إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / ثورة 23 يوليه، في مصر




وثيقة التنازل عن العرش
وداع علي ماهر
محمد نجيب وعبدالناصر
محاصرة قصر عابدين
مع ضباط الكتيبة (13) مشاة
لقاء مع الإخوان المسلمين
مقر مجلس قيادة الثورة
مقر رأس التين بالإسكندرية
اللواء محمد نجيب وعلي ماهر
الملك فاروق والسفير البريطاني
الملك فاروق في احتفال
البيان الأول للثورة
اليخت الملكي المحروسة
الرسالة الموجهة للملك فاروق
اجتماع مجلس قيادة الثورة
تعليمات بعودة اليخت المحروسة
دبابة أمام قصر المنتزه
زيارة للوحدات العسكرية





الفصل السابع

المهام الوطنية التي واجهت ضباط الحركة

        أصبح يواجه المؤسسة الوطنية، متمثلة في قيادة حركة الجيش، بعد رحيل الملك، المهام الوطنية الآتية:

1. التخلص من الاحتلال البريطاني

        كان هذا هو هدف الثورة الأول، في بدايتها. وقد أُجلت هذه المهمة بعض الوقت، للاستعداد الكامل لها. وكان من الواجب أن يسبقها التخلص من الأحزاب السياسية المصرية التقليدية، والتي تعودت على التعاون مع السفارة البريطانية والملك، ولو أن هذه الأحزاب ابتهجت بالتخلص من الملك، ولكن لم يصل هذا الابتهاج لدرجة التأييد المطلق لهذه الحركة.

        كانت قيادة حركة الجيش على وعي كامل بأن جلاء القوات البريطانية عن أرض الوطن، سوف يتم من خلال أسلوب التفاوض، إضافة إلى أن هذه المفاوضات تاريخياً، كانت العقبة أمامها، هي المسألة السودانية، لذلك كان يجب الانتهاء أولاً من الاتفاق، مع إنجلترا، على إبرام اتفاقية تحقق مصلحة السودانيين، بعيداً عن أي وجود إنجليزي بالسودان. سواء بتحقيق أمل شعبي مصر والسودان بالاستقلال، تحت مظلة مصر والسودان، أو الاستقلال التام خالصاً من أي وجود، أو سيطرة، أو سيادة بريطانية.

2. تحقيق التغيير الاجتماعي في مصر

        إعادة ترتيب المجتمع لتحقيق شيء من العدالة الاجتماعية، وذلك بإصدار تشريع لإعادة توزيع الملكية، التي طال تحكمها في مصير الفقراء، تحت سيطرة الأغنياء المحتكرين لحكم البلاد. وكذا إعادة تنظيم المؤسسات الاقتصادية، والتوسع في إنشاء المؤسسات الإنتاجية، صناعية وزراعية، لتحقيق الرفاهية لمصر، التي طال استغلال الأجانب لخيراتها، ومحاولة إحداث هذه التغييرات الثورية الضرورية، تحت مظلة التشريع والقوانين القائمة، وعلى رأسها الدستور القديم. وفي حالة الفشل، فقد كان من الواجب إلغاء دستور عام 1923، واستبداله بدستور آخر، يتطابق مع المجتمع الجديد لصالح الجماهير أو النظر في العمل بدستور مؤقت، يحقق سرعة اتخاذ هذه التغييرات

تطهير الأحزاب

        أذاع القائد العام، بعد منتصف ليلة 31 يوليه 1952، بياناً، دعا فيه الأحزاب والهيئات إلى تطهير صفوفها، كما فعل الجيش. وأن تعلن الأحزاب برامجها محددة واضحة المعالم، حتى يكون الشعب على بينة من أمره. ولكن هذه الدعوة لم تقابل من الأحزاب مقابلة جدية، وظنت الأحزاب أن ثورة 23 يوليه ما هي إلا انقلاب وزاري محدود المدى، قصير العمر، وأنه لا يلبث أن تُطوى صفحته، فتعود سيرتها الأولى من التطاحن على مقاعد الحكم، واحتراف السياسة.

        وحمل علي ماهر على الأحزاب، وقال بلزوم تطهيرها، وقال إن النظام البرلماني لم يستطع خدمة البلاد، لتأثره بمناورات الأحزاب، التي تستهدف مصالحها الخاصة. وأن الأحزاب الحالية، في مصر، هي قوة تركيز للتدخل الأجنبي، وأننا أوضحنا للأحزاب القواعد الصحيحة التي يجب أن تقوم عليها، فإذا لم تنفذها ولم يعملوا بها فإننا نفرضها عليهم.

        وأذاع في 10 أغسطس بياناً خطيراً حمل فيه على الأحزاب حملة شعواء، وقال أن الشعب يضيق ذرعاً بالأحزاب، وأن الخصومة الحزبية وصلت إلى حد الجريمة، وأن الحياة البرلمانية لن تتطهر إلا بتطهير الأحزاب، وقال في موطن آخر: إن الأحزاب بوضعها الراهن مقضي عليها، فإما تنظيم وازدهار، وإما زوال وانهيار!.

        وأذاعت قيادة الثورة، في الوقت نفسه، بياناً بأن الانتخابات ستجرى في شهر فبراير 1953، لإعطاء فرصة كافية للأحزاب، لتطهير صفوفها تطهيراً كاملاً. وكان لإذاعة القيادة وإذاعة علي ماهر، في يوم واحد، معنى واضح مفهوم، ودعوة صريحة للأحزاب أن تطهر نفسها. على أن الأحزاب لم تفكر جدياً في تطهير صفوفها، وظلت تنتظر وتتربص أن يجيء الوقت المناسب للتخلص من الثورة فتعود إلى الحكم.

