إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / إيران.. التاريخ والثورة (الثورة الإيرانية من وجهة النظر الإيرانية)




هاشمي رافسنجاني
محمود أحمدي نجاد
محمد رضا بهلوي
محمد علي رحماني
محمد علي رجائي
آية الله منتظري
مير حسين موسوي
الإمام آية الله الخوميني
سيد محمد خاتمي
سيد علي خمنة آي





المبحث الثاني

المبحث الثاني

إيران من الفتح الإسلامي إلى الدولة البهلوية

إيران في ظل الحكم العربي

      أحدث العرب المسلمون ثورة اجتماعية ودينية في بلاد إيران ونجحوا في إقامة مجتمع جديد على أساس المساواة والعدالة والمعاملة الحسنة فأصبحت إيران ولاية إسلامية شاركت بجنودها في استكمال الفتوحات الإسلامية جنباً إلى جنب العرب حيث هاجرت قبائل عربية إلى مناطق مختلفة في إيران وأقامت هناك.

      وعندما قامت الخلافة الأموية خضعت جميع الأراضي المفتوحة لنفوذها خضوعاً تاماً (41 ـ 132هـ) فقسمت البلاد المفتوحة إلى أقاليم وعينت على كل منها حاكماً، وأمر الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان بتعريب الدواوين فخضعت جميع الأعمال المتعلقة بتنظيم الحكم والإدارة لأيدي الموظفين الذين يجيدون اللغة العربية من أهالي الأمصار وقد شارك الإيرانيون بخبراتهم الإدارية والحضارية في أعمال الدولة وأقبلوا على تعلم اللغة العربية إقبالاً كبيراً حتى أصبحت اللغة العربية هي اللغة السائدة في إيران طوال حكم الخلافة الإسلامية وحتى قيام الدويلات المحلية في إيران.

      وقد ساهم الإيرانيون في إسقاط الخلافة الأموية ومساعدة الدعوة العلوية التي ظهرت في خراسان ثم امتدت إلى جميع أنحاء إيران، كما ساعدوا في إقامة الدولة العباسية وتمكنوا من النفوذ إليها والحصول على مناصب عالية في البلاط العباسي مثل آل سهل وآل نوبخت والبرامكة.

      كانت نكبة البرامكة على يد الخليفة العباسي هارون الرشيد إيذاناً بتحول جديد في إيران حيث سعى الإيرانيون إلى إنشاء دويلات مستقلة في بلادهم، وقد سنحت لهم الفرصة عندما حدث خلاف على الحكم بين الأمين والمأمون ولدى هارون الرشيد فقام الإيرانيون بمساعدة المأمون حتى تولى الخلافة، فعين المأمون قائده طاهر بن الحسين الإيراني حاكماً على خراسان (801 م/ 185 هـ) بناء على طلبه فاتخذ مدينة نيسابور عاصمة له، وقد خلفه في هذا المنصب ابناه وحفيده وابن حفيده، وكان كل واحد منهم يدفع للخلفاء في بغداد خراجاً سنوياً قليلاً.

      كان حكام هذه الدويلة المحلية يعرفون باسم الطاهريين، وقد امتازوا بحب الكتابة والشعر والعمارة وحكموا من 195 هـ/ 810 م حتى 260 هـ/ 873م.

      وقد كانت محاولة استقلال الطاهريين عن الخلافة العباسية خطوة في سبيل الاستقلال التام حيث كان الطاهريون يحافظون على وجود صلات طيبة مع الخلافة ويدفعون لها الخراج ويخطبون باسم الخليفة، وكان للأسرة ولاة في مناطق مختلفة من الخلافة، إلا أن استقلالهم الذاتي قد شجع غيرهم على الاستقلال شبه التام عن الخلافة.

      كانت الشخصية القوية التالية للطاهريين التي ظهرت في إيران هي شخصية يعقوب بن الليث الصفار، وكان صفاراً يعمل في جلي النحاس صبياً ثم سئم هذه الحرفة فاشتغل قاطع طريق وجمع حوله عصابة من قطاع الطرق فكان يهاجم قوافل الأغنياء ثم يغدق مما كسبه على الفقراء وعلى أفراد عصابته فزاع صيته بين العامة وكان يجد منهم العون والتأييد حتى أصبح سيداً على هراة، فاستفاد الطاهريون به في إقرار الأمور هناك حيث عينوه والياً (253 هـ/ 867 م)، لكنه سرعان ما طمع في ملكهم فعمل على بسط نفوذه في خرسان كلها حتى استطاع أن يسقط حكومة الطاهريين وأن يبسط نفوذه على كرمان وفارس وأصفهان، بل إنه توجه إلى بغداد لمحاربة الخليفة العباسي نفسه، ولكنه هزم وتوفي بعد ذلك عام 266 هـ/ 879م.

      وانسحب أخوه عمرو بن الليث إلى إقليم ما وراء النهر حيث أقام حكومته هناك إلا أنه لم يهنأ كثيراً بهذه الحكومة حيث تصدى له السامانيون الذين بسطوا نفوذهم في هذا الإقليم وهزموه وقبضوا عليه ثم أرسلوه أسيراً إلى بغداد حيث أعدم عام 290 هـ/ 902 م، واحتفظ أعقابه بالحكم فترة في منطقة سجستان.

      وتتسم فترة حكم الصفاريين في إيران بأمرين هامين أولهما أن هذا الحكم كان مستقلاً تماماً في إدارة شؤون إيران عن الخلافة العباسية، وثانيهما أنه شهد أول محاولة لإحياء اللغة الفارسية من جديد، فعندما جاء الشعراء يمدحون يعقوب بن الليث ويهنؤنه على توليه بالشعر العربي ونظراً لكونه من سكان الجبال ولم يكن يعرف اللغة العربية قال لوزيره محمد بن وصيف السجزي: لماذا يتحدثون بما لا أعرفه؟

فقام وزيره بنظم قصيدة باللغة الفارسية، يقال إنها أول محاولة وأول أثر فارسي بعد الإسلام.

      ظفر السامانيون ـ الذين كانوا ولاة يخضعون للطاهريين ـ بسيادة تامة على شرقي إيران، وحكموا هذه المنطقة مائة سنة تقريباً، حيث حكم إسماعيل الأول الساماني ـ مؤسس هذه الدولة وأول شخصية بارزة فيها ـ من 279 هـ/ 892 م حتى 295 هـ/ 907 م، وكان قائداً مظفراً استطاع أن يمتد نفوذه في منطقة ما وراء النهر (نهر جيحون) ويقوم بتعمير مدينة بخارى التي اتخذها عاصمة له، وما زالت آثاره ماثلة في هذه المدينة حتى اليوم.

      وصلت الدولة السامانية إلى أوج ازدهارها في عهد نصر بن أحمد الساماني (301ـ 332 هـ/ 913 ـ 943 م) حيث مدت نفوذها من بلاد ما وراء النهر إلى خرسان وسجستان وجرجان وطبرستان والري وكرمان، وفضلاً عن ذلك فقد ضم بلاط بخارى رجالاً من ذوي العلم الغزير كان منهم الفيلسوف المشهور أبو علي بن سينا كما ظهر الأدب الفارسي الإسلامي على يد الشاعرين الرودكي والدقيقي الطوسي.

