إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / ثورة 23 يوليه، في مصر




وثيقة التنازل عن العرش
وداع علي ماهر
محمد نجيب وعبدالناصر
محاصرة قصر عابدين
مع ضباط الكتيبة (13) مشاة
لقاء مع الإخوان المسلمين
مقر مجلس قيادة الثورة
مقر رأس التين بالإسكندرية
اللواء محمد نجيب وعلي ماهر
الملك فاروق والسفير البريطاني
الملك فاروق في احتفال
البيان الأول للثورة
اليخت الملكي المحروسة
الرسالة الموجهة للملك فاروق
اجتماع مجلس قيادة الثورة
تعليمات بعودة اليخت المحروسة
دبابة أمام قصر المنتزه
زيارة للوحدات العسكرية





الفصل التاسع

الفصل التاسع

حركة الجيش تتولى السلطة الفعلية

حركة اعتقالات كبرى

        كان أول عمل لقيادة الثورة، بعد استقالة علي ماهر، هو اعتقال عدد كبير من الشخصيات، من رجال السراي، ومن رجال الأحزاب، بحجة أنهم كانوا يقومون بدعاية واسعة النطاق، ضد الثورة ومشاريعها، مثل: عباس حلمي، وسعيد حلمي، وإلهامي حسين، وإبراهيم عبدالهادي، وأحمد نجيب الهلالي، وفؤاد سراج الدين، وحافظ عفيفي، ومرتضى المراغي، ووحيد شوقي، وحسن يوسف... الخ. وبلغ عدد المقبوض عليهم (74) شخصاً، بعد ما أُضيف إليهم، في الأيام اللاحقة، من الأسرة المالكة، وزعماء الأحزاب، والوزراء السابقين، ورجال الحاشية. وقد اعتقلوا جميعاً بالمدرسة الثانوية العسكرية.

        نشرت القيادة العامة للقوات المسلحة، بعد هذه الاعتقالات، بياناً قالت فيه: إن الأحزاب والهيئات تقاعست، عن تنفيذ التطهير. ولجأت إلى المراوغة والتحايل، مما اضطر القيادة إلى القبض، والتحفظ على بعض الأفراد، ممن تحوم حولهم الشبهات، لتعطي الجهات المختصة الفرصة لإجراء عمليات التطهير، في جو لا يسوده تأثيرهم ونفوذهم، وحتى يستطيع كل من لديه معلومات، أو بيانات، ضد أحدهم، أو غيرهم، أن يدلي بها، في جو من الحرية والاطمئنان[1].

تأليف وزارة محمد نجيب 7 سبتمبر 1952

        خرج آخر رئيس وزراء مدني، وهو علي ماهر، بعد فترة حكم امتدت 47 يوماً فقط. وهكذا سقطت واجهة الحكم المدنية. وتولى اللواء محمد نجيب، القائد العام للقوات المسلحة، منصب رئيس الوزراء. فكان أول رجل عسكري يتولى رئاسة الوزارة، في تاريخ مصر الحديث، بعد محمود سامي البارودي، وأحمد عرابي. ولكن أحداً، من الضباط لم يشترك في الوزارة. وفي اليوم الذي استقالت فيه وزارة علي ماهر، وهو 7 سبتمبر 1952، ألَّف محمد نجيب وزارة مدنية برئاسته، وقد شكلت من كل من:

محمد نجيب للرئاسة والحربية والبحرية،

وسليمان حافظ نائباً لرئيس الوزراء ووزيراً للداخلية،

عبدالجليل العمري للمالية،

عبدالعزيز عبدالله سالم للزراعة،

مراد فهمي للأشغال،

نور الدين طراف للصحة،

أحمد حسني للعدل،

إسماعيل القباني للمعارف،

حسين أبو زيد للمواصلات،

أحمد فراج طايع للخارجية،

عبدالعزيز علي للشؤون البلدية والقروية،

أحمد حسن الباقوري للأوقاف،

محمد فؤاد جلال للشؤون الاجتماعية،

محمد صبري منصور للتجارة والصناعة،

فريد أنطون للتموين،

فتحي رضوان وزير دولة

        واحتفظ محمد نجيب بالقيادة العامة للقوات المسلحة في مرسوم تأليف الوزارة (انظر ملحق أمر ملكي رقم 10 لعام 1952 بإسناد رئاسة الوزارة للواء محمد نجيب)، وقال في كتاب قبوله تشكيل وزارته (انظر ملحق جواب حضرة اللواء محمد نجيب ورسوم تأليف الوزارة): "ولقد تواصيت وإخواني، منذ البداية، على أن ندع الحكم لرجال السياسة. وقد كنا في هذا نعلن ما نبطن، ولكن اقتضت ضرورات الإسراع بالأعمال، التي استهدفتها الحركة، أن ننسق العلاقة بين الجيش والسياسة، فنزلت على مقتضى هذا الحال. وقبلت أن أرأس الوزارة، وأن أنهض بأعباء وزارة الحربية والبحرية، مع احتفاظي بالقيادة العامة للقوات المسلحة، ضناً بالوقت من أن يضيع، في مشاورات، بين القيادة والوزارة، لا غنى عنها في ذاتها".

        لم يكن محمد نجيب يعرف معظم، الذين اتصل بهم. قام بهذه المهمة سليمان حافظ، وفتحي رضوان، الذي كان قد اجتمع بأعضاء مجلس القيادة، بناءً على دعوة وجهت إليه. وكان محور حديثه معهم هجوماً على وزارة علي ماهر، وبعض شخصياتها الهزيلة.

        عُرضت الوزارة على محمود محمد محمود، وحامد سليمان غالي، وعبدالجليل العمري وإبراهيم بيومي مدكور، فاعتذروا فوراً.

        وإذا كان هناك نقد يمكن أن يوجه لوزارة علي ماهر، ومستوى تشكيلها، وضعف أفرادها، فإن هذا النقد، يمكن أن يوجه، مضاعفاً، إلى وزارة محمد نجيب الأولى، التي ضمت سليمان حافظ، نائباً لرئيس الوزراء، وستة وزراء من الحزب الوطني، ووزيرين من الإخوان المسلمين، والباقين من المستقلين.

        وكان غريباً أن تشكل وزارة محمد نجيب الأولى، معتمدة على الحزب الوطني الجديد، اعتماداً شبه كامل، على الرغم من أنه لم تكن هناك صلة ما قبل الثورة، بين أي ضابط من الضباط الأحرار، وأعضاء الحزب الوطني الجديد، باستثناء عبدالعزيز علي، الذي عُين وزيراً للشؤون البلدية، وكان موظفاً في الدرجة الثالثة، وله تاريخ في جمعية "اليد السوداء"، النابعة من الحزب الوطني القديم، وكانت له صلة بعبداللطيف البغدادي، ومجموعة الطيران.

        ولكن مجلس القيادة كان حريصاً على عدم صبغ وزارته الأولى بصبغة حزبية سافرة، كما كان حريصاً على عدم ظهور الحركة، بمظهر أنها امتداد لنشاط الإخوان المسلمين. ومن ثم ضاقت دائرة الاختيار، حيث أن كافة المستقلين المعروفين كانت لهم انتماءات، أو صلات مع الأحزاب المختلفة، والبعض منهم رفض الاشتراك.

        ولم ينظر مجلس القيادة إلى الحزب الوطني الجديد، باعتباره حزباً من الأحزاب، التي تحرض الحركة على عدم الارتباط بها، لأنه لم يشارك في أية حكومة سابقة، قبل 23 يوليه، كما أنه لم يكن للحزب الوطني أي أنصار، أو نفوذ سياسي، بالقدر الذي يخيف نظاماً جديداً، كما أن المبادئ، التي نادى بها الحزب الوطني، وظهرت على صفحات "اللواء الجديد"، كانت متناسقة مع المبادئ الستة للضباط الأحرار.

        كان معظم الوزراء أسماء جديدة، ليس لكثير منهم تاريخ، وشهرة سياسية معروفة، كما أن تجربتهم في الحكم جميعاً، كانت جديدة، فلم يسبق لأحد منهم أن تولى الوزارة عدا الدكتور عبدالجليل العمري، الذي كان وزيراً للمالية والاقتصاد، في وزارة علي ماهر. ويلاحظ أن هذا كان أول مرسوم يصدر، من دون أن يقترن الاسم باللقب، بعد أن ألغيت الألقاب بل أن أحداً منهم لم يكن يحمل رتبة البكوية، سوى سليمان حافظ، وعبدالجليل العمري.

        اختير وزيرا الإخوان، بعد خلاف في الرأي. فبعد الاتصال بالشيخ حسن الهضيبي، لترشيح وزيرين، اقترح الشيخ أحمد حسن الباقوري، عضو مكتب الإرشاد، وأحد اثنين إما أحمد حسني وكيل محكمة النقض، أو محمد محمد كمال الديب محافظ الإسكندرية. وتم الاتصال فوراً بالباقوري وحسني. ثم فجأة حضر حسن العشماوي، ومنير الدله، موفدين، من حسن الهضيبي، باعتبارهما مرشحين للإخوان، وقابلا جمال عبدالناصر، عرض أمر ترشيحهما على سليمان حافظ؛ فاعترض لصغر سنهما، ولأنه اتصل فعلاً بالشيخ الباقوري، وأحمد حسني.

        واتصل جمال عبدالناصر بحسن الهضيبي، الذي أبلغه أن الترشيح الأول كان ترشيحاً شخصياً منه، لكنه عندما عرض الأمر على مكتب الإرشاد، قرر ترشيح العشماوي والدله، أو عدم الاشتراك في الوزارة. ومع ذلك، تم تشكيل الوزارة واضطر الشيخ الباقوري إلى الاستقالة من مكتب الإرشاد إزاء الموقف الذي اتخذته جماعة الإخوان المسلمين.

        اقترن تشكيل الوزارة، في أذهان الجماهير، بحركة اعتقال السياسيين. ووضع ذلك حداً لهجوم الصحافة على وزارة علي ماهر، وكان أحمد أبو الفتح، رئيس تحرير المصري، قد كتب مقالاً، نُشر يوم 7 سبتمبر 1952، تحت عنوان (إلى أين؟) قال فيه: "إن فرحتي لعزل الملك كانت كل أسبابها مستمدة، من أن، في زواله، تمكيناً لحياة دستورية، واسترداد الشعب حقوقه، لا لمجرد كونه سيء الخلق أو مرتشياً أو ناهباً". وفي هذا المقال، حذر من تولى الجيش السلطة، وقال إن سلسلة الأخطاء قد بدأت، بإفتاء قسم الرأي بمجلس الدولة، في موضوع مجلس الوصاية المؤقت. ثم تساءل في النهاية قائلاً: "أين أنت أيها الدستور؟".

        كانت حركة الاعتقال التي صاحبت تشكيل الوزارة قد تفرعت، حتى وصلت إلى مختلف الاتجاهات السياسية. وكان الهدف من هذه الاعتقالات، على حد تعبير محمد نجيب، هو "تهدئة الجو السياسي، الذي ثار، في الأيام الأخيرة لوزارة علي ماهر، ولكن النتيجة كانت عكس ما توقعنا، إذ بدرت الشكوك، بين الأحزاب السياسية وبين حركة الجيش. ولم يكن هناك مفر من المضي في الطريق إلى غايته".

        وكانت عملية الاعتقال الجماعي موجهة إلى مختلف القوى، والتنظيمات السياسية، وليست مركزة على اتجاه واحد، الأمر الذي جعل الجيش في جانب، وكافة القوى السياسية في جانب آخر. أمَّا القوة السياسية الوحيدة، التي لم تمسها حركة الاعتقالات، فكانت الإخوان المسلمين.

        كانت عودة الجيش إلى الاعتقالات، بعد أقل من خمسين يوماً، من حركة الإفراج، التي صاحبت الحركة، والتي شملت كل المعتقلين، حتى الشيوعيين، الذين أفرج عنهم جميعاً، عدا 17 معتقلاً دليلاً على أن تغييراً واضحاً، في طبيعة الموقف السياسي، قد ظهر في مصر. أخذ الجيش يظهر كقوة سياسية، لا تستند إلى جذور تاريخية، أو تنظيمات حزبية، وإنما تعتمد على الأثر الهائل لعزل الملك، وإصدار قانون الإصلاح الزراعي، بعد يومين من وزارة نجيب، في 9 سبتمبر، والذي وجه طعنة شديدة إلى الإقطاع والإقطاعيين.

        واعتمدت حركة الجيش، كذلك، على الشعبية، التي اكتسبها محمد نجيب، بين الجماهير، لبساطته الشديدة، وابتسامته الدائمة، وحيويته المتجددة. كانت جماهير الشعب تأمل أن تجد، في حركة الجيش، فرصة الانطلاق نحو مستقبل أفضل، ومن ثم كان هذا التأييد الجارف، الذي قوبلت به منذ لحظتها الأولى. وأدركت الأحزاب السياسية أن انطلاق هذه الحركة، التي يقودها المثقفون، أبناء الطبقة الوسطى في الجيش، سوف يضعف قبضتهم ويبدد سلطتهم، وينهي مستقبلهم السياسي، ولذا فإنهم تخوفوا منها، منذ اللحظة الأولى، وهُرع بعضهم إلى لقاء قادتها، وتسجيل أسمائهم في سجلاتها، ومحاولة الارتباط بها، والتعرف على قادتها.

        أمّا مصطفى النحاس وفؤاد سراج الدين، فكانا في إجازة صيف بسويسرا. وفور وصولهما يوم 24 يوليه، اتصل بهما بعض أعضاء الوفد طالبين منهما العودة. وعاد النحاس وسراج الدين بالطائرة عصر 26 يوليه. ولم يعلما بعزل الملك إلا من الطيار، الذي أبلغهما به، فور سماعه في الإذاعة.

        وصلت الطائرة القاهرة، بعد منتصف ليلة 27 يوليه. وكان في استقبالهما، بالمطار، أحمد أبوالفتح، رئيس تحرير المصري، والذي كانت له معرفة وثيقة برجال القيادة، وأبلغهما أنهما يجب أن يذهبا لتهنئة رجال الثورة، على الفور. وافق النحاس، بعد استشارة فؤاد سراج الدين، ولكنهما، عندما وصلا إلى القيادة، في الثانية بعد منتصف الليل، كانت تبدو، وكأن ليس بها أحد. وانتظرا ريثما صعد أبوالفتح إلى أعلى وتأخر أربعين دقيقة، ثم صعدا بعدها ليجدوا محمد نجيب في مكتبه، وحوله ضباط القيادة. رحب محمد نجيب بمصطفى النحاس، واحتضنه، ولكن تحية الضباط لهما، كانت باردة وجافة. وظل الجميع واقفين، حتى انتهت الزيارة.

        كان هذا هو اللقاء الأول والأخير، بين مصطفى النحاس وأعضاء مجلس القيادة. بينما تعددت اللقاءات مع فؤاد سراج الدين، بعد ذلك. كان مصطفى النحاس مقبلاً بقلبه على الثورة، سعيداً بعزل الملك، الذي طالما أقال وزارته، معتقداً أن الحركة تمت في إطار الدستور، وأنها لن تلبث أن تعيد البرلمان المنحل، لتعيين مجلس الوصاية. ثم تجري انتخابات جديدة، يضمن الوفد فيها أغلبيته المعتادة. ولكن معظم ضباط مجلس القيادة، لم يكونوا من المتعاطفين مع الوفد، أو المرتبطين به فكرياً.

        كان جفاف المقابلة نابعاً من إدراك ضباط القيادة، أن الوفد يمثل الخطر الحقيقي، على سلطتهم الوليدة، ونابعاً كذلك من تأثر بعضهم بموقف الإخوان المسلمين، المعادي للوفد. كما أن التكوين الطبقي، لضباط القيادة، كان متنافراً، مع تكوين قيادات الأحزاب التقليدية التي تولت الحكم، قريباً إلى حد ما من قيادات الأحزاب الناشئة، التي تتطلع إلى الحكم.

        كان وصول الجيش إلى الحكم بطبيعة تكوين قياداته مؤشراً إلى انطلاق روح وطنية، وحركة اجتماعية جديدة. ولعل هذا ما هو دفع الكاتب، أجارون كوهيمه، إلى القول عن حركة 23 يوليه "في حين أن الحكام التقليديين عاجزون عن الاستمرار في السلطة، والطبقة الوسطى أضعف من أن تُمسك بها، والعمال لم ينضجوا بعد لتحقيق هذا الهدف. لا توجد قوة غير العسكريين، قادرة على ملء هذا الفراغ".

        ويقول بيير أزوى، بعد أن يوضح أن قوة كبيرة، حاولت الاستيلاء على الحكم، في العراق وسورية ومصر. ولكنها فشلت، في حين نجح الجيش. يقول: "لا يعني ذلك انه لا توجد قوى أخرى، غير الجيش، فهذه القوى توجد بالتأكيد، ولكنها لا تملك القوة، التي يملكها الجيش".

تمت الخطوة الأولى لاستيلاء الجيش على السلطة نتيجة ظروف متعددة

أولاً تمت حركة 23 يوليه، في توقيت مناسب سليم، كان الشعب قد وصل فيه إلى ذروة النقمة، على الملك، ورجال الحاشية، وحكومات الأقلية التي عطلت الدستور عملياً. واستندت إلى الأحكام العرفية. ولذا جاء استقبال الجماهير للحركة، معبراً عن التأييد الكامل، مشجعاً الضباط الأحرار على مواصلة الطريق.

ثانياً: كانت أحزاب الأقلية، تضم فريقاً من الإقطاعيين، وكبار الرأسماليين بعيداً عن ساحة الشعب، ولذا فإنها، مع ظهور الحركة، لم تعد أحزاباً منظمة، وإنما تحولت إلى شخصيات يسلك كل منها سبيلاً خاصاً يدافع به عن نفسه، وعن مصالحه. مما كشف للضباط مدى التفسخ والتمزق، الذي كانت تعاني منه هذه الأحزاب، وسقطت بعض الأسماء الكبيرة بسبب بتصرفات صغيرة.

ثالثاً: احتفظ الوفد بوحدته، ولم يحدث له مثل ما حدث، في أحزاب الأقلية. ومع ذلك ظل موقفه غير واضح. ولعله كان حذراً، يتحسب السير في اتجاه مضاد للتيار الشعبي المتدفق، المؤيد للحركة، الذي كان يضم بالتأكيد جماهير الوفد من القوى العاملة، التي طال بها الحرمان.

رابعاً: كان نجاح حركة 23 يوليه، فرصة الإخوان المسلمين الفريدة، للسيطرة على الحكم والسلطة، فقادتها ليسوا غرباء عن تنظيمهم، بل إنهم نشأوا واستمر اتصال بعضهم به، وواصل البعض الآخر علاقته الطيبة بهم. والإخوان يعتبرون أنهم شاركوا في نجاح الحركة، عندما كلفوا بعض أعضائهم المسلحين، بحراسة دور العبادة، وبعض المرافق العامة. وأرسلوا فريقاً منهم إلى طريق مصر ـ السويس. واستنفروا قواتهم، في منطقة القناة، صباح 23 يوليه، بعد مقابلة جمال عبدالناصر، وكمال الدين حسين، لحسن عشماوي، وصالح أبو رقيق، قبل يومين من الحركة. وشجع موقف الإخوان المؤيد، الذين يعد تنظيمهم ثاني التنظيمات السياسية، انضباطاً وجماهيرية، ضباط الجيش على الاستمرار في مسيرتهم. وذلك قبل أن تظهر الخلافات، بينهم وبين الجيش، في محاولة التنازع على مركز السلطة.

خامساً: وقفت الحركة الديموقراطية للتحرر الوطني (حدتو)، أكثر القوى التقدمية تأثيراً، موقف التأييد لحركة 23 يوليه، منذ اللحظة الأولى. وكان ذلك أمراً طبيعياً، فالمنشورات كانت تطبع عندهم، ومعظمها يُكتب بأيدي الضباط المنضمين إليها، والمعتقلون الشيوعيون أُفرج عن معظمهم. وشجع هذا الموقف، كذلك، ضباط الحركة على التأكد من أنهم لا يجابهون معارضة، من أي اتجاه.

سادساً: وقفت القوى الوطنية التقدمية، التي أسهمت بدور بارز، في معركة الكفاح المسلح بالقناة مع الحركة، منذ لحظتها الأولى: وجد فيها، أحمد حسين، رئيس الحزب الاشتراكي، طوق النجاة من الاتهام الذي أُلصق به بالمشاركة في حريق القاهرة. أفرج عن أنصار السلام: يوسف حلمي، وسعد كامل، لحظة الإفراج عن فتحي رضوان. واقترب الحزب الوطني الجديد من ضباط الحركة، اقتراباً شديداً، بحيث أصبحوا يشكلون الأغلبية، في أول وزارة يتولاها رجل عسكري.

سابعاً: كان تعاون الحركة، منذ البداية، مع علي ماهر، الرجل الذي عاش حياته مرتبطاً بالقوى، التي تهدر الدستور وتلغيه. وسليمان حافظ، الرجل القانوني، البعيد عن السياسة، والذي ارتبط، في آرائه، بالحزب الوطني؛ فاتخذ موقفاً جامحاً ضد الوفد. واستخرج من الدستور، تشريعات، تتناقض مع روحه، لإقامة سد عال، أمام عودة الوفد، أو اقترابه من الحركة. كان لذلك أثر بالغ، في عقلية الضباط، التي لم تكن قد شكلت، على أصول سياسية سليمة. بل كانوا في مرحلتهم الأولى أكثر ما يكونون، تأثراً بالمحيطين بهم. وكان وقوعهم، بين علي ماهر من جهة، وسليمان حافظ من جهة أخرى، دافعاً لهم على السير في طريق السلطة، مع الاستعانة بالدستور، والقوى الشعبية.

ثامناً: كان احتجاب أعضاء مجلس القيادة، وإخفاء أسمائهم، ومنع الدعاية لهم، وبروز اسم محمد نجيب فقط بشخصيته الجذابة، مثيراً للحديث عن نكران الذات، والعمل بعيداً عن الأضواء، وباعثاً على اقتناع الجماهير، بأن الحركة قامت على أسس سليمة، الأمر الذي أحاط الضباط بتأييد جارف، في الأيام الأولى للحركة.

        كل هذه العوامل دفعت الضباط إلى أخذ الخطوة الأولى على طريق السلطة، في وقت كانت القوى السياسية القائمة، خارج الجيش، مشتتة بين التأييد المطلق، أو التحفظ في المعارضة، حتى لا تسير ضد التيار الشعبي. وتبلورت إرادة الضباط في الاستيلاء على السلطة، يوماً بعد يوم، كلما ضعفت شخصيات، وأحزاب المعارضة، أمام الإجراءات التي اتخذت، والدعاية التي صاحبت الحركة.

        كانت الخطوة الأولى، نحو السلطة، هي تعيين قائد مجلس القيادة رئيساً للوزراء. وتبعتها خطوات أخرى. وبذلك أصبحت الحركة في الحكم. وطرحت برنامجاً ثورياً تنفذه بإجراءات ثورية استثنائية، للتعجيل بإحداث التغيير، الذي طال للشعب انتظاره. فلأجل البدء في التخطيط للتخلص من الاحتلال البريطاني، كان من الواجب تحقيق التضامن والتحالف، بين قوى الشعب، التي لها مصلحة مباشرة في التخلص من هذا الاحتلال. وكان لا يمكن تحقيق ذلك، من دون تجميد، أو إنهاء الخلاف الحزبي، تقوم هذه الوزارة، ثم القيام بعد ذلك، بممارسات استثنائية ثورية، بأسلوب سلمي، ومن دون سفك دماء، كما حدث في كل الثورات في العالم. حتى يحدث التغيير الكامل، الذي يقضي على استغلال الأقلية الحاكمة، للأغلبية المحكومة. وكان أول هذه الإجراءات: العمل على إصدار قانون الإصلاح الزراعي.

بداية الصراع مع جماعة الإخوان المسلمين

        عقب استقالة وزارة علي ماهر، في 7 سبتمبر 1952، بدأ أول صراع حقيقي، بين الثورة والإخوان، بعد أن كان عبدالناصر دائماً يرحب بالتعاون معهم. ووافق على اشتراك كل من الباقوري، وأحمد حسني، في وزارة محمد نجيب. ثم رشح الإخوان آخرين غيرهما. وأصر عبدالناصر على اشتراك الباقوري، وأحمد حسني؛ فجاء رد فعل مكتب الإرشاد عنيفاً، بأن فصل الشيخ الباقوري من هيئة الإخوان، لقبوله الاشتراك في الوزارة. ومع ذلك، استمرت قيادة الثورة تجامل الإخوان. وأضافت فقرة إلى قانون تنظيم الأحزاب السياسية، (178/1952) هي "على أنه لا تعد الجمعية، أو الجماعة، التي تقوم بممارسة أغراض علمية، أو اجتماعية، أو ثقافية، أو دينية، حزباً سياسياً". ولكن جماعة الإخوان كانت مصرة على أن تعمل في السياسة، على أساس أنه لا يمكن الفصل بين الدولة والدين.

رواية محمد نجيب

ويوم أصبحت رئيساً للوزارة، قصدت دار الإذاعة، ووجهت البيان التالي إلى شعب وادي النيل:

        "إلى شعب وادي النيل الكريم، لقد تفضلت هيئة الوصاية الموقرة، فأسندت إلىَّ مهمة رئاسة الوزارة. وقد شكلت الوزارة من إخواني، الذين عرفتموهم، بصدق الوطنية، وحسن البلاء، في خدمة البلاد. وأني أعد اضطلاعي بالحكم، مع إخواني هؤلاء مرحلة من مراحل ثورتنا نحو الحرية، وإعلاء كلمة الدستور، وتهيئة الشعب لحياة سعيدة كريمة. وهذه المرحلة، كسابقاتها، في حاجة إلى جهد متصل، ومثابرة متجددة، وإخلاص ملتهب، مني، ومن زملائي، ومنكم جميعاً، لا فرق بين صغير وكبير، ولا فقير أو غني، أو عامل أو موظف. ولذلك فإني أهيب بكم، كما أهيب بالموظفين من جميع الوزارات، أن تضعوا حداً للتقليد القديم، ألا وهو تقديم التهاني والتبريكات للوزراء الجدد، فنحن نحس إحساس الشعب. ولذلك نرجو المواطنين ألا يكلفوا أنفسهم مشقة تقديم التهاني لي ولإخواني، كما أرجو ألا يوفدوا أحد عنهم للرئاسة، أو للقيادة، أو للوزارات، ولا أن يتظاهروا، أو يتجمعوا، أو يوقفوا السير العادي للأعمال، لهذه المناسبة، فإننا نود أن يُحكم على أعمالنا، بعد أن نقوم بها.

        "وفقنا الله وهدانا إلى ما فيه خير الوطن العزيز" .

        كانت وزارتي هي أول وزارة عسكرية في تاريخ مصر، بعد وزارة محمود سامي البارودي وأحمد عرابي، في عهد الخديوي توفيق، وكان هذا ما يفزعني ويثير قلقي في الواقع؛ فقد كنت أخشى أن يكون حكم العسكريين هو نقطة تحول في تاريخ حكم مصر، لا تستطيع بعده أن تعود للحكم المدني، الطبيعي. وكنت أخشى أن ينتقل النفوذ العسكري من الوزارة إلى كل شبر في الحياة المدنية. لكن، كل الظروف من حولنا كانت تدفعنا إلى الحكم. وإن كنت قد أحسست أنني بوجودي على رأس الحكم، سأتمكن من ضبط الأمور، وسأتمكن من تحقيق التوازن الطبيعي، بين الجيش والحكومة، بين العسكريين والمدنيين.

