إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / ثورة 23 يوليه، في مصر




وثيقة التنازل عن العرش
وداع علي ماهر
محمد نجيب وعبدالناصر
محاصرة قصر عابدين
مع ضباط الكتيبة (13) مشاة
لقاء مع الإخوان المسلمين
مقر مجلس قيادة الثورة
مقر رأس التين بالإسكندرية
اللواء محمد نجيب وعلي ماهر
الملك فاروق والسفير البريطاني
الملك فاروق في احتفال
البيان الأول للثورة
اليخت الملكي المحروسة
الرسالة الموجهة للملك فاروق
اجتماع مجلس قيادة الثورة
تعليمات بعودة اليخت المحروسة
دبابة أمام قصر المنتزه
زيارة للوحدات العسكرية





الفصل الحادي عشر

الفصل الحادي عشر

الأشهر الحاسمة للانقلاب

سبتمبر ـ أكتوبر ـ نوفمبر ـ ديسمبر

        أدى الصدام الأول إلى توجيه ضربة شديدة للطبقة الإقطاعية، وانهيار الأسس الاقتصادية التي كانت تستند إليها. أمَّا الصدام الثاني فقد بدأ مبكراً، مع الأحزاب والتنظيمات السياسية، على مراحل زمنية مختلفة، انتهت إلى الصدام مع الإخوان المسلمين.

        صدر بيان من القيادة العامة، يوم 31 يوليه 1952، جاء فيه: "والجيش، وقد كان أول الهيئات العاملة على تطهير صفوفه، وتسليم قيادته لأيد أمينة، صالحة نزيهة، يرى أن يقوم الجميع بهذا العمل، كل في صفوفه، على أن يكون التطهير كاملاً، يتناول الأداة الحكومية والأحزاب والهيئات، من دون أي تأخير أو تسويف". ثم يقول البيان، "كما يرى الجيش أن تعلن الأحزاب، والهيئات المسؤولة، للشعب برنامجاً واضح المعالم، حتى يكون الشعب على بينة من أمره".

        وجاء هذا البيان المبكر صدمة لقادة الأحزاب، الذين هرعوا إلى مجلس القيادة، في الأيام الأولى، يؤدون التحية ويعلنون الولاء. وأصابهم لفظ (التطهير) بهزة شديدة، أعطت لحركة الجيش فرصة التسرب، إلى صفوفهم، وإغراء العناصر الضعيفة، أو المترددة بينهم، وتمزيق وحدة أحزابهم.

        وأصدرت الحركة بياناً، في 11 أغسطس. وهو البيان الذي تناقض مع بيان علي ماهر، الذي أُذيع في اليوم نفسه، ولم يحدد موعداً لإجراء الانتخابات. وقد جاء في بيان القيادة العامة ما يلي: "تم الاتفاق مع رئيس الحكومة، من قبل، على أن تُجرى الانتخابات في شهر فبراير، لإعطاء فرصة كافية للحكومة لتطهير أداتها، والأحزاب لتطهير صفوفها، تطهيراً كاملاً شاملاً حتى تنعم البلاد في ظل الدستور بحكم نيابي سليم".

إلغاء الدستور وحل الأحزاب

        هكذا أظهرت حركة الجيش أنها حريصة على الدستور والانتخابات. ولكنها احتفظت، في يدها، بمفتاح الموقف وهو (التطهير). ولم تستجب الأحزاب لهذه الدعوة لحساسية تطبيقها، ومن ثم بادر سليمان حافظ، بإعداد مشروع قانون، لتنظيم الأحزاب السياسية، عارضه الدكتور عبدالرازق السنهوري، من جهة المبدأ، معارضة شديدة، في بداية الأمر، بدعوى أن العرف الدستوري لتنظيم الأحزاب ترك الأمر لها. ولكنه أمام إلحاح سليمان حافظ، وإقناعه لضباط مجلس القيادة. أقر المشروع، بشرط ألا تتدخل الإدارة إلا عند الضرورة لتحقيق أغراض القانون، وأن يكون تدخلها تحت رقابة مباشرة، من القضاء الإداري، بمجلس الدولة.

