إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / ثورة 23 يوليه، في مصر




وثيقة التنازل عن العرش
وداع علي ماهر
محمد نجيب وعبدالناصر
محاصرة قصر عابدين
مع ضباط الكتيبة (13) مشاة
لقاء مع الإخوان المسلمين
مقر مجلس قيادة الثورة
مقر رأس التين بالإسكندرية
اللواء محمد نجيب وعلي ماهر
الملك فاروق والسفير البريطاني
الملك فاروق في احتفال
البيان الأول للثورة
اليخت الملكي المحروسة
الرسالة الموجهة للملك فاروق
اجتماع مجلس قيادة الثورة
تعليمات بعودة اليخت المحروسة
دبابة أمام قصر المنتزه
زيارة للوحدات العسكرية





الفصل العاشر

الفصل العاشر

التباين الفكري داخل مجلس القيادة

والواقع الاجتماعي لضباط التنظيم

التباين الفكري داخل مجلس القيادة

        كان لا مفر من أن يحدث الانقسام، داخل تنظيم الضباط الأحرار، بعد نجاحه في الاستيلاء على السلطة، وتوطيد أركانه. والواقع أن بوادر الانقسام ظهرت منذ طرد الملك فاروق من البلاد.

        كانت أسباب الانقسام تكمن في عدم التوافق والانسجام، داخل مجلس قيادة الثورة، وفي التباين الفكري العقائدي، الذي ينتمي إليه الضباط الأحرار. ولم تكن هناك نظرية محددة واضحة يلتف حولها التنظيم. هذا فضلاً عن الأطماع الذاتية، التي نشأت من تعيين بعض الضباط، في مناصب مجلس القيادة، أو مناصب حكومية أخرى.

        جمع التنظيم مجموعة من الضباط الوطنين، متبايني الفكر، والثقافة، والاتجاه والمزاج الشخصي. كانت مجموعة الضباط، من الذين شكلوا ما أطلق عليه مجلس القيادة، ثم تحول إلى مجلس قيادة الثورة، ينتمون إلى اليسار، وأخرى إلى اليمين، فمثلاً انضم إلى جماعة الإخوان، عام 1945، أي قبل قيام تنظيم الضباط الأحرار، كل من جمال عبدالناصر، وكمال الدين حسين، وعبداللطيف البغدادي، وحسن إبراهيم، وخالد محيي الدين. ولكن سرعان ما انفضت هذه المجموعة بعد حرب فلسطين، عن الإخوان.

        والغريب أن أحدهم، وهو خالد محيي الدين، تحول من أقصى اليمين، إلى أقصى اليسار، حينما ترك جماعة الإخوان، وانضم إلى تنظيم (حدتو) الشيوعي، أو ما يطلق عليه "الحركة الديموقراطية للتحرر الوطني". كما كان جمال عبدالناصر على اتصال، بهذا التنظيم الشيوعي، وذلك عن طريق القاضي أحمد فؤاد، الذي ظل على اتصال بتنظيم الضباط الأحرار، من خلال جمال عبدالناصر، حتى قيام الثورة. كانت وجهة نظر جمال عبدالناصر، في اتصالاته بهذه التنظيمات، أن يتعلم أسلوب عملها، ويقف على أسرارها، لدرجة أنه فكر في أن يرتبط بجماعة من الحرس الحديدي، التي شكلها الملك فاروق لأغراض سياسية، منها القضاء على خصومه. وقد روى عبدالناصر هذه القصة لصلاح نصر وذكر أنه جاءه الضابط مصطفى كمال صدقي، وحدثه عن الانضمام إلى جماعة الحرس الحديدي. وفعلاً حددَّ له عبدالناصر موعداً للانتظار، عند تقاطع شارع مصر والسودان بشارع رمسيس، وكان من المفترض أن تنتظره عربة من السراي، تقله إلى مكان الاجتماع. وتوجه عبدالناصر، في الموعد المحدد إلى مكان اللقاء، ووجد العربة في انتظاره، ولكن هاتفاً مفاجئاً جعله يقود سيارته الصغيرة بأقصى سرعة ممكنة. وقد سأله صلاح نصر عن الدافع، الذي جعله يغير فكره، فأجاب بأن غرضه كان الإلمام بدخائل هذه الجماعة، ولكنه خشي أن يتورط في أعمال تتنافى مع ضميره، ومبادئه.

        وكان عبدالمنعم عبدالرؤوف شديد الولاء لجماعة الإخوان المسلمين، وكان يسعى إلى احتواء حركة الضباط الأحرار، داخل جماعة الإخوان، وقد استمر ولاؤه لهذه الجماعة، حتى بعد قيام الثورة. وقد حوكم في قضية الإخوان عام 1954، وحُكم عليه بالإعدام، ولكنه استطاع أن يهرب إلى الخارج، أو بصورة أدق، ساعده عبدالناصر على الفرار.

        وكان يوسف صديق، الذي ضُم إلى مجلس قيادة الثورة، بعد قيامها، ماركسياً واضحاً، ومع ذلك كان يميل إلى تسليم السلطة للوفد، حزب الأغلبية. وكان جريئاً في آرائه، متحمساً لأفكاره، شجاعاً في مواجهة الموقف. لم يخف ماركسيته، ولم يحاول أن يسلك أسلوب المناورات. وقد اشتم عبدالناصر رائحة خطر ازدواج الولاء، داخل التنظيم، حتى أثناء فترة الإعداد للثورة، ولذا أصر على استقلال التنظيم. ومع ذلك، كانت المناقشات الدورية، التي كانت تجري في خلايا الضباط الأحرار، تبدو فيها بوضوح، هذه الاتجاهات السياسية المتباينة.

        وهكذا حمل مجلس القيادة بين طياته، بذور الانقسام والصراع، وإن ظلت مختفية تحت حماس الوطنية، والكفاح من أجل الاستقلال.

الواقع الاجتماعي والطبقي للضباط الأحرار

        نجحت حركة 23 يوليه، وأصبحت مصر في واقع جديد. لم يعد في العاصمة لواء مطلق السراح، ينعم بحريته، إلا محمد نجيب. والباقون ضمهم معتقل الكلية الحربية، حتى شقيقه، علي نجيب. وكافة الرتب العليا من قائمقام فما فوق، منعوا من الذهاب إلى وحداتهم، وتركوا حتى يستبين الأمر. ولم يبق إلى جوار اللواء محمد نجيب، إلا القائمقام أحمد شوقي، قائد الكتيبة الثالثة عشر، والذي انضم للضباط الأحرار في يوم 22 يوليه عام 1952.

        اهتزت قواعد التنظيم في الجيش، وخرج من الخدمة كل الذين يحملون رتبة فريق أو لواء وكل الذين يحملون رتبة الأميرالاي (عدا اثنين هما محمد إبراهيم، الذي عين رئيساً لأركان الحرب، وعبدالحميد نعمت الذي عين وكيلا لوزارة الحربية).

        أصبح الصف الأول من الجيش في رتبة البكباشي أو المقدم. والذين عادوا للعمل، بعد ذلك، في القوات المسلحة من ذوي الرتب الأعلى، عادوا وهم يدركون أن تغييراً عنيفاً قد حدث، وأن الأقدمية المطلقة، لم تعد هي أساس السلطة.

        أصبح واضحاً أن جيلاً جديداً قد وثب إلى السلطة، وباستثناء محمد نجيب، الذي كان في الثانية والخمسين من عمره، فإن جمال عبدالناصر، الرئيس المنتخب للجنة القيادية، للضباط الأحرار، لم يكن قد أكمل بعد عامه الخامس والثلاثين.

        واختلفت حركة 23 يوليه عن انقلابات العراق وسورية، من عدة وجوه. عندما قام بكر صدقي بأول انقلاب عسكري في العالم العربي عام 1936، كان في رتبة الأميرالاي، ويعمل رئيساً لأركان حرب الجيش العراقي بالنيابة. وكذلك حسني الزعيم، كان رئيساً لأركان حرب الجيش السوري، عندما قام بانقلابه عام 1949، وكان سامي الحناوي، وأديب الشيشكلي، قائدا الانقلابات التالية، في رتبة الأميرالاي.

        أما حركة 23 يوليه فقد تمت فعلاً بجهد ضباط، من رتب صغيرة، لا تتجاوز رتبة البكباشي. ولم يكن محمد نجيب، كمدير لسلاح المشاة، في موقع يسهل له تحريك قوات الجيش؛ إذ أنه منصب إشرافي وتدريبي، أكثر منه منصب تنفيذي.

        كان الضباط، الذين قادوا حركة الضباط، يشكلون نوعية خاصة. ثلاثة منهم حصلوا على ترقية استثنائية، في حرب فلسطين، هم: عبدالحكيم عامر، وكمال الدين حسين، وصلاح سالم. وثلاثة حصلوا، خلال الحرب، على نجمة فؤاد، وهم: جمال عبدالناصر، وعبداللطيف البغدادي، وزكريا محيي الدين. وثلاثة كانوا مدرسين، ليلة الحركة، في كلية أركان الحرب هم: جمال عبدالناصر، وزكريا محيي الدين، وكمال الدين حسين. واثنان تخرجا من الجامعة: هما محمد نجيب، الذي حصل على ليسانس الحقوق، وحصل، بعد ذلك، على دبلومين في القانون الخاص، والقانون العام، إلى جانب تخرجه من كلية أركان الحرب. وخالد محيي الدين، الذي تخرج من كلية التجارة. هذه الشريحة تظهر أنهم من أكثر الضباط ثقافة، وأنهم لم يكونوا من الخاملين، بل أن شخصياتهم كانت مصادر الجاذبية لتجمع الضباط الأحرار حولهم.

        ومع ذلك يصعب القول بأنهم، في مجموعهم، أو في الأغلبية من قياداتهم، كانوا من المثقفين؛ لأن طبيعة الضباط، وتعليمهم، وعزلتهم عن المجتمع، تجعل منهم فئة خاصة، تتعامل مع الحياة، بالأسلوب الذي اعتادته في الجيش، والذي يغلف دائرة التفكير غالباً، في حدود إعطاء الأوامر، وتنفيذها.

        ولا شك أن قصر الفترة الزمنية، لتشكيل تنظيم (الضباط الأحرار)، والتي لم تتجاوز الثلاثة أعوام، بكل ما صاحبها، من ظروف التجنيد، واستكمال شكل التنظيم، كانت سبباً رئيسياً في عدم خلق وحدة فكرية، ووعي ثقافي مشترك، لهؤلاء الضباط، القادمين من مدارس فكرية مختلفة، وتنظيمات سياسية متباينة.

        كانت الأفكار الوطنية العامة، والنقمة على الاستعمار، هي الدافع الرئيسي لتحريك الضباط. ولكن تفاصيل الأمور كانت متباينة، في عقولهم، وصورة المستقبل غير واضحة أمامهم. وتجاوباً مع طبيعة الضباط، في تقبل الحركة البدنية التنفيذية، أكثر من الحركة الفعلية الذهنية، تحركوا ليلة 23 يوليه، ولكن أغلبيتهم العظمى لم تكن تدرك، أو تحاول بذل الجهد، في معرفة ما يحمله الغد.

        لم يكن، بين الضباط الأحرار، ابن من أبناء الأسر الإقطاعية، أو ابن لكبار الرأسماليين. كانت هذه الأسر تتعالى على الجيش ولا تدخل أبناءها فيه. فلم يكن هناك، في الجيش، ضابط من أسرة البدراوي عاشور، أو شعراوي، أو سلطان، أو لملوم، أو الطرزي. وحتى زكي، شقيق فؤاد سراج الدين، دخل الكلية الحربية عام 1942، وخرج هارباً، بعد عام واحد. حتى كبار الضباط، الذين وصلوا إلى مراكز عالية، لم يدخلوا أبناءهم الجيش؛ فالأميرالاي محمود ماهر (1854ـ 1909)، هو والد علي ماهر وأحمد ماهر، وسردار الجيش المصري (1864ـ1879 )، كان من عائلة راتب، التي لم يدخل أولادها الجيش. وفي كتاب (تاريخ المملكة الزراعية في مصر الحديثة) أن 100 عائلة إقطاعية في النصف الأول من القرن العشرين 30 منهم ممثلون في البرلمان نواباً وشيوخاً وأحياناً بأكثر من عضوين، 18 منهم عينوا وزراء ولكن لا ضابط واحد.

        ولم يكن، في الجيش، أحد من أبناء الأسرة المالكة، كما كانت العادة من قبل. تعين الأمير إسماعيل داود، قائداً لسلاح الفرسان، في الفترة من 1942 إلى 1944، وكان تعيينه تعبيراً عن نزوة خاصة، أساء إليها سلوكه الشخصي المتسم بالشذوذ. كما عيَّن الملك زوج شقيقته، الأميرة فوزية، الأميرالاي إسماعيل شرين، مديراً لإدارة فلسطين دون أن يكون متخرجاً من الكلية الحربية، ثم عينه وزيراً للحربية في وزارة نجيب الهلالي الأخيرة.

        لم يكن الجيش المصري، في ذلك الوقت، مثل الجيوش الأوروبية الاستعمارية، التي يشكل الضباط فيها طبقة متميزة، تتوارث حمل السلاح، جيلاً بعد جيل، وينتمي إلى طبقة النبلاء من بقايا الإقطاع الأوروبي. ومن المعروف أن الجيش الألماني كان يعتمد، بصفة خاصة، على الضباط (اليونكر) من البارونات الإقطاعيين البروسيين، والذين تتحلى أسماؤهم بكلمة (فون)، التي تنسبهم إلى أرض معينة كان لأجدادهم عليها سلطان إقطاعي. وفي فرنسا كان يعين، من صفوة جيشها، القادة الذين يحملون المرادف الفرنسي لكلمة (فون) وهو (دى) ديجول، دى لانتر، دى كاستر، وكان قائد قاعدة ديان بيان فو، يفخر بأنه جنرال ابن جنرال، حتى القرن السابع عشر.

        كان الموقف في مصر مختلفاً، كان ابتعاد أبناء الإقطاعيين، مع أبناء الأسرة المالكة، وأبناء الأسر الرأسمالية الكبيرة، عن إلحاق أبنائهم بالكلية الحربية، عاملاً، من عوامل خلخلة نفوذها، وضعف سيطرتها على القوات المسلحة، التي تحمي نظامها وطبقتها. وقد أدى ذلك إلى محاولة اكتشاف رتب كبيرة، من القيادات، تؤدي دورها، في خدمة الطبقة الحاكمة، بإخلاص، من دون أن ترتبط معها بمصالح ذاتية خاصة؛ فلم يكن، بين قادة الجيش، إقطاعي واحد.

        لم يكن، بين كبار ضباط الجيش المصري، على الرغم من خضوعهم، وتبعيتهم للنظام الملكي، من يعد مدافعاً، في حماس، عن الإقطاع، أو من ترتهن مصلحته الخاصة بمصلحة الإقطاعيين. وهكذا كانت الطبقة الإقطاعية، أو الرأسمالية الكبيرة، تسيطر بذاتها على القوات المسلحة، بأبناء الطبقة الوسطى، الذين لم يطل بهم الصبر. كان الضباط الأحرار من الطبقة المتوسطة، الذين يتأرجحون، بين أبناء الموظفين صغاراً، أو كباراً، وبين بعض أثرياء الفلاحين، أصحاب الملكيات الصغيرة.

        وبالبحث عن الضباط، الذين تحركوا ليلة 23 يوليه، تبين أن أحداً منهم، لم يكن والده قد حصل على رتبة (باشا) أو (بك)، كما أن أحداً منهم، لم يكن يملك والده ليلة الثورة، ما يزيد عن خمسين فداناً. كما أن أصولهم لم تكن تنحدر من عائلات عسكرية، أي توارث الأبناء فيها مهنة الآباء، باستثناء محمد نجيب، الذي كان والده وجده وخاله جميعاً ضباطاً، في الجيش، خدموا في السودان، ودفنوا هناك. وكان ذلك أمراً طبيعياً، في فترة دخول نجيب المدرسة الحربية، التي لم تكن تشترط شهادة معينة. ومن ثم كان الضباط يدفعون أبناءهم إليها، كما كانت بعض الأسر الكبيرة تلحق الأبناء، العاجزين عن مواصلة التعليم بها، ليصبحوا ضباطاً. وقد اشتهرت بعض العائلات بوفرة عدد الضباط، من أبنائها، مثل عائلة الشاهد وفهمي وشكري.

        كذلك، كان الضباط الأحرار، بحكم واقعهم الاجتماعي، من الطبقة المتوسطة، عدا قلة منهم، كانت من أبناء فقراء هذه الطبقة، أبناء صغار الموظفين الذين تثقل أعباء الحياة كاهلهم، ويضطرون إلى الاستدانة، لدفع مصروفات أبنائهم، في الكلية الحربية، التي كانت تصل، في مجموعها، إلى ثمانين جنيهاً، في وقت كان مرتب خريج الجامعة 12 جنيهاً شهرياً.

        هذه الحقيقة توضح الضباط الأحرار كانوا من أبناء الطبقة الوسطى، ولم يكونوا من أبناء الطبقات الكادحة (عمالاً وفلاحين)، كانوا تعبيراً عن شريحة طبقية من المجتمع، ولم يكونوا تعبيراً عن الأغلبية الساحقة فيه. وهناك ظاهرة ملحوظة كذلك، وهي قلة عدد أبناء علماء الدين في الضباط الأحرار، لقد كانوا يفضلون أن يتبع أولادهم خطاهم، وأن ينطلقوا إلى الحياة المدنية، غير العسكرية.

        كما يلاحظ أنه لم يكن هناك ضباط أقباط بين الضباط الأحرار، سوى ضابط واحد. وذلك لأن نسبة الضباط الأقباط، داخل الجيش، كانت محدودة، كما أن جذور الضباط الأحرار كانت تمتد، في غالبيتها، إلى الإخوان المسلمين. إضافة إلى أنه لم يكن هناك، في ليلة 23 يوليه، من يحمل رتبة لواء من الضباط المسيحيين سوى مسيحي واحد، ولم يكن هناك من يحمل رتبة أميرالاي، إلا اثنين. كان حسن البنا، مرشد الإخوان المسلمين، قد طالب، بعد توقيع معاهدة 1936، بتخصيص نسبة من طلبة الكلية الحربية، لخريجي الأزهر، حتى يضمن بذر الأفكار الدينية، داخل الجيش، ولكن الحكومات المتعاقبة لم تأخذ هذا الطلب مأخذ الجد، لأنها لم تكن تفرق بين مسلم تخرج في الأزهر، أو تخرج في المدرسة الثانوية، كما أن افتقاد خريجي الأزهر لمعرفة اللغات الأجنبية، كان أمراً يعرقل قدرتهم على متابعة الحياة العسكرية الحديثة.

        ولم يدر في خلد أحد، لحظة واحدة، أن حركة 23 يوليه، كانت حركة إسلامية، ولم يقف الأقباط منها موقفاً متحفظاً، بل اتضح منذ اللحظة الأولى أن هذه الحركة كانت بدافع وطني إصلاحي، منبثقة من واقع جديد، مختلف تماماً، عن واقع الأحزاب الحاكمة وقتئذ، والتي كانت قياداتها إما من الإقطاعيين، أو كبار الرأسماليين.

        كان واقع الضباط الأحرار، الطبقي والاجتماعي، أقرب إلى قيادات الأحزاب الوطنية الناشئة (الحزب الاشتراكي، الحزب الوطني الجديد، الإخوان المسلمين، أنصار السلام، الحركة الديموقراطية للتحرر الوطني، الحركات الماركسية)، الذين كانوا، في معظمهم، من الطبقة الوسطى، على الرغم من تنافر نظرتهم الاجتماعية، واختلاف أهداف نضالهم الطبقي، منه إلى قيادات الأحزاب المتبادلة للحكم (الوفد، الحزب السعدي، حزب الأحرار الدستوريين، حزب الكتلة، الساسة المستقلين).

        ومع ذلك كان الضباط الأحرار، على الرغم من إدراكهم للأحوال التي يعيش فيها الشعب، والفساد الموجود في المجتمع، يعيشون حياة بعيدة عن الجماهير إلى حد ما. فإن مهنة الضابط كانت تفرض عليه نوعاً من العزلة، تتمثل في ملابسه الخاصة، وفي القوانين واللوائح، التي يتعامل بها مع الجنود.

        والضباط قبل ليلة 23 يوليه كانوا يعيشون في مستوى اجتماعي، يختلف تماماً عن الجنود. كان الجندي يتقاضى مرتباً شهرياً قدره (54) قرشاً فقط، زيدت، بعد ذلك لتصبح (69) قرشاً، كما كان معظم وجباته من العدس، أماَّ اللحم ففي أربع مرات في الأسبوع. وكانت الأمية فاشية بين الجنود، وكان نظام البدل النقدي يتيح فرصة التهرب من الخدمة العسكرية للجميع، عدا فقراء الفلاحين. ولم يكن ممكناً، لصف الضباط والجنود، أن يترقوا إلى رتب الضباط، كانت القوانين تسمح لهم، تحت ظروف خاصة أن يصلوا إلى رتبة (مساعد) فقط. وكان الضباط يدركون الظروف البائسة، التي يعيش فيها الجنود. البعض منهم، كان يحلم بتغيير هذه الظروف، باعتبارها انعكاساً لحالة المجتمع.

        وهكذا يمكن القول بأن الضباط لم يكونوا في عزلة كاملة عن واقع مجتمعهم، كما أنه لا يمكن القول بأنهم كانوا مرتبطين بمجتمعهم، ارتباطاً عضوياً كاملاً، على الرغم من صلاتهم بالقوى، والتنظيمات السياسية المختلفة.

        لقد تحرك تنظيم (الضباط الأحرار)، ليلة 23 يوليه، منفرداً، من دون اتصال وثيق بالجماهير، أو بالتنظيمات والأحزاب السياسية الوطنية والتقدمية، معتمداً على السرية، التي أحاط نفسه بها، متخذاً الطابع الانقلابي المفاجئ، واثقاً من احتضان الشعب لحركته، بعد أن فاض به كيل الغضب من تصرفات الاستعمار، والسراي.