        كان المجلس قد قرر اشتراك، الإخوان في الوزارة الجديدة، فاتصل عبدالناصر تليفونياً بحسن العشماوي، يدعوه لمقابلته في إدارة الجيش. وفي هذا اللقاء عرض جمال عبدالناصر عليه أن يشترك الإخوان في الوزارة وأن يكون هو (حسن العشماوي) وزيراً منهم، ورغم أن حسن العشماوي ترك مسألة اشتراك الإخوان في الوزارة إلى مكتب الإرشاد، إلا أنه كان موافقاً على هذه الخطوة كما عرفت بعد ذلك، حتى يكون الإخوان على بينة من سير الأمور، وحتى لا يتركوا الثورة فريسة لمن يأخذها منهم.

        وفي هذا اللقاء، الذي حضره جمال عبدالناصر، وحسن العشماوي من الإخوان، وحضر معهما يوسف منصور صديق، اتصل جمال عبدالناصر تليفونياً بحسن الهضيبي، المرشد العام للإخوان، وطلب منه ترشيح ثلاثة للوزارة. ورشح الهضيبي، بصفته الشخصية منير الدالة، وحسن العشماوي، ومحمود أبوالسعود. وقبل أن ينهى عبدالناصر المكالمة، اشتبك يوسف صديق بالكلام مع حسن العشماوي، وشكك في كفاءة الإخوان، إذا ما دخل بعضهم الوزارة، فاستدل حسن العشماوي بالشيخ حسن الباقوري على وجود كفاءات في الإخوان، تستحق دخول الوزارة، فالتقط عبدالناصر اسم الباقوري وتحمس له، واعتبره مرشحاً أساسياً، وعرضه على الهضيبي، إلا أن الهضيبي رفض البت في هذه المسألة بمفرده، وأحالها إلى مكتب الإرشاد.

        رفض مكتب الإرشاد الاشتراك في الوزارة، وأكد أن اشتراك الإخوان في الوزارة، يضعف الإخوان ويقوى الثورة، لأنه يعطيها لوناً إسلامياً، يبرز مكانتها وسط الجماهير المصرية المسلمة، ويمنحها ولاء الإخوان في كل مكان. وعبر عن ذلك خميس حميدة بعد ذلك، أمام محكمة الشعب فقال: "إن ما قاله مكتب الإرشاد، وقتذاك، هو أن وجود الإخوان في الوزارة قد يثير أشياء، ما فيش داعي ليها، فقد يقول البعض إن الإخوان مشتركون في الحكم، أو أن الثورة طلعت ليس لها لون خالص، وربما وجود الإخوان فيها يعطيها لوناً خاصاً.

        واتصل عبدالناصر مرة أخرى بالمرشد العام، ليسأله عن قرار مكتب الإرشاد، فقال له الهضيبي:

"إن مكتب الإرشاد قرر عدم الاشتراك في الوزارة". قال له عبدالناصر: "لكننا اخطرنا الباقوري بموافقتك، وطلبنا منه أن يتقابل مع الوزراء، في الساعة السابعة، لحلف اليمين!".

        فرد الهضيبي: " أنا أرشح لك بعض أصدقاء الإخوان للاشتراك في الوزارة، لكن لا أرشح لك أحداً من الإخوان". ورشح له أحمد حسني، الذي أصبح وزيراً للعدل فيما بعد، ومحمد كمال الديب محافظ الإسكندرية. وفي اليوم التالي، صدر قرار من مكتب الإرشاد بفصل الشيخ الباقوري من هيئة الإخوان، بعد أن أصبح وزيراً بساعات. فاستدعى عبدالناصر، حسن العشماوي، وعاتبه على هذا التصرف لكن، وقت العتاب كان قد فات، والصدام وقع فعلاً بين الإخوان والثورة. وقد حزنت لذلك، جداً، خاصة وأنني أعرف أن الإخوان كانوا أول من ساعدوا عبد الناصر في تنظيم الضباط الأحرار، في فترة لم أكن فيها قد عرفت عبدالناصر ولا التنظيم. وكان بين عبدالناصر وبينهم تاريخ طويل، قبل الثورة، وكان اسمه الحركي عندهم زغلول عبدالقادر. وقد اكتشف الإخوان، كما قال حسن عشماوي في مذكراته: "الإخوان والثورة"، إن عبدالناصر كان قبل أن يعرفهم، عضواً في خلية شيوعية، وكان اسمه الحركي فيها: "موريس".

        وعندما أيد الإخوان قيام الثورة، كانوا يتصورون أنها قامت لحسابهم، وإنهم سيحققون من خلالها التغيير المنشود. وربما لهذا السبب هاجموا في بيانهم، الذي أصدروه في أول أغسطس 1952، عن الإصلاح "المنشود في العهد الجديد"، الحياة النيابية السابقة هجوماً شديداً، وأعلنوا أنها لم تقدم حياة نيابية صالحة ولا تمثيلاً صحيحاً. وأنها انتهت إلى أن أصبحت أداة تعطي شهوات الحكام ومظالم السلطان صيغة قانونية.

        طالب الإخوان بتحديد الملكية، لكنهم اعتبروا الحد الأقصى 500 فدان، وعندما قلنا 200 فدان، قال المرشد العام لجمال عبدالناصر، في صراحة ووضوح: "لكي يؤيد الإخوان الثورة، فأنا أرى عرض الأمور التي تتخذها الثورة علينا قبل إقرارها". فرد عليه عبدالناصر قائلاً: "هذا يعني وضع الثورة تحت وصاية الجماعة. ونحن نقبل فقط التشاور في السياسة العامة، مع كل المخلصين من أهل الرأي، دون التقيد بهيئة من الهيئات.

رواية خالد محيي الدين

        يقول خالد: "وشكل محمد نجيب وزارته الأولى، واختار لها وزراء من المدنيين لا بأس بهم: فعبدالجليل العمري للمالية، ونور الدين طراف للصحة، وصبري منصور للصناعة. وأذكر أن عبدالجليل العمري كان رجلاً شجاعاً، ومترفعاً، ومعتزاً بنفسه، وقد اشترط لقبول الوزارة أن يعوض أصحاب الأراضي الخاصة لقانون الإصلاح الزراعي بسندات، واشترط أن يكون سقف الملكية مائتي فدان ومائة فدان للأسرة، وكان مشروع القانون يقترح مائتي فدان فقط. وكان العمري، كذلك، يتحدث بحده مع الضباط، حتى أعضاء "مجلس القيادة"، قائلاً: لا تعطوا وعوداً إلا بعد سؤالي، حتى أدبر لكم ميزانية".

ثم كانت الخطوة التالية عندما قرر "مجلس القيادة" توزيع أعضائه، على الوزارت المختلفة، كل منا يشرف على وزارة أو وزارتين، وكان من نصيبي وزارتا الصحة والصناعة، والغريب أن جمال سالم أخذ الإشراف على وزارة المالية، وقد حاولت أن أتولى أنا الإشراف على وزارة المالية والاقتصاد، مبرراً ذلك بأنني حاصل على بكالوريوس تجارة، لكنهم رفضوا، وفيما يبدو أن هذا الرفض لم يكن مصادفة، فقد كان المقصود إبعادي عن هذا المجال. ولعل البعض لم يتقبل فكرة وجود مندوبين لمجلس القيادة، في الوزارات المختلفة، لكن الحقيقة أننا كنا نشعر بالمسؤولية أمام الجيش، وأمام الشعب، وأنه يتعين أن يتم التشاور معنا، قبل اتخاذ أية قرارات أساسية، وأنا من جانبي لم أكن أتدخل في الشؤون الإدارية، ولا في المسائل التفصيلية، فقط كنت أسأل إن كانت هناك مسائل مهمة، أو اقتراحات بتشريعات جديدة، أو قرارات ذات أهمية خاصة، وهكذا".

        ثم روى خالد قصة الوزيرين، وقرار مكتب الإرشاد: "وتحدى الباقوري أوامر الجماعة وقبل الوزارة، وحدث بذلك أول شرخ في العلاقة، بيننا وبين الإخوان، وتضاعف الشرخ في صفوف الجماعة، ذلك الشرخ الذي لعب عليه عبدالناصر كثيراً، مستفيداً منه في استقطاب عناصر مهمة من الجماعة، ومن جهازها السري، إلى صفه، وضد الهضيبي، مما أربك الجماعة فيما بعد إرباكاً شديداً.

        لكن عبدالناصر والزملاء، في "مجلس القيادة"، أخطأوا كذلك، في حساباتهم مع الإخوان، فقد اتفقنا، في الأيام الأولى، على إصدار قرار بالعفو عن المسجونين السياسيين. وركز عبدالناصر وعدد من الزملاء على ضرورة الإفراج عن السجناء، من الإخوان المسلمين. وكانوا جميعاً محكوماً عليهم، في قضايا إرهاب واغتيالات، وهذا الإفراج، وبرغم أنه أكسب الثورة علاقات حسنة في صفوف الجماعة، إلا أنه كان، في واقع الأمر، تشجيعاً خفياً للتيار المؤيد للإرهاب والعنف في صفوف الجماعة، فإذا كان المحكوم عليهم، في قضايا نسف وقتل وإرهاب، يُفرج عنهم بهذه السهولة، فلماذا لا يكررونها مرة أخرى، بأمل الحصول على عفو من حاكم آخر، أو حتى من الحاكم نفسه.

        لكن الغريب في الأمر، هو أن هذا القانون، قد طبق على الإخوان المحكوم عليهم، في قضايا إرهاب واغتيالات. ولم يطبق على الشيوعيين. وأذكر أننا كنا مجتمعين في "مجلس القيادة"، عندما دخل علينا سليمان حافظ، ومعه مشروع القانون الخاص بالإفراج عن المسجونين السياسيين، وسألته ببساطة. هل يطبق القانون على الشيوعيين؟ فأجاب بزهو:لا، فقد وجدت لهذا الأمر مخرجاً، قلت: كيف؟ فقال: قلنا إن الشيوعية ليست جريمة سياسية، وإنما هي جريمة اجتماعية اقتصادية، فقلت: لكنها جريمة سياسية، وإذا قلتم كده، ولم تفرجوا عن الشيوعيين تبقى بايخه قوى، خصوصاً وأن التهمة الموجهة لهم هي محاولة قلب نظام الحكم، وتغيير النظام الاجتماعي. وهم بذلك يحاكمون كمتهمين في جريمة رأي؛ فالأفضل عندي هو الإعلان أنه لن يفرج عن الشيوعيين، لأسباب سياسية، بدلاً من استخدام تفسيرات غير قانونية، وغير منطقية، فرد مندهشاً: حيرتوني، قلتم بلاش الشيوعيين؛ فلقينا الحل، وبعدين رافضين، وتقولوا بايخة قوي. فضحك الزملاء في المجلس، وقالوا له: معلش، أصل خالد مختلف في هذا الموضوع.

        والحقيقة أن عبدالناصر كان يضمر، في هذا الوقت، الدخول في تصادم مع الأحزاب السياسية، فأراد أن يكسب الإخوان إلى صفه، في هذه المعركة، ولكنه في الوقت نفسه، لم يسمح بإعطائهــم أي نفوذ داخل الثورة، بل ومارس داخلهم لعبة استقطاب البعض إلى صفه، فأحدث انقساماً خطيراً في صفوفهم، وشجعه ذلك على المضي قدماً في طريق تصادمه، مع القوى الحزبية عامة. وكانت هناك مؤشرات جماهيرية شجعت على هذه الخطة. فعندما تصادم أحمد أبو الفتح، رئيس تحرير جريدة "المصري"، الوفدية الاتجاه، مع سليمان حافظ. وبدأ ينتقد قيادة الحركة وتصرفاتها، بدأ انخفاض حاد في توزيع جريدة "المصري"، الأمر الذي أعطى مؤشراً مهماً للزملاء، في "مجلس القيادة"، بإمكانية المضي قدماً، في طريقهم ضد الأحزاب السياسية، وهو ما كنت اعترض عليه صراحة، سواء داخل الاجتماعات، أو خارجها.

        وكانت انتقاداتي وتصريحاتي محل غضب من الزملاء في "مجلس القيادة". وكانوا يقولون أنني بهذا أكشف عن خلافاتنا الداخلية، بينما كنت أوضح أنني لا أهاجمهم ولا أفشي أسراراً، فقط كنت أعبر عن وجهة نظري. وبدأت الحساسية تزداد إزائي، وإزاء مواقفي، بل وإزاء سلاح الفرسان، وعلاقاتي بضباطي. ومن هنا طرح اقتراح بتشكيل لجنة مصغرة، من "مجلس القيادة"، تدرس الأمور، ثم تعرض مقترحاتها على المجلس، بكامل هيئته، بما يعني تقليل اجتماعات "مجلس القيادة"، وتركيز السلطة في يد أعضاء اللجنة المصغرة الخمسة، إلى حد كبير. صحيح أن المجلس يتعين إقرار كل شيء عن طريقه، ولكن سير الأمور ركز السلطة في يد الخمسة. وهكذا تركزت السلطة في يد أربعة عشر، ثم في يد خمسة، وانتهى الأمر بتركيزها في يد عبدالناصر وحده. وكان طبيعياً، بعد كل ما حدث، ألا أكون ضمن الخمسة، الذين تم اختيارهم في اللجنة المصغرة، والتي بدأت تلعب دوراً أكثر تأثيراً. وتشكلت اللجنة من: جمال عبدالناصر، وعبداللطيف البغدادي، جمال سالم، زكريا محيي الدين وعبدالحكيم عامر.

        وفي الوقت نفسه، بدأ عبدالناصر يتصادم مع اليسار، ومع "حدتو" بالذات. وهي المنظمة التي أسهمت معه في تنظيم "الضباط الأحرار". وأسهمت كذلك في تحركات ليلة الثورة، وأيدت الثورة في مواجهة موقف الاتحاد السوفيتي، وكل الأحزاب الشيوعية في العالم. وبدأت خطة التصادم بمصادرة جريدة "الكاتب"، ثم مجلة "الواجب"، وكانتا تصدران عن "حدتو". وأدى ذلك إلى المزيد من التمايز، بين موقفي وموقف الزملاء، في "مجلس القيادة". وأدى بي إلى المزيد من النقاش، مع الضباط في سلاح الفرسان، فزاد ذلك من غضب عبدالناصر، وغضب الزملاء في المجلس.

        وهكذا كانت السلطة تتبلور في اتجاهين: "مجلس القيادة" يمسك بمفاتيح الحكم أكثر فأكثر. والكثيرون منا يتحولون، بالفعل، إلى حكام حقيقيين بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى. وعلى الصعيد الآخر، بدأ موقفي يزداد تمايزاً، بما جعلني أشعر بالعزلة، إزاء الزملاء في "مجلس القيادة"، ولعل هذه العزلة دفعتهم إلى إخفاء بعض الأمور عني، ودفعتني إلى المزيد من الالتصاق بإخوتي، في سلاح الفرسان.

        وكان للأمر وجهه الآخر؛ فنحن في "مجلس القيادة، حرصنا على ألا نحصل لأنفسنا على أية امتيازات، كل ما تميزنا به سيارة جيب، وسائق يحمل سلاحاً فقط. ولكن لم تكن هناك، حتى ذلك الحين، امتيازات مالية أو عينية أخرى. وعندما أصبح البعض منا وزراء، تقاضوا بالطبع مرتب الوزير، الذي يزيد بكثير عن مرتباتنا كضباط، وأُثير هذا الموضوع على سبيل الفكاهة، في بداية الأمر، ثم بشكل جدي فيما بعد. واقترح عبدالناصر حلاً، يبدو فيه الطابع الشخصي في العلاقة، وهو أن يقوم كل وزير من الزملاء، أعضاء "مجلس القيادة"، بدفع مبلغ من مرتبه، ويجمع جمال هذه المبالغ، ثم يقسمها بالتساوي على الآخرين. واستمر هذا الأمر عدة اشهر، ثم تراخى الزملاء الوزراء، في سداد ما يدفعون، معلنين أن وضعهم، كوزراء، يملى عليهم التزامات اجتماعية، تتطلب نفقات إضافية. ومن هنا بدأت فكرة إعداد ميزانية خاصة لمجلس القيادة"، ثم بعد ذلك استخدمت في أغراض أخرى.




[1]  ويقول عبدالرحمن الرافعى وفي نوفمبر وديسمبر عام1952 أفرج عن بعض المعتقلين ثم أفرج تدريجياً عن الآخرين بعد انتهاء التحقيق معهم، ولم يبقى إلا من وجهت إليهم تهم معينة في قضية مقتل حسن البنا ومقتل الضابط عبدالقادر طه.

[2]  ثبتت الأيام فشل هذا المشروع, بالإضافة إلى أن التأميم في خد ذاته يتنافى مع روح الإسلام.