إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / ثورة 23 يوليه، في مصر




وثيقة التنازل عن العرش
وداع علي ماهر
محمد نجيب وعبدالناصر
محاصرة قصر عابدين
مع ضباط الكتيبة (13) مشاة
لقاء مع الإخوان المسلمين
مقر مجلس قيادة الثورة
مقر رأس التين بالإسكندرية
اللواء محمد نجيب وعلي ماهر
الملك فاروق والسفير البريطاني
الملك فاروق في احتفال
البيان الأول للثورة
اليخت الملكي المحروسة
الرسالة الموجهة للملك فاروق
اجتماع مجلس قيادة الثورة
تعليمات بعودة اليخت المحروسة
دبابة أمام قصر المنتزه
زيارة للوحدات العسكرية





الفصل الخامس عشر

الفصل الخامس عشر

إعلان الجمهورية ومصادرة أموال فاروق ومحاكم الثورة

       أعلنت الصحف، في نهاية مايو 1953،  أن اللجنة الخماسية، المنبثقة عن لجنة الدستور، والمشكلة من الدكتور عبدالرزاق السنهوري، ومكرم عبيد، وعبدالرحمن الرافعي، والسيد صبري، وعثمان خليل عثمان، لبحث نظام الحكم، قد استقر رأيها بالإجماع، على أن يكون نظام الحكم جمهورياً، على أن يتقرر ذلك، عن طريق استفتاء شعبي.

تكليف جمال عبدالناصر لـ محمود رشيد

       يقول محمود رشيد[1]: في يوم 28 يوليه 1952، جاءني الصاغ سعد توفيق في مكتبي، بشارع شريف، وقال لي إن جمال عبدالناصر يريدك غداً بمقر القيادة في كوبري القبة.

       وذهبت، في صباح اليوم التالي، إليه، وقال لي: "نحن عسكريين ليس لنا صلات قوية بالحياة المدنية، وبالتالي بالحياة السياسية. ولقد سمعت عنك، وعرفت ماضيك السياسي وخبرتك، أريدك أن تعمل معنا كمستشار. وسيكون عملك معي، إنني في حاجة إليك". ووافقت على العمل معه. وبعد أن توطدت العلاقة بينهما،  كلفه جمال عبدالناصر، في الشهور الأولى، منذ قيام الحركة، بعمل خطير وسري، قائلاً له: هذه المهمة التي أكلفك بها تحتاج إلى سرية تامة، إن زملائي لا يعرفون عنها شيئاً، ولا أريد أن تتحدث عنها، حتى مع زوجتك، أو أقاربك. أنني أريد منك قانوناً، تضع فيه، كل إمكانياتك القانونية، وثقافتك السياسية، حول شرعية إسقاط النظام الملكي، وإقامة الجمهورية.

       ويقول محمود رشيد: "قد يبدو مثل هذا الطلب الآن شيئاً عادياً، لكنه، في تلك الأيام، خلال الأشهر الأولى من ثورة 23 يوليه يمثل تطوراً خطيراً، فرحت بهذا التكليف، وبدأت أعمل سراً، وكل ورقة انتهي منها أعرضها عليه، ليناقشني فيها، خلال لقاءات لا تجمع غيرنا. وكان إذا دخل أحد زملائه علينا توقف عن الحديث، وغطى الأوراق الموجودة أمامه، وشعرت أن زكريا محيي الدين يتابعنا باهتمام، ويحضر كلما جئت للقاء عبدالناصر. وسأل، أكثر من مرة، ماذا تفعلان؟ وكان عبدالناصر يجيبه بقوله: إنني أستمع إلى ذكريات محمود عن الأحزاب والحكومات السابقة، إنها ذكريات مثيرة، ومعلومات أسمعها لأول مرة. وبالطبع لم يكن ذلك صحيحاً!

       وقد سألت جمال عبدالناصر، بعد أن انتهيت من بحثي، وبعد أن قرأه وهنأني عليه: هل ستعلن الجمهورية؟ فأجاب: إنها مسألة خطيرة جداً، وأريد تأمين ثورتنا حتى نقوم بهذه الخطوة، تأمين الثورة، ليس داخلياً فقط، بل خارجياً ودولياً كذلك.

عبد الناصر والمجلس يعملان من خلف محمد نجيب

       لاحظ اللواء محمد نجيب أن مجلس القيادة كان ينعقد أحياناً، من دون حضوره، وإذا حضر مصادفة توقف الحديث الدائر. كما لاحظ أن الاجتماعات تتم بينهم في الخارج، للاتفاق على موقف معين. وظل جمال عبدالناصر مواصلاً عمله التنظيمي، داخل الجيش، بعناصر مرتبطة به، بعضها من الضباط الأحرار، والبعض من العناصر الجديدة. ولم يشأ اللواء محمد نجيب مسايرة مجلس القيادة، أو جمال عبدالناصر، هذا الاتجاه بل أنه حذرهم منه؛ لأن اللجوء إلى التنظيمات السرية كان في فترة الإعداد للثورة، أمَّا، فيما بعد نجاحها، فلا يجوز الاعتماد عليها ولكن يجب الاعتماد على تنظيمات علنية خارج صفوف الجيش حتى لا تتعقد الأمور داخل الجيش.