        وأخذت تتظاهر بقبول دعوة التطهير، وتنشر برنامجها، وتعلن عن نفسها بعبارات براقة وظهر تجاهلها للثورة في كونها بدأت تعاملها، كما كانت معاملتها السابقة للقصر الملكي، فيأخذونها بالصبر والمطاولة حتى ينالوا بغيتهم. ففي 4 أغسطس 1952 قرر الوفد المصري  فصل اثنى عشر عضواً من أعضاء الهيئة الوفدية اتضح أنهم أعضاء ثانويين ليسوا هم المقصودين بدعوة التطهير. وقد تلا فؤاد سراج الدين، سكرتير عام الوفد، قرار فصل هؤلاء الأعضاء، فكان هذا القرار استجابة صورية لدعوة التطهير، مع إبقاء كيان الوفد كما كان من قبل.

        وأصدر الحزب السعدي يوم 28 أغسطس بياناً، بأن إبراهيم عبدالهادي، رئيس الحزب، تنحى عن رئاسته. وأن حامد جودة تنحى عن وكالة الحزب. وقررت لجنة الحزب الرئيسية وقف صدور صحيفة الأساس، (لسان حال الحزب السعدي)، وألفت لجنة مؤقتة لمكتب الحزب برئاسة محمود غالب، تمهيداً لرئاسته للحزب، ونشرت صحيفة الأساس لسان الحزب هذه القرارات، وزار فريق من أعضاء مجلس إدارته القائد العام، يوم 28 أغسطس، وأبلغوه ما صدر من قرارات، فرحب بها وبالروح الطيبة التي استجابت بسرعة إلى داعي الوطنية والإصلاح. وفي مساء 28 أغسطس توجه مندوب القيادة إلى نادي سعد زغلول (نادي الحزب السعدي)، وقابل إبراهيم عبدالهادي، وشكر له موقفه في التنحي عن رئاسة الحزب. ولكن حامد جودة ما لبث أن أعلن أنه لم يتنح عن وكالة الحزب، ثم تنصل إبراهيم عبدالهادي بعد ذلك عن تنحيه، هو كذلك.

        أما حزب الأحرار الدستوريين فقد صرح رجاله بأنهم ليسوا في حاجة إلى التطهير!.

        على أثر ذلك صرح القائد العام بأنه، من المحتمل، أن يصبح تدخل الجيش أمراً ضرورياً، إذا فشلت الأحزاب السياسية في تطهير نفسها، وأن إبعاد عناصر الفساد شرط جوهري، للعودة إلى حكومة برلمانية أمينة.

        وقال متحدث، باسم قيادة الثورة: "إن الجيش لا يُهزم، وحينما قال الجيش إنه سيمضي في معركة التطهير، كان يعني ما يقول، وقال إن النتيجة الحتمية لعدم السير في التطهير هي حل الأحزاب". وقال القائد العام إننا لن نتهاون في أي أمر من أمور التطهير، مهما يكن، وإننا ننصح ثم نحذر ثم ننذر، وإلا فلنا مع الأحزاب شأن آخر وإن برامج الأحزاب المصرية واحدة وهي تقوم على الأشخاص دون المبادئ.

        لم تكترث الأحزاب لهذه النذر، وظلت، تنتظر الوقت المناسب، لتنقض على الثورة.

حوادث الشغب في كفر الدوار

        في 12 ، 13 أغسطس 1952، أضرب العمال بشركة الغزل والمنسوجات، في كفر الدوار مطالبين رفع أجورهم، ثم تدخلت عناصر مشاغبة، فتطورت الإضرابات إلى أعمال عنف وهاجم العمال مكاتب الشركة، والمصنع، وأشعلوا النار في سيارات الشركة، ومكاتبها. واستنجدت إدارة الشركة بالجيش، الذي أنقذ الموقف. وقد قتل المتظاهرون عشرة من جنود الشرطة والعمال. وظهر أيامها أن مثل هذه الأعمال العنيفة كان منتظراً أن تحدث في المصانع الأخرى، في المحلة الكبرى، وشبرا الخيمة، وأعلن وقتها أن الغرض من هذه الحركة، كان هو تشريد آلاف العمال لتحريضهم ضد الجيش، والقيام بثورة مضادة.

        تصدت قيادة الثورة لهذا الشغب، بالحزم والشدة، وتشكلت محكمة عسكرية، برئاسة عبدالمنعم أمين، وعضوية حسن إبراهيم، وأحد الضباط الأحرار عبدالعظيم شحاتة، والمدعي كان عبده مراد. وأجريت المحاكمة، بقانون الأحكام العرفية، الذي كان معمولاً به، منذ حريق القاهرة. وأصدرت المحكمة حكمها بالإعدام على العاملين خميس، والبقري، ونفذ الحكم. ووصل إلى مجلس الثورة برقيات عديدة من الهيئات السياسية والعمالية، من دول الكتلة الشرقية، تهاجم الأحكام والقيادة المصرية وتتهم الفاشية العسكرية المصرية، بتنفيذ تعليمات المخابرات الأمريكية.

ويذكر القائمقام عبدالمنعم أمين، رئيس المحكمة العسكرية، التي أصدرت الأحكام بقوله

        "كان خميس والبقري ينفذان مخططاً شيوعياً، لإشاعة الفوضى والتخريب، في كفر الدوار، وهو مخطط لم يكن موقوفاً على كفر الدوار فحسب، بل المحلة الكبرى وشبرا الخيمة، ولم يكن سراً أن الحركة الشيوعية بقيت مسيطرة على بعض العناصر العمالية المصرية، حتى بعد قيام الثورة، وهدف هذه الحركة تشريد آلاف العمال، لشحنهم ضد الجيش، والقيام بثورة مضادة".

        "ولقد وجدت هؤلاء العملاء، من المخربين، قد قتلوا عشرة أشخاص، جنود شرطة وعمال إلى جانب الحريق والتخريب الذي أحدثوه في كفر الدوار. وعقدنا محكمة ثورة، توليت رئاستها، من خلال قانون الأحكام العرفية، الذي كان معمولاً به منذ حريق القاهرة، نظرنا الدعوى وأصدرنا أحكامنا".

ويقول عبدالرحمن الرافعي

        تبين من التحقيق أن حوادث الشغب هذه، لم تكن مرتجلة، بل دُبرت بإحكام. وأن العمال المشاغبين والمضربين لم تكن لهم مطالب جماعية، قبل هذه الحوادث، وأنهم كانوا من أحسن الطبقات العاملة، أجوراً ومسكناً، ومعيشة، وأن الشركة كانت تعاملهم معاملة حسنة. ولاشك أن ثورة هؤلاء العمال كانت حركة مدبرة من بعض المحرضين، الذين أرادوا محاربة ثورة 23 يوليه، والتمهيد لفشلها بإحداث اضطرابات وفتن، في داخل البلاد، تظهرها بمظهر العجز عن حفظ الأمن".

        وقد قبضت النيابة على رئيس لجنة الوفد، بكفر الدوار، بتهمة التحريض على حوادث الشغب، ولكن أفرج عنه لعدم كفاية أدلة الاتهام. وتبين من سرعة تعاقب حوادث الشغب، أنه، لولا قوة الجيش، وتدخله السريع، لقمع الفتنة، لتعددت وقائع الشغب، في أنحاء متفرقة، وتجددت أحداث مشابهة لحوادث حريق القاهرة. تلك الحوادث التي لم تُقمع إلا حين تدخل الجيش، وأعاد النظام في يناير عام 1953. وقد حكمت المحكمة العسكرية العليا في 8 أغسطس بالإعدام على محمد مصطفى خميس، أحد عمال المصنع وقائد الشغب. وعلى محمد حسن البقري ونفذ فيهما حكم الإعدام بسجن الحضرة بالإسكندرية. وحُكم على آخرين بالسجن والغرامة. فاستتب الأمن والنظام في هذه المنطقة وفي غيرها.

        وتتشابه هذه الرواية مع رواية محمد نجيب الذي يقول معقباً:

وقيل لنا: إن المسؤولين عن هذه التمرد من الشيوعيين، الذين كانوا في الحزب الشيوعي المنحل، المعروف باسم حدتو. وقيل لنا: إنها محاولة من الشيوعيين للتخلص من الثورة، ومن رجالها. وفي الحقيقة، لم أعرف حتى الآن ما هو السبب الحقيقي، وراء ما حدث في كفر الدوار، خاصة وأن كل تصريحاتي، في ذلك الوقت، كانت عن العدالة الاجتماعية، ومقاومة الفساد، ورفع مستوى الطبقات الكادحة، من عمال وفلاحين. لماذا تظاهروا ضدنا في كفر الدوار إذاً، الله أعلم. وكان علي أن أعيد النظام بعد هذه الفوضى، فأمرت بتشكيل مجلس عسكري، ينعقد في المصنع نفسه، برئاسة عبدالمنعم أمين، لتظهر الحقيقة أو على الأقل نتلمس الطريق إليها.

        كان اللذان حكم عليها بالإعدام هما: مصطفى خميس ومحمد البقري وهما أصلاً من العمال. وأرسل لي عبدالمنعم أمين الحكم للتصديق عليه، وتوقفت، كيف أصدق على حكم بالإعدام، وحركتنا لم يمض عليها سوى أسابيع قليلة،‍ وطلبت أن أقابل خميس والبقري. ووجدت على مكتبي أكواماً من التقارير المخيفة، التي تفرض علينا الخوف من الاضطرابات العمالية، وتطالبنا بالضرب على يد كل من يتصور إمكانية قلب العمال علينا. وأحسست أنها تقارير كاذبة. وأنها كتبت بالأسلوب الذي كان يكتب به البوليس السياسي تقاريره إلى الملك.

        وحضر مصطفى خميس إلى مكتبي بالقيادة، دخل ثابتاً، مرفوع الرأس، وكأنه في حفل زفاف. طلبت منه أن يتعاون مع المدعي العام، ويشرح له الدوافع، التي جعلته يفعل ذلك، أو ليقل لنا من وراءه. لكنه قال في إصرار: لا أحد ورائي. وقال: أنا لم أرتكب ما يستحق الإعدام. فلم أجد مفراً من التصديق على الحكم.

        بعد يومين من حادث كفر الدوار، وقع حادث من نوع آتر في مدينة مغاغة، بالقرب من المنيا، في الصعيد. امتطى أحد ملاك الأرض، هو عدلي لملوم، جواده، ومعه 35 رجلاً، وحوطوا الفلاحين، وأخذوا يطلقون النار في الهواء على طريقة رعاة البقر، معارضين الفكرة التي قيلت عن تحديد الملكية، وذلك قبل أن يصدر القانون. وقبض على عدلي لملوم وآخرين، وقدموا لمجلس عسكري عقد في المنيا، ولأن الحادث لم يسفر عن ضحايا، فقد اكتفت المحكمة بحبس لملوم مدى الحياة.

        وعندما نفذنا الحكم في خميس والبقري هاجمتنا أجهزة الإعلام الاشتراكية، واتهمونا بمعاداة التقدم، بينما اتهمتنا بعض أجهزة الإعلام الغربية بالفاشية. وكانوا من قبل يتهموننا بالشيوعية. وسألني مندوب الفيجارو الفرنسية عن ذلك، فقلت له: ليس لحركة الجيش المصري أية اتجاهات شيوعية أو فاشية!‍ لقد كان لنا في كل خطوة وكل يوم أعداء، ولكن، كان نصيبنا من الأعداء أكبر، بعد إلغاء الدستور والأحزاب.

مشروعات قانون الإصلاح الزراعي وقانون العمل

        في 4 أغسطس 1952، نشرت جريدة "الزمان" القاهرية مقالاً للدكتور راشد البراوي، تحت عنوان "تحديد الملكية الزراعية أم رفع ضريبة تصاعدية" تبنى فيه فكرة الدفاع عن تحديد الملكية الزراعية. وقد ندد الدكتور البراوي، في هذا المقال، بالإقطاعيين، وبيَّن الفوائد التي ستعود على البلاد من تحديد الملكية الزراعية وقال أن أثمان الأراضي سوف تهبط، وبالتالي تهبط الإيجارات، فتتجه الأموال إلى الاستثمار الصناعي، حيث تنمو وتزدهر. كما بين أن هذا المشروع. سوف يخلق طبقة من صغار الملاك، تقرب البون الشاسع، بين طبقة كبار الملاك والفلاحين المعدمين.

        شد هذا المقال انتباه جمال عبدالناصر، فاستدعى الدكتور البراوي[6] إلى اجتماع مجلس الثورة. وعرض البراوي فكرته على أعضاء المجلس، وهي أن تحدد ملكية الأراضي الزراعية بما لا يزيد على مائتي فدان. وتحمس عبدالناصر للفكرة، وطلب من الدكتور البراوي أن يضع مشروعاً لقانون إصلاح زراعي. وقد عكف الدكتور راشد البراوي على وضع المشروع، فانتهى منه في اليوم نفسه، وعرضه فوراً على جمال عبدالناصر، ثم عقد مجلس الثورة اجتماعاً لمناقشة المشروع، فلاقى معارضة وتأييداً. كان عبدالناصر على رأس المجموعة المؤيدة، بينما أخذ محمد نجيب الجانب المعارض، ولا ينكر محمد نجيب موقف المعارضة للمشروع ففي مذكراته التي نشرها بعنوان "كلمتي للتاريخ" وضح محمد نجيب موقفه صراحة بقوله: "تتلخص وجهة نظري في أني لا أريد الطفرة، وأن رأيي أن تتم إعادة توزيع الأرض تدريجياً، بفرض ضرائب تصاعدية. بل تزيد الضرائب، زيادة كبيرة، على الأراضي التي تزيد مساحتها على مائتي فدان، مما سيجعل أصحابها يسارعون إلى التخلص منها ببيعها. والمشروع كما قُدم يستلزم إنشاء وزارة للإصلاح الزراعي، وأجهزة إدارية كثيرة، مما سيكلف الدولة أموالاً كبيرة. مع أن الضرائب التصاعدية ستزيد دخل الخزانة العامة، بينما سيثقل كاهل الفلاح بيروقراطية الموظفين الجدد. وكان رأيي عدم إثارة العداوة بين أصحاب الأراضي القدامى، والفلاحين المالكين الجدد للأرض مما سيثير حدة الصراع الطبقي، وهو ما كنت أعمل جاهداً على تجنيب بلادنا ويلاته، كما أن تفتيت الملكية، بهذه الطريقة المتسرعة، سيجعل الإنتاج ينخفض". وقد نشر مشروع قانون الإصلاح الزراعي رقم 178 لعام 1952 في الصحف يوم 12 أغسطس عام 1952. بهدف تحديد ملكية كبار الملاك الزراعيين، وينص على حد أقصى قدره مائتا فدان، لكل فرد، ويتساوى في ذلك العازب والمتزوج، وصاحب الأولاد، والذي لم ينجب. وهذا القدر من الملكية كان يحقق دخلاً لا يقل عن أربعة آلاف من الجنيهات على الأقل، وهو دخل له قيمته في ذاك الوقت. وكان من الممكن أن يخرج القانون بتحديد هذا القرار، ولكن حدث ما حدا بالثورة إلى تعديل الحد الأقصى للملكية، وفرق بين الأعزب ومن له أولاد. فرفع الحد الأقصى، لمن له أولاد، إلى 300 فدان، بخلاف ما يؤول إلى الزوجة.

        بعد نشر مشروع قانون الإصلاح الزراعي في الصحف يوم 12 أغسطس 1952 قام بعض كبار الملاك بتأليف حزب جديد. ولم يتوان أعضاء الحزب الجديد في التحرك. فقابلوا علي ماهر، في مكتبه، برئاسة مجلس الوزراء، في 4 من سبتمبر 1952، وقدموا له مذكرة موقعة من كل من يعقوب بباوي، وسامح موسى، نيابة عن الحزب. ولقي كبار الملاك عطفاً وتشجيعاً من علي ماهر، الذي بين لهم، أثناء المقابلة، أن قانون الإصلاح الزراعي سوف يوضع على أساس متين من التعاون، وليس على أساس خلق صراع طبقي.

        لم يتعامل قانون الإصلاح الزراعي إلا مع فئة الملاك الكبار الذين يمتلك كل منهم أكثر من مائتي، أو ثلاثمائة فدان. وهذه الفئة بلغ عدد أفرادها 2115 مالكاً بينما بلغ عدد أفراد الفئة الوسطى التي تملك من 50 ـ200 فدان تسعة آلاف مالك ولم يمس القانون الفئة الأخيرة الغالبة. كما أن القانون لم يصادر ما فوق الحد الأقصى للملكية إنما قرر تعويضاً للأراضي، التي تستولي عليها الحكومة من الملاك، بما يعادل عشرة أمثال القيمة الايجارية لهذه الأرض، مضافاً إليها قيمة المنشآت الثابتة، وغير الثابتة، والأشجار. وعلى أن تقدر القيمة الايجارية بسبعة أمثال الضريبة الأصلية. هذا فضلاً عن أن القانون أباح لكبار الملاك حرية انتقاء ملكياتهم، كما أباح لهم تقسيم ما زاد على الحد الأقصى، من أراضيهم، إلى قطع صغيرة لا تزيد مساحتها على خمسة أفدنه، ولا تقل عن فدانين، وبيعها لصغار الزراع حتى أكتوبر عام 1953. ولم يكتف القانون بتقديم هذه التسهيلات بل نص على أن يؤدى التعويض بسندات على الحكومة، بفائدة 35%، تستهلك في خلال ثلاثين عاماً.

بيان الإخوان المسلمين في شأن الإصلاح الزراعي

        "إن الملكيات الكبيرة قد أضرت أبلغ الضرر، بالفلاحين والعمال، وسدت في وجوههم فرص التملك، وصيرتهم إلى حال أشبه بحال الأرقاء، فلا سبيل إلى إصلاح جديد، في هذا الميدان، إلا بتقرير حد أعلى للملكية، وبيع الزائد عنه، إلى المعدمين، وصغار الملاك، بأسعار معقولة، تؤدى على أجال طويلة، كما يتعين توزيع جميع الأطيان الأميرية المستصلحة، والتي تستصلح على صغار الملاك والمعدمين خاصة".

الخلافات مع علي ماهر

        بدأ الخلاف مع "علي ماهر" منذ الزيارة التي قام بها إلى مرسى مطروح، خلال فترة العيد (أواخر أغسطس 1952). واتصل به محافظ الصحراء الغربية، البكباشي حسني الدمنهوري. وأثار معه عدة قضايا، منها إعطاء تراخيص إقامة للمصريين، في الصحراء الغربية، وهو نظام افتعلته قوات الاحتلال، بالنسبة لكل مناطق الحدود المصرية. وإصدار علي ماهر قراراً بإلغاء تصاريح الدخول والإقامة للمصريين، في جزء من بلادهم، وأثار معه كذلك قضية إعطاء تراخيص تموين للمصريين المقيمين في الصحراء الغربية، فوافق عليها كذلك.

        وعقد علي ماهر اجتماعاً موسعاً مع الضباط، أثيرت فيه قضية فصل الضباط من الجيش، بعد الثورة. وقال عبدالجليل العمري، وزير المالية، الذي كان مرافقاً له في هذه الزيارة إن خروج عدد كبير من الضباط سوف يثقل كاهل الميزانية، بمعاشات كبيرة. وتطرق الحديث بعد ذلك إلى موضوع الإصلاح الزراعي، فأبدى علي ماهر رأيه في أن تفرض ضرائب تصاعدية، وفي حالة عدم إمكانية تطبيقها، يرفع الحد الأقصى للملكية إلى خمسمائة فدان. وفي اجتماع آخر مع ضباط الإسكندرية، في ناديهم بالشاطبي، وأثيرت هذه القضايا مرة أخرى.

        كانت حجة علي ماهر أن ملاك الأرض هم الفئة المستنيرة المثقفة في المجتمع، وأنه من الصعب تحدي هذه الفئة، وضرب مصالحها. أما أعضاء مجلس الوصاية فقد عارض بهي الدين بركات بشدة مبدأ إصدار هذا القانون، وقال إن هذه الطبقة قد اعتادت على مستوى معين من المعيشة. ومن الصعب المساس بهذا المستوى، أمَّا رشاد مهنا فقد حاول أن يضع العديد من العراقيل أمام إصدار القانون بأي شكل.

        كان جمال سالم من أنصار تحديد الملكية الزراعية، وكان يطالب بمصادرة أراضي كبار الملاك من دون أي تعويض. وكان من رأي رشاد مهنا التعويض وعدم تفتيت الملكية بتوزيع الأراضي على الفلاحين في حدود الخمسة أفدنة. وكان علي ماهر أميل إلى فرض الضرائب التصاعدية بدلاً من تحديد الملكية. وعرض المشروع على لجنة من مجلس الدولة، يرأسها الدكتور عبدالرزاق السنهوري، فأعدته في صيغته القانونية ولكن علي ماهر كان حائراً بين تحديد الملكية، الذي يطالب به مجلس القيادة، وبين الضرائب التصاعدية، التي كان مقتنعاً بها شخصياً، وظل متردداً، أكثر من سبعة أسابيع، لكي يوقع على القانون. وبسبب هذا التأجيل وقعت أول أزمة، بين مجلس القيادة وعلي ماهر. في الاجتماع الموسع في مبنى رئاسة مجلس الوزراء.

        وانتهى الاجتماع بالتصويت لصالح تحديد الملكية بحد أقصى 200 فدان. وقد تنازل رشاد مهنا عن رأيه، بعد المناقشة الطويلة، قائلاً إنه ينزل على رأي الأغلبية، ويوافق على المشروع. وكذا أيده اللواء محمد نجيب، بعد أن كان يعارضه في مجلس القيادة قائلاً: "أنا الآخر أوافق على المشروع نزولاً على رأي الأغلبية". وأعد سليمان حافظ المشروع في صيغته النهائية، لكنه ما أن دخل إلى مجلس الوزراء حتى بقي هناك مؤجلاً، كما سبق.

        أما موقف السنهوري باشا، فإنه اتخذ من قانون الإصلاح الزراعي ذريعة لضرب أي توجه ديموقراطي، قائلاً: "إذا كنتم تريدون كسب الشعب، من خلال قانون الإصلاح الزراعي، فإن آثار هذا القانون لن تظهر، قبل خمس أو ست سنوات، فكيف تسارعون بإجراء الانتخابات في فبراير؟" وبدأ يستحثنا على ضرورة تأجيل الانتخابات لفترة تكفي لضمان اكتساب جماهيرية حقيقية.

        وعلى الرغم من أن الكثيرين من الزملاء، في مجلس القيادة، كانوا يتباعدون رويداً رويداً عن فكرة الانتخابات، وفكرة الديموقراطية، إلا أنهم استخدموا موضوع الانتخابات سبيلاً لإكراه علي ماهر على الاستقالة". وكان الاتفاق، بين مجلس القيادة وعلي ماهر، على أن تتم الانتخابات في شهر فبراير 1953 تنفيذاً لرأي مجلس الدولة، الذي شكل به مجلس الوصاية المؤقت، وطلبوا منه أن يذيع ذلك توضيحاً للشعب. ولكنه أذاع البيان، من دون تحديد شهر فبراير 1953، بل قال إن الانتخابات ستتم، في أقرب فرصة.

        ويقول محمد نجيب: "وأحدث البيان نوعاً من الاحتجاج شمل أعضاء المجلس كله، لعدم تحديده لموعد الانتخابات رغم الاتفاق معا على ذلك، وقررنا إذاعة بيان يتعارض مع بيان علي ماهر، ويحدد شهر فبراير موعداً لإجراء الانتخابات. ويذكر أنور السادات معلقاً، على البيان، الذي أصدره مجلس قيادة الثورة، يؤكد الالتزام بموعد الانتخابات في فبراير 1953، أنه كان صفعة لرئيس الوزراء علي ماهر.

        ويذكر خالد محيي الدين :"وكان الموقف غريباً، مجلس القيادة يصدر بياناً ضد رئيس الوزراء، ووقعت الصحف في حيرة، وأذكر أن أحد الصحفيين قال لي وأنا أمليه البيان: هذا البيان ضد رئيس الوزراء قلت له: أعرف، وأنشره على مسؤوليتنا. ووقع علي ماهر في مأزق حرج بل غاية في الحرج، وقرر أن يستقيل، ثم تراجع عن الاستقالة، ثم عاد إليها، بعد أن أيقن أن ثمة قوة أخرى، غير مجلس الوزراء، هي التي تملك مفاتيح السلطة".

        ثم ما لبث أن ظهر خلاف ثالث حول تعديل الوزارة. كان علي ماهر قد اتفق مع محمد نجيب على أسس تعديل وزارته، التي شكلت، في سرعة شديدة عقب تكليفه بذلك، من معظم عناصر وزارته، التي أقالها الملك، وكأنما ليظهر أمامه في مظهر المنتصر، ثم فوجئ محمد نجيب بمراسيم التعديل الوزاري وقد صدرت على غير ما اتفقا عليه، إذ حصل علي ماهر على توقيع رشاد مهنا، معتقداً أنه يمثل سلطة الجيش.

مجلس القيادة يقرر ضرورة رحيل علي ماهر

        يقول محمد نجيب: عقد مجلس القيادة جلسة مهمة مساء السادس من سبتمبر 1952 في مقر القيادة، حضرها الدكتور عبدالرزاق السنهوري، وسليمان حافظ، سادها شعور بأن القوة، التي غيرنا بها الملك فاروق، قد ضعفت قليلاً، وتعرضت لهجمات من جوانب متعددة. ولما كانت ممارستنا للسياسة محدودة، فقد أخذنا أقصر الطرق للضرب على نقط الوثوب، وهي اعتقال عدد من السياسيين، بغرض وقف التيار المضاد، من دون إصابة المعتقلين بأي أذى. ووقعت قراراً باعتقال 64 من السياسيين، من دون الرجوع إلى رئيس الوزراء، واتجه النقاش، بعد ذلك، في هذه الجلسة المهمة إلى أن مفاجأة علي ماهر بما تم، سوف تدفعه إلى الاستقالة.

        وأصبح السؤال المطروح هو اسم رئيس الوزراء المناسب لهذه المرحلة. واستبعدت كافة الأسماء الحزبية. ورشح سليمان حافظ الدكتور عبدالرزاق السنهوري، رئيساً للوزراء. ووافق اللواء محمد نجيب، لأن ذلك سوف يكون سنداً للقانون والديموقراطية. وفي هذه اللحظة أبلغ الحارس الموجود خارج غرفة اجتماع مجلس القيادة، إن علي صبري يريد جمال عبدالناصر لأمر مهم وعاجل، وكان عبدالناصر منهمكاً في الحديث، فخرج خالد محيي الدين لاستطلاع الأمر، وكان علي صبري يلح في مقابلة عبدالناصر فوراً، فقال له خالد إن هذا مستحيل، فقال: إذن أبلغه، وعلى وجه السرعة، أن السفير الأمريكي غير راض عن اختيار السنهوري رئيساً للوزراء، فالأمريكيون يعتبرونه شيوعياً لأنه وقع على "نداء السلام"، فقال خالد لعلي صبري: لكنني أنا أيضاً وقعت على هذا النداء، فرد علي صبري: لكن أنت لم تكن معروفاً، في هذا الحين، و"كافرى" يقول إن الرأي العام الأمريكي يتعاطف الآن معكم، وهم يعتبرون أن  كل من وقع على "نداء السلام" شيوعي، فلا تخسروا الرأي العام الأمريكي بهذه السهولة[7].

        دخل خالد محيي الدين إلى الاجتماع، وأبلغ الرسالة، وهو منفعل جداً وقال: إنني أرفض بشدة قبول هذا، لأن معناه الحقيقي أن السفارة الأمريكية تتحكم فينا، وفي قرارنا. وهذا أمر خطير جداً، ورد جمال عبدالناصر بهدوء: وأنا كذلك غير موافق.

        وقال جمال سالم معلقاً: إنه رغم يقينه ببطلان هذه التهم، إلا أن مصلحة الحركة، وقد أخذت بعض الصحف في الخارج تتهمها بالشيوعية، تقتضي تفادي كل ما من شأنه أن يستغله الأعداء. ولم يعترض عليه أحد. وقال الدكتور السنهوري، في ثقة هادئة، إنه يقر وجهة نظر جمال سالم بعد أن قال إن الذريعة، التي استندت إليها صحافة الغرب، في اتهامه بالشيوعية ترجع إلى أنه وقع هو وزملاؤه، من مستشاري محكمة القضاء الإداري، بمجلس الدولة، نداء للسلام، ورد، إليهم بالبريد من الخارج، كما ورد مثله لسائر الهيئات أي عام1950، وأن مضمون النداء لا يعدو أن يكون دعوة لإقرار السلام العالمي، بمحاصرة، ومقاومة أسباب الحروب. وأنهى الدكتور السنهوري كلامه طالباً الانتقال للحديث عن المرشح الآخر.

        واستطرد محمد نجيب قائلاً: وظهر اقتراح جديد بترشيح سليمان حافظ، رئيساً للوزراء، ولكنه اعترض في إصرار، وقال بصراحة محمودة: إن مركزه ومكانته لا يسمحان له أن يخلف علي ماهر، في موقع خطير كهذا، واقترح اختيار محمد نجيب رئيساً للوزراء، وأن يكون هو نائباً لرئيس الوزراء، وبعد فترة يترك محمد نجيب رئاسة الوزراء ليحل محله. لكن الرياح أتت بما لا تشتهي السفن، فلا محمد نجيب استمر طويلاً في الوزارة ولا سليمان حافظ أصبح رئيساً للوزراء.

        وانتهى الأمر إلى الاقتراح بتعيين محمد نجيب رئيساً للوزراء وسليمان حافظ نائباً لرئيس الوزراء. ويقول محمد نجيب: وفوجئت باقتراح تعييني رئيساً للوزراء، من الدكتور عبدالرزاق السنهوري، بدعوى أن ولايتي لرئاسة الحكومة، وقيادة الثورة في وقت واحد، خير ضمان لدوام التعاون، بين الهيئتين. واعترضت على ذلك اعتراضاً شديداً، موضحاً أن هذا يتنافى مع المبادئ، التي استقر أمرنا عليها، وهي ابتعاد الجيش عن الحكم وإنه سوف يعد سابقة لا نعرف ماذا تجره بعد ذلك. وقرر الزملاء أن ينعقد مجلس القيادة وحده، ولكنى اعتذرت وذهبت إلى مكتبي، معلناً اعتراضي مرة أخرى. وبعد فترة دخلوا علـىَّ في المكتب، يعلنون قرارهم، وهو أن أتولى منصب رئاسة الوزراء إلى جانب قيادة الثورة. وقبلت تنفيذ القرار الذي صدر منهم بالإجماع، مشفقاً من حدوث خلافات، في هذا الظرف الدقيق الحرج، متمنياً أن تكون نهاية مدتي، هي الانتخابات التي حددنا لها فبراير 1953.

        وحدث ما توقع مجلس القيادة واستقال علي ماهر. وذهب محمد نجيب لزيارته، في منزله، طالباً منه أن يستمر في رئاسة وفد مصر، في اجتماعات جامعة الدول العربية، وأن يحتفظ بمكانه في وفد مفاوضة الأحزاب السودانية، الذي كان قد تشكل من محمد نجيب، وعلي ماهر، والسنهوري، وصلاح سالم، وحسين ذو الفقار صبري. بعد فترة حكم امتدت 47 يوماً سقط الحكم المدني في مصر شكلاً وموضوعاً باستقالة علي ماهر.

علي ماهر لعب دوراً كبيراً في نجاح الحركة

        كان من ضمن أسباب اختيار علي ماهر لتشكيل أول وزارة، بعد الانقلاب، أنه لم يكن ينتمي لأي حزب من الأحزاب، كما أنه كان الوحيد، من رجال السياسة، الذي يمكنه إقناع الملك بالتنازل عن العرش، من دون مقاومة، لأن الثورة لم تكن تريد سفك الدماء. وكان، نتيجة ذلك، أن قبل فاروق التنازل بهدوء، وحمل معه كل ما يريد من مقتنيات. ولعب علي ماهر، بعد ذلك، دوراً بارزاً في مساندة الثورة، على غير عادته، التي مارسها أيام الملك؛ فقد كان يسير أمور مصر من خلف ستار كمستشار للملك. أمَّا هذه المرة، كان رجال الثورة يمارسون أساليب سلطة جديدة، من خلف ستار رئيس الوزراء، علي ماهر، فصدرت أوامر تطهير الأحزاب، وأخذ علي ماهر يهدد ويتوعد الأحزاب، عندما تباطأت في إجراء التطهير، وعندما مارسته بصورة مظهرية، وعندما ازدوجت التصريحات والبيانات. ولطول خبرته وذكائه أدرك أن مجلس الثورة هو صاحب النفوذ الحقيقي في تسيير الأمور، خاصة عندما فوجئ، بعد يومين من رئاسته للوزارة، بطلب مجلس الثورة إقناع الملك بالتنازل عن العرش، من دون سابق معرفة بهذه الخطة، كرئيس وزراء كل هذا جعل علي ماهر يؤثر الانسحاب من الميدان، فاستقال في 7 سبتمبر 1952، وصرح للصحفيين، عقب الاستقالة، "أن الوقت أصبح مناسباً لأن تجتمع السلطة في يد واحدة، وفي قوة واحدة، وأن استقالته تمت بالاتفاق التام، مع قيادة الثورة".

        وقد كان من ضمن أسباب استقالته كذلك، معارضته لتطبيق قانون الإصلاح الزراعي، بالأسلوب الذي اقترحه مجلس قيادة الثورة.




[1]  هي الثكنات التي بمحطة مصطفى باشا ( فاضل ) من محطات ترام الرمل، وتسمى الآن ثكنات مصطفى كامل كما تسمى الآن محطة مصطفى كامل.

[2]  يقصد خالد محيي الدين بالاجتماع الأول هو أول اجتماع للجنة القيادة بعد نجاح الحركة ورحيل فاروق واعتقد أنه عقد يوم 27 يوليه عام1952.

[3]  يذكر خالد محيي الدين في `والآن أتكلم`،: `وأود هنا أن أقرر أن يوسف صديق قد ضم إلى مجلس القيادة بسبب دوره الشخصي وليس لأسباب سياسية أو بسبب كونه شيوعياً، بل لعل جمال عبدالناصر لم يكن يعرف حتى ذلك الحين أن يوسف صديق شيوعي.

[4]  يؤكد خالد محيي الدين بقوله: `أنني لا أزال أقرر أن محمد نجيب قد قدم لنا اسمه ومستقبله وتضامن معنا وتحمل المسؤولية عن عمل لم يعرف تفاصيله ولم يبال بما قد يترتب عليه من نتائج خطيرة.

[5]  ومحمود رشيد من مواليد عام1904 وتخرج من كلية الحقوق عام1926 وكان من زعماء الطلبة بالجامعة لإشتغاله بالعمل السياسي. وبعد تخرجه مباشرة التحق بوظيفة حكومية بوزارة الداخلية، عام1930 ثم عمل سكرتيراً لوزير الداخلية، إسماعيل صدقي باشا، وفصل من الخدمة عام1933 لأسباب سياسية، وعاد إلى المحاماة. وقام بنشاط سياسي بارز، أيام الائتلاف الحزبي عام1936 تمهيداً لتوقيع اتفاقية عام1936. بعد ذلك، وحتى قيام الثورة عام 1952، شغل منصب مدير مكتب لثلاثة من رؤساء الحكومات، أحمد ماهر، وحسين سرى أثناء الحرب، ثم مع إسماعيل صدقي. وكان صديقاً لعلي ماهر باشا. ( اُنظر الفصل الخاص بإعلان الجمهورية).

[6]  الدكتور راشد البراوي أستاذ اقتصاد شهير ومترجم لعدد من الكتب الاشتراكية، منها ترجمة كتاب كارل ماركس الشهير رأس المال وله كتب عن مشكلة البترول واقتصاديات الشرق الأوسط وكتاب المذاهب الاشتراكية المعاصرة، وكان على علاقة ببعض ضباط الجيش قبل الثورة خاصة ذوي الاتجاهات اليسارية منهم، فهو من قدامى اليساريين الذين كتبوا عن الاشتراكية في مصر، وكان على علاقة طيبة بجمال عبدالناصر.

[7]  يذكر خالد محيي الدين: اعتذر السنهوري عن الوزارة مبديا دهشته قائلا: أن الأمر كان بسيطا للغاية وأنه فوجىء بهذه الضحية، فقد كان جالسا على أحد المقاهي عندما مر عليه شاب يحمل عريضة يجمع عليها توقيعات للمطالبة بعدم استخدام السلاح النووي في أية حرب مقبلة ووقع السنهوري ولم يعرف أن هذا التصرف البسيط سوف يعتبر عند الأمريكيين عملا خطيرا بحيث يضعون صاحبه في مصاف الشيوعيين ولم يكن يعرف أن هذا التوقيع سوف يحرمه بعد أكثر من عام من منصب رئيس الوزراء.