        وما أن تولى محمد نجيب رئاسة الوزراء، حتى صدر قانون تنظيم الأحزاب، في 9 سبتمبر 1952. ونص على أن المقصود بالحزب السياسي كل حزب، أو جمعية أو جماعة منظمة، تشتغل بالشؤون السياسية للدولة، الداخلية منها أو الخارجية، لتحقيق أهداف معينة، عن طريق يتصل بالحكم.

        وقضى القانون بأن من يرغب في تكوين حزب سياسي، عليه أن يحيط بذلك وزير الداخلية، بخطاب موصى عليه بعلم الوصول. ولوزير الداخلية حق الاعتراض على تكوين الحزب، خلال شهر من تاريخ إخطاره، وفي حالة الاعتراض، يُعرض الأمر على محكمة القضاء الإداري، لتفصل في جلسة تحدد، بعد أسبوعين، من وقت تقديم الاعتراض. كما ألزم القانون الأحزاب بإيداع أموالها في البنوك، كما نص على أن تعيد الأحزاب القائمة تكوينها، وفقاً لأحكامه.

        وكان صدور القانون بمثابة خطوة نحو محاصرة الأحزاب، وإخضاعها لسلطة الجيش، الممثلة في وزير الداخلية. كما أنه كان بداية لصدام، بين القوى السياسية المختلفة، وحركة الجيش. وقد صحب صدور القانون، حملة اعتقالات السياسيين، في اليوم السابق على تشكيل محمد نجيب لوزارته، التي أصدرت القانون، في اليوم التالي لأدائها اليمين، أمام مجلس الوصاية.

        لم يكن لهذا القانون نظير في الدول الديموقراطية. وإن كان فتحي رضوان قد صرح للصحف، في معرض الدفاع عنه، بأن له نظيراً في العراق وألمانيا الغربية. وهما دولتان لم يكونا، في ذلك الوقت، نموذجاً للديموقراطية، لخضوعهما، بعد الحرب العالمية الثانية لنفوذ الإمبريالية العالمية الحريصة على عدم ظهور أحزاب معادية لها.

        كانت الدعوة إلى التطهير فخاً، وقعت فيه الأحزاب، وظهرت النزعات الفردية، بين صفوفها على أسوأ ما يكون، بخاصة بين شخصياتها القيادية. وخلال هذه الفترة، اهتزت أسماء كثيرة، كانت تلمع، في سماء الحياة السياسية، قبل ثورة 23 يوليه. وبادر بعضها إلى الاتصال برجال الجيش، بصورة جعلت جمال عبدالناصر يعبر عنها، فيما، بعد في كتاب (فلسفة الثورة) بقوله: "كل رجل قابلناه لم يكن يهدف إلا إلى قتل رجل آخر". التنافس يعلن على صفحات الجرائد، بين إبراهيم عبدالهادي، وحامد جودة، لرئاسة حزب الهيئة السعدية. ثم ينشط سامح موسى، وشوكت التوني، ويعلنان فصل الاثنين من الحزب السعدي. والوفد يصدر قراراً بفصل عدد من أعضائه، الذين أحاطت بهم الشبهات، من دون تحقيق. وكأنه يتجاوب بذلك مع دعوة التطهير. وكان أبرزهم محمود عبداللطيف، الذي كان وزيراً للشؤون الاجتماعية.

        صرح مصطفى النحاس بأنهم سيبعدون المعتقلين، عن تنظيمات الوفد الجديد. وأرسل فؤاد سراج الدين، من المعتقل، استقالته من الوفد، ومن مجلس الشيوخ، قال فيها للنحاس: "أنني أستقيل إخلاصاً للوفد ولشخصكم". وتنفيذاً لقانون الأحزاب أصدر الوفد برنامجه، في 21 سبتمبر 1952، باعتباره "هيئة سياسية ديموقراطية اشتراكية لتحقيق الاستقلال والوحدة. ورفض جميع صور الدفاع المشترك" ونص البرنامج على ما يأتي:

  1. التمسك بعروبة فلسطين.
  2. دعـم مجموعة الدول الإفريقية والآسيوية، وتأييد سياستها، في الدفاع عن قضايا الحرية.
  3. إقرار حد أدنى للأجور عموماً، وللعمال الزراعيين خصوصاً.
  4. صدور قانون معاقبة الوزراء.
  5. صدور قانون التأمين الاجتماعي للعمال وتعميمه.
  6. استصدار قانون تأمين صحي للعمال، وأفراد أسرهم.
  7. تجديد القرية المصرية، خلال عشرين عاماً.
  8. الانتهاء من تعميم المياه الصالحة للشرب، خلال خمس سنوات، طبقاً لمشروع وزارة الوفد، الذي أقرته عام 1951.
  9. جعل التعليم الديني إجبارياً.
  10. تحريم الخمر والميسر.
  11. الموافقة على مشروع تحديد الملكية، باعتباره يهدف للعدالة الاجتماعية، ويقرب بين الطبقات.

        يلاحظ أن البرنامج كان وضع خطوطاً إستراتيجية عريضة، للسياسة الداخلية والخارجية، تتجاوب مع مشاعر الجماهير، وتوجهات الجيش. ومن ثم هاجمت بعض الصحف البريطانية الوفد. واتهمت مصطفى النحاس بالتطرف. ويلاحظ، كذلك، أن هذا هو أول برنامج مكتوب للوفد، الذي كان يبني سياسته، على أساس بيانات مؤتمراته الوطنية، التي عُقدت سنوات 1928، 1935، 1943، وعلى ما يرد، في خطب عيد الجهاد الوطني، 14 نوفمبر".

        وعلى الرغم من صدور هذا البرنامج الوطني التقدمي للوفد، فإن سليمان حافظ أصر على ملاحقة مصطفى النحاس، ومحاولة إبعاده عن موقعه. وفي ذلك قال للدكتور محمد صلاح الدين، وزير الخارجية السابق، وهو يحاول الاستفسار منه، عن موقفه من الوفد، ورئاسة مصطفى النحاس له: "إن لدى الوزارة أسباباً خطيرة للاعتراض عليه، أمام مجلس الدولة". وعندما شاع هذا الموقف، المضاد لمصطفى النحاس، بادر بإصدار البيان التالي:

        "أنني أعد نفسي دائماً ملكاً للشعب. وقد كانت ثقتي في الشعب، وثقته في شخصي، طوال حياتي السياسية، عوني على الشدائد، وظهيري في العيش. وسأظل، ما بقي من عمري، ملكاً لهذا الشعب الوفي، ولن تستطيع قوة أن تنحيني عن هذه المكانة، بعد الله جلت قدرته إلا الشعب دون سواه، والله ولي التوفيق".

        أصر أعضاء الوفد على رئاسة مصطفى النحاس. ولعبت جريدة (المصري) دوراً بارزاً في الدفاع عنه، وكتب أحمد أبو الفتوح سلسلة مقالات طويلة، دفاعية عن مصطفى النحاس، معتبراً أن محاولة هدمه هي محاولة لتحطيم كفاح الشعب ضد الاستعمار. ووصلت معارضة القانون إلى الذروة عندما صدر البيان التالي، يوم 17 سبتمبر." نظراً لما صح، في يقين الوفد المصري، من أن المقصود هو محاربة الوفد، ومحاولة هدمه، والتخلص منه، قرر الوفد المصري، بإجماع الآراء، بجلسته المنعقدة يوم السبت 27 سبتمبر 1952، ألا يقدم، إلى وزير الداخلية، إخطاراً بإعادة تكوينه".

        توقيعات:

        مصطفى النحاس، عبدالسلام فهمي جمعة، علي زكي العرابي، عبدالفتاح الطويل، أحمد حمزة، محمد محمد الوكيل.

        وزراء سابقون:

        إبراهيم فرج، عبدالمجيد عبدالحق، محمد صلاح الدين، عبدالجواد حسن.

        كان هذا هو أقصى ما وصل إليه الوفد، في نضاله ضد قانون تنظيم الأحزاب. ولكنه موقف لم يستمر طويلاً لعدة أسباب:

أولاً:

        كان مصطفى النحاس قد تجاوز السبعين من عمره. ولم يعد، في توهجه القديم، وقدرته على النضال، التي عُرف بها، يوم كان يجذب حكمدار البوليس، من فوق حصانه، وينام على أرصفة المحطات.

ثانياً:

        أحاط بمصطفى النحاس بعض عناصر، تتخذ المهادنة سبيلاً لها، ومن ثم أفقدت الوفد الصلابة الضرورية. وكان من أكثرهم تأثيراً عليه، في هذه المرحلة، عبدالسلام فهمي جمعة، والدكتور طه حسين.

ثالثاً:

        تجمد الوفد وعدم تجديد قياداته بعناصر شابة. وكان معظم أعضائه، في ذلك الوقت، من الباشاوات، الذين تجاوزوا الخامسة والستين، وهم : سيد بهنسي، ومحمد المغازي، وفهمي حنا، وعبدالسلام جمعة، وعبدالفتاح الطويل، وعلي زكي العرابي، وعثمان محرم، ومحمد سليمان الوكيل وأحمد حمزة. ولم يكن هناك أقل، من هذه السن، إلا محمود سليمان غنام، وفؤاد سراج الدين، الذي كان، في هذه الفترة، خلف قضبان السجون. وقد شعر النحاس بهذه الحقيقة، فور اعتقال فؤاد سراج الدين، فضم إلى الوفد: محمد صلاح الدين، وإبراهيم فرج، الذي عُين سكرتيراً مؤقتاً، لحين الإفراج عن سراج الدين، الذي لم تقبل استقالته.

رابعاً:

        عدم توافر الانضباط الحزبي الكامل، في صفوف الوفد، الذي اعتاد، منذ تكوينه، على أن يضم الجماهير، من مختلف الاتجاهات، في شكل جبهة. وعندما يحرم من فرصة الاتصال العلني، مع الجماهير، فإنه يعجز عن الاتصال بها، وتحريكها بوسائله التنظيمية.

خامساً:

        الدعاية المركزة، ضد الأحزاب عموماً، والوفد خاصةً، والتي أسهمت فيها، بقدر كبير، أخبار اليوم، مما جعل كثيراً من الناس يتطلع إلى الحكم الجديد، ليوقظهم من المظالم، التي عاشوا فيها.

        كان رأي النحاس "أن الجيش يشبه (وابور الزلط)، لا شئ يقف أمامه، إلا ما هو أقوى منه. وهذه القوة، هي قوة شعب مؤمن بالديموقراطية والدستور". وقد اهتز هذا التصور كثيراً، في عهد الملك، بسبب كثرة انتهاكات الدستور، التي ارتكبها. وأسهمت فيها أحزاب الأقلية والعناصر المستقلة، من أمثال أحمد زيور، وإسماعيل صدقي، وعلي ماهر. ومن ثم افتقد الوفد القوة اللازمة، لمجابهة تصرفات حركة الجيش.

        وبدأت مرحلة التراجع. واستدعى مصطفى النحاس، أحمد أبو الفتح، رئيس تحرير المصري، وأملى عليه مقالاً، نشره يوم 6 أكتوبر، أبدى فيه حرصه على ضرورة وجود الوفد، مهما كان الأمر يتعلق بشخصه. وجمع أعضاء الوفد ليسلمهم أمانته. وصدر بعد ذلك بيان يقول: "رعاية لما أبداه الرئيس الجليل، مصطفى النحاس، وأصر عليه من أن الحالة أصبحت لا تمكنه، من مباشرة أعباء الرئاسة الفعلية، ومقتضياتها، بعدما احتمل الكثير، في سبيل الدفاع عن القضية الوطنية، في الثلاثين سنة الماضية؛ فإن الوفد المصري، إذ ينزل مضطراً، إزاء إصراره على رغبته، وإذ يقرر جعله رئيس شرف له، مدى حياته الطويلة المباركة، إن شاء الله، يستلهم منه التوجيه. ويستمد من إخلاصه إخلاصاً، ومن قوته ووطنيته وصلابته، في الحق، سراجاً منيراً. ويقرر أنه سيمضي، في مستقبل أيامه، على نهجه الواضح، وطريقه المستقيم، وخطته القوية، التي رسمها لتحرير الوادي، معتبراً إياه، ركنه الركين، وحصنه الحصين، ومرجعه في الملمات".

توقيعـات:

        عبدالسلام فهمي جمعه، علي زكي العرابي، عبدالفتاح الطويل، محمد محمد الوكيل، أحمد حمزة.

        وقدم الوفد إخطاره إلى وزير الداخلية، تنفيذاً لقانون تنظيم الأحزاب السياسية. وجعل مصطفى النحاس، رئيساً فخرياً له. وبذلك تنحى عن رئاسة الوفد الفعلية، وقدم عبد السلام فهمي جمعة إخطار إعادة تكوين الوفد، إلى وزير الداخلية. هز هذا البيان عواطف جانب كبير من الجماهير، شعرت أن رجلاً، ارتبطت به مسيرتها، سنوات طويلة، كانت مثالاً للوطنية والنزاهة، يُنتزع منها، رغم إرادتها، فذهبت المظاهرات تطوف بمنزله، وتهتف، "لا وفد بدونك يا نحاس". وكتب أحمد أبو الفتح، في المصري، يقول: "الشعب الذي يحبك يقول: عاش النحاس، زعيم الشعب" وأما أنا فأقول: "لن يكون هناك وفد، إلا برئاسة مصطفى النحاس".

        ونشر النحاس، بعد ذلك بيومين، بياناً بمناسبة ذكرى إلغاء معاهدة عام 1936، في 8 أكتوبر، قال فيه: "جاءت حركة الجيش التحررية صورة حية رائعة لصحوة الشعب، وقدرته على مواجهة استبداد المستبدين، وطغيان المستهترين العابثين؛ فدارت عليهم الدوائر، وباء عهدهم. وتطلعت البلاد إلى عهد جديد من العدالة المطلقة، والحرية الشاملة".

        ولكن هذه الكلمات لم تجد صدى عند مجلس القيادة، ولم يتحقق أي نوع من اللقاء الفكري، أو العاطفي، بينهم وبين الوفد. وعلى الرغم من أن محمد نجيب كانت له صلات مع الوفد، وجمال عبدالناصر كثيراً ما دافع عن مسلك الوفد، في وزارته الأخيرة. وكان يوسف صديق، وخالد محيي الدين، كانا متعاطفين معه، إلا أن إغراء السلطة، والدور الذي قام به سليمان حافظ لهدم الوفد، والذي قاومه جمال عبدالناصر، وبعض الزملاء، في مراحله الأولى، مقاومة بدأت ملحوظة، ثم أخذت تفتر، أمام تراجع الوفد وعدم صلابته وعجزه عن تحريك جماهيره.

        كل هذا حدد الموقف تماماً. وانتهى الأمر إلى اعتراض وزير الداخلية، يوم 8 نوفمبر، على رئاسة مصطفى النحاس الشرفية للوفد. وكذلك اعترض على اسم عبدالفتاح الطويل كمؤسس. وكان وزير الداخلية قد تلقى إخطارات تكوين 16 هيئة وحزباً، هي: "هيئة الوفد، والإخوان المسلمين، وأحزاب السعدي، والأحرار الدستوريين، والعمال، والعمال والفلاحين، والاشتراكي، والوطني الجديد، والفلاح الاشتراكي، والكتلة الوفدية، والديموقراطي، وحزب الله، وثلاثة أحزاب نسائية هي بنت النيل، والنسائي، والنسائي الوطني".

        واعترض سليمان حافظ، إلى جانب اعتراضه على مصطفى النحاس، وعبدالفتاح الطويل، على إبراهيم الدسوقي أباظه، سكرتير عام حزب الأحرار الدستوريين، كما اعترض على كل من الحزب الديموقراطي، والحزب الجمهوري، لأنهما كانا يناديان بتطبيق النظام الجمهوري. عُرضت هذه الاعتراضات على مجلس الدولة، في نهاية نوفمبر 1952، واتخذ بعضها شكل مظاهرة، داخل المحكمة، عندما احتشد خمسون محامياً، من الإسكندرية، يترافعون عن عبدالفتاح الطويل.

        سرت الاعتراضات، بين كافة الأحزاب. وجعلت الأحزاب المناضلة، ضد الاستعمار، تقف مع غيرها من الأحزاب في صف واحد. ولم تفرق حركة الجيش بين اتجاهات الأحزاب الرجعية، والتقدمية، وتمثيلها الطبقي.

        كانت الفضيلة الوحيدة لقانون تنظيم الأحزاب، هي أنه تسبب في ظهور البرامج المكتوبة والمعلنة لهذه الأحزاب، والتي عبرت عن طبيعة دورها، في المجتمع؛ فالحزب السعدي، مثلاً، نادي، في برنامجه، بالعمل على "تحويل رؤوس الأموال المصرية الراكدة إلى ميدان الاستغلال الصناعي والتجاري، والاستعانة برؤوس الأموال الأجنبية، في حدود، تتفق مع مصالح البلاد". وهكذا وجدت الجماهير الفرصة سانحة أمامها لاختيار الحزب، الذي يعبر برنامجه عن أهدافها.

        وبدأ الأمر يتضح، يوماً بعد يوم. لا يمكن أن تسلك حركة جيش طريق الديموقراطية الليبرالية؛ لأنها لا تضمن الانتصار، أو الاستمرار فيه. وأخذ سليمان حافظ يصدر تشريعات، تمهد للحركة سلطة مطلقة، إذ أعطى حق إقالة الموظفين، عن غير الطريق التأديبي، وحرمان القضاة المعزولين من معاشهم أو مكافآتهم. وإحالة جرائم الإصلاح الزراعي للمحاكمة العسكرية، مع رفع عقوبة الإشاعات.

        وكانت الحركة قد بدأت ممارسة تطبيق شعار (التطهير)، عن طريق تكوين لجان، شُكلت، بمقتضى قوانين خاصة، من نوعين: أولهما إداري ذو صيغة قضائية، على رأسها قاضٍ، وفي عضويتها أحد رجال النيابة العامة، لفحص حالات موظفي الدولة، وفصل من يستحق الفصل منهم. أما الثانية فكانت لجاناً قضائية، يرأسها مستشار، وبعضوية اثنين من كبار رجال القضاء، في الأعمال الحكومية، وإحالة المسؤولين عنها إلى المحاكم الجنائية، أو الإدارية حسب الأحوال.

        وأثار سليمان حافظ مشكلة أن اللجان الأولى، تسير في عملها بسهولة أما اللجان الثانية، فكانت تصطدم بأن كثيراً من الوزراء السابقين، كانت تقع عليهم المسؤولية الجنائية، أو السياسية. وهؤلاء لا يمكن الوصول إليهم، لأن الدستور يحميهم من القضاء العادي، وجعل لهم محكمة خاصة، لا ترفع أمامها الدعوى، إلا بقرار من مجلس النواب. وهكذا كان التطهير يصل إلى صغار الموظفين ولا يصل إلى الوزراء.

        ولم يجد سليمان حافظ حلاً إلا في إلغاء الدستور، الذي يستند إليه هؤلاء، في تهربهم من المحاكمة. ووافق ذلك، ظهور عدة مقالات، في الصحف، تهاجم دستور 1923. وألقى علي ماهر محاضرة يوم 14 نوفمبر، قال فيها، إنه يرجو "أن نواجه حياتنا السياسية بدستور، يتجنب تخلف دستور 1923، عن مسايرة الديموقراطية الحرة، في تطورها". ويقول محمد نجيب: "إن بعض أعضاء المجلس قاوموا هذا الاتجاه. ولكن مقاومتهم ضعفت، أمام إلحاح سليمان حافظ، وشهوته الجامحة، في الوصول إلى محاكمة بعض الوزراء. وتوافق نغم هذا الطلب مع رغبة بعض أعضاء المجلس، الذين كانوا يهدفون إلى تولي السلطة وحدهم".

        ويقول سليمان حافظ في مذكراته: "وانعكس صدى الضجة العنيفة، التي أثارها الوفد، على مجلس القيادة. فنشب خلاف شديد، بيني وبين جمال عبدالناصر، وعبدالحكيم عامر، ويوسف صديق، أصررت فيه على تنفيذ قانون الأحزاب، تنفيذاً، تعدل فيه الصرامة النصفة، وصممت أذني عن سماع أي كلام آخر، في هذا الموضوع. ومن الحق أن أذكر أن محمد نجيب، وجمال سالم، وصلاح سالم، وكذلك أنور السادات، إن لم تخني ذاكرتي، كانوا في هذا الخلاف من جانبي.

        ثم يقول سليمان حافظ: أن محمد نجيب وجمال عبدالناصر زارا مصطفى النحاس، زيارة مجاملة، أيام اشتداد المعركة "بيني وبين الأحزاب عامة، والوفد بصفة خاصة. ثم حاول نجيب أن يبرر لي هذا التصرف، بقوله: "إن هذه الزيارة لم تكن إلا محاولة لكسر محور تآلف، بين الوفد والشيوعية، فلم اقتنع بهذا العذر". قال جمال عبد الناصر لأحمد فؤاد في هذه الفترة، وهو يحدثه عن أهمية الديموقراطية: "يظهر إن إحنا لازم نعمل انقلاب تاني، علشان الديموقراطية".

        ولم تخمد أصوات الاحتجاج على قانون تنظيم الأحزاب، حتى بعد إلغاء الدستور، فظل أحمد أبو الفتح يهاجمه، على صفحات المصري، في مقالات عديدة. واحتشد الطلبة في الجامعة، حين فاز مرشح الجبهة المتحدة، أي جبهة الأحزاب، والقوى السياسية الوطنية والتقدمية، (أحمد الخطيب)، على مرشح الإخوان المسلمين، (حسن دوح). وكان هذا تعبيراً عن معارضة الشباب للخطوات الزاحفة لمحاصرة الديموقراطية.

        وترافع، في قضية الوفد، أمام مجلس الدولة، الدكتور وحيد رأفت، وإبراهيم فرج، ومحمود سليمان غانم وأحمد عبدالهادي. وكانوا قد أعدوا مذكرة، بعدم دستورية قانون تنظيم الأحزاب، ومنافاته للديموقراطية. وتأجل نظر القضية. وكان مجلس الدولة، حتى هذه اللحظة، يعد سنداً للحرية والديموقراطية؛ فقد رفع 25، من المعتقلين السياسيين، قضية أمام مجلس الدولة ببطلان قرار الاعتقال، وكان الرد هو حبسهم انفرادياً، وعدم السماح بدخول أطعمة لهم من الخارج.

        وتحت هذا الضغط، تنازل الكثيرون. وأصر على الاستمرار، في القضية، فؤاد سراج الدين، ومحمود سليمان غنام، وحامد جودة، وعدد محدود من السياسيين. وفوجئ فؤاد سراج الدين بدخول الصحفي مصطفى أمين إلى غرفته، بالمعتقل، حاملاً رسالة من أعضاء مجلس القيادة، تقول إنهم على استعداد للإفراج عنه، إذا تنازل عن القضية. ولكن فؤاد سراج الدين رفض فكرة التنازل، قائلاً: إنهم إذا أفرجوا عنه، سقطت القضية تلقائياً، وأنه لا يساوم على حريته. وبقي فؤاد سراج الدين، في المعتقل، حتى أفرج عنه، قبل الجلسة، أمام مجلس الدولة، بليلة واحدة.

        يصور خالد محيي الدين الوضع العام، في ذلك الوقت، بقوله: ويمكنني القول أن أغلب من أحاطوا بالثورة، من مستشارين، ومن قوى سياسية، كانوا يعملون جميعاً من أجل استمرار العسكريين في الحكم، وضد الديموقراطية والبرلمان. وكان السنهوري، وسليمان حافظ، وفتحي رضوان، يشجعون الضباط على تحدي الدستور والديموقراطية؛ بحجة أنها ثورة، وأن للثورة قانونها الخاص. كذلك كان الدكتور سيد صبري، أستاذ القانون الدستوري، يشجع هذا الاتجاه كذلك، ويقول إنه لا مبرر للتمسك بالنصوص، وإن البلد في وضع ثوري، وبحاجة إلى خطوات ثورية، وإلى فقه ثوري. وكان الإخوان المسلمون يشجعون هذا الاتجاه كذلك، ربما بأمل ضرب كل القوى السياسية الأخرى، ثم بعدها يتمكنون من احتواء الثورة، ناسين أن افتقاد الديموقراطية قد ينقلب وبالاً عليهم. وقد انقلب، بالفعل، وبالاً عليهم، وعنفاً ضدهم.

قضايا الأحزاب

        وكان من أهم القضايا، التي قُدمت إلى محكمة القضاء الإداري، تنفيذاً لهذا القانون، قضية اعتراض وزير الداخلية (سليمان حافظ) على إبراهيم دسوقي أباظة، سكرتير عام حزب الأحرار الدستوريين. واعتراضه على عبدالفتاح الطويل، أحد الأعضاء البارزين في حزب الوفد، واعتراضه على الرئاسة الشرفية لمصطفى النحاس للوفد، وقال وزير الداخلية: إن في ذلك مخالفة لقانون تنظيم الأحزاب. ولوفاة المرحوم إبراهيم دسوقي أباظة، أثناء نظر الدعوى، ولحل الأحزاب السياسية، كما سيجيء  بيانه، قُضي بانتهاء الخصومة في هذه القضايا.

        وفي نوفمبر 1952، طلب الحزب الوطني إلغاء الحزب، المسمى بالحزب الوطني الجديد، الذي ألفه فتحي رضوان، وسميت هذه القضية قضية "الإغارة على الحزب الوطني"، وقد ترافع فيها عبدالرحمن الرافعي، ومحمد زكي علي، أمام محكمة القضاء الإداري، بجلسة 13 ديسمبر 1952، وذكرا أن تأليف الحزب الوطني الجديد، هو محاولة للاستيلاء على الحزب الوطني، لا على اسمه فقط. وقد أيدهما مفوض مجلس الدولة، وقال، في مذكرته، إن على المحكمة أن تمنع الغاصب من استعمال اللفظ البارز في الاسم. وقد تأجلت القضية، من جلسة إلى جلسة، إلى أن أُجلت للحكم لجلسة 26 يناير 1953، وانتهت الخصومة في القضية، بجلسة 16 فبراير 1953، لصدور قانون حل الأحزاب السياسية.

إلغاء الوقف على غير الخيرات

        في 14 سبتمبر 1953، صدر القانون الرقم 180، لعام 1952، بإلغاء الوقف على غير الخيرات؛ فحققت الثورة، بإصداره، أمنية عامة كانت تجول في نفوس المفكرين، ودعاة الإصلاح والمستحقين في الأوقاف الأهلية، منذ عشرات السنين؛ فقد أدى نظام الوقف الأهلي إلى حبس الأعيان الموقوفة عن التداول، وأضحى عقبة في سبيل تطور الحياة الاقتصادية. وصار المستحقون في الأوقاف، وخاصة الفقراء منهم، ضحية هذا النظام؛ ذلك أن نصيبهم، من غلة الأوقاف، قد تضاءل، مع الزمن حتى صار عديم الجدوى. إضافة إلى أن حبس أعيان الوقف حال دون استثمارها، فجاء قانون إلغاء الوقف على غير الخيرات، محرراً للأعيان الموقوفة من التجميد، الذي كان مفروضاً عليها، ومن عبث كثيرين من نظار الأوقاف.

        قضى هذا القانون بإنهاء كل وقف، لا يكون مصرفه، في الحال، خالصاً لجهة من جهات البر، ويصبح ما ينتهي فيه الوقف ملكاً للواقف، إن كان حياً، وكان له حق الرجوع فيه، فإن لم يكن، آلت الملكية للمستحقين الحاليين، كلٌ بقدر حصته في الاستحقاق.

تخفيض إيجار المساكن

        وفي 17 سبتمبر 1952، صدر قانون تخفيض إيجارات المساكن بمقدار، (15%) للمباني، التي أنشئت منذ أول يناير عام 1944، أي التي لم تخضع لنظام تثبيت الأجور، وينطبق على المنازل والمحال التجارية، وقُصد بهذا التشريع التيسير على الطبقات الفقيرة والمتوسطة.

فصل موظفي الحكومة بغير الطريق التأديبي

        وفي 14 سبتمبر 1952، صدر مرسوم بالقانون الرقم 181 للعام 1952، في شأن فصل الموظفين بغير الطريق التأديبي؛ نص على أن الموظفين، غير الصالحين للعمل، أو الذين تعلق بهم شبهات قوية، تمس نزاهة الوظيفة، أو النزاهة، أو الشرف، أو حسن السمعة، يفصلون بغير الطريق التأديبي. وأُلفت لجان لفصل هؤلاء الموظفين، وفصلت الحكومة عدداً كبيراً من الموظفين، بغير محاكمة، وقبلت استقالة كثيرين آخرين. وأُحيل إلى المعاش نحو 450 ضابطاً، من ضباط الجيش. وأُلحق كثير منهم موظفين بمختلف الوزارات، أو الشركات.