجلس معنا وواصلنا الاجتماع".

        "ثم عقدنا جلسة مغلقة حضرناها نحن التسعة، (أي جمال عبدالناصر، عبدالحكيم عامر، صلاح سالم، جمال سالم، أنور السادات، كمال الدين حسين، حسن إبراهيم، عبداللطيف البغدادي، خالد محيي الدين)، أعضاء  لجنة القيادة. وطرح جمال عبدالناصر فكرة ضم بعض الضباط إلى اللجنة. كان هناك محمد نجيب، ووجوده معنا ضروري. واقترح جمال عبدالناصر ضم يوسف صديق[3]، فهو الذي لعب دوراً مهماً ليلة الثورة، وأبدى شجاعة فائقة. وكان عبدالناصر يقول: مش معقول الراجل عمل هذا العمل المجيد، وكل يوم يشوفنا ندخل غرفة، ونقفل علينا، ولا ندعوه، وكان هناك كذلك زكريا محيي الدين، وقد لعب دوراً مهماً هو الآخر، وهناك حسين الشافعي، فقد كان صاحب دور مهم في تحريك سلاح الفرسان، وكان وجوده خارج القيادة يسبب حرجاً شديداً لي، سواء من الناحية الشخصية، أو على المستوى العسكري، ذلك أنه كان أعلى رتبة مني. وكان هناك عبدالمنعم أمين، وثروت عكاشة، بدوره البارز في التنظيم منذ قيامه، وآخرون كانوا يتطلعون إلى مقعد في القيادة، بسبب ما أدوه من دور ليلة الثورة. ولم يكن واضحاً، في ذهن الكثيرين، أن ثمة "قيادة" قديمة قامت بتشكيل التنظيم، والتخطيط للحركة، كانوا ينظرون إلى أدوار البعض، ليلة الثورة وحسب. ومن هؤلاء، الذين لعبوا دوراً بارزاً ليلة الثورة: إبراهيم الطحاوي ومجدي حسنين وآخرون، ومن ثم طرحت أسماؤهم كذلك".

        "وأخيراً توصلنا إلى تشكيل جديد "لمجلس القيادة"، راعينا فيه دور بعض الضباط الأحرار البارز في الحركة، ودورهم المقبل في أسلحتهم، وراعينا كذلك تمثيل الأسلحة المهمة. وتكون مجلس القيادة من 14 عضواً: الأعضاء التسعة للجنة القيادة القديمة: جمال عبدالناصر، عبدالحكيم عامر، صلاح سالم، جمال سالم، أنور السادات، كمال الدين حسين، حسن إبراهيم، عبداللطيف بغدادي، خالد محيي الدين- وخمسة أعضاء جدد: محمد نجيب، يوسف منصور صديق، عبدالمنعم أمين، زكريا محيي الدين، حسين الشافعي. أما الباقون فقد تقرر استبعادهم، واتفقنا أن نغلق هذا الملف نهائياً، وألا نفتحه ثانياً، بمعنى ألا نفكر، أو نسمح ببحث موضوع توسيع مجلس القيادة".

ويذكر أحمد حمروش معلقاً على زيادة أعضاء مجلس القيادة بقوله:

        " تقررت هذه الزيادة، بعد تقديم جمال عبدالناصر استقالته، لأنه كان راغباً في سلوك أسلوب ديموقراطي، بينما طلب جمال سالم اختزال عدد أعضاء المجلس إلى خمسة أعضاء فقط، وتكليف الباقين بالعودة إلى مواقعهم في الجيش. أدت هذه الزيادة إلى اجتذاب عدد كبير من الضباط للمجلس، وأصبح له مندوبون من الضباط، في مختلف الوزارات، مما خلق في كثير من الأحوال ازدواجية وحساسية، وخلق عند الضباط رغبة الخروج من إطار النظام العسكري، والانطلاق بملابسهم الرسمية، إلى مواقع العمل المدنية، واشتهر اصطلاح (مندوب القيادة)، الذي كان يتحرك به هؤلاء الضباط، ليصدروا تعليماتهم وتوجيهاتهم في مواقف كثيرة متعددة. وهكذا نمت الازدواجية، وظهرت الحساسية، بين الوزارة ومجلس القيادة".

