إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / ثورة 23 يوليه، في مصر




وثيقة التنازل عن العرش
وداع علي ماهر
محمد نجيب وعبدالناصر
محاصرة قصر عابدين
مع ضباط الكتيبة (13) مشاة
لقاء مع الإخوان المسلمين
مقر مجلس قيادة الثورة
مقر رأس التين بالإسكندرية
اللواء محمد نجيب وعلي ماهر
الملك فاروق والسفير البريطاني
الملك فاروق في احتفال
البيان الأول للثورة
اليخت الملكي المحروسة
الرسالة الموجهة للملك فاروق
اجتماع مجلس قيادة الثورة
تعليمات بعودة اليخت المحروسة
دبابة أمام قصر المنتزه
زيارة للوحدات العسكرية





الفصل الثامن عشر

الفصل الثامن عشر

دستور 16 يناير 1956 وانتخاب جمال عبدالناصر رئيساً للجمهورية

أولاً: دستور 16 يناير 1956

       وضعت حكومة الثورة دستوراً جديداً أعلنه الرئيس جمال عبدالناصر يوم 16 يناير في مؤتمر شعبي كبير في ميدان الجمهورية "عابدين سابقاً". و16 يناير 1956 هو نهاية فترة الانتقال التي حددت بثلاث سنوات بدأت في 17 يناير 1953. ودستور 1956 ليس مقتبساً من دستور 1923، ولا من المشروع الذي وضعته لجنة الدستور.

       وله ديباجة بليغة "مقدمة" دلت على تجديد في وضع الدستور، وتوضيح لأهداف الثورة، فدستور عام 1923 كان منحة من الملك، أما دستور عام 1956 فهو تعبير عن إرادة الشعب، وتعريف بالخطوط الرئيسية للدستور، وتسجيل لأهداف الوطن العليا، تقول الديباجة:

       "نحن الشعب المصري ـ الذي انتزع حقه في الحرية والحياة، بعد معركة متصلة ضد السيطرة المعتدية من الخارج والسيطرة المستغلة من الداخل.

       "نحن الشعب المصري ـ الذي تولى أمره بنفسه، وأمسك زمام شأنه بيده، غداة النصر العظيم الذي حققه بثورة 23 يوليه 1952 وتوج به كفاحه على مدى التاريخ.

       "نحن الشعب المصري ـ الذي استلهم العظة من ماضيه، واستمد العزم من حاضره، فرسم معالم الطريق إلى مستقبل، متحرر من الخوف، متحرر من الحاجة، متحرر من الذل، يبني فيه بعمله الإيجابي، وبكل طاقته وإمكانياته،مجتمعاً تسوده الرفاهية ويتم له في ظلاله: القضاء على الاستعمار وأعوانه، القضاء على الإقطاع، القضاء على الاحتكار وسيطرة رأس المال على الحكم، إقامة جيش وطني قوي، إقامة عدالة اجتماعية، إقامة حياة ديموقراطية سليمة.

       "نحن الشعب المصري ـ الذي يؤمن بأن: لكل فرد حقاً في يومه، ولكل فرد حقاً في غده، ولكل فرد حقاً في عقيدته، ولكل فرد حقاً في فكرته، حقوقاً لا سلطان عليها أبداً لغير العقل والضمير.

       "نحن الشعب المصري ـ الذي يقدس الكرامة والمساواة باعتبارها جذوراً أصيلة للحرية والسلام.

       "نحن الشعب المصري ـ الذي يشعر بوجوده متفاعلاً في الكيان العربي الكبير، ويقدر مسؤولياته والتزاماته حيال النضال العربي المشترك، لعزة الأمة العربية ومجدها.

       "نحن الشعب المصري ـ الذي يعرف مكانه على ملتقى القارات والبحار من هذا العالم، ويقدر تبعات رسالته التاريخية في بناء الحضارة، ويؤمن بالإنسانية كلها، ويوقن أن الرخاء لا يتجزأ، وأن السلام لا يتجزأ.

       "نحن الشعب المصري ـ بحق هذا كله ومن أجل هذا كله .. ومن أجل هذا كله .. نرسي هذا القواعد والأسس دستوراً. ينظم جهادنا ويصونه، ونعلن اليوم هذا الدستور، تنبثق أحكامه من صميم كفاحنا، ومن خلاصة تجاربنا، ومن المعاني المقدسة التي هتفت بها جموعنا، ومن القيم الخالدة التي سقط دفاعاً عنها شهدائنا، ومن أحلام المعارك التي خاضها آباؤنا وأجدادنا جيلاً بعد جيل.. من حلاوة النصر، ومن مرارة الهزيمة.

       "نحن الشعب المصري ـ وبعون الله وتوفيقه وهداه، نملي هذا الدستور ونقرره ونعلنه، بمشيئتنا وإرادتنا وعزمنا الأكيد ونكفل له القوة والمهابة والاحترام".

والدستور من 196 مادة وتتلخص قواعده يما يلي:

  1. قرر في أولى مواده أن مصر دولة عربية مستقلة ذات سيادة، وهي جمهورية ديموقراطية، والشعب المصري جزء من الأمة العربية (مادة 1). فوضع بهذه القاعدة أساس القومية العربية، وهو أول دستور مصري يقرر أن الشعب المصري جزء من الأمة العربية.
  2. قرر الدستور في هذا المادة النظام الجمهوري، واختار النظام الجمهوري الرياسي الذي يكون فيه رئيس الدولة في الوقت ذاته رئيس الوزارة، فاقتبس نظام الجمهورية الرياسية من دستور الولايات المتحدة الأمريكية مع توسع في اختصاصات الرئيس، وآثر هذا النظام على الجمهورية البرلمانية التي توزع فيها السلطة بين رئيس الدولة ورئيس الوزارة، وفي مقابل انحصار السلطة في شخص رئيس الجمهورية جعل اختياره بواسطة الشعب في استفتاء عام يشترك فيه الناخبون جميعاً، ويشترط في رئيس الجمهورية أن يكون مصرياً من أبوين وجدين مصريين، ولا تقل سنه عن خمسة وثلاثين سنة ميلادية. وألا يكون منتمياً إلى الأسرة التي كانت تتولى الملك في مصر، ويرشح مجلس الأمة رئيس الجمهورية. ويعرض الترشيح على المواطنين لاستفتائهم فيه.
  3. يعين رئيس الجمهورية الوزراء ويعفيهم من مناصبهم، ويجتمع مع الوزراء في هيئة مجلس وزراء لتبادل الرأي في الشؤون العامة للحكومة وتصريف شؤونها، أي أنه يرأس مجلس الوزراء.
  4. للحقوق الاجتماعية والاقتصادية مكان الصدارة في الدستور بالنسبة للحقوق السياسية والشخصية، فقد جعل التضامن الاجتماعي أساساً للمجتمع المصري، وجعل الأسرة أساساً للمجتمع وقوامها، الدين والأخلاق والوطنية. ونص على أن الجولة اكفل الحرية الطمأنينة وتكافؤ الفرص لجميع المصريين. وأن الاقتصاد القومي ينظم وفقاً لخطط مرسومة تراعى فيها مبادئ العدالة الاجتماعية وتهدف إلى تنمية الإنتاج ورفع مستوى المعيشة، ونص على أن النشاط الاقتصادي الخاص حر على أن لا يضر بمصلحة المجتمع أو يخل بأمن الناس أو يعتدي إلى حريتهم أو كرامتهم، ويستخدم رأس المال في خدمة الاقتصاد القومي ولا يجوز أن يتعارض في طرق استخدامه مع الخير العام للشعب. ويكفل القانون التوافق بين النشاط الاقتصادي العام والنشاط الاقتصادي الخاص مصونة، وينظم القانون أداء وظيفتها الاجتماعية، ولا تنزع الملكية إلا للمنفعة العامة ومقابل تعويض عادل، ونص على أن القانون يعين الحد الأقصى للملكية الزراعية بما لا يسمح بقيام الإقطاع. ولا يجوز لغير المصريين تملك الأراضي الزراعية، وينظم القانون العلاقة بين ملاك العقارات ومستأجريها، وتشجع الدولة دعم الأسرة وحماية الأمومة والطفولة، وتيسر للمرأة التوفيق بين عملها في المجتمع وواجباتها في الأسرة، وتحمي النشء من الاستغلال وتقيه الإهمال الأدبي والجسماني والروحي، ونص على أن للمصريين الحق في المعونة في حالة الشيخوخة وفي المرض أو العجز عن العمل. وتكفل الدولة خدمات التأمين الاجتماعية والمعونة الاجتماعية والصحة العامة. وجعل الدستور العدالة الاجتماعية أساس الضرائب والتكاليف العامة، وللمصريين حق العمل. وتعني الدولة بتوفيره، وينظم القانون العلاقات بين العمال وأصحاب الأعمال على أسس اقتصادية مع مراعاة قواعد العدالة الاجتماعية.
  5. قرر الحريات الشخصية والسياسية.
  6. الانتخاب حق للمصريين على الوجه المبين في القانون ومساهمتهم في الحياة العامة واجب وطني عليهم، ومن هنا أوجب قانون الانتخاب "قانون تنظيم مباشرة الحقوق السياسية" على كل ناخب مقيد اسمه بجداول الانتخاب أن يدلي بصوته سواء في الانتخاب أو في الاستفتاء، ومن يتخلف لغير عذر عن الإدلاء بصوته سيعاقب بغرامة لا تتجاوز مائة قرش.

وخوّل قانون الانتخاب للمرأة الاشتراك في عضوية مجلس الأمة، فاكتسبت المرأة لأول مرة في مثر حق الانتخاب، وحق عضوية مجلس الأمة.

  1. جعل السلطة التشريعية في يد مجلس واحد هو مجلس الأمة، وجعل لرئيس الجمهورية سلطة حل هذا المجلس، وحدد سن النائب بثلاثين سنة ميلادية على الأقل. ومدة المجلس خمس سنوات. ولا يجوز لأي عضو من أعضاء مجلس الأمة أن يعين في مجلس إدارة شركة في أثناء مدة عضويته.
  2. ينشأ مجلس يسمى مجلس الدفاع الوطني ويتولى رئيس الجمهورية رياسته ويختص هذا المجلس بالنظر في الشؤون الخاصة بوسائل تأمين البلاد وسلامتها، والقوات المسلحة في الجمهورية المصرية ملك للشعب ومهمتها حماية سيادة البلاد وسلامة أراضيها وأمنها، والدولة وحدها هي التي تنشئ القوات المسلحة وتنظم تدريب الشباب تدريباً عسكرياً كما تنظم الحرس الوطني وتنظم التعبئة العامة.
  3. القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون ولا يجوز لأي سلطة التدخل في القضايا أو في شؤون العدالة، وتصدر الأحكام وتنفذ باسم الأمة، والقضاة غير قابلين للعزل، وينظم القانون ترتيب المحاكم العسكرية وبيان اختصاصاتها.
  4. يؤلف المواطنون "اتحاداً قومياً" للعمل على تحقيق الأهداف التي قامت من أجلها الثورة، ولحث الجهود لبناء الأمة بناءً سليماً من النواحي السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ويتولى الاتحاد القومي الترشيح لعضوية مجلس الأمة.
  5. ونص الدستور على إجراء الاستفتاء عليه، وعلى رئاسة الجمهورية يوم السبت 23 يونيه 1956 وأن يُعمل به من تاريخ إعلان موافقة الشعب عليه في الاستفتاء.

ثانياً: الاستفتاء على الدستور وعلى رئاسة الجمهورية

       جرت عملية الاستفتاء العام في الموعد المحدد، يوم السبت 23 يونيه عام 1956، واشترك فيها الناخبون المقيدة أسماؤهم في جداول الانتخاب في سائر أنحاء الجمهورية. وقد أسفر الاستفتاء عن شبه إجماع من الشعب على الدستور وانتخاب جمال عبدالناصر رئيساً للجمهورية.

       كان عدد الناخبين المقيدة أسماؤهم في جداول الانتخاب 5,697,467  ناخباً حضر منهم 5,508,314 ناخباً اشتركوا في الاستفتاءين. وبلغ عدد الموافقين على الدستور 5,488,225 ناخباً، وعدد غير الموافقين عليه 10,046، فتكون نسبة الموافقين إلى غير الموافقين 97,6 في المائة. وبلغ عدد الموافقين إلى انتخاب جمال عبدالناصر رئيساً للجمهورية 5,494,555 ناخباً، وغير الموافقين 2,267، فتكون نسبة المنتخبين له إلى غير الموافقين على انتخابه 99,9 في المائة، ويكون الدستور قد وافق عليه الشعب في الاستفتاء العام وانتخاب الشعب لجمال عبدالناصر رئيساً للجمهورية قد تم بما يشبه الإجماع.

       تلك أول مرة في تاريخ مصر استفتى فيها الشعب على الدستور، وأول مرة انتخب الشعب في استفتاء عام رئيساً لجمهورية مصر، وأول مرة اشتركت فيها المرأة في الاستفتاء والانتخاب. وكان جمال عبدالناصر هو المرشح الوحيد. ولم يسمح لغيره بالترشيح وكان طبيعياً أن يحصل على النجاح في الاستفتاء الشعبي، عقب مواقفه الوطنية في باندونج، ضد الأحلاف العسكرية، وتأكيد الاستقلال الوطني، وكسر احتكار السلاح، وبدء جلاء آخر جندي أجنبي عن أرض الوطن.

ثالثاً: وزارة جديدة

       قدم الوزراء استقالتهم عقب ظهور نتائج الانتخابات في الاستفتاء العام. وفي 29 يونيه 1956 ألفت وزارة جديدة للجمهورية دخل فيها سيد مرعي وزير دولة لشؤون الإصلاح الزراعي، ومصطفى خليل وزيراً للمواصلات، وعزيز صدقي وزيراً للصناعة، واشترك في الوزارة الجديدة جميع الوزراء في الوزارة السابقة، عدا جمال سالم وحسن إبراهيم وأنور السادات وخيرت سعيد. وعين عبداللطيف البغدادي وزير الشؤون البلدية والقروية وزير دولة لشؤون التخطيط (انظر ملحق قرار رئيس الجمهورية الرقم (1) لسنة 1956).

       وكان خروج جمال سالم ليتولى تنظيم الإدارة الحكومية واختصار إجراءات الروتين. وحسن إبراهيم ليشترك في المشروعات الإنتاجية. وأنور السادات ليتفرغ لشؤون المؤتمر الإسلامي. وقد أنشئت في الوزارة الجديدة ثلاث وزارات جديدة وهي: وزارة التخطيط، ووزارة الصناعة ووزارة الإصلاح الزراعي.

رابعاً: انتهاء مجلس قيادة الثورة

       وصل قائد الضباط الأحرار المنتخب إلى منصب رئيس الجمهورية ووصلت مجموعة الضباط الأحرار، إلى قمة انتصاراتها. ولكنها لم تصل كما بدأت، تنظيماً للضباط الأحرار، وإنما وصلت بعد فترة انتقال انتهى معها تشكيل مجلس قيادة الثورة، ولم يعد له كيان رسمي، كما سبق أن انتهى تنظيم الضباط الأحرار وتوقف عمله، واستبدل بتنظيمات شخصية هامشية، تركزت أخيراً في يد قيادة الجيش الجديدة المؤلفة من القائد الأعلى جمال عبدالناصر والقائد العام عبدالحكيم عامر ومدير مكتب القائد العام شمس بدران.

       كان موقف أعضاء المجلس بعد انتهاء المرحلة الانتقالية ـ 23 يوليه 1956 ـ متبايناً .. صلاح سالم كانت قد قبلت استقالته في أغسطس 1955. أما شقيقه جمال سالم فقد كان قد بدأ يتخذ موقفاً معارضاً لانفراد جمال عبد الناصر المتزايد بالسلطة قبل حل المجلس، بعد أن كان في البداية من أشد المهاجمين لمحمد نجيب المبايعين لجمال عبدالناصر، الأمر الذي جعله في 2 نوفمبر 1955 نائباً لرئيس الوزراء، ونائباً لرئيس الجمهورية في غيبته بالخارج.

       كان قد حدث تجمع داخل مجلس قيادة الثورة عام 1955 من ضباط الطيران الثلاثة .. جمال سالم وعبداللطيف البغدادي وحسن إبراهيم وانضم إليهم صلاح سالم .. وقرروا حسب رواية حسن إبراهيم ألا يشتركوا في الحكم بعد انتهاء فترة الانتقال، وألا يستقيلوا قبلها أيضاً.

       كانوا يستهدفون بفكرة استقالتهم الجماعية تنبيه الجماهير لانفراد جمال عبدالناصر بالسلطة مما يمثل في نظرهم بعثاً لحكم الفرد. ولكن التدبير لم ينفذ لاستقالة صلاح سالم المبكرة ولاعتقاد البغدادي أنه قادر خلال وجوده رئيساً لمجلس الأمة ـ حسب ما تم اتفاقهم عليه ـ على خلق روح وحياة ديموقراطية.

       الغريب أن هذا الاتفاق تم بين أطراف متناقضين، حسن إبراهيم كان قد اشتكى لجمال عبدالناصر من أسلوب العمل داخل مجلس قيادة الثورة، وشاركه الرأي عبداللطيف البغدادي لأن المناقشات كانت تدور تحت ضغط التوتر من عصبية جمال سالم المبالغ فيها، وسخرية صلاح سالم المبالغ فيها كذلك. كانت عصبية جمال سالم وسخرية صلاح سالم لا تسمحان بالمناقشة العميقة، وتدفعان إلى الجمود، ويقول حسن إبراهيم أنه لا يستبعد وجود صلات جانبية بين عبدالناصر وجمال سالم وصلاح سالم لأنهم كانوا يحضرون اجتماعات المجلس كتلة واحدة.

       ولكن سرعان ما استنفذ كل من الشقيقين دوره وكانا أول الخارجين من المجلس. ولكن الواقع أن جمال عبدالناصر كان أكثرهم تقدماً في طريق الوعي والتطور، وأشدهم حرصاً على تطبيق العدالة الاجتماعية، إلى جانب تماسك شخصيته القيادية وثباتها. كان مختلفاً على سبيل المثال عن جمال سالم أحد الخارجين على المجلس في أفكاره التي أدلى بها إلى جان لاكوتير ممثل وكالة الأنباء الفرنسية ونشرتها جريدة المصري يوم 24 يناير 1956.

قال جمال سالم "هناك عائلات من كبار الملاك تتعاون معنا مثل عائلة البدراوي"

وعندما سأله لاكوتير هل أنت اشتراكي؟

       أجاب "هذا ليس بصحيح .. لست اشتراكياً ـ وليس هذا لأني أكره انتهاج سياسة التأميم في مصر، بل لأني أؤمن بأن اقتصاديات هذا البلد لن تتقدم إلا بالمنافسة الحرة" وفسر أفكاره بقوله"لم نصل إلى المرحلة الاشتراكية لأننا لم نصل إلى الاحتكار إلا في الزراعة أما صناعتنا فما زالت طفلا يحتاج إلى رؤوس الأموال الخاصة".

       وهكذا طويت صفحة مجلس قيادة الثورة، وطويت معها فرصة المناقشة المحدودة في مركز إصدار القرار وانتهت بنهايته إمكانية مراجعة الموقف من وجهات نظر مختلفة، وتحول الأمر من سلطة المجلس إلى سلطة الفرد.

       ربما كانت الآراء تختلف يميناً ويساراً، وربما كانت الأفكار تتنافر حول القضايا المعروضة، ولكن الأمر في نهايته كان يقتضي من القائد أما تطويع زملائه لآرائه وأفكاره، والصبر على مناقشاتهم حتى تتوفر لهم في النهاية وحدة فكرية في القضايا الاستراتيجية الكبيرة وإما التخلص منهم لينفرد برأيه سواء أكان أكثر صواباً أم أكثر اندفاعاً.

       والواقع أن جمال عبدالناصر طوال فترة وجود مجلس قيادة الثورة كان حريصا على أن تأخذ المناقشات غايتها وأن تمتد وتطول حتى يصفي كل المواقف والآراء المعارضة له بالحجة والإقناع، الأمر الذي جعل معظم قرارات المجلس تصدر بالإجماع كما يؤكد زكريا محيي الدين إذا باستثناء بعض القرارات التي صدرت في عهد ولاية محمد نجيب لرئاسة الجمهورية ووجود يوسف صديق وخالد محيي الدين في المجلس.

       صدرت مراسيم أول وزارة شكلها جمال عبدالناصر باعتباره رئيساً شرعياً للجمهورية يوم 26 يونيه باعتبارها القرار الجمهوري رقم 1، وخرج منها جمال سالم نائب رئيس الوزراء، وخرج منها أيضاً حسن إبراهيم وزير الدولة لشؤون رئاسة الجمهورية، ودخلها عبد الحكيم عامر وزيراً للحربية، ونقص عدد العسكريين فيها من ستة إلى خمسة كلهم من أعضاء المجلس، ويلاحظ انهم أخذوا أسبقية خاصة على الوزراء المدنيين السابقين لهم في التعيين، مما يعد نوعاً من تثبيت وضع خاص لهم بعد حل مجلس القيادة. كان أول الوزراء في القرار الجمهوري عبداللطيف البغدادي يليه زكريا محي الدين ثم حسين الشافعي فعبد الحكيم عامر وكمال الدين حسين.

       تحول الوضع الرسمي لأعضاء مجلس قيادة الثورة، إلى أقدم وزراء في المجلس.

       وانتهت العوامل التي كان يمكن أن تصور حركة 23 يوليه باعتبارها انقلاباً عسكرياً، كما صورت يوم وقوعها، ويوم أصدر الدكتور راشد البدراوي كتابه المعروف "حقيقة الانقلاب الأخير في مصر"، فالانقلاب حدث عارض لا يغير نظام الحكم وإنما يستبدل شخصية الحكام ولا يقوم على مساندة شعبية، وإنما يعتمد على سطوة القوة العسكرية.

       أما حركة 23 يوليه فقد بدأت ولها كل مظاهر الانقلاب إلا أنها في مسارها أخذت طابع الثورة. ومنذ البداية لم تكن انقلاب جنرالات يمالئ نظام الحكم القائم ويحافظ على استمراره، وإنما كانت انقلاب صغار الضباط الذين وقفوا منذ البداية ضد النظام ومع التغيير.

       صحيح أنها لا تحمل أسلوب ثورة 14 يوليه 1789 "الثورة الفرنسية"، ولا ثورة 7 نوفمبر 1917 في روسيا "الثورة الاشتراكية العظمى"؛ لأنها لم تقم بجماهير الشعب، رغم حصولها على تأييده منذ اللحظة الأولى نتيجة لفساد الحكم الملكي السابق.

       سنوات الصدام مع القوى السياسية المختلفة "الوفد والشيوعيين والإخوان المسلمين والعناصر المعارضة في صفوف الجيش" دفعها إلى اتخاذ إجراءات إدارية أعطتها طابعاً عسكرياً قاسياً، إلى جانب أنها اقتصرت في حركتها منذ اللحظة الأولى على حركة القوات المسلحة وتجنبت التفاعل مع الجماهير الشعبية في حذر.

       وكانت أزمة مارس 1954 التي أطاحت بمحمد نجيب رئيساً لمجلس قيادة الثورة، وحاصرته رئيساً شكلياً للجمهورية لمدة شهور، خرج بعدها في 17 نوفمبر أثناء الصدام مع الإخوان المسلمين ومحاكمتهم، بعد محاولة اغتيال جمال عبدالناصر في أكتوبر 1954 .. أزمة ذات وجهين. خرجت جماهير الشعب في فبراير تؤيد محمد نجيب بعد استقالته، وتجبر مجلس قيادة الثورة على إعادته، وقبل أن تمضي عدة أسابيع كانت هيئة التحرير وبعض الضباط الموالين للمجلس قد استطاعوا تحريك جانب آخر من الجماهير، بمساعدة صاوي أحمد صاوي سكرتير اتحاد عمل النقل حتى وصل الأمر إلى حد التظاهر والإضراب؛ الأمر الذي سهل لهم انتزاع نجيب من موقعه. والرجوع عن قرارات 5 مارس أي 25 مارس المعروفة.

       هذا الحدث في ذاته، وعلى الرغم من دور الجماهير في دعم وجود المجلس واستمراره، ترك تأثيراً مباشراً في جمال عبدالناصر إذ أشعره بأنه يمكن التلاعب بالجماهير وأنها أمام القوات المسلحة يصبح دورها محدوداً. وقد قال جمال عبدالناصر لعدد كبير من أصدقائه ومنهم خالد محيي الدين إن الخروج من أزمة مارس لم يكلفهم سوى عدة آلاف من الجنيهات دُفعت للمتظاهرين والمضربين. وقال لأكرم الحوراني في مناقشة "لا تحدثني عن الشعب فإني أعرف كيف تتحرك الجماهير!

       ولكن الثورة مع ذلك كانت تكسب تأييد الجماهير بلا ضغط يوماً بعد يوم من خطواتها الوطنية، حتى ارتبطت مع الشعب تماماً في مواجهة العدوان الثلاثي 1956، وأصبحت تستحق أن يطلق عليها اسم "الثورة" لأنها تحولت إلى قيادة حقيقية قادرة على تحريك الجماهير، معبرة عن إرادتهم، مناضلة عن أهدافهم. وهكذا تحول الانقلاب إلى ثورة، ودخل 23 يوليه في تاريخ ثورات التحرر الوطني.

       وتأكدت زعامة جمال عبدالناصر وأصبح يتلقى مئات الرسائل في اليوم الواحد، انحسرت محاولات الانقلاب عليه، وتراجعت في مواجهة التأييد الشعبي الهائل. ولم تضبط إلا محاولة قام بها القائممقام عاطف نصار الملحق العسكري بالهند، متعاوناً مع خمسة مدنيين منهم محمد صلاح الدين وزير الخارجية وعبدالفتاح حسن وزير الدولة في وزارة الوفد وستة من ضباط الجيش بالإسكندرية، وقدمت للمحكمة العسكرية العليا يوم 20 أكتوبر 1957 وصدر فيها حكم بالأشغال الشاقة المؤبدة على عاطف نصار، ومحمد صلاح الدين 15 سنة وعبدالفتاح حسن 12 سنة وعلى الباقين بأحكام مختلفة وبراءة اثنين.

       وضُبطت مؤامرة أخرى تولتها إدارة المخابرات البريطانية، واشترك فيها ضابط سابق، هو "حسين خيري"، اتصل بأحد ضباط مخابرات الطيران "عصام خليل"، وموله بمبالغ بلغت جملتها 165 ألف جنيه من أجل إعادة الملكية لمصر. وقد نُظرت القضية أمام المحكمة العسكرية العليا، وأصدرت الحكم يوم 28 أبريل 1958 على مرتضى المراغي وزير الداخلية السابق في وزارة نجيب الهلالي وحسين خيري بالأشغال الشاقة المؤبدة، ومحمود ناموق 15 سنة، وكانت الأحكام غيابية لوجوده خارج القطر. وقد قبض بعد ذلك بشهور على محمود ناموق في بغداد عقب ثورة 14 يوليه 1958 في العراق.

       ثم هدأ الموقف في صفوف الجيش، ولم تعد المحاولات الانقلابية، ترتبط بعدد واسع من الضباط، لم تعد في صورتها التي كانت بها قبل تصفية محمد نجيب وثبوت سلطة عبدالحكيم عامر، الذي كان مفروضاً أن يحاسب عسكرياً على موقف القوات المسلحة في يوم عدوان 1956 التي ثبت يقيناً أنها لم تؤد دورها كما يجب مع تقدير وجودها في عملية إعادة التسليح والتدريب والتنظيم والعقيدة القتالية.

       يقول عبد اللطيف البغدادي وحسن إبراهيم إنه تقرر في ذلك الوقت عزل قائد القوات الجوية محمد صدقي محمود، ويقول زكريا محيي الدين إنه كان هناك قرار بعزل قادة القوات البرية والحرية والجوية، ولكن عبد الحكيم عامر تشبث بهم ورفض إخراجهم. ووافقه جمال عبدالناصر ولم يأخذ موقفاً حاسماً في مواجهة الأخطاء كما أخذ موقفاً حاسماً في مواجهة الأعداء.

       وإذا كان التهاون قد بدأ في محاسبة العسكريين في المواقف الوطنية فانه لا بد وأن ينسحب إلى التهاون أيضاً في محاسبة الآخرين في المجالات المختلفة، إذا وجدوا من يدافع عنهم، ليس أمام القضاء، ولكن أمام السلطة. وكان استثناء عبدالحكيم عامر من المحاسبة والإبقاء على قادة القوات الثلاثة، راجعاً إلى الطبيعة الخاصة في علاقات جمال عبدالناصر بزميل عمره وموضع ثقته، وراجعاً كذلك، إلى أن الظروف التي وضع من أجلها عبد الحكيم عامر قائداً عاماً للقوات المسلحة، وهو غير مؤهل لذلك ما زالت قائمة: الرغبة في السيطرة على القوات المسلحة بكل تفاصيلها عن طريق أشد زملائه إخلاصا له.

        كان جمال عبدالناصر ما زال يعتمد على الجيش كمؤسسته الرئيسية على الرغم من انتصاراته الشعبية، وعلى الرغم من أنه بدأ يخلع مع زملائه ملابسهم العسكرية بعد انتهاء فترة الانتقال. وكان في ذلك أكثر ميلاً إلى الرأي القائل بأن الجيش هو القوة الوطنية "الجامعة والوحيدة" القادرة على تزعم ثورة التحرر الوطني، وهو الرأي الذي يتعارض تماماً مع القول بأن السلطة السياسية الناتجة عن الانقلاب العسكري هي سلطة رجعية وعسكرية.

        وكان جمال عبدالناصر واعياً بحركة الصراع داخل الجيش وقد حاول حسمها لصالح مجلس القيادة في السنوات الأولى التي أعقبت الحركة، واضطر في سبيل ذلك إلى اتخاذ إجراءات عنيفة أحياناً. ولكنه، بعد أن حصل على قمة التأييد الشعبي، بدأ يخلع كثيراً من أنصاره الذين استنفدوا أغراضهم، والذين شوهت صورتهم أمام الجماهير في اندفاعهم الحماسي المحموم، والذين وقفت أفكارهم عند حدود دورهم المرسوم بلا رؤية جديدة ولا إدراك عميق لطبيعة الصراع في المجتمع وآفاق التطور.

        وتساقطت في هذه الفترة أسماء، كان الشعب قد فاض به الكيل من كثرة ما سمعه عنها وما لمسه من تصرفاتها، مثل جمال سالم الذي كانت له مع كبار الموظفين والإداريين اعتداءات وتصرفات مثيرة للدهشة البالغة، وكانت له في محكمة الثورة أساليب وعبارات في غاية القسوة أحمد أنور قائد البوليس الحربي الذي اقترن اسمه بالاعتقالات والتعذيب بعد أن وزعت قواته على تشكيلات الجيش المختلفة، وإبراهيم الطحاوي وأحمد عبدالله طعيمة وهما اللذان أوكل إليهما الإشراف على هيئة التحرير دون خبرة سياسية سابقة مما جعل اسمهيما معاً محل تندر بعض الناس.

        بدأت هذه الأسماء تتساقط  على الرغم من أدوارها البارزة في دفع عجلة الثورة للأمام وتأكيد سلطة العسكريين، وتغليب كفة مجلس القيادة في أزمة مارس 1954 وضرب القوى السياسية المعارضة، وظهرت أسماء أخرى من العسكريين كذلك. تساقطت هذه الأسماء ومعها أجهزتها، الشرطة العسكرية وهيئة التحرير. وكان هذا من دوافع تحول الانقلاب إلى ثورة. وكانت هذه الأجهزة من معوقات الارتباط بين الشعب والعسكريين؛ فالشرطة العسكرية كانت صورة العذاب والإرهاب، بعد أن أُعطى لضباطها صفة الضبطية القضائية، بعد اعتراض المحامين في كثير من القضايا، وهيئة التحرير عجزت عن اكتساب ثقة الجماهير.

        ومع بداية تطبيق الدستور وانتخاب جمال عبدالناصر كانت معظم المعتقلات قد صُفيت، وخرج المعتقلون منها، أُفرج عن يوسف صديق عضو مجلس قيادة الثورة السابق بعد اعتقال استمر 13 شهراً في مايو 1955، وأُفرج بعدها بأيام عن زوجته، وكانت عضوة في الحركة الديموقراطية للتحرر الوطني "حدتو"، وظلا بعدها في تحديد الإقامة حتى منتصف عام 1956 حيث أفرج عنه. الوحيد من العسكريين الذي ظلت إقامته محددة دائماً، كان اللواء محمد نجيب.

        كانت هناك انفراجة نسبية في موضوع المعتقلين والمعتقلات، ويذكر أنه حتى هذه الفترة وما بعدها لم تخل معسكرات الاعتقالات من نزلاء تتغير ألوانهم السياسية تبعاً للظروف. كان الاعتقال بلا تحقيق، أمراً إدارياً بسيطاً، كاد من تكراره لبعض الشخصيات، أن يصبح من روتين حياتهم.

        وأجهزة الأمن التي إليه مسؤوليتها منذ البداية إلى زكريا محيي الدين، منذ 23 يوليه تنمو وتزدهر. وقدم الأمريكيون منذ اللحظة الأولى خبرتهم لتنظيم المخابرات، بعد أن كان في عهد الملك محدود الأثر، محصوراً في البوليس السياسي، الذي كان يشرف عليه ميجور سانسون الذي أسس جمعية "إخوان الحرية" المتصلة بالمخابرات البريطانية، والذي أصبح فيما بعد ضابط أمن بالسفارة البريطانية حتى رحل عن مصر فجأة يوم 31 يناير 1953، كما نشرت الصحف المصرية، وعين بعد ذلك في ليبيا وألف كتاباً عن حياته في مصر باسم "تجسست على الجواسيس".

        قبل 23 يوليه، لم يكن هناك جهاز أمن يعرف باسم المخابرات العامة وكان عدد ضباط المخابرات الحربية في الجيش 15 ضابطاً فقط، وعدد ضباط القسم المخصوص بالبوليس السياسي 24 ضابطاً. وقد استعان زكريا محيي الدين بعدد من الخبراء الألمان إلى جانب تقارير المخابرات المركزية الأمريكية التي كانت تقترح توحيد أجهزة الأمن. وأعد زكريا محيي الدين مشروع قانون المخابرات، على أساس الهيمنة على كافة أجهزة المخابرات، في إدارة واحدة منعاً لازدواج الجهد وكثرة التكاليف. وهذا لا يعني ضمها في جهاز واحد وإنما يعني التنسيق بينها بفكر ورأي واحد.

        وقد تحقق ذلك فعلاً لفترة محدودة، وكان زكريا محيي الدين هو المشرف على كافة أجهزة الأمن القائمة في ذلك الوقت "المخابرات العامة ـ مخابرات الجيش ـ المباحث العامة بالداخلية". ولم يستمر ذلك الأمر طويلاً فقد بدأت الإدارات المختلفة تتجاذب أجهزة المخابرات، وبدأت ذلك بالقوات المسلحة، عقب تولي عبدالحكيم عامر القيادة العامة، فانفصلت مخابرات الجيش عام 1955، وتكونت فيما بعد مخابرات أخرى منفصلة للقوات الجوية.

        وعندما عُين زكريا محيي الدين وزيراً للداخلية ترك الإشراف على إدارة المخابرات العامة بعد عدة شهور، وعين على صبري نائباً لمديرها، ثم مديراً لها في يونيه 1956.

        كان ضباط المخابرات العامة قد تحولوا إلى مدنيين في سبتمبر 1955، وأنشئ في العام نفس المعهد الاستراتيجي بجوار برج القاهرة، الذي دفعت المخابرات المركزية الأمريكية ثمن إنشائه ـ 3 ملايين دولار. وكانت تدرس فيه محاضرات المخابرات المركزية الأمريكية عن طريق شركة بوز آلف واملتون لضباط المخابرات والمباحث وضابط أمن الوزارات وبعض أعضاء السلك الديبلوماسي بالخارجية، وذلك حسب رواية فريد طولان مدير المعهد في ذلك الوقت.

        كان النموذج الأمريكي هو المثال الذي تهتدي به أجهزة المباحث والمخابرات في ذلك الوقت، وقد تسربت أجهزة المخابرات الأمريكية إلى بعض ضباط هذه الإدارات، كما حدث عندما ذهب البكباشي أحمد حلمي مدير قسم مكافحة الشيوعية بالمباحث العامة إلى أمريكا لعمل غير معروف، دون استئذان أو إبلاغ الجهات المختصة، إذ كان قد أُبلغ بأنه يمضي أجازته السنوية في قبرص، وشوهد هناك مصادفة، ولما علم زكريا محيي الدين بذلك أصدر قراراً بإحالته إلى الاستيداع حيث بقي لمدة عام، وانتقل بعد ذلك إلى أجهزة البوليس العادي بغير محاكمة.

        حدث التسرب الأمريكي على الرغم من أن وزارة الداخلية لم تحتفظ في المباحث العامة سوى بأربعة ضباط فقط من رجال البوليس السياسي السابقين، وعلى الرغم أن العسكريين فرضوا إشرافهم على وزارة الداخلية منذ الأيام الأولى، حيث تبادل هذه المسؤولية عدد من ضباط الجيش مثل البكباشي مصطفى لطفي الذي تدرج في مناصبها حتى أصبح وكيلاً للوزارة. ثم اليوزباشي محيي الدين أبو العز الذي أشرف على تكوين المباحث العامة وعين محافظاً للفيوم، وعندما تولى جمال عبدالناصر وزارة الداخلية عقب إعلان الجمهورية في 18 يونيه 1953، ودخول أربعة من أعضاء المجلس إلى الوزارة، أعطى صلاحيات كبيرة لليوزباشي البوليس صلاح الدين دسوقي الذي انتهى محافظاً للقاهرة.

        كان جمال عبدالناصر يعتمد على أجهزة الأمن ولكنه يشك في سلامة موقفها وإخلاصها للثورة، كما يشك كذلك في قدرة أفرادها على متابعة أفكاره، ويشك أخيراً في احتمال وجود صلة بين بعض ضباطها وأجهزة المخابرات الأجنبية. كانت هذه الشكوك تعيش في نفسه، وتنمو مع الوقت ولعل هذا الشعور هو الذي دفعه إلى الموافقة على تعدد أجهزة الأمن والمخابرات بقيادات مختلفة، بحيث تصب كافة معلوماتها في النهاية عنده وحده، بل أنه أنشأ في مكتبه فيما بعد جهازاً خاصاً للمخابرات والعمليات والاتصالات الخاصة، كان يشرف عليه سكرتيره الخاص للمعلومات سامي شرف، دون تبعيته لأي جهاز آخر من أجهزة الأمن، الأمر الذي يدل على عدم ثقة عبدالناصر الكاملة في هذه الأجهزة والذي خلق ازدواجية متكررة، وكبد الدولة تكاليف باهظة.

        كان جمال عبدالناصر مؤمناً ومعتقداً بأن أجهزة الأمن لا تسير في خط متوافق مع أفكاره، وكان يقول ساخراً ـ حسب رواية أحمد أنور وحسين عرفة ـ "لولا أنني رئيس للجمهورية وقلت الكلام ده، كانت المباحث حطتني في السجن" ومع ذلك لم يبذل جهداً إيجابيا لتسييس أجهزة الأمن، بل إنها نمت واتسع نفوذها بأيديولوجيتها الجامدة المتخلفة، ووسائلها الوحشية، وأطماعها الذاتية.

        وعندما كلف مدير مكتبه أحمد لطفي وأكد بالاتصال بالسوفييت اتصالاً سرياً قبل باندونج، حذره من خطر معرفة المباحث والمخابرات لهذه الاتصالات، واستدعاه مرة إلى منزله في حضور عبدالحكيم عامر ليشهده بأنه كلف لطفي وأكد بهذه الاتصالات، حتى لا يتهم بالاتصال بجهات أجنبية في حالة إذا ما تعرض جمال عبدالناصر نفسه للخطر أو الموت.

        ولازمت هذه الحالة جمال عبدالناصر لسنوات طويلة، حتى أنه لما فكر في تطبيق الميثاق عام 1963 وتشكيل طليعة الاشتراكيين داخل الاتحاد الاشتراكي، حرص على أن تكون تنظيماً سرياً بعيداً عن رؤية المباحث والمخابرات، رغم أنه كان يهدف فيما بعد إلى الدمج بينهما بتوحيد شخصية أمين التنظيم ووزير الداخلية في شعراوي جمعة.

        وكان هذا موقفاً انفصامياً من جمال عبدالناصر، يعتمد على أجهزة للأمن لا يثق في قيادتها، ولكنه يعتمد على تقاريرها! وقد أخذ نفوذ أجهزة الأمن المتعددة ينمو ويستشري وخاصة في الجيش حيث أصبح الضباط مطاردين بعناصر منهم منبثة في صفوفهم، تدفع الجميع إلى الحذر والحرص ثم إيثار السلبية والبعد عن السياسة. كان تنظيم الضباط الأحرار قد انتهى تماماً كما سبق أن أوضحنا، ولم يعد هناك أي ارتباط تنظيمي داخل الجيش إلا تنظيم أجهزة الأمن والمخابرات. وانفضت أيضاً الرابطة التنظيمية لأعضاء مجلس القيادة، وانفرطت مسبحة تنظيمهم، وأصبحوا أفراداً تتنازعهم أفكارهم ومواقفهم الخاصة، وأصبح جمال عبدالناصر هو القوة الوحيدة القادرة على إعطائهم فرص العمل التي يراها مناسبة لهم سواء في الوزارة أو خارجها.

        أول الذين عهد إليهم بعمل خاص كان صلاح سالم الذي تولى رئاسة مجلس إدارة جريدة "الشعب" الجريدة الثانية للثورة بعد "الجمهورية" التي رأسها أنور السادات وبعد مجلة "التحرير" التي أصدرتها ورأست تحريرها في 16 سبتمبر 1952. ولم يبق صلاح سالم طويلاً في منصبه، فقد أقيل بعد موقفه أثناء فترة العدوان الثلاثي بخطاب جاء فيه "هناك مواضيع ليس من المصلحة أن تخوض فيها الآن مما يدعو إلى الاستغناء عن خدماتك"، وظل في منزله بلا عمل حتى أعيد لميدان الصحافة مرة أخرى رئيساً لمجلس إدارة دار التحرير للطبع والنشر في 8 مارس 1959.

        وعين جمال عبدالناصر خالد محيي الدين رئيساً لمجلس إدارة "المساء"، التي صدرت يوم 6 أكتوبر 1956، وبذا أصبح للثورة ثلاث جرائد يومية ومجلة أسبوعية وأخرى شهرية باسم "نداء الوطن" أصدرها أمين شاكر مدير مكتبه فيما بعد. كان اهتمام جمال عبد الناصر بالسيطرة على أجهزة الأعلام والصحافة أمراً ملحوظاً، بل إن تعييناته في مجال الصحافة كانت تعد إحساساً للتكهن بحركته السياسية في المستقبل.

        لم يتوقف تعيين جمال عبدالناصر لزملائه أعضاء المجلس عند حدود الصحافة، بل عينهم في المراكز الدينية؛ فقد عين أنور السادات سكرتيراً عاماً للمؤتمر الإسلامي، وعيَّن أمين شاكر مساعداً له ثم حسن التهامي، ووصل الأمر إلى تولي عبدالحكيم عامر تنظيم الطرق الصوفية مع إلغاء القيود التي كانت مفروضة على تسيير هذه المواكب، كما نشرت الأهرام يوم 18 مارس 1955.

        وحتى نهاية فترة الانتقال كان الضباط الأحرار يحتفظون برتبهم في الجيش إلا الذين حوكموا منهم أو أبعدوا، وتحددت نشرة 23 يوليه 1956 باعتبارها آخر نشرة عسكرية يمكن للضباط الذين يرغبون في الخروج من خدمة الجيش أن يلحقوا بها.

        وفضل بعض الضباط أن يخرجوا من صفوف الجيش لممارسة حياة مدنية، وكان مفروضاً أن تغلق أبواب الخروج بعد ذلك. ولكن نشرة 23 يوليه 1956 أو نهاية فترة الانتقال لم تكن حداً فاصلاً، ولم تكن حاجزاً يحول دون تسرب الضباط الحياة المدنية.

        لم يتوقف زحف الضباط على الحياة المدنية تحت إغراء ما توفره لهم من حرية ومكافأة مادية تزيد عن مرتباتهم المقيدة بقواعد الترقية العسكرية. وانتشر الضباط في مختلف المجالات، ولكنهم تركزوا أساساً في عدة جهات: أجهزة العمل السياسي والخارجية وشركات التجارة والصناعة.

        ولم يكن خروج الضباط  من الجيش يتخذ موقفاً طبقياً يخلص الجيش من العناصر المضادة أو مقرونا بكفاءتهم وقدرتهم على الإنتاج في الأعمال التي كلفوا بها، ولكن إذا استثنينا الضباط الأحرار الذين كانت صلتهم بالعمل السياسي قد جعلت عودتهم لقيود الجيش عملية صعبة، كان الخروج يتم تحت تأثير عدة عوامل:

أولاً: الرغبة في تقديم خدمة لبعض الضباط من الأصدقاء المقربين.

ثانياً: الرغبة في التخلص من بعض العناصر التي لا تفكر في تدبير انقلاب ولكنها ليست من الانتهازيين والمنافقين مما يجعل لها شخصية بارزة.

ثالثاً: تطهير الجيش من بعض العناصر سيئة السلوك والتي لا سند لها.

رابعاً: الاستفادة من بعض العناصر التي تولت أعمالاً مدنية وأثبتت فيها كفاءة ترضية خلال السنوات الأولى للثورة.

        تحت ضغط هذه العوامل الأربعة استمر تيار الخروج متدفقاً من الجيش، لا يتوقف على الرغم من تصريح أنور السادات لجريدة المصري يوم 7 يوليه 1953 بأن أحد العسكريين لن يعين في منصب مدني.

        واستمرت قيادة الضباط للتنظيم السياسي الجديد، فعين كمال الدين حسين مشرفاً عاماً على الاتحاد القومي، بعد أنور السادات سكرتيره العام الذي عين وكيلاً لمجلس الأمة.

        وزرع الضباط كذلك في أول برلمان منتخب بعد 23 يوليه .

         وتبعاً لمواد الدستور الجديد وقانون الانتخاب الذي صدر في 3 مارس 1956 خفض سن الناخب إلى 18 سنة بعد أن كان 21 سنة لانتخاب النواب، 25 سنة لانتخاب الشيوخ وأعطى للمرأة حق الانتخاب وصدر قانون عضوية مجلس الأمة في 11 يونيه لانتخاب مجلس مؤلف من 350 عضواً بدلاً من مجلس للشيوخ والنواب وحدد سن العضو بثلاثين سنة على الأقل مع خفض قيمة تأمين الترشيح من 150 جنيه إلى 50 جنيهاً، وتحديد المكافأة الشهرية بمبلغ 75 جنيهاً.

        صدرت التعليمات لعدد من الضباط بترشيح أنفسهم في دوائر معينة، حتى في الدوائر البعيدة مثل الوادي الجديد، "محمد أبو نار"، وسيناء "فتحي رزق"، ومرسى مطروح "فؤاد المهداوي". وشكلت لجنة خاصة من العسكريين ضمت زكريا محيي الدين وعلي صبري وعدد من ضباط المخابرات لفرز الترشيحات للمجلس واستبعاد الذين لا يتلاءمون مع إرادة السلطة العسكرية. وقد استبعد نتيجة لذلك عدد كبير من المرشحين.

        كانت هذه هي صورة المجتمع، طيعة في يد الزعامة التي أحاطتها بها المحبة الشعبية على الرغم من أنها كانت عسكرية وفردية. ولكن جمال عبدالناصر لم يشأ أن تنضج الحياة السياسية في مصر، وتثمر تنظيمات شعبية حقيقية، ولم يخصص جانباً من وقته وجهده فيبعث الحيوية والوعي في تنظيماته السياسية المتكررة، ولكنه أعتمد منذ البداية على العناصر القريبة منه من العسكريين، وأتاح لهم الفرص والإمكانيات للسيطرة على جهاز الدولة وجهاز العمل السياسي. ظل زحف العسكريين نحو السلطة مستمراً بطريقة متزايدة، وكبت التنظيمات الشعبية، نقابية أو مهنية أو سياسية ظل طابع المرحلة، لا يوجد في مراكز القيادة إلا من رضيت عنه العسكرية الحاكمة أو استطاع التجاوب معها.

        وبدأ اختيار المتعاونين من العسكريين مع الوقت يأخذ طبيعة خاصة، ليبتعد عن أعضاء مجلس قيادة الثورة والضباط الأحرار الذين مهما قيل، فإنهم كانوا يمثلون جوا أدنى من الروح الوطنية والإقبال على التضحية والرغبة في الإصلاح، ويتجه إلى نوعيات أخرى من الضباط لا تتجاوز قدراتهم حدود التبعية المطلقة والأداء الوظيفي المحدود.

        عندما شكلت هيئة التحرير عُين حسن إبراهيم مراقباً عاماً لها، ولكن أحمد طعيمة وإبراهيم الطحاوي كانا لا يتصلان به في حركتهما اليومية ولا يرجعان إليه في معظم الأمور. وعندما ناقش الأمر مع جمال عبدالناصر قال له في بساطة صريحة "إنهما يقومان بأعمال غير نظيفة لا تستطيع أنت القيام بها"، وغادر حسن إبراهيم موقعه.

        كان الاتجاه تنازلياً من مجلس قيادة الثورة إلى الضباط الأحرار وإلى غيرهم.

        وعلى الرغم من أن جمال عبدالناصر وكان حريصاً على أن يبعد ثورة يوليه عن مظهرها العسكري ـ كما يقول زكريا محيي الدين ـ أن الشعب قد تجاوب معه خلال مواقفه الوطنية تجاوباً لم يحصل عليه زعيم مصري من قبل، إلا أن العسكريين ونموهم أصبح طابع الثورة، وكان الانتماء للجيش هو جواز التغلب على المصاعب وتسهيل الأمور والحصول على المناصب.

        وخلال هذه الفترة التي استشرى فيها نفوذ العسكريين في المجتمع وشكلوا هرماً وظيفياً متماسكاً، يمكن القول بأن الجيش كان يعمل لحساب نفسه كقوة سياسية غير مرتبط بالتعبير الواضح الصريح عن طبقة معينة، ولو أن اتجاهاً واضحاً للعدالة الاجتماعية كان يظهر في قرارات وقوانين الإصلاح الزراعي وخفض إيجارات المساكن، وإخضاع المساكن الجديدة لشروط معينة، ورفع الحد الأدنى لمرتبات العمال، والسماح بالترقية من رتب الصف ضابط إلى الضابط، ومجانية التعليم في كافة المراحل وإنشاء الوحدات الصحية.

        هذه القرارات كانت تعبر عن اتجاه شعبي عند قمة القيادة العسكرية، ولكن الجيش لم يكن بعد قد أصبح في خدمة طبقة محددة، كان في خدمة نفسه لتثبيت سلطته وتأكيد دوره، كان الجيش خلال مسيرته يقوي من سلطته، ويضرب في كل اتجاه تبعاً للظروف، يضرب البرجوازية الكبيرة وفي الوقت نفسه يحاول دعمها، بضرب الشيوعيين ويقدم خدمات للطبقة العاملة، يحاكم الإخوان المسلمين وينمي في الوقت نفسه الاتجاهات المحافظة. كانت حركة الجيش في مسيرته تمثل تقدماً إلى الأمام، ولكن في خط متعرج غير مستقيم، يميل أحياناً إلى اليمين وأحياناً إلى اليسار.

        كان غياب الفكر الواضح يخفي الطريق، ويجعل من التجريبية السبيل الوحيد لمجابهة الأمور. كانت الحيرة تتجسد كثيراً أمام المشاكل، وكان الاختيار صعباً القوة السياسية الوحيدة المتوفرة كانت قوة العسكريين. والمجتمع الطيع في يد القائد والزعيم لم يتشكل سياسياً أو اقتصادياً بطريقة مستقرة ثابتة.

        ويصدق خلال هذه المرحلة قول ابن خلدون "ثمة بلدان لا يعرف القلق منها سبيلاً إلى قلب السلطان لندرة الثورات فيها، ففي مصر مثلاً لا تجد غير السيد المطاع والرعية المطيعة". والسيد المطاع سمح بزحف العسكريين إلى مراكز السلطة، وترك الرعية المطيعة بلا تنظيمات حية تطلق طاقاتها وتعبر عن إرادتها.

        السيد المطاع محبوب، ويزداد الناس له حباً، ولكن الحيرة التي تجعل السيادة للتكتيك وليس للاستراتيجية، تفقد الناس الوضوح، وتبذر في النفوس التساؤلات. وبين الحيرة، والاختيار، حديث يطول.