        ولكن الأمور كانت تتطور أسرع مما توقعت، شهية الضباط للسلطة دفعتهم إلى إزالة العقبات، التي اعترضتهم. ووجدت أن ذلك يؤدي إلى وجود ثغرة، بين مجلس القيادة، ومجلس الوزراء، وأنها تتسع، يوماً بعد يوم، إلى الحد الذي يهدد بتعطيل القرارات والأعمال الروتينية. وتداولت في ذلك مع الدكتور السنهوري، وسليمان حافظ، واتفق الرأي على تشكيل لجنة اتصال دائمة، بين الهيئتين، تقوم بالتحكيم بينهما عند الخلاف. وشُكلت اللجنة فعلاً برئاستي، (محمد نجيب) وعضوية سليمان حافظ، وعبدالجليل العمري، وأحمد حسني، وفؤاد جلال، والشيخ أحمد حسن الباقوري، عن الوزراء. وجمال عبدالناصر، وجمال سالم، وعبدالحكيم عامر، وعبداللطيف البغدادي، عن مجلس القيادة. وكانت تجتمع سراً في ثكنات قصر النيل.

       وظلت اللجنة تعمل حتى أُعلن إسقاط دستور عام 1923، في 10 ديسمبر عام 1952. واستعيض عنها بمؤتمر، من جميع أعضاء مجلس الوزراء، ومجلس قيادة الثورة، يجتمع مرة، كل أسبوعين، ويكون بمثابة برلمان. ولم ينجح المؤتمر في تذويب الازدواجية على الرغم من كثير من المناقشات الصريحة، التي دارت في جلساته. وفوجئت، في يوم، من أيام شهر مايو 1953، أثناء إحدى جلسات المؤتمر، بسليمان حافظ يتحدث عن مضار الازدواجية، ويعلن، باسم الوزراء المدنيين، عن استقالتهم من الوزارة، حتى يتهيأ لمجلس الثورة أن يختار الوزارة التي يريدها. ولاحظت، في حديث سليمان حافظ، تلميحاً بأنه أولى بالعسكريين وحدهم أن يتحملوا مسؤوليات الحكم، وعليهم أن يشكلوا، منهم، وزارة عسكرية صرفة، أو على الأقل، وزارة مختلطة.

       وعارضت هذا الاتجاه معارضة شديدة، لأنه يتنافى مع مبادئنا، ويفتح باباً أمام الجيش يجعله يهمل الدستور. وانتهى الأمر إلى رفض فكرة الاستقالة، والسعي إلى منع الازدواجية. ولكن شيئاً ما كان يختمر. اعتقد أنه بدأ، في هذه الجلسة (خلال شهر مايو 1953)، ونما بقرار، اتخذته لجنة خماسية فرعية، من لجنة الدستور، تضم عبدالرزاق السنهوري، وعبدالرحمن الرافعي، ومكرم عبيد، والسيد صبري، وعثمان خليل عثمان، ويقضي بإعلان الجمهورية، ذلك أني فوجئت بعرض فكرة مدروسة لإعلان الجمهورية، وتعيين عبدالحكيم عامر قائداً عاماً للقوات المسلحة، مع ترقيته إلى رتبة اللواء. وثُرت في المجلس، ثورة عنيفة، معارضاً ترقية عبدالحكيم عامر، من رتبة الصاغ إلى رتبة اللواء دفعة واحدة، وتعيينه قائداً عاماً لكافة القوات المسلحة، مبيناً أن ذلك سوف يخلق نقمة عامة في الجيش، قد تكون صامتة ومطوية في الصدور، ولكنها ستكون قابلة للانفجار في أية لحظة.

       ولم ييأس المجلس من الوصول إلى غرضه، تكرر عرض الموضوع أكثر من مرة. وفي كل مرة، كنت أرفض، وأثور وحدي، بلا نصير يقف معي. وهددت بالاستقالة، فتأجل الموضوع ثلاثة أسابيع. لم اعترض فقط على ترقية عبدالحكيم عامر أربع رتب مرة واحدة مما ليست له سابقة في الجيش المصري. ولكني اعترضت، كذلك، على إعلان النظام الجمهوري. لم اعترض لأني ضد النظام الجمهوري ومؤيد للنظام الملكي. ولكني اعترضت لإيماني، بأن تحويل نظام البلد السياسي، يجب أن ينص عليه في الدستور، وأن يكون موضع استفتاء شعبي عام. لم يغرني ما عرضوه من تعيني رئيساً للجمهورية، وعبدالحكيم عامر قائداً عاماً للقوات المسلحة؛ فقد كنت أوثر أن يظل عامر في موقعه مديراً لمكتبي لشؤون القوات المسلحة.

       وأشهد أني قبلت تحت ضغط وإلحاح استمر ثلاثة أسابيع بعد أن فكرت كثيراً في الاستقالة، وأعترف أن هذا كان خطأي الكبير، الذي وقعت فيه، فقد شعرت، بعد قليل، أنني أصبحت في مركز، أقل قوة، بعد أن تركت قيادة الجيش. الوحيد الذي استقال، نتيجة هذا الموقف، كان اللواء الجوي حسن محمود، قائد القوات الجوية".

المعركة الصامتة

       كانت اعتراضات اللواء محمد نجيب على إعلان النظام الجمهوري وترقية الصاغ عبدالحكيم عامر إلى رتبة اللواء وتعيينه قائداً عاماً للقوات المسلحة، في العلن، وعلى مسمع من الجميع. ولكن اعتراضات أعضاء مجلس القيادة على ترقية، وتعيين زميلهم عبدالحكيم عامر، اتخذت صورة معركة صامتة، بين الزملاء، في مجلس الثورة؛ فبغدادي اعتبرها مناورة، من عبدالناصر، لتعزيز نفوذه الشخصي، في مواجهة المجلس، فعبد الحكيم عامر صديقه الحميم، ولابد أنهما، معاً، سوف يتكاتفان ضد المجلس. كذلك أحدث ذلك حالة من عدم الرضا، بين قادة القوات المسلحة، فكيف يقفز من رتبة الصاغ إلى رتبة اللواء، دفعة واحدة، ليقودهم جميعاً.

       ويقول خالد محيي الدين: "واستقال اللواء الجوي حسن محمود، قائد سلاح الطيران، الذي أكد لنا أنه يحترم عبدالحكيم عامر، لكنه يستقيل لأنه يعتبر أن رتبة اللواء رتبة محترمة، وأنه لا يجوز التلاعب بالرتب العسكرية، والقفز عبرها بهذه السهولة. وحدثت استقالات مماثلة، وأدي ذلك إلى قلق مضاعف لدى محمد نجيب، فقد كان يعتمد، في علاقاته، بالجيش على هذه القيادات التقليدية، خاصة وأن غيابها سيتيح لجمال عبدالناصر، وعبدالحكيم عامر، أن يحلا رجالهما محل المستقيلين".

الجمهورية آتية لا ريب فيها

       وفي 17 يوليه 1953، أدلى جمال عبدالناصر بحديث، إلى جريدة الأهرام، قال فيه "إن الجمهورية آتية لا ريب فيها". وأكد "أن أصلح نظام حزبي يجب أن يقوم في مصر الحديثة هو النظام الذي يقوم على أساس ديموقراطي صحيح"، لماذا نفكر في قيام حزب واحد، أو في قيام الحكم المطلق، وقد تحولت الدول، التي طبقته إلى تطبيق النظام الديموقراطي الصحيح، وتعدد الأحزاب؟ ولم لا نفسح المجال أمام كل مبدأ تعتنقه جماعة صالحة، ويستهدف خدمة الوطن، في أن يعيش، ويعمل في حرية، لخدمة المجموع"؟ وقال: "إن هيئة التحرير ليست حزباً سياسياً، ولم تنشأ لتكوين حزب سياسي يجر المغانم، على الأعضاء، أو يستهدف شهوة الحكم والسلطان، أما السبب، في تأسيسها، فيرجع إلى الرغبة في إيجاد أداة لتنظيم قوى الشعب".

إعلان الجمهورية

       في 18 يونيه 1953، أُعلن إلغاء النظام الملكي في مصر (انظر ملحق إعلان دستوري من مجلس قيادة الثورة)، وخلع الملك أحمد فؤاد الثاني، وانتهى حكم أسرة محمد علي، بعد مائة وخمسين عاماً تقريباً. وأعلنت الجمهورية وكان محمد نجيب أول رئيس لجمهورية مصر. وخصص قصر عابدين ليكون مقراً لرئاسة الجمهورية وأطلق علية اسم "القصر الجمهوري". واستقالت وزارة محمد نجيب، وعيَّن مجلس قيادة الثورة محمد نجيب رئيس الجمهورية، ورئيساً للوزارة، وجمال عبدالناصر نائباً لرئيس الوزراء ووزيراً للداخلية. وفي اليوم نفسه عُيِّن عبدالحكيم عامر قائداً عاماً للقوات المسلحة، ورقي إلى رتبة اللواء. وخرج من الوزارة سليمان حافظ، وحسين أبو زيد، وفؤاد جلال، ومراد فهمي. ودخل الوزارة، من أعضاء مجلس قيادة الثورة، جمال عبدالناصر، نائباً لرئيس الوزراء ووزيراً للداخلية. وعبد اللطيف البغدادي، وزيراً للحربية والبحرية. وصلاح سالم وزيراً للإرشاد القومي.

       ولم يرحب الرأي العام بهذه الخطوة إذ تبددت أحلامه في مشاركة شعبية ديموقراطية. وتعثرت خطوات لجنة الدستور. وكانت ردود فعل مجلس القيادة، حيال هذا الجو العام، اتخاذ خطوات أكثر شدة وعنفاً. وتقرر اعتقال عدد من الزعماء السياسيين. وظهر اتجاه تكوين محاكم الثورة، بعد محاكم الغدر، التي كانت تحاكم المسؤولين السابقين على جرائم الشرف، أثناء توليهم المسؤولية.

       ويقول خالد محيي الدين: "وعندما أعلنت الجمهورية، عين اللواء محمد نجيب رئيساً للجمهورية. لكن الحقيقة التي أود أسجلها للتاريخ هي، أن اللواء محمد نجيب قد قاوم بشدة مسألة إعلان الجمهورية؛ فهو رئيس مجلس الثورة المالك لسلطة السيادة، ورئيس الوزراء الممسك بزمام السلطة التنفيذية، وهو كذلك، القائد العام للقوات المسلحة، صاحبة الثقل الأساسي في السلطة، وكان المشروع الذي قدمه جمال عبدالناصر، الذي كان متحمساً للإسراع بإعلان الجمهورية، بأن يعين شخص آخر قائداً عاماً للقوات المسلحة. كان محمد نجيب، منذ البداية، قد أعد نفسه ليستمر حاكماً، ولم يكن محمد نجيب وحده صاحب الطموح غير المحدود، كان هناك كذلك جمال عبدالناصر، لكنه كان أكثر ذكاء، فكان يربط طموحاته بطموحات الحركة، وطموحات الثورة بل وطموحات مجلس الثورة. وإذ كان محمد نجيب يعلم، علماً يقيناً، أن جمال عبدالناصر لن يسمح له بالاحتفاظ بكل السلطة، في يديه، فقد حاول أن يبحث عن مصدر للقوة يتحصن به، ضد سلطة "مجلس الثورة"، ولجأ محمد نجيب إلى الجماهير، فأكثر من جولاته الجماهيرية، وتحدث إليها بلهجة خالية من الترفع، ظهر، أمام الناس، حاكماً بسيطاً له مشاعر أبوية. وحاول أن يكون نسخة معدلة ومحسنة من مصطفى النحاس، وقد أكسبه ذلك جماهيرية واسعة، كانت تثير القلق لدى جمال عبدالناصر، وبعض الزملاء، في "القيادة"، كما كان لمحمد نجيب نفوذ، وسط السودانيين، في فترة كانت مصر تتطلع فيها لقبول السودان لمبدأ الوحدة معها، وكان محمد نجيب يلح، صراحة أو تلميحاً، ويحاول أن يرتب أن يكون الوحيد الظاهر أمام الجماهير، وأن يتوارى كل أعضاء مجلس الثورة، منكرين لذواتهم، ولم يكن هذا سهلاً ولا مقبولاً.

       لكن كل هذه الأوراق التي امتلكها محمد نجيب كانت أضعف بكثير من أوراق مجلس الثورة، ومن نفوذنا داخل القوات المسلحة ومن الأغلبية في المجلس التي كانت دائماً إلى جانب جمال عبدالناصر. وأخيراً رضخ محمد نجيب وقبل أن يصبح رئيساً للجمهورية، وأن يتخلى عن موقعه كقائد للقوات المسلحة، وخاصة أن الزملاء قد تحدثوا طويلاً عن انشغاله عن القوات المسلحة، وفي هذه الحالة يصبح محمد إبراهيم رئيس الأركان قائدنا جميعاً. ولذلك تم اختيار عبدالحكيم عامر قائداً عاماً للجيش.

مصادرة أموال الملك فاروق

       في سبتمبر 1953 قرر مجلس قيادة الثورة مصادرة أموال الملك السابق فاروق وإلغاء الحراسة على أمواله. وصودر 24 قصراً وتفتيشاً لفاروق و48 ألف فدان، واليخت فخر البحار، واليخت فيض البحار. وملايين من الجنيهات مودعة في البنوك باسم فاروق.

محاكمات الثورة

       جاء قرار تشكيل محكمة الثورة في منتصف سبتمبر 1953 ضمن خطاب ألقاه محمد نجيب، في مؤتمر شعبي بميدان الجمهورية. وقد تشكلت المحكمة برئاسة عبد اللطيف البغدادي، وعضوية أنورالسادات ، وحسن إبراهيم (انظر ملحق تشكيل محكمة الثورة وقائمة شاملة المتهمين والأحكام الصادرة ضدهم). كان محمد نجيب، في أول الأمر، معارضاً لفكرتها، ولكنه، حسب قوله: "وقفت ضدي أغلبية المجلس حيث أصروا على تشكيلها امتداداً لمحاكماتهم لضباط المدفعية".

       انعقدت في مبنى مجلس قيادة الثورة، بالجزيرة، وبدأت عقد أولى جلساتها يوم السبت 26 سبتمبر 1953. وقد شكلت المحكمة، من دون معرفة لقواعدها، استجابة لاقتراح صلاح سالم، بعد أن أعلن، في خطبة عامة، أن هناك وثيقة تدين بعض السياسيين باتصالاتهم بجهات أجنبية.

       وصحب إعلان التشكيل حملة اعتقالات، شملت إبراهيم عبدالهادي، وشقيقه إسماعيل المليجي، وإبراهيم فرج، ومحمود سليمان غنام، والنبيل السابق عباس حليم، والدكتور أحمد النقيب، وكريم ثابت وكامل القاويش، وسعد الدين السنباطي، وممدوح رياض.

رواية خالد محيي الدين

       "ترددت شائعات أن الملك فاروق سوف يعود قريباً، بمساعدة الأمريكيين سوف يعيدونه، كما أعادوا الشاه في إيران. وفي هذه الأثناء، فكر صلاح سالم، في أن يحدث فرقعة تمكن الثورة من أن تضرب خصومها، قبل أن يتحركوا، أو حتى يفكروا في التحرك، وأعلن لنا أنه يمتلك وثيقة مهمة تفيد أن السفارة الأمريكية تتصل بالسياسيين القدامى، وتتآمر معهم للإعداد للتحرك، ضد الثورة. ووقع الجميع في الفخ، وعُقد اجتماع جماهيري، في ميدان عابدين، وقف فيه صلاح سالم معلناً أنه يمتلك وثيقة خطيرة، وتحدث محمد نجيب، وجمال عبدالناصر، منددين بالمؤامرة، التي تُحاك ضد الثورة، وأُعلن عن تشكيل "محكمة الثورة" لمحاكمة المتأمرين".

       "وتشكلت المحكمة من بغدادي وحسن إبراهيم وأنور السادات وقبض على إبراهيم عبدالهادي بتهمة التآمر مع أمريكا وعلى إبراهيم فرج بتهمة مماثلة، وكانت هناك محاولة لتقديم النحاس باشا كذلك للمحاكمة، إلا أنها لم تنجح. وعندما عقدت المحكمة، اكتشفنا حقيقة الفرقعة التي أوقعنا صلاح سالم في مطبها، فلم تكن هناك مؤامرة، كانت هناك زيارة موظف بالسفارة الأمريكية لإبراهيم عبدالهادي، في بيته، ولاشيء آخر. وثبت أن الزيارة كانت لغرض، لا علاقة له بالسياسة. وأصدرت المحكمة حكمها على عبدالهادي بالإعدام. ورفض محمد نجيب التصديق على الحكم، ورفضت أنا الحكم. وفي اجتماع مجلس الثورة، الذي دعى للتصديق على الأحكام، فوجئنا بغياب محمد نجيب، وأعلن الراديو أنه سافر إلى الإسكندرية".

       "وكان جمال عبدالناصر قد تحدث معي شاكياً، من صلاح سالم، وقال: إنه ورطنا في هذا الأمر قائلاً إن هناك وثيقة، وبعد ذلك اكتشفنا أنها مجرد كلام عادي، وأنها لا تشكل دليلاً ضد أحد، وبعد الإعلان عن المؤامرة تورطنا وكان لابد من تقديم أشخاص للمحاكمة. المهم صممت على موقفي وألغي حكم الإعدام" [2].

المحاكمات الأولى قبل سبتمبر 1953

       سبقت محاكمات الثورة التي أعلن عنها رئيس الجمهورية محاكمات من نوع خاص شكلت من دون الإعلان عنها لمحاكمة بعض الضباط.

1. محاكمة الدمنهوري (18 يناير 1953)

يقول محمد نجيب: أُبلغت أن البكباشي حسني الدمنهوري كان يعد مؤامرة للانقضاض على مجلس القيادة. وإخراج الضباط المعتقلين، وأن لجنة قد حققت معه من عبداللطيف البغدادي وعبدالحكيم عامر وزكريا محيي الدين وصلاح سالم. وأبلغني جمال عبدالناصر أن محاكمته سوف تتم، أمام مجلس القيادة، واعترضت على ذلك حيث لا يعقل قانوناً أن يكون الخصم هو الحكم. ولكن جمال عبدالناصر أخبرني أنهم سوف يجتمعون، بعد ساعة واحدة، أي في السادسة صباحاً (10 يناير 1953)، وانه يستحسن أن تتم المحاكمة، بهذه الصورة، حتى لا تكون موضوعاً للإثارة، في صفوف الجيش، في وقت اضطربت فيه الأمور.

ورأس جمال عبدالناصر المحكمة وحضرها كل أعضاء مجلس القيادة، عدا يوسف صديق، وأنور السادات، وخالد محيي الدين، وعبدالمنعم أمين، وأصدرت حكمها بالإعدام رمياً بالرصاص، وخفف الحكم إلى السجن المؤبد، وعلى الثاني بطرده من الخدمة العسكرية. وتلك كانت المحاكمة الأولى أمام مجلس قيادة الثورة.

رفض محمد نجيب التصديق على حكم الإعدام، من حيث المبدأ، مهما كانت الظروف. وحاول جمال عبدالناصر إقناعه بضرورة التصديق على حكم الإعدام، إلا أنه تمسك برأيه، وصرخ فيه قائلاً: "أنني لا أريد أن أمضي في طريق مفروش بدماء الزملاء من الضباط".

ويقول محمد نجيب: وزدت تشبثاً برأيي عندما بلغني من اليوزباشي محمد أحمد رياض مصادفة أنه شاهد البكباشي حسني الدمنهوري وهو يعذب تعذيباً شديداً أمام لجنة التحقيق لحمله على الاعتراف بأنه كان يدبر مؤامرة ضد مجلس القيادة. كما أبلغني اليوزباشي محمد أحمد رياض أن حسني الدمنهوري قد تحمل هذا التعذيب بشجاعة كبيرة وأنه رفض على الرغم من قسوة التعذيب، الاعتراف بأنه كان يتآمر على مجلس القيادة.

ويقول خالد محيي الدين: وحوكم حسني الدمنهوري وحاولوا إصدار حكم بالإعدام ورفضت بشدة، وهنا قال لي صلاح سالم: أرجوك وافق على الإعدام لكي نخيف الضباط، وأعدك أن نطلب إلى محمد نجيب عدم التصديق على الحكم، وقد تم هذا فعلاً.

2. محاكمة رشاد مهنا وآخرين (19 مارس 1953)

والقضية الثانية، التي نظرت، أمام مجلس قيادة الثورة، هي محاكمة القائمقام محمد رشاد مهنا (الوصي السابق على العرش)، الذي اتهم ومعه أحد عشر ضابطاً، وثلاثة من المدنيين، بتدبير مؤامرة لإحداث فتنة بين أفراد القوات المسلحة، والاستيلاء على قيادة الجيش.

       وأذاع اللواء محمد نجيب في يناير 1953 بياناً قال فيه: "إنه ثبت لنا أن أشخاصاً، لا تهمهم إلا مصلحتهم الشخصية، قد اتصلوا بعدد من الطلبة والعمال، مستغلين كل وسائل الإغراء، من وعد، وغش، ومال، محاولين إحداث فتنة واضطراب يوم 12 يناير 1953، يوم احتفال الجامعة بذكرى شهدائها. ولكن هذا اليوم مر بسلام، وأن بعض الضباط حاولوا أن يبثوا، في صفوف إخوانهم، روح الفتنة وقد كشفت القيادة محاولتهم".

       وعقد مجلس قيادة الثورة هيئة محكمة لمحاكمة كل من يعرض سلامة الوطن للخطر. وكان تأليف هذه المحكمة من أعضاء مجلس قيادة الثورة كذلك راجعاً إلى خطورة التهم الموجهة إلى المتهمين وإلى أن معظمهم زملاء أو متساوون في الرتبة، مع أعضاء مجلس قيادة الثورة، ونُظرت هذه القضية عدة أيام، واصدر المجلس أحكامه فيها في 19 مارس عام 1953 وهي تقضي بالسجن المؤبد على رشاد مهنا، وعلى تسعة من الضباط، وثلاثة من المدنيين بالسجن مدداً مختلفة. وأُفرج بعد ذلك عن رشاد مهنا صحياً.

       ويقول اللواء محمد نجيب: ولم أستطع زحزحة أعضاء مجلس القيادة عن رأيهم في أن يشكلوا من أنفسهم محكمة لمحاكمة رشاد مهنا وضباط المدفعية فقد قالوا لي صراحة إن طرح موضوعات التحقيقُ أمام الضباطُ أمر يمكن أن يؤدي إلى مخاطر كثيرة. وإن عليهم الدفاع عن أنفسهم بمختلف الوسائل. لم اقتنع. ولكني لم أستطع أن أغير من الأمر شيئاً؛ فقد كانوا في موقف الدفاع عن أنفسهم بأي وسيلة وكان هذا رأي الأغلبية.

       يقول القائمقام رشاد مهنا: "يوم المحاكمة كان مضحكاً!! الله يرحمك يا نجيب يا ريحاني، لا يمكن رغم مقدرته الكوميدية. الفائقة أن يصل إلى ما وصل إليه هؤلاء الجهلاء! إنهم يجهلون حتى أصول المحاكمة. بدأت المحاكمة الساعة الثالثة صباحاً، وقالوا لي اتفضل: جلست. كان هناك جهاز تسجيل، وبدأ زكريا محيي الدين يوجه إلى التهم. ولم أرد عليه. وأحضروا الشاهد الأول، إبراهيم عاطف، أعرف أن الشاهد تتم مناقشته ولكن زكريا محيي الدين كان يقرأ من ورقة ويقول له: مش كده برضه، القاضي يقرأ والشاهد يستمع، وقال لهم إبراهيم عاطف: "لا لم أقل ذلك". خرج مقبوضاً عليه. ثم جاءوا بمصطفى راغب، قال الكلام نفسه. الاثنين أصبحوا محامين ودفاع.. وأنا في صمت، ثم جاءوا بعبد العزيز هندي، وقال مثل سابقيه. وبعدين قالوا لي اتفضل. أخذني حسن التهامي في حجرة، بجوار المحاكمة، وكان في يدي ورقة صغيرة. واحد طلع منهم وبيحاكموه، كان لابد أن يصعب عليهم. واحد مثل عبدالناصر، أو أي واحد من أعضاء مجلس الثورة. كنت واحد من الجماعة، وخرجت، وبيحاكموه. حين خرجت، في فترة الاستراحة، كان أعضاء المحاكمة، من مجلس الثورة، يجلسون يستمعون إلى موسيقى كلاسيك!! وحين استأنف المحاكمة قالوا لي: "عندك كلام تريد أن تقوله". قلت: "كلام بالنسبة للاتهام لا"؛ لأن الشهود نفوا هذا الاتهام، ولكن أن أذكركم بعلاقتي بكم". وما أن قلت ذلك حتى تصدى جمال سالم قائلاً: "علاقتي بكم"؟! فاكر لما طردتني من العريش. وضحكت فقال لي: "وكمان بتضحك". كان فاكر جمال سالم أني سوف أخاف منه، ورويت لهم قصتي معهم، وخرجت، وجلست، في الحجرة المجاورة، ثم دخل علي حسن التهامي وكان لا يزال ملازماً أو يوزباشياً وقال لي: "فين الورقة التي معك" قلت له: مزقتها فحدثني بلهجة، لم أتعودها، وقال لي: "إيه مزقتها دي". كان يبدو وقتها ظاهري هادئاً إلا أن نفسي كانت تغلي من الداخل. قلت له بغضب شديد وبصوت عال: "أنت طالع بره ولا لأ.." فخرج.

       ويستطرد القائمقام رشاد مهنا موضحاً الفرق في الأسلوب والمعاملة بين القبض عليه قبل الثورة في القضية المعروفة باسم "المؤامرة الكبرى ضد الملك وأعوانه عام 1947"، وبين القبض عليه بعد الثورة في القضية المعروفة باسم "قضية الفتنة والاستيلاء على قيادة الجيش عام 1953"، يقول: "أود أن يعلم كل مخلوق.. أنني قبض علي عام 1947 لمدة شهر تقريباً، لم أشعر بأني نقصت ولو شعره لا من وظيفتي ولا من قيمتي كضابط ولا من حقوق، يعني كان إذا خاطبني الضابط لابد وأن يؤدي التحية العسكرية. حقوقي بالكامل مصانة، طلباتي مصانة، ما دامت في حدود القانون. لم أشعر بأي نوع من الإهانة لا مادياً، ولا معنوياً، وأتى المحقق وحقق كما شاء. وانتهى التحقيق وأفرج عنا وكان الله بالسر عليم. بعد الثورة، وأنا وصي على العرش، يعني أكبر وظيفة في الدولة. يعني ملك الدولة، ماذا فعل جمال عبدالناصر، وبطانة السوء. قبض عليّ الساعة الثالثة صباحاً، ونزعت نزعاً من أحضان أولادي، ثم رمي بي في زنزانة، لا يوجد بها أي شيء على الإطلاق!! معاملة لا يمكن أن تتصورها، لا قبل، ولا بعد القبض".

       حاكمت محكمة الثورة 34 شخصاً بعضهم من السياسيين، والبعض من المتهمين بالتجسس، والاتصال بجهات أجنبية، أو ترديد الشائعات. حوكم ستة من الوفديين هم إبراهيم فرج، ومحمود سليمان غنام، وفؤاد سراج الدين، وزينب الوكيل، ومحمود أبو الفتح، وحسين أبو الفتح، وثلاثة من رجال السراي، هم كريم ثابت، وأحمد النقيب، ومحمد حلمي حسين، والنائب العام السابق، كامل القاويش، وسعدي واحد هو إبراهيم عبدالهادي. ودستوري واحد، أحمد عبدالغفار، وضابطان هما: قائمقام عبدالغفار عثمان، وأميرلاي أحمد شوقي، 13 جاسوساً، وثلاثة من مروجي الشائعات. واثنان بتهمة التستر على الاتصال بجهات أجنبية.

        أصدرت المحكمة ستة أحكام بالإعدام، نفذ منها أربعة على الجواسيس، وعدل اثنان إلى المؤبد أحدهما على إبراهيم عبدالهادي ومتهم آخر يدعى أحمد محمد عوض موظف بمعسكرات البريطانيين بمنطقة قناة السويس بتقديم تقارير، وتبليغات، لجهات أجنبية اسمه أحمد على عوض، كما صدرت أربعة أحكام بالبراءة فقط.

       ومحكمة الثورة كانت موجهة أساساً ضد الوفد وبقايا الأحزاب والتنظيمات السياسية، فقد حوكم من الوفد كل الأعضاء، الذين لم يبلغوا الخامسة والستين من العمر، وكانت محاكمة فؤاد سراج الدين هي أطول محاكمة، إذ استمرت 45 جلسة، طُرحت فيها مختلف القضايا وجاء قرار المحكمة ما يأتي: "المحكمة تعيب وتأسف على موقف الحكومة الوفدية المرتجل، من معركة التحرير، بالقناة، وعدم الاستعداد لها[3].

       وكانت محكمة الثورة تنعقد خلف باب رفعت عليه هذه الآية، (واقتلوهم حيث ثقفتموهم). وتعقد جلسات سرية لا يحضرها إلا أعضاؤها، والمتهم، وزكريا محيي الدين، رئيس مكتب الإدعاء، الذي كان مشكلاً من الضباط الحقوقيين، محمد التابعي، وإبراهيم سامي، وسيد جاد، ووكلاء النائب العام مصطفى الهلباوي، وعبدالرحمن صالح، وأحمد موافي، وعلي نورالدين.

       كان المتهمون يواجهون المحكمة، بلا تحقيق، ويوجه الإدعاء التهمة إليهم، كنوع من المفاجأة وفي الجلسة السرية، التي حوكم فيها إبراهيم فرج، فوجئ بتهمة الاتصال بجهات أجنبية، وأخيراً تبين أن المقصود هو مقابلته مع مصطفى النحاس لنهرو، أثناء زيارته لمصر، عقب إعلان الجمهورية بخمسة أيام.

       وكان نهرو قد أرسل رسالة حملها السفير الهندي يطلب مقابلة مصطفى النحاس، ضمن زيارته لمصر، ولما حاول النحاس الاعتذار، عن عدم المقابلة، منعاً للحرج، أبلغه السفير بأنه إذا لم تتم الزيارة، فإن نهرو لن يحضر إلى مصر.

       وكان النحاس قد التقى نهرو قبل ذلك مرات. ولذا كان نهرو حريصاً على أن يظهر في مظهر الوفاء للزعيم الذي احتل مركزه، عن طريق الديموقراطية، التي يؤمن بها نهرو إيماناً راسخاً، والتي كانت موضع حديث دائم، بينه وبين أعضاء مجلس قيادة الثورة، في كل مناسبة يلتقي بهم.

       قال نهرو في هذه المقابلة، التي تمت في منزل النحاس، إنه لا ينسى علاقته بوالده (موليتال) وإنه يعد الحركة الوطنية، في الهند، ابنة الحركة الوطنية، في مصر التي قادها الوفد. وقال له النحاس إنه سعيد لأنه عاش حتى اليوم، الذي أُعلنت فيه الجمهورية، بمصر، وصارحه بأنه يكره الحكم العسكري، ويرى من واجبه مقاومته، حتى يعود الدستور والديموقراطية والحرية.

       وعندما انتهت جلسات محكمة الثورة، التي بدأت في أول أكتوبر 1953، وانتهت في أبريل 1954. كان معظم قيادات الوفد قد أصبحوا خلف قضبان السجون. ويذكر أن أفراداً، من أسرة سراج الدين، ذهبوا إلى جميع أعضاء مجلس الثورة، لإقناعهم ببراءة فؤاد، ولم يلقوا إلا كلمات مجاملة أو اعتذار عن عدم المقابلة، عدا جمال عبدالناصر الذي صارحهم بأنه لابد من الحكم عليه، وأنه لابد من التصديق على الحكم. قائلاً لهم أن فؤاد سراج الدين كرجل سياسي يعرف لماذا حكم عليه. ومتى سيخرج.

       وكان هناك سببان: أحدهما خارجي وهو عودة الأحزاب في سورية بعد الإطاحة بحكم العقيد أديب الشيشكلي وسبب داخلي هو استعداد رجال الثورة للقضاء على الإخوان المسلمين كما صارحهم بذلك.

       كانت الأحزاب في سورية قد توقف نشاطها، أربعة أعوام، منذ عام 1949، ولكنها عادت للتشكيل فوراً بعد القضاء على دكتاتورية الشيشكلي. وهو الأمر الذي كان يؤرق رجال الثورة بصفة عامة، وجمال عبدالناصر، بصفة خاصة، لأنهم كانوا يدركون أن مجرد وجودها يشكل خطراً، على سلطتهم في لحظة زمنية معينة، تحت ضغط ظروف مواتية.

       وهكذا بعد أن كانت تجربة سورية تبعث الحذر من تكرار الانقلابات العسكرية، أصبحت تبعث الحذر كذلك من عودة الأحزاب السياسية. وعندما انتهت محكمة الثورة من عملها، وألقت بعدد من زعماء الوفد والأحزاب السياسية داخل السجون، وفتحت أبواب المعتقلات وحظرت أي نوع من النشاط السياسي خارج هيئة التحرير، بدا الأمر كما لو أن الصدام، مع الأحزاب، قد وصل غايته. ولكنه تبين على الرغم من ذلك، أن الحياة مازالت تنبض في جسد الأحزاب، وأنها استفاقت لتعاود الحياة مرة أخرى في بداية عام 1954 كما سيأتي تفصيلاً فيما بعد.



[1]  ومحمود رشيد المحامي من مواليد سنة 1904 تخرج من كلية الحقوق سنة 1926 وكان من زعماء طلبة الجامعة الذين يشتغلون بالعمل السياسي وقد التحق بوظيفة حكومية بوزارة الداخلية في نهاية سنة 1930 وعمل سكرتيرا لوزير الداخلية إسماعيل صدقي باشا وفصل من الخدمة سنة 1933 لأسباب سياسية وعاد إلى المحاماة وقام بنشاط بارز أيام الائتلاف الحزبي سنة 1936 تمهيدا لتوقيع اتفاقية سنة 1936 مع بريطانيا. بعد ذلك وحتى قيام الثورة سنة 1952 كان قد شغل وظيفة مدير مكتب  لثلاثة من رؤساء الحكومات وهم بالترتيب التاريخي، أحمد ماهر باشا وحسين سرى باشا أثناء الحرب العالمية الثانية، ثم إسماعيل باشا صدقي وكان صديقا لعلي ماهر باشا ثم عمل مديرا لمكتب علي ماهر بعد قيام حركة الجيش. وفي 15 يناير سنة1953 قبض عليه وأودع السجن الحربي وحوكم بعد منتصف ليلة 11 مارس سنة 1953 أمام قيادة مجلس الثورة بقيادة البكباشي جمال عبدالناصر وحكم عليه بالسجن عامين وأفرج عنه سنة 1954 ثم أعتقل في 17 أكتوبر سنة 1961 حتى نهاية ديسمبر سنة1961 وفي فبراير سنة 1962 حددت إقامته في بيته وظل على هذا الوضع حتى 20 مايو سنة 1962.

[2]  ويقول خالد محيي الدين:`وتمضى سنوات عديدة لأقابل بالمصادفة إبراهيم عبدالهادي في المنتزه بالإسكندرية وصافحني بحرارة قائلاً: أنا مدين لك بحياتي ساعتها أدركت أية حماقة كنا سنرتكبها لو أننا أعدمنا  أناسا أبرياء.

[3]  وهكذا تحول الموقف الذي يستحق الفخر في تاريخ الوفد.. إلى موقف يجلب له العيب والأسف`... ووجهت الطعنة في غير موضعها فمعارك التحرير والنضال الشعبي لا يشترط أن تستكمل تماماً في بدايتها... بل هي تنمو وتزداد صلابة مع كفاح الشعب المسلح، وهو ما حدث فعلاً قبل حريق القاهرة. وما تكرر أيضاً بصورة أخرى بعد 23 يوليه حتى توقيع اتفاقية الجلاء.