تعيين مجلس وصاية للعرش

        وفي 2 أغسطس قرر مجلس الوزراء تأليف هيئة الوصاية المؤقتة للعرش من الأمير محمد عبدالمنعم، وبهي الدين بركات، ومحمد رشاد مهنا. وكان هذا القرار بناء على فتوى من الجمعية العامة لقسم الرأي بمجلس الدولة تحت رئاسة الدكتور عبدالرزاق السنهوري رئيس مجلس الدولة. واعتبر سليمان حافظ هذا الموقف انتصاراً له فقال في مذكراته التي لم تنشر: "باء الوفد بالخيبة، وبؤت مع السنهوري بالفوز بما كنا نبغيه من علي ماهر".

صدور تشريعات بإلغاء الألقاب المدنية

        قرر مجلس الوزراء في 2 أغسطس 1952 إلغاء الرتب والألقاب المدنية، فلم يعد هناك بيك أو باشا، وأن يلقب رؤساء مجالس الوزراء العاملين والسابقين بلقب (الرئيس). وسبق ذلك، إلغاء تصييف الحكومة بالإسكندرية، بموجب قرار مجلس الوزراء بجلسة 24 يوليه 1952، كما خفضت السيارات الحكومية. وكانت هذه التشريعات في حقيقة الأمر براقة من ناحية الشكل، ولم تكن كافية لمواكبة ما كان يجول في عقل رجال الحركة. كان من الواضح أن هذه الحركة لم تحقق انقلاباً ناجحاً فقط، ولكنهم تطلعوا للقيام بثورة اجتماعية.

تطهير الجيش والسيطرة على القوات المسلحة

        بعد أيام قليلة من نجاح الحركة، بذل مجلس القيادة جهداً كبيراً في إعادة تنظيم الجيش، وتطهيره باستبعاد بعض القيادات العسكرية، واستبدالها بقيادات جديدة، معروفة بكفاءتها وقدرتها، وولائها لأهداف التغيير، والثورة. ونقل بعضهم إلى وظائف أخرى مدنية، بالمرتب نفسه، وأحيل البعض إلى المعاش. وكان هذا الإجراء يراه مجلس القيادة من أهم الإجراءات لضمان استمرار السيطرة على الجيش، وتأمينه، وضمان ولائه لهم، باعتباره السند الرئيسي والأساسي لمجلس القيادة، في قراراتها.

ويذكر البكباشي عبدالمنعم عبدالرؤوف:

        إنه ذهب في أوائل أغسطس 1952، لرئاسة سلاح المشاة، فشاهد مؤتمراً مكوناً من حوالي عشرة ضباط، تتراوح رتبهم ما بين اليوزباشي والبكباشي، منهم البكباشي أحمد حمدي عبيد، والصاغ وحيد رمضان، واليوزباشي محمد محمود عطية. وبدأوا يتصرفون في مستقبل ضباط المشاة، يشطبون من شاءوا، ويزكون من شاءوا، فحز في نفسي هذا التصرف في مستقبل ضباط الجيش الأكفاء، بمثل هذه الطريقة الظالمة، ومن هؤلاء الضباط الأكفاء: أميرالاي محمد كامل الرحمانى، أميرالاي صادق علي السيد، وقائد أسراب صلاح مصطفى، وقائد لواء جوي إبراهيم جزارين وغيرهم. ولم يكتف عبدالمنعم عبدالرؤوف، بل كتب مذكرة بذلك، وشرح الأمر لعبدالحكيم عامر، واتصل بجمال عبدالناصر، من دون جدوى.

        ويقول خالد محيي الدين: "منذ البداية كانت هناك حساسية، بدأت تتفاقم فيما بعد، فمحمد نجيب لم يكن معنا في لجنة القيادة، قبل الثورة[4]، لكن الحساسية تبقى، خاصة عندما يحاول محمد نجيب أن يلعب دور الرئيس. وكان هناك كذلك رشاد مهنا، وكان يتطلع، منذ أن انضم إلينا، قبل الثورة إلى دور قيادي، وكان له ثقل كبير في المدفعية، ورأى جمال عبدالناصر إبعاده، عن طريق إغرائه بمنصب رفيع، هو "عضو مجلس الوصاية". كذلك واجهتنا مشكلة السيطرة على القوات المسلحة، وقررنا، كسبيل لتأمين القوات المسلحة، إحالة عدد من الضباط إلى المعاش، أو نقلهم، إلى وظائف مدنية. وكان هذا الأمر طبيعياً؛ فقد وجدنا أنفسنا فجأة حكاماً لهذا البلد، واقتنعنا بأن الخطوة الأولى والحاسمة، لضمان نجاحنا، هي تأمين القوات المسلحة، وبدأت حركة تغيير ونقل شاملة في المواقع القيادية في الجيش. وقد تابعت هذه العملية في سلاح الفرسان، والحقيقة أننا حاولنا أن نكون موضوعيين قدر الإمكان، ولكن كانت تحكمنا قضية أساسية، فإذا كان حسين الشافعي قد أصبح قائداً لسلاح الفرسان، فلابد أن تُبعد كل الرتب الأعلى منه عن السلاح، كما نُقل بعض الضباط إلى قيادة الجيش، والبعض الآخر إلى العمليات، وآخرون إلى خفر السواحل، والجيش المرابط، والبعض نقل إلى وظائف مدنية، والبعض الآخر أحيل إلى المعاش، بعد ترقيته إلى رتبة أعلى.

        وعلى أية حال تم تأمين سلاح الفرسان تماماً، بأقل قدر ممكن من الجراح، فقد راعينا أن نريح الناس قدر الإمكان. أما في الأسلحة الأخرى، فقد علمت، فيما بعد، أن الكثيرين قد أضيروا، وربما كانت هناك عوامل شخصية في عمليات الإبعاد أو الاستبعاد. ومن الطبيعي أن يترتب على عملية تأمين القوات المسلحة التي أدت إلى استبعاد العديد من القيادات، حركة ترقيات واسعة، لم تشهد لها القوات المسلحة مثيلاً.

        لكنني أود أن أتوقف هنا لأوضح مسألة مهمة، فقد كان عبدالناصر يرغب في تطهير الجيش من الخصوم، لكنه لم يكن يرغب في إعطاء أي مساحة جديدة للأصدقاء، وتحديداً "الضباط الأحرار". ذلك إن عبدالناصر، ومنذ البداية، بدأ يستشعر حساسية خاصة، إزاء "الضباط الأحرار"، الذين يتدخلون في كل شيء، ويتحدثون بصفتهم أصحاب "الحركة"، وصناعها، وربما كان عبدالناصر يخشى من هؤلاء الضباط، أكثر من غيرهم، فقد تدربوا، بشكل أو بآخر، على العمل السري المنظم، وعلى القيام بانقلاب متقن إلى حد ما، ومن ثم فإنه لم يحرص على تسليم أي منهم موقعاً قيادياً في الجيش، وإنما اختار القيادات الجديدة، على أساس الكفاءة والوطنية، ولم يكن الانتساب "للضباط الأحرار" واحداً من المعايير المطلوبة، عند الاختيار، وبهذا نجح عبدالناصر في تأمين الجيش من خصومه، ومن أصدقائه معاً.

        ويذكر اليوزباشي جمال منصور، أحد مؤسسي اللجنة التأسيسية لسلاح الفرسان، أن خالد محيي الدين ذهب إليه، في رئاسة الفرسان، في النصف الثاني من أغسطس 1952، يبلغه أن جمال عبدالناصر يعرض عليك الإحالة إلى المعاش، بأعلى رتبة (القائمقام) على أن تختار أي شركة من الشركات، ويتم تعيينك مديراً لها. ولكنني رفضت ذلك. وعرفت أن القيادة الجديدة ليست على استعداد للتعاون مع أي من "الأحرار"، الذين كان لهم دور في التمهيد للثورة، ونجاحها. وفي أحد اجتماعات "الضباط الأحرار" في مكتبي برئاسة سلاح الفرسان تحدث "الأحرار" عن الوضع في البلاد معبرين عن ضرورة إقامة حياة ديموقراطية سليمة تنفيذاً لأحد المبادئ الستة التي جاءت للضباط الأحرار.

        وقلت: لقد قامت الثورة من أجل الشعب، ومن أجل إرساء القواعد لديموقراطية سليمة، إعمالاً لأحد مبادئها الستة. ونحن نرفض أي نظام سوى النظام الديموقراطي، وإننا نخلع "فاروق" لكي نأتي في مكانه بـ"13 فاروق"  (وكان عدد أعضاء مجلس الثورة 13 عضواً في ذاك الحين)". وقرب انتهاء الاجتماع في المساء، خرج الصاغ صلاح عيداروس متوجهاً إلى مجلس قيادة الثورة وقص عليه تفاصيل ما حدث في الاجتماع.

        ودعا جمال عبدالناصر إلى اجتماع عاجل لمجلس الثورة، في الليلة نفسها، وتحدث عما أبلغه به الصاغ عيداروس. وقال عبدالناصر لأعضاء المجلس: "لقد سبق أن حذرتكم من "الصف الثاني"، وضرورة التخلص منه، لأن أي عمل مضاد للثورة لن يأتي إلا على يد هذه الجماعة، وها أنا أحذركم، مرة أخرى، من هؤلاء الضباط، وإلا كانت العواقب وخيمة. فلا أريد أن تهتز الكراسي من تحتكم".

        وفي اليوم التالي، جاءني خالد محيي الدين، وقال: "لقد اتخذ مجلس الثورة قراراً بإبعادك عن سلاح الفرسان، وهذا كان أمراً ضرورياً لأنك تتولى مركزاً مهماً في السلاح، أما عن باقي الزملاء، فقد تقرر نقلهم إلى وحدات إدارية، داخل السلاح، فتم نقل عبدالحميد كفافي إلى الأساس، ومصطفى نصير إلى مركز التدريب الفني. وأضاف خالد أن ما حدث، في جلسة الأمس، أوضح بجلاء أنه لم يعد هناك تفاهم بين القيادة وبينكم. فقلت له: إنني أنا الذي قلت إننا لم نخلع "فاروق" لكي نأتي في مكانه بـ"13 فاروق"، وإنني إذا كنت قد قلت هذا الكلام، وما زلت مصمماً عليه، استناداً إلى أحد المبادئ الستة، التي وضعناها قبل الثورة، وقد رأى مجلس الثورة إبعادي عن السلاح، فلماذا ينقل باقي الزملاء؟!

        وأضفت قائلاً: "إن ما قام به مجلس الثورة لا أجد له ترجمة، إلا رغبة سافرة من المجلس، للتخلص من كل من كان له دور أساسي في الإعداد للثورة، وإن "الخط الثاني"، كما تلقبونه، والذي رأي المجلس التخلص منه، قد بدأ فعلاً بإبعاد الجماعة التأسيسية للضباط الأحرار، في سلاح الفرسان. وكان لهذا القرار صدى داخل السلاح وبين ضباطه. ومازلت أذكر ما قاله "كفافي" في ذاك الوقت: "إنني أشعر بقوتي، إن ما عليَّ إلا أن أدير المدافع، في آلاي السيارات المدرعة، الذي أقوده، وأقذف بقنابلها مجلس الثورة، وأحطم جدرانه على رؤوس أعضائه".

مرحلة الانقلاب

        حتى يوم 2 أغسطس 1952، وكان على رأس السلطة التنفيذية الظاهرة رئيس الوزراء، علي ماهر. أما الأحزاب فكانت لازالت قائمة، حزب أغلبية ممثل في الوفد، وأحزاب أقلية وبرلمان معطل، يمثل حزب الأغلبية الوفدية، أمَّا الصورة العامة الظاهرة، للعمل الإيجابي، فلم تكن قد أخذت أكثر من ظاهرة انقلاب عسكري أحدث تغييراً كبيراً في شكل، ورأس الدولة، وهو الملك، ومجلس وصاية، مفروض أن يخضع خضوعاً كاملاً لإرادة ضباط الجيش. وكذلك كان هناك رئيس وزراء يحاول، قدر المستطاع، الخروج من ظاهرة الخضوع للضباط الثوار. وحتى الصفوة العسكرية، التي قامت بهذا الانقلاب، لم تكن تطلق على نفسها أكثر من هاتين التسميتين: الانقلاب أو الحركة، ولأجل أن تتحول إلى ثورة يلزمها أن تحدث تغييرات جذرية في الهيكل الأساسي للدولة، إدارياً، واجتماعياً، واقتصادياً.

موقف الإخوان

        رحبت جماعة الإخوان المسلمين بالثورة، عند قيامها. وكانت العلاقة طيبة، فبادر الإخوان، وأصدروا بياناً، في أول أغسطس 1952، رحبوا فيه بالثورة، وأبدوا أملهم أن تقوم الثورة بتصحيح ما أفسده العهد السالف، وطالبوا، بعد عزل الملك بتطهير كل من شاركه في إفساد الحكم، وملخص بيانهم: "لقد أصبح لزاماً أن تمتد يد التطهير إلى هؤلاء الحكام. فالواجب المبادرة إلى تنحيتهم عن الحياة العامة، وحرمانهم من مزاولة النشاط السياسي، حتى يقدموا للمحاكمة عن كل ما يوجه للملك السابق من اتهامات، وما يعاب عليه من تصرفات، وما تظهره الملفات الحكومية. وحتى يكونوا عبرة لكل من يتولى أمور هذه البلاد، إذ يوقنون أن عقاب الشعب المتربص، أحق بأن يأخذ مجراه".

        كما طالب الإخوان بتغيير جذري في المجتمع، ورفضوا فكرة عودة البرلمان الوفدي المنحل، وطالبوا بعودة الحياة النيابية، على أساس دستور جديد، تضعه جمعية تأسيسية. لم يكن هناك خلاف جذري إلا محاولة الإخوان أن يكون لهم شيء من الوصاية على أعمال مجلس الثورة.

التحضير لتقرير شكل الحكم (ملكي أم جمهوري)

        منذ 28 يوليه 1952، بدأ عبدالناصر وحده التحضير للبحث القانوني، لاختيار النظام البديل عن النظام الملكي، رغم أن موضوع من يحل محل الملك، بعد رحيله مباشرة، تم دراسته وتقريره، بمعرفة مجلس القيادة مجتمعاً، وباستشارة المستشارين القانونيين، لأجل الإعلان عن مجلس الوصاية على ولي العهد الطفل، وذلك من الناحية الشكلية، فإن عبدالناصر كان يعد في السر لإعلان النظام الجمهوري، في الوقت المناسب.

        بعد أن قبل محمود رشيد المحامي التعاون مع علي ماهر باشا، وفي ثاني يوم 24 يوليه 1952، وبعد متابعته لتصرفات ضباط الانقلاب، قال لعلي ماهر "هذه ثورة يا رفعة الباشا، وليست مطالب للجيش فقط، وأعتقد أن حكاية المطالب، التي قدمها اللواء محمد نجيب وزملاؤه، ليست كل شيء، والمسألة أكبر من ذلك وأخطر". ولم يؤيد علي ماهر رأيه، وكان مقتنعاً بأن المسألة لا تعدو أن تكون مجموعة مطالب عسكرية، وأنه سيعمل على تحقيقها، لدى الملك، حرصاً على إنهاء الزوبعة. ولكن حين طالب الثوار بإقالة الملك، فوجئ علي ماهر، وكانت المفاجأة مذهلة. وبعد أن عاد إلى القاهرة، قال علي ماهر لجمال عبدالناصر، وكان يبدو لعلي ماهر أنه العضو البارز في مجلس قيادة الثورة: "لقد صدق رشيد" فسأله عبدالناصر:

        "ومن هو محمود رشيد هذا" وانقطع الحديث. ولكن في 28 يوليه 1952، بعد رحيل المـلك بيومين فقط، استدعى عبدالناصر الأستاذ محمود رشيد بمقر القيادة، صباح يوم 29 يوليه 1952، وأخبره بأنه سمع عنه، وعرف ماضيه السياسي وخبرته، وأنه في حاجة إلى خبرته؛ لأنه هو وضباط القيادة العسكرية ليس لهم صلات قوية بالحياة المدنية، ومحتاجون لتجاربه، وطلب منه العمل معه هو شخصياً، كمستشار، ووافق. وكلفه عبدالناصر بعمل بحث دستوري كامل، لتحويل مصر إلى جمهورية، على أن يقوم بهذه الدراسة في سرية تامة، من دون علم باقي أعضاء مجلس القيادة. وظل رشيد يعمل مع جمال عبدالناصر، حتى منتصف يناير 1953. وقدم له رأيه وخبرته في كل الموضوعات الحزبية والسياسيـة، ولكنه لاحظ، بعين المدقق الخبير، أن عبدالناصر كان يخشـى زملاءه، بل كان يتوجس منهم الشر، وكانوا هم يعاملونـه بكل احتـرام، ولكن كواحد منهم.

        وكانوا هم، كذلك، يحاولون فرض سيطرتهم، وإيجاد مكان قوي لهم، في مجلس القيـادة وكان أبرزهم في هذا الصراع الصامت والمقنع، هو زكريا محيي الدين[5].

        بدأ رشيد يعمل سراً، وكل ما أنجز شيئاً من البحث، عرضه مكتوباً على جمال عبدالناصر شخصياً، فكان إذا قدم أحد زملائه عليهما، يتوقف عن الحديث، ويغطي الأوراق. ولكن زكريا محيي الدين الوحيد، الذي كان يتابعهما باهتمام ويتعمد الدخول كلما حضر رشيد، ويسأل عما ينجزانه، أكثر من مرة، وكان عبدالناصر يبلغه أنه فقط يستزيد من الأستاذ رشيد، بخبرته السابقة عن الأحزاب والحكومات السابقة. وبعد أن انتهى من بحثه ودراسته، هنأه جمال عبدالناصر ولمَّا سأله رشيد عما إذا كان ينوي إعلان الجمهورية، رد عليه عبدالناصر. إنها مسألة خطيرة جداً، وهو يريد تأمين الثورة، حتى تقوم بهذه الخطوة داخلياً وخارجياً".

        وبعد ذلك بعدة أيام استدعاه زكريا محيي الدين، في مبنى المخابرات، وطلب منه معلومات عما كان يدور، بينه وبين عبدالناصر، وعما قدمه له من أوراق. ورفض الإجابة بحجة أن عليه أن يسأل زميله، جمال عبدالناصر، إذا أراد.




[1]  هي الثكنات التي بمحطة مصطفى باشا ( فاضل ) من محطات ترام الرمل، وتسمى الآن ثكنات مصطفى كامل كما تسمى الآن محطة مصطفى كامل.

[2]  يقصد خالد محيي الدين بالاجتماع الأول هو أول اجتماع للجنة القيادة بعد نجاح الحركة ورحيل فاروق واعتقد أنه عقد يوم 27 يوليه عام1952.

[3]  يذكر خالد محيي الدين في `والآن أتكلم`،: `وأود هنا أن أقرر أن يوسف صديق قد ضم إلى مجلس القيادة بسبب دوره الشخصي وليس لأسباب سياسية أو بسبب كونه شيوعياً، بل لعل جمال عبدالناصر لم يكن يعرف حتى ذلك الحين أن يوسف صديق شيوعي.

[4]  يؤكد خالد محيي الدين بقوله: `أنني لا أزال أقرر أن محمد نجيب قد قدم لنا اسمه ومستقبله وتضامن معنا وتحمل المسؤولية عن عمل لم يعرف تفاصيله ولم يبال بما قد يترتب عليه من نتائج خطيرة.

[5]  ومحمود رشيد من مواليد عام1904 وتخرج من كلية الحقوق عام1926 وكان من زعماء الطلبة بالجامعة لإشتغاله بالعمل السياسي. وبعد تخرجه مباشرة التحق بوظيفة حكومية بوزارة الداخلية، عام1930 ثم عمل سكرتيراً لوزير الداخلية، إسماعيل صدقي باشا، وفصل من الخدمة عام1933 لأسباب سياسية، وعاد إلى المحاماة. وقام بنشاط سياسي بارز، أيام الائتلاف الحزبي عام1936 تمهيداً لتوقيع اتفاقية عام1936. بعد ذلك، وحتى قيام الثورة عام 1952، شغل منصب مدير مكتب لثلاثة من رؤساء الحكومات، أحمد ماهر، وحسين سرى أثناء الحرب، ثم مع إسماعيل صدقي. وكان صديقاً لعلي ماهر باشا. ( اُنظر الفصل الخاص بإعلان الجمهورية).

[6]  الدكتور راشد البراوي أستاذ اقتصاد شهير ومترجم لعدد من الكتب الاشتراكية، منها ترجمة كتاب كارل ماركس الشهير رأس المال وله كتب عن مشكلة البترول واقتصاديات الشرق الأوسط وكتاب المذاهب الاشتراكية المعاصرة، وكان على علاقة ببعض ضباط الجيش قبل الثورة خاصة ذوي الاتجاهات اليسارية منهم، فهو من قدامى اليساريين الذين كتبوا عن الاشتراكية في مصر، وكان على علاقة طيبة بجمال عبدالناصر.

[7]  يذكر خالد محيي الدين: اعتذر السنهوري عن الوزارة مبديا دهشته قائلا: أن الأمر كان بسيطا للغاية وأنه فوجىء بهذه الضحية، فقد كان جالسا على أحد المقاهي عندما مر عليه شاب يحمل عريضة يجمع عليها توقيعات للمطالبة بعدم استخدام السلاح النووي في أية حرب مقبلة ووقع السنهوري ولم يعرف أن هذا التصرف البسيط سوف يعتبر عند الأمريكيين عملا خطيرا بحيث يضعون صاحبه في مصاف الشيوعيين ولم يكن يعرف أن هذا التوقيع سوف يحرمه بعد أكثر من عام من منصب رئيس الوزراء.