      وقد أدى السامانيون خدمات جليلة لإيران ساهمت في إذكاء الروح الوطنية الإيرانية وإحيائها، إلا أن تحولها إلى حكومة إقطاعية أدى إلى ظهور حكام أقوياء، تمكنوا من إسقاط الدولة ذاتها في النهاية.

      ويعزى إلى علماء ما وراء النهر في عهد هذه الدولة القيام بأول ترجمة لمعاني القرآن الكريم للغة الفارسية الإسلامية، وكذلك التأريخ لملوك الفرس وسيرهم فظهرت أقدم نسخة للشاهنامة النثرية علي يد أبي منصور المعمري.

      وقد ظهر إلى جانب السامانيين خلال القرن التاسع الميلادي حكام محليون أقل أهمية ولكنهم تمتعوا بالاستقلال الذاتي، ففي عام 316 هـ/ 928 م سيطر "مرد آويج بن زياد" على ساحل قزوين في منطقة عرفت باسم بلاد الديلم ثم باسم طبرستان، وأقام الدولة الزيارية، ومن أشهر حكامها "وشمكير" أخو "مرد آويج" وابناه "بهستون" وقابوس الذي كان كاتباً وشاعراً ومحباً للعمارة فقد أنشأ قلعة عام 397هـ/ 1007م باسمه ما زالت قائمة حتى الآن، وكذلك قبره الذي يعد تحفة معمارية.

      كان إقليم الديلم أيضاً مقراً لحكام البويهيين فقد عين "مرد آويج" "علي بن بويه" حاكماً من قبله على هذا الإقليم إلا أن علياً وأخويه الحسن وأحمد لم يلبثوا أن سيطروا سريعاً على وسط إيران وغربيها.

      دخل أحمد البويهي بغداد عام 334 هـ/ 945 م ولكنه لم يسقط الخلافة العباسية وترك الخلفاء ـ الذين منحوا الإخوة البويهين مناصب وألقاباً فخرية ـ يتمتعون بسيطرة روحية اسمية.

      يعتبر عضد الدولة أبرز شخصية بويهية، وقد حكم من 338 هـ/ 949 م حتى 373 هـ/ 983 م واتخذ الري ثم أصفهان عاصمة له، إلا أن الدولة البويهية قد اتجهت من بعده نحو الانهيار بخطى سريعة فانتزع محمود الغزنوي الجزء الغربي منها بينما بقي الجزء الشرقي في أيدي البويهيين حتى مجيء السلاجقة.

      تولى يمين الدولة محمود بن سبكتكين قيادة الأسرة الغزنوية عام 387 هـ/ 997 م وأخذ يبسط نفوذه في تلك البلاد حيث دخلت منطقة خراسان في طاعته عام 389 هـ/ 999 م، ثم استولى على سيستان عام 390 هـ/ 1000 م، وما أن جاءت سنة 392 هـ/ 1002 م حتى كان محمود الغزنوي أقوى حاكم في هذه البلاد.

      قام محمود الغزنوي بجهود لنشر الإسلام في الهند حيث خرج إليها غازياً سبع عشرة مرة على مدى سبعة وعشرين عاماً بدأها عام 392 هـ/ 1002 م وقد كان النصر حليفه فأخضع ولايات جيبال وبهاطيا وقلعة كواكير وناردين. كما قام السلطان محمود الغزنوي بغزو بلاد الفور عام 401 هـ/ 1010 م وتمكن من الانتصار على ملوكها ثم عقد معهم معاهدة صلح. ثم عاد السلطان محمود لغزو الهند فاستولى على ولاية "تاتنشير" وكشمير وقنوج وقلعة البراهمة وقلعة "آسي" وقلعة "شروة" عام 407 هـ/ 1015 م، ثم قام عام 409 هـ/ 1017 م بغزو "كجرات" وفتح قلعتها كما فتح معبد "سومنات" عام 414 هـ/ 1022م.

      صارت مدينة غزنة عاصمة السلطان محمود مركزاً من أهم مراكز الثقافة الإسلامية وازدحم بلاطها بجمهور كبير رجال العلم والأدب.

      توفي السلطان محمود الغزنوي عام 421 هـ/ 1030 م وتولى بعده ابنه مسعود لكن الأسرة الغزنوية تعرضت لهزات عنيفة بعد محمود بسبب حروبهم مع السلاجقة وقبائل الغز وانحصر نفوذهم في إيران وإن كانوا قد ظلوا فترة في بلاد الهند.

      ورث الفوريون مملكة الغزنويين في القرن السادس الهجري، وكان هؤلاء الفور هم خير جند الغزنويين أيام مجدهم، وقد اشتهرت الأسرة الفورية في التاريخ الإسلامي بحروبها مع السلاجقة ثم انتصارها على الأسرة الغزنوية إلا أن فتوحاتها في بلاد الهند هي السبب الرئيسي في حصولها على مكانتها التاريخية.

      استولى سوري بن الحسين قائد الفور على غزنة عام 543 هـ/ 1151 م ولكنه هزم بعد ذلك وغلب في العام التالي، واستولى الحسن بن الحسين على هراة 545 هـ/ 1153 م، واستولى علاء الدين الحسين بن الحسن على فيروز كوه ثم على غزنة عام 550 هـ/ 1158 م، وقام شهاب الدين الفوري بغزو الهند عدة مرات وسيطر على لاهور وما جاورها في نفس السنة.

عهد الدولة السلجوقية

      في أوائل القرن الحادي عشر الميلادي ظهرت قبيلة من الأتراك الرحل كانت أكثر قوة مما عداها من القبائل، وكان محمود الفرنوي قد أقطع أفرادها مقاطعة بالقرب من بخارى، ثم أجلاهم بعد ذلك إلى خرسان، فثار زعيمهم "طفرل بيك" وقادهم لمحاربة الغزنويين، وتمكن من هزيمة مسعود الغزنوي، ثم شق طريقه إلى بغداد وعبر إيران فاستقبله الخليفة العباسي استقبالاً حافلاً ومنحه لقب ملك المشرق والمغرب عام 447 هـ/ 1055 م، ثم رجع طفرل إلى الري واتخذها عاصمة له، وأسس دولة السلاجقة التي استطاع فرعها الرئيسي أن يحكم حوالي مائة عام من البسفور إلى التركستان الصينية أما فروعها الصغيرة فقد امتدت سلطتهم إلى مدة أطول من ذلك.

      حينما حل السلاجقة في وسط إيران وغربيها كان كثير من أجزائها يحكمه ولاة صغار يمسك بعضهم برقاب بعض، فأسقط السلاجقة الدويلات المحلية وحددوا آسيا الإسلامية تحت حكمهم، وقد صار هذا العهد أحد العهود المهمة في تاريخ الحضارة الإيرانية، لأن الأتراك البدو الأميين سرعان ما وضعوا الفرس في المناصب الرئيسية، وانقلبوا هم أنفسهم إلى رعاة وحماة للعلوم والفنون.

      أعقب طفرل ابن أخيه ألب أرسلان ـ الذي حكم من 455 هـ/ 1063 حتى 465 هـ/ 1072 م واتخذ إيرانياً فذا هو نظام الملك وزيراً له ـ وقد قام بغزوات حربية مظفرة ضد البيزنطيين حيث غزا سوريا وهزم الإمبراطور البيزنطي رومانوس ديوجينس وأسره، إلا أن ألب أرسلان جرح جرحاً مميتاً على يد أحد أسراه.

      تولى ملكشاه عرش السلاجقة بعد أبيه من 465 هـ/ 1072 م حتى 485 هـ/ 1092 م فأنشأ بعد توليه بسنتين مرصداً فلكياً قام العلماء فيه بوضع تقويم جديد سمي بالزيج الجلالي نسبة إلى هذا الملك، وزين ملكشاه عاصمته أصفهان بعدد من المباني الجميلة والحدائق، وبقي نظام الملك وزيراً له في حين شغل السلطان نفسه بالحروب والصيد والحفلات الملكية فصارت أزمة الأمور في الدولة في يد وزيره نظام الملك الذي ألف كتاباً في السياسة والحكم جمع فيه تجاربه حيث قام بمجهودات متواصلة لبناء الحضارة ونشر الدين وترويج التعليم فبنى سلسلة من المدارس سميت بالمدارس النظامية نسبة إليه كانت أولها في دمشق عام 458 هـ/ 1065 م وانتشرت في مدن آمل ونيسابور والموصل وبغداد وهراة ومرو وبلخ وغيرها.

      كان السلاجقة يذهبون مذهب أهل السنة فيتشددون كثيراً مع الشيعة وكانت هذه الفرقة الأخيرة قد قويت وامتد نفوذها في إيران منذ عهد البويهيين، وخاصة فرقة الإسماعيلية بقيادة الحسن بن الصباح وعرف اتباعها بالباطنية والحشاشين، وكانوا قد وزعوا عملاءهم من قلاعهم القوية في شمالي إيران وفي أقصى الغرب ليثيروا الفزع والاضطرابات في إيران وليقوموا بتنفيذ اغتيالات سياسية، وكان نظام الملك أحد ضحاياهم، بعد اغتيال نظام الملك اضطربت أحوال الدولة السلجوقية وتنازع أبناء ملكشاه الملك من بعده وعجزوا عن الاحتفاظ بتماسك الدولة، وسرعان ما فقدوا سوريا وآسيا الصغرى، فضلاً عن ذلك فقد استطاع الأتابكة ـ وهم حكام الأقاليم الأتراك ـ أن يصلوا إلى درجة من القوة بحيث أخذت إيران تتمزق بينهم إلى دويلات شبه مستقلة. كان "سنجر" ـ الابن الثالث لملكشاه ـ آخر سلطان من السلاجقة العظام، وقد كان قبل توليه الحكم عام 512 هـ/ 1118 م ملكاً على خراسان مدة اثنين وعشرين عاماً، وفي أواخر حياته بدأت علامات الاضطرابات الداخلية تظهر بوضوح وتؤثر في استقرار الدولة خاصة مع التهديدات المستمرة من الخارج، فقد جاءت قبيلة "القراخطا" ـ وهي قبيلة تركية مغولية ـ من أقصى الصين وهزمت "سنجر" عام 536 هـ/ 1141 م واحتلت إقليم ما وراء النهر، وفي عام 548 هـ/ 1153 م أسر الأتراك "الغز" السلطان سنجر وظل أسيراً لديهم ثلاث سنوات، وقد احتلوا نيسابور وأحرقوها.

      توفي سنجر ودفن في مدينة "مرو" وعقب وفاته استولى سلاطين الدولة الخوارزمية على أراضي الدولة السلجوقية منطقة بعد منطقة.

      حكم "اتسز" أول سلاطين الدولة الخوارزمية بين عام 523 هـ/ 1128 م وعام 551 هـ/ 1156 م، وكان في الأصل حاكماً على خوارزم من قبل السلاجقة إلا أنه كان مستقلاً في إدارة شؤون الإقليم. وقد بسط ابن حفيده السلطان محمد (597 هـ/ 1200 م ـ 617 هـ/ 1220 م) الدولة الخوارزمية فشملت جميع أنحاء إيران.

      عهد الدولة السلجوقية مشهور بكثرة عدد شعرائه وفلاسفته وعلمائه ومن أشهرهم العالم أبو حامد الغزالي والشاعر فريد الدين العطار ونظامي الكنجوي واهتم السلاجقة بالعمارة وخاصة بناء المساجد التي أدخلت عليها فكرة الساحة المفتوحة في وسط البناء تحيط بها عقود مسقوفة وإيوان على كل جانب وأشهرها مسجد أصفهان ومسجد "سنك بست" بالقرب من مدينة مشهد ومسجد حيدرية في مدينة قزوين ومسجد "كلبايكان"، ومسجد "بارسيان"، فضلاً عن المدارس والجواسق والبساتين وأبراج المقابر، وازدهرت صناعة القيشاني والسجاد والمنسوجات الصوفية الحريرية.

العصر المغولي

      حدثت ولادة تموجين حوالي 555 هـ/ 1160 م، وهو الشخص الذي قيضت له الأقدار قيادة قبائل المغول عبر آسيا متخذاً لقب جنكيز خان، فقد استطاع أن يكتسح البلاد الإيرانية من الشرق إلى الغرب والجنوب بعد أن سيطر على الصين، وصل جنكيز خان إلى حدود الدولة الخوارزمية عام 616 هـ/ 1219 م واستطاع الاستيلاء على مدن بخارى وسمر قند وبلخ ومرو، ثم سقطت نيسابور عام 618 هـ/ 1221 م.

      ثم رجع جنكيز خان إلى الشرق بعد أن أتم الاستيلاء على أغلب مدن إيران وقتل الملايين من الإيرانيين وحرق الكثير من القرى والمدن حتى قال الإيرانيون عن المغول أنهم جاءوا وقتلوا وحرقوا ونهبوا وذهبوا.

      توفي جنكيز خان عام 625 هـ/ 1227 م، وقد صمم المجلس الذي عين خليفته على إرسال جيش لقتال بقايا القوات الخوارزمية، فقاد "جرماغون" المغول حتى بلغ شمال غربي إيران والعراق واستمرت الغارات والمذابح في السنوات التالية.

      في عام 654 هـ/ 1256 م قاد هولاكو خان حملة ضد قلاع الإسماعيلية في إيران فحطمها وسقطت قلعة "الموت" الشهيرة التي كانت مركز قيادة الحسن الصباح.

      في عام 656 هـ/ 1258 م هجم هولاكو على بغداد ودخلها بعد حصار دام شهراً وقتل آلافاً من الناس وأحرق قصور الخلفاء ومساجدهم ومقابرهم ومكتبة بغداد الشهيرة وأعدم آخر خلفاء العباسيين، وتقدم إلى الشام إلا أنه هزم على يد المصريين في موقعة عين جالوت الشهيرة فانسجب إلى مراغة في الشمال الغربي من إيران.

      استقر المغول في إيران وأسسوا دويلتهم تحت اسم "دولة الايلخانيين"، وقد اكتسب المغول في إيران عادات جديدة وغيروا طريقة لباسهم ومعتقداتهم وأسلوب حياتهم وتأثروا كثيراً بالحضارة الإيرانية فعينوا الإيرانيين في المناصب الإدارية واستبقوا النظام الإقطاعي في الحكم.

      توفي هولاكو عام 666 هـ/ 1267 م وخلفه ابنه "آباقاخان" الذي حكم حتى عام 681 هـ/ 1282 م وقد باءت حملاته على سوريا بالفشل فحاول التحالف مع أوربا ضد المصريين لكنه فشل.

      اعتنق "تكودار" أخو "آباقا" الذي خلفه على العرش الدين الإسلامي علانية واتخذ لنفسه اسم "أحمد".

      قتل تكودار عام 683 هـ/ 1284 هـ فخلفه "ارغون بن اباقا" وفي عهد حظي المسيحيون البسطوريون الذين كانوا يعيشون في الشمال الغربي من إيران والعراق بعطفه، فأعاد مطرانهم بناء الكنيسة في "مراغة".

      توفي "ارغون" عام 692 هـ/ 1292 م وخلفه أخوه "كيخاتو" لمدة أربع سنوات، ثم خلفه "بايدو" الذي شغل العرش أقل من سنة.

      تولي "غازان خان" ـ حفيد هولاكو ـ العرش عام 695هـ/ 1295 م، وكان عهده العهد الذهبي للمغول في إيران حيث اعتنق الإسلام وصار طابع البلاط في مدينة تبريز العاصمة إسلامياً فارسياً تماماً، وكانت الإدارة الرشيدة والرخاء أهم مميزات عهده حيث سنت القوانين وفرضت ضرائب منظمة عادلة وتحقق الأمن الداخلي، فكان عشرة آلاف رجل يحرسون طرق القوافل الرئيسية، وكان لأوروبا مبعثون تجاريون وجاليات من التجار تقيم في تبريز، وفي عام 697 هـ/ 1297 م بدأ "غازان" مسيرة التعمير في تبريز وضواحيها، ولم تمض سنوات كثيرة حتى ظهرت المباني المقامة وسط الحدائق وكانت تشمل الأربطة والمستشفيات والمدارس ومرصداً ومكتبة وقصراً ومباني إدارية وأكاديمية للفلسفة.

      حاول "غازان" في أواخر حياته غزو سوريا ومصر ولكن المصريين هزموه بالقرب من دمشق. وينسب للوزير الفارسي رشيد فضل الله الفضل في ازدهار دولة المغول في إيران لما بذله خلال فترة وزارته في عهد غازان وأخوه "أولجايتو" وقد أصدر كتابه "جامع التواريخ" وهو من نوع كتب التاريخ العام وبه جزء مفصل عن تاريخ المغول وقد استعان في كتابته بأحسن المصادر وأدقها وقد أتم كتابه عام 710 هـ/ 1310 م وأرسل منه نسخاً عديدة بلغات مختلفة إلى مكتبات المدن الكبيرة، وقد أنشأ خارج تبريز ضاحية سماها "الربع الرشيدي" وخصصها لترقية العلوم والفنون وسكنها العلماء والفنانون.

      توفي "غازان" عام 704 هـ/ 1304 م وخلفه أخوه "أولجايتو" حتى توفي عام 716 هـ/ 1316 م وهو في السادسة والثلاثين من عمره، وكان "أولجايتو" قد عمد أثناء طفولته على أنه نصراني ولكنه اختار الإسلام بعد ذلك واتخذ لنفسه اسم "محمد خدابنده". وفي عام 706 هـ/ 1306 م أمر أولجايتو ببدء العمل في بناء مدينة السلطانية التي تقع على سهل فسيح بالقرب من قزوين وهي المدينة التي صارت عاصمة الايلخانيين بعد تبريز حيث صارت من أجمل مدن إيران بقصورها ومبانيها وميادينها العامة وأسواقها ومناراتها، وقد تم بناؤها عام 713 هـ/ 1313 م فصارت مركزاً تجارياً كبيراً.

      خلف "أبو سعيد" والده على عرش الايلخانيين وهو في الثانية عشرة من عمره فتمرد النبلاء وبدأت أقسام من الدولة الانفصال عن كيانها الرئيسي، فاستطاعت الدولة المظفرية في كرمان أن تبسط نفوذها على فارس وأغلب الجزء الجنوبي من إيران، وعندما توفي "أبو سعيد" عام 736 هـ/ 1335 م تقاتل المطالبون بالعرش من الفروع البعيدة من الشجرة المغولية دون الوصول إلى نتائج حاسمة وتناحرت البلاد داخلياً خلال ما تبقى من القرن الرابع عشر الميلادي، وكانت الدويلات الصغيرة تحكم فترة قصيرة، كان أقواها دولة آل المظفر ودولة السر بداريين الذين استولوا على خرسان ودامغان.

      عاش في عصر الدولة الايلخانية عدد كبير من العلماء في حقول الطب والنبات والفلك والعلوم الطبيعية، وقد أتم "عطا ملك الجويني" وهو أحد أفراد أسرة مشهورة من الموظفين الفرس في عهد المغول كتابه الكبير "تاريخ جهان كشاي" عام 659 هـ/ 1260 م ويتضمن تاريخ جنكيز خان وحكام خوارزم والإسماعيلية، وكان "عطا ملك" نفسه حاكماً على بغداد سنوات كثيرة، كما أكمل عبدالله بن فضل الله المعروف بالوصاف أو وصاف الحضرة كتابه القيم المعروف باسم "تاريخ وصاف"، كما ضم هذا العصر شعراء كبار مثل جلال الدين الرومي وسعدي الشيرازي، كما ضم العالم الكبير نصير الدين الطوسي الذي شيد مرصداً في مراغه وأداره في عهد هولاكو وقد وضع في المرصد أدوات مصنوعة بطريقة خاصة مثل الاسطرلاب وأدوات رصد تحركات الأجسام السماوية وصورة الكرة الأرضية.

عهد التيموريين

      كانت الأحوال في المناطق الشرقية لإيران غيرمستقرة مدة كبيرة من الزمن، وقد منحت أراضي إقليم ما وراء النهر ـ بعد الفتح المغولي الريئسي ـ "لجفتاي" الابن الثاني لجنكيز خان فأسس هناك دولته الخاصة، وبعد ذلك بقليل قسمت هذه المنطقة الواسعة إلى قسمين: الأول منطقة ما وراء النهر الفعلية، والثاني: منطقة تركستان، ثم اشتبك القسمان معاً في حروب متواصلة استمرت حتى عام 772 هـ/ 1370 م حيث تمكن "تيمور لنك" الذي كان إذ ذاك في خدمة حاكم تركستان ـ من إخضاع الدولة المنافسة.

      ولد "تيمور لنك" بالقرب من سمر قند عام 734 هـ/ 1333 م وهو ابن حفيد رئيس قبيلة "برلاس" التركية، فلما أصبح سيداً على إقليم ما وراء النهر، وجه قوته نحو الغرب ففتح خراسان ومازندران وسجستان عام 782 هـ/ 1380 م، واستولى على أذربيجان وجورجيا وغرب إيران عام 786 هـ/ 1384 م، ثم غزا إقليم فارس كله عام 795 هـ/ 1392 م، ثم سار إلى بغداد واستولى على حلب ودمشق، كما فتح أيضاً جزءاً كبيراً من تركستان الروسية ومن الهند، ثم رجع إلى عاصمته سمرقند عام 801 هـ/ 1398 م حيث اهتم بها اهتماماً كبيراً وعمل على تعميرها.

      عندما توفي تيمور لم يكن في سمرقند من أهل بيته ـ الذين يمكن أن يخلفوه على العرش ـ إلا حفيده وابن أخته، وكان ابنه الرابع "شاهرخ" في هراة فاستطاع أن يظفر بالسيطرة على هراة وخراسان وما وراء النهر بعد منازعات وحروب عائلية استمرت سنة تقريباً، وظفر ابنه الثالث ميرانشاه بالسيطرة على الجزء الغربي من إيران بما في ذلك تبريز وبغداد.

      في عام 811 هـ/ 1408 م استفادت قبائل قرة قويونلو (ذات الخراف السوداء) من الخلاف في الأسرة التيمورية فاستولت على أذربيجان، وفي عام 813 هـ/ 1410 م استولى شيخها "قره يوسف" على بغداد، وتمكن ابنه بعد ذلك بسنوات من السيطرة على إقليم أصفهان، وظل حكام قره قويونلو يحكمون حتى عام 874 هـ/ 1469 م إلى أن تمكنت قبائل "آق قويونلو" (ذات الخراف السوداء) من هزيمتهم.

      حكم شاهرخ في الشرق من عاصمته "هراة" جميع أجزاء القسم الشرقي من إيران حتى عام 851 هـ/ 1447 م، وهزم قبائل "قره قويونلو" في تبريز، وطردهم إلى أرمينية، ولكنه اضطر إلى تركهم يحكمون الإقليم الغربي من إيران.

      كان شاهرخ من أكثر الملوك الذين حكموا إيران ثقافة، وقد جعل "هراة" المركز الثقافي لوسط آسيا، وازداد الرخاء في ظل حكمه، وعلت مكانة المهندسين المعماريين والرسامين والشعراء والعلماء والموسيقيين، فانتشرت الحركات الفنية والأدبية التي ظهرت في هذا العصر، وامتدت غرباً حتى بلغت ذروتها في أصفهان.

      خلف شاهرخ ابنه الأكبر "الغ بيك" وكان حكمه قصيراً استغرق من 851 هـ/ 1447 م حتى 853 هـ/ 1449 م وقد اهتم بالأدب وعلم الفلك فبنى مرصداً في سمرقند لا يزال قائماً وعمل جداول حسابية طبعت بعد ذلك في إنجلترا عام 1076 هـ/ 1665 م.

      انتهى أمر الغ بيك بالعزل ثم القتل بتحريض من ابنه فعمت الفوضى البلاد بضع سنوات حتى سيطر "حسين ميرزا بايقرا" على خرسان عام 874 هـ/ 1469 م وأعاد استقرار الأوضاع ومتابعة النهضة الحضارية والفنية فامتلأت هراة وخرسان برجال العلم والفن والأدب وأشهرهم الشاعران عبدالرحمن الجامي وعليشير نوائي والمصوران الرسامان بهزاد وشاه مظفر والخطاط سلطان علي والمؤرخان ميرخواند وخورندمير.

      بعد وفاة "حسين ميرزا بايقرا" عام 912 هـ/ 1506 م سقط الجزء الشرقي من الدولة التيمورية في أيدي قوم رحل من التتار كان أصلهم من الجنس المغولي، ولكن تقاليدهم الحضارية كانت تركية هم الشيبانيون، فاستمرت دولتهم ترعى الفنون في بخارى وسمرقند، ولكنها سرعان ما انتهت تحت قوة الصفويين.

كان الشاعر شمس الدين حافظ الشيرازي ألمع شخصية أدبية ظهرت في ذلك العصر.

عصر الدولة الصفوية

      تنسب الدولة الصفوية إلى "صفى الدين الأردبيلي" (650 هـ/ 1252 م ـ 735 هـ/ 1334 م) الذي كان شيخاً من شيوخ الصوفية التقليديين وكان شافعي المذهب من أهل السنة والجماعة، خلفه ابنه "صدر الدين" الذي أدخل على الطريقة قبول النذور والهبات، أما حفيده "سلطان خواجه" فقد اتخذ للطريقة اللون الأسود حتى سمي هو واتباعه "سياهيوش" أي "لابس السواد"، أدخل الشيخ "جنيد" خليفة "سياهبوش" الفتوة والجهاد في أسلوب الطريقة نتيجة لتحرش "جهانشاه" حاكم أذربيجان به وبأتباعه، إلا أنه فضل عدم مواجهته للفارق في القوة بينهما فآثر أن يرحل إلى ديار بكر فتصدى له "سلطان خليل" حاكم شيروان "وأبو المعصوم خان" حاكم طبرستان وهزموه، وقتل في المعركة.

      اتخذ سلطان حيدر بن الشيخ جنيد له ولمريديه العمامة الحمراء فسموا "بالقزلباش" أي "أحمر الرأس"، وبعد موت "شاه حسن" الذي كان يؤازره عاد حاكم شيروان وحاكم طبرستان لمحاربة الصفويين فهزم حيدر وقتل في المعركة.

      قبض "رستم آق قويونلو" حاكم أذربيجان على سلطانعلي ميرزا بن "حيدر" وعلى أخويه إبراهيم وإسماعيل وسجنهم في قلعة كلات لمدة سبع سنوات ثم عاد فأخرج عنهم واستعان بسلطانعلي في حرب منافسه "بايسنقر" ولما انتصر سلطافعلي على بايسنقر خشى منه رستم وحاربه وقتله.

      عاش "إسماعيل ميرزا" خليفة "سلطانعلي" في كنف حاكم كيلان فترة، ثم خرج إلى "أردبيل" للانتقام من قتلة أخيه في ثلاثة آلاف فارس، وقد تمكن من فتح "أردبيل" وهناك زاد اتباعه على خمسة عشر ألف فارس، وقد استطاع أن يقبض على "علي خان سلطان" حاكم أردبيل ويلقيه في السجن.

زاد اتباع إسماعيل ميرزا في "أردبيل" ولقبوه "بالملك".

      سار إسماعيل باتباعه إلى تبريز حيث استطاع هزيمة قبائل آق قويونلو ودخول تبريز والجلوس على عرشها، ثم أعلن قيام الدولة الصفوية وعاصمتها تبريز 906 هـ/ 1500م.

      في العام التالي 907 هـ/ 1501 م أعلن المذهب الشيعي الاثنى عشري مذهباً رسمياً للدولة. تقدم إسماعيل بقواته فاستولى على العراق ثم فارس وكرمان وهمدان وخرسان وشقت قواته طريقها شرقاً حتى بلغت "خيوه"، وقد استعمل القوة الغاشمة في إدخال سكان هذه البلاد المذهب الشيعي بعد أن كانت من أهل السنة وتشير المصادر إلى كثير من أعمال العنف والمذابح التي ارتكبها الشاه إسماعيل واتباعه لتغيير مذهب الإيرانيين حتى أنه كان يعرض على حاكم المدينة أن يدخل في مذهب الشيعة فيبقيه حاكماً على المدينة ويغدق عليه العطاء فإذا امتنع أحرق المدينة وقتل كل من فيها حتى القطط والكلاب.

      أذكى التحول إلى التشيع عداوة الأتراك العثمانيين ضده، وكان سلاطينهم في القسطنطينية يعتبرون أنفسهم خلفاء على جميع المسلمين السنة، كما أصبح الشيعة في إيران يفصلون الكتلة السنية في وسط آسيا والهند وأفغانستان عن أهل السنة في تركيا والعراق ومصر والدول الإسلامية الأخرى الواقعة إلى الغرب من إيران.

      تبادل كل من الصفويين والعثمانيين رسائل الإنذار والتهديد والوعيد، وكانت أولى نتائج هذا الاحتكاك المذهبي غزو إيران بجيش يقوده السلطان سليم الأول العثماني الذي تمكن من هزيمة الشاه إسماعيل الأول الصفوي في موقعه جالداران بالقرب من تبريز عام 920 هـ/ 1514م. واضطر إسماعيل إلى الانسحاب داخل إيران، ومع حلول الشتاء عاد السلطان سليم إلى استانبول مما أبقى على دولة الصفويين.

      توفي الشاه إسماعيل الأول عام 930 هـ/ 1524 م بعد أن دعم أركان دولته وعمل على نشر المذهب الشيعي في جميع أنحاء إيران، وقد خلفه ابنه طهاسب الأول فأكمل ما بدأه أبوه ولكنه اختار أسلوب الإقناع والتأثير في نشر المذهب بدلاً من العنف والقهر، واتخذ من الشعراء والأدباء والعلماء وسيلة لمساعدته في نشر المذهب، لم تنته الحروب بين الصفويين والعثمانيين واستمرت مدة طويلة، ويبدو أن الضغط الخارجي سواء من جانب العثمانيين في الغرب وقبائل الأوزبك القوية في الشرق ضد الصفويين كان عاملاً مؤثراً في توحيد إيران والتفاف شعبها حول ملوك الصفويين والمذهب الشيعي.

      استطاع الشاه طهاسب الأول الاحتفاظ بحدوده الشرقية بإلحاق الهزائم المتتالية لقبائل الأوزبك وطردهم بعيداً عن حدود دولته، إلا أنه قاسى هزائم عديدة في الغرب على يدي السلطان سليمان القانوني العثماني الذي استولى على العراق وتوغل حتى وصل إلى تبريز وأصفهان مما اضطر طهاسب إلى نقل عاصمة ملكه من تبريز إلى قزوين لينجو من التهديد التركي، وقد اضطر إلى عقد معاهدة صلح مع السلطان سليمان استطاع أن يحقن بها دماء شعبه ويبقى على دولته، بعد أن تاب عن جميع المعاصي وأقلع عن شرب الخمر. وقد ساعدت الظروف طهاسب للتفرغ لبناء حضارة دولته حيث شغل العثمانيون في منازعات داخلية بين الأمراء، وقد ظل طهاسب يوطد أركان حكومته في أنحاء إيران ويقضي على فتنة أخيه "القاص ميرزا". وقد حكم طهاسب مدة طويلة حتى توفي عام 984 هـ/ 1576م.

      شهدت عهود الشاه "إسماعيل" الثاني و"محمد خدابنده" وابنه "حمزة ميزرا" الكثير من القلائل والاضطرابات، ولاقى الصفويون خلالها الكثير من الهزائم على يد العثمانيين والأوزبك حيث سيطر العثمانيون على أذربيجان جميعها، كما غزا الأوزبك منطقة خراسان واستولوا على هراة ومشهد.

      اعتلى الشاه عباس الأول عرش الصفويين عام 996 هـ/ 1587 م بعد مقتل أخيه "حمزة ميرزا" وتنازل أبيه "محمد خدابنده" له عن الحكم، فبدأ بعقد معاهدة مع العثمانيين اعترف لهم فيها بسيادتهم على المناطق التي استولوا عليها، ثم سار بجيشه إلى الشرق لطرد الأوزبك من خراسان، وقد تمكن من الانتصار عليهم والتخلص من تهديدهم، ثم توجه غرباً لمحاربة العثمانيين فتمكن من هزيمتهم واسترداد أذربيجان وأرمينيا وجورجيا، وقد أدخل تعديلات كبيرة على الجيش الإيراني فأنشأ فرقاً جديدة باسم "القزلياشيون الجدد" وزودها بأحدث الأسلحة حيث استقدم الإخوان الإنجليزيان روبرت وانتوني شيرلي فأقاما مصنعاً للمدافع والبنادق عام 1007 هـ/ 1598 م وكان العثمانيون قد سبقوا الصفويين في استخدام المدافع.

      نقل الشاه عباس ملكه إلى أصفهان واختصها بعناية حيث صارت مركزاً حضارياً متميزاً في مختلف ميادين العلم والفن والعمارة والأدب، كما قام بتعبيد الطرق وحفر القنوات وبناء الأربطة في طريق القوافل وأشاع الأمن والاستقرار وعمل على ازدهار الصناعة والتجارة، وفي عهد ازدهرت علاقات إيران بأوروبا وكثر السفراء في بلاطه كما كثرت زيارات الرحالة الأوربيين إلى إريان، وقد أشادت به الكتب الإيرانية وكتب المستشرقين والرحالة على السواء.

      كان الجانب السيئ في سيرة الشاه عباس الأول هو علاقته بأفراد عائلته فقد قتل بعض أبنائه وأهمل تعليم الآخرين وتدريبهم على شؤون الحكم خوفاً من أن يثور أحدهم ضده ويحل محله، مما جعله يخلف من بعده سلسلة من الملوك غير اللائقين.

      أعقب الشاه عباس الأول حفيده الشاه صفي (1039 هـ/ 1629 م ـ 1052 هـ/ 1642 م)، وبعده تولى الشاه عباس الثاني (1052 هـ/ 1642 م ـ 1078 هـ/ 1667 م)، ثم الشاه سليمان (1078 هـ/ 1667 م ـ 1106 هـ/ 1694 م) وقد خلت عهودهم إلى حد ما من الحروب مع الأتراك العثمانيين خاصة بعد أن سوت المعاهدة التي وقعت بين الطرفين عام 1046 هـ/ 1636 م مشكلة الحدود الغربية لإيران حتى القرن التاسع عشر.

      في عهد الشاه سلطا نحسين (1106 هـ/ 1694 م ـ 1135 هـ/ 1722 م) ضعفت الدولة الصفوية إلى حد كبير، وقد ثارت قبيلة الأفغان الفلجائيين في قندهار واستقلت بنفسها، وحذت قبيلة الأفغان الأبداليين في هراة حذوها، وفي عام 1135 هـ/ 1722 م قاد محمود بن ميرويس القبائل الأفغانية لفتح كرمان فلم يجد مقاومة تذكر فتقدم إلى أصفهان ودخلها فتنازل له الملك "سلطا نحسين" عن العرش وألبسه التاج بنفسه، فصار ملكاً على إيران. لكن سرعان ما انقسمت البلاد إلى مناطق منفصلة فسيطر "محمود" وخليفته "أشرف علي أصفهان وفارس وكرمان خلال الفترة من 1138 هـ/ 1725 م حتى 1143 هـ/ 1730 م، واحتلت روسيا القيصرية السواحل الغربية والجنوبية لبحر قزوين، وزحف الأتراك العثمانيون إلى غربي إيران، فاضطر "أشرف" إلى عقد اتفاق ودي معهم.

عهد الأفشار والزند والقاجار

      كان نادر قلي رجلاً قبلياً من الأفشار، ولد في مشهد وارتفع شأنه من جمّال إلى رئيس عصابة لقطع الطريق يتخذ مقره في "قلعة نادري" المنيعة في خراسان، وفي عام 1139 هـ/ 1726 م اشتغل في خدمة طهاسب ميراز ابن الملك الصفوي شاهحسين، وفي عام 1142 هـ/ 1729 م هزم الأفغان بقيادة أشرف على مقربة من أصفهان، وطردهم من غربي إيران ومن خراسان وهراة، ثم استرد أرمينية وجورجيا من الأتراك العثمانيين، كما اعترفت بذلك معاهدة القسطنطينية المبرمة في عام 1149 هـ/ 1736 م.

      في عام 1144 هـ/ 1731 م عزل نادر قلي مخدومه طهماسب ميرزا وحكم كنائب للشاه عباس الثالث بن طهماسب إلى أن توفي عباس (آخر ملوك الصفويين) عام 1149هـ/ 1736م، وعندئذ اعتلى عرش إيران وتلقب بنادر شاه، وصار مؤسساً للدولة الأفشارية.

      عين نادر شاه أفراداً من أسرته حكاماً على أقاليم إيران، ثم ظن أن مؤامرة دبرت ضده من قبل ابنه رضا قلي ميرزا فأمر بسمل عينيه غير أن تأنيب ضميره بعد ذلك دفعه إلى القيام بأعمال تدل على الجنون والقسوة وفرض نظاماً قاسياً على جنوده وعلى الشعب الإيراني.

      في عام 1149 هـ/ 1736 م توغل في أفغانستان واستولى على قندهار وغزنة وكابل، ثم واصل سيره إلى بلاد الهند حيث دخل دهلي (دلهي) فنهب القصور وما بالمدينة من كنوز من بينها عرش الطاووس.

      في عام 1153 هـ/ 1740 م استولى على بخارى وخيوة وجميع مناطق الأوزبكيين، قام بمحاولة جادة لبناء أسطول في الخليج، وفي عام 1151 هـ/ 1738 م ضم جزيرة البحرين إلى إيران. في عام 1156 هـ/ 1743 م سار لفتح العراق، فاستولى على الموصل والبصرة.

      كانت فترة حكم نادر شاه تمثل عهداً قصيراً من القوة الوطنية إلا أن أهالي البلاد لم يظفروا بأية فائدة من غزواته الخارجية، وكان جيشه الضخم يعيش بعيداً عن موطنه الأصلي ويتحرك من الغرب إلى الشرق وبالعكس وكانت الضرائب الثقيلة تفرض على السكان وكانت موارد البلاد مسخرة للمجهود الحربي.

      في عام 1160 هـ/ 1747 م قتل نادر شاه بيد واحد من ضباطه خلال ثورة اشتعلت ضده في أحد الأقاليم.

      بعد مصرع نادر شاه تولى ابنه الأعمى "شاهرخ" حكم خراسان من 1161 هـ/ 1748 م حتى 1211 هـ/ 1796 م إلا أنه خلال هذه المدة لم يستطع الاحتفاظ بوحدة الأراضي الإيرانية فظفر الأفغان باستقلالهم وتمزق غربي إيران نتيجة الحروب الداخلية وسقط في أيدي الزنديين والقاجاريين، فصار كريم خان رئيس قبيلة الزند البدوية المتنقلة في إقليم فارس سيدا علي أصفهان وشيراز وأغلب الجزء الجنوبي من إيران، ونجح في صد القاجاريين، وتلقب بوكيل السلطنة أو نائب الملك متخفياً بذلك وراء اسم أحد الصفويين الضعاف، واستمر في الحكم من 1164 هـ/ 1750 م حتى 1193 هـ/ 1779 م، وقد اهتم بعاصمته شيراز فزينها بالقصور والجواسق المقامة في الحدائق، والمساجد، والسوق الطويلة المسقوفة ولا تزال المدينة تحتفظ بجزء كبير من طبيعتها المعمارية التي سادت ذلك العصر.

      أما القاجاريون فقد كانوا إحدى القبائل السبع التي ساعدت الشاه إسماعيل أول ملوك الصفويين، وكان شأنها قد انخفض في عهد نادر شاه لكنها ظهرت على مسرح الأحداث في مازندران بعد وفاته وسعت إلى الانتشار جنوبي إيران.

      نجح قائدهم "آقا محمد خان" في توحيد فروع القبيلة بالعنف والقتل، فقوي أمره واستطاع الاستيلاء على طهران عام 1193 هـ/ 1779 م وجعلها عاصمة لملكه ولكنه لم يلقب رسمياً بملك إيران حتى عام 1211هـ/ 1796م.

      هاجم الشاه محمد قوات "لطفعلي" خامس الزنديين الذين أعقبوا كريم خان واضطره للجوء إلى كرمان، ثم قبض عليه وعذبه حتى مات، وعاقب أهل كرمان بسمل أعين عدد كبير منهم، وقد استطاع السيطرة على جميع أقاليم إيران وضم إليها "جورجيا". قتل محمد شاه عام 1212 هـ/ 1797 م.

      تولى فتحعلي شاه عرش إيران بعد عمه الشاه محمد عام 1212 هـ/ 1797 م وحتى عام 1250 هـ/ 1834 م، وقد تمتعت إيران في عهده بالهدوء والاستقرار، وقد بدأ في عهد فتحعلي شاه الاتصال المباشر بالدول الغربية فعقدت معاهدة تحالف بين فرنسا وإيران عام 1222 هـ/ 1807 م وكان نابليون يأمل من خلال هذه المعاهدة غزو الهند عن طريق البر في مقابل أن يمد إيران بالأسلحة ويرسل بعثة عسكرية لتدريب جيشها لتتمكن من مقاومة روسيا القيصرية التي ضمت جورجيا عام 1216 هـ/ 1801 م ولكن ذلك لم يفد إيران إذ سرعان ما اتفقت روسيا مع فرنسا وعقدت معها معاهدة كلستان عام 1229 هـ/ 1813 م اعترفت فيها فرنسا بملكية روسيا لجورجيا. في عام 1230 هـ/ 1814 م عقدت إيران معاهدة تحالف دفاعي مع بريطانيا بقيت سارية المفعول حتى عام 1274 هـ/ 1857 م إلا أن إيران لم تستفد منها بشيء.

      في عام 1242 هـ/ 1826 م دخلت إيران في حرب مع روسيا، انتصرت فيها إيران أول الأمر ولكنها سرعان ما انهزمت واستولى الروس على تبريز وعقدوا معاهدة مع إيران تحت اسم معاهدة "تركمان جاي" عام 1244 هـ/ 1828 م نصت على إعطاء روسيا إقليمي "ايروان" و"نخجوان" اللذين كانا ضمن الأراضي الإيرانية مع تعويض كبير، كما نصت المعاهدة على حق السفن الروسية في الرقابة الحربية على بحر قزوين، ومنح روسيا كثيراً من الامتيازات والحقوق الاقتصادية والجمركية الخاصة.

      منذ ذلك الوقت وحتى مطلع القرن العشرين أصبحت إيران موزعة بين المصالح المتعارضة لروسيا وبريطانيا العظمى، فكانت روسيا تبني سياستها على أساس التوسع في آسيا وتطمع أن يكون لها ميناء في المياه الدافئة في الخليج، بينما سعت بريطانيا إلى السيطرة على الخليج وجميع الأراضي المجاورة للهند.

      حكم محمد شاه حفيد فتحعلي شاه من عام 1250 هـ/ 1834 م حتى عام 1265 هـ/ 1848 م وبذل جهده من أجل تحسين الحالة الداخلية للبلاد، وقد خطبت روسيا في عهده ود إيران حتى تتمكن من تدعيم نفوذها في ولايات القوقاز وتركستان.

      قام محمد شاه ـ تساعده روسيا ـ بمحاولة لإعادة فتح هراة لكن هذه المحاولة فشلت إزاء المقاومة التي كانت تدعمها بريطانيا لتلك المدينة.

      ظهرت في عهد محمد شاه حركة دينية تبشر بقدوم المهدي المنتظر قام بها "ميرزا علي محمد" المولود في شيراز عام 1225 هـ/ 1819 م وكان من علماء الدين الشيعة المتصوفة، وقد قبل تعاليمه عدد كبير التف حوله ولقبوه "بالباب" أي الباب بين دنيا المادة ودنيا الروح، وقد ادعى أنه نقطة التجلي الإلهي في هذا العالم فدعا إلى السلام الدائم وإزالة الفوارق بين الطبقات وإلى حياة تقوم على أساس التفسير الروحي للإسلام، ولكنه قتل بأمر من الحكومة الإيرانية في تبريز عام 1267 هـ/ 1850 م وقتل حوالي 40.000 من اتباعه، وبعد قتل الباب صار "ميراز يحي" أحد اتباعه المقربين رئيساً لطائفة البابية، وهاجر إلى "أدرنة"، بتركيا، وقد توفي عام 1912 م وكان أخوه لأبيه "ميرزا حسين" قد اتخذ لقب "بهاء الله" أو البهاء الإلهي عام 1863 م وترأس الدعوة البهائية، وسرعان ما مزج بهاء الله ما في العقيدة من عناصر التصوف الإيرانية بأفكار تحررية كانت رائجة في أوربا وصاغ منها مذهباً جديداً له صبغة دولية ولا يعترف بطقوس خاصة ولا بنظام للكهنوت وجعل مركزه مدينة "عكا" في فلسطين، وقد تابع هذه الدعوة ابنه وخليفته "عباس افندي" فانتشرت في جميع أنحاء العالم وأنشئت المحافل البهائية في طهران وسائر البلاد.

      اعتلى "ناصر الدين شاه" ابن "محمد شاه" عرش إيران عام 1264 هـ/ 1847 م وهو في السادسة عشرة من عمره وامتاز عهده الطويل بالعلاقات الودية مع روسيا، استولى الجيش الإيراني على هراة عام 1273 هـ/ 1856 م فأعلن الحاكم الإنجليزي العام في الهند الحرب على إيران وأنزلت القوات البريطانية على رأس الخليج وعجزت روسيا عن مساعدة إيران فاضطر ناصر الدين شاه إلى التسليم، وانسحبت إيران من "هراة" واعترفت باستقلال أفغانستان بمقتضى معاهدة باريس التي أبرمت عام 1247 هـ/ 1857 م، وقد منحت هذه المعاهدة امتيازات وحقوقاً تجارية لبريطانيا في إيران.

      ومنذ ذلك الوقت اتخذ التنافس بين روسيا وبريطانيا على المسرح الإيراني صورة التدخل الاقتصادي حيث تطلب النشاط الصناعي المتزايد الذي ظهر في الغرب الحصول على المواد الخام وعلى الأسواق الجديدة لتصريف المنتجات الصناعية، وكانت إيران من المناطق التي أصبحت مجالاً للغزو الاقتصادي المدعوم بالتدخل السياسي.

      في عام 1289 هـ/ 1872 م حصل "البارون رويتر" البريطاني على امتياز من ناصر الدين شاه يعطي بريطانيا الحق في إنشاء السكك الحديدية وطرق المواصلات، واستغلال الثروة المعدنية والبترول سبعين سنة، كما أعطتها الحق في الإشراف على الأعمال الجمركية لمدة أربع وعشرين سنة.

      ولما قام ناصر الدين شاه برحلته الأولى إلى أوربا في السنة الثالثة استقبل بفتور شديد في روسيا فألغى الامتياز عقب رجوعه، ثم عاد فاسترضى "رويتر" عام 1307 هـ/ 1889 م بمنحه حق إنشاء المصرف الإمبراطوري لإيران، وفي عام 1308 هـ/ 1890 م أعطيت شركة إنجليزية حق احتكار الطباق والدخان لكن علماء الدين قادوا موجة من السخط وأعلنوا تحريم الدخان فألغى حق الاحتكار، وقامت بريطانيا بعد عام بإنشاء خطوط للبرق في جميع الأجزاء الغربية من إيران.

      لم تقف روسيا مكتوفة اليدين أمام هذه الأحداث ففي عام 1297 هـ/ 1879 م وافق ناصر الدين شاه على إنشاء لواء من القوازق الفرس على النمط الروسي على أن يدربه ويقوده ضباط من الروس، كما فتح مصرف روسي اسمه "مصرف التخفيض" في طهران عام 1309 هـ/ 1981 م، وحصل أحد الرعاة الروس عام 1306 هـ/ 1888 م على امتياز يمنحه حقوق الصيد في بحر قزوين، وكانت روسيا قد استولت على طشقند وسمرقند وبخارى وخيوه، وأبرمت مع إيران اتفاقية "أخال" التي اعترفت فيها إيران بحق روسيا في مدينة "مرو".

      فتحت السفارة الأمريكية في طهران عام 1300 هـ/ 1882 م، وظفرت خمس عشرة دولة أجنبية بحقوق وامتيازات لرعاياها المقيمين في طهران خلال الفترة من 1272هـ/ 1855م و 1318 هـ/ 1900 م، وقد بذل ناصر الدين شاه جهده لخدمة بلاده ولكن الظروف كانت أقوى من أن تقاوم مقاومة فعالة.

      وقد زار ناصر الدين شاه أوربا مرتين ورجع مقتنعاً بأن إيران في حاجة إلى الاقتباس من الحضارة الأوربية حتى تستطيع أن تتخذ مكانها في العالم الحديث إلا أن الامتيازات التي منحها للدول الأجنبية جعلت الفائدة التي تعود على إيران قليلة.

      بذل ناصر الدين شاه جهداً كبيراً لتحسين نظم القضاء والإدارة العامة وتحديث البلاد وكان يواجه في ذلك بمعارضة من علماء الدين.

      قتل ناصر الدين شاه عام 1314 هـ/ 1896 م وتولى مكانه ابنه مظفر الدين شاه الذي انصرف إلى رحلات السياحة في أوربا التي تكلفت مبالغ باهظة تركت الخزانة العامة خاوية دائماً وبينما كان رجال البلاط وكبار الموظفين يكدسون الأموال كانت جماهير الشعب تعاني من الفاقة، وقد اضطرت الحكومة إلى أن تطلب قرضاً من روسيا عام 1318 هـ/ 1900 م قدره 22 مليون روبل بفائدة قدرها 5% على أن يخصص جزء منه لسداد الديون الأجنبية وأن لا تقترض إيران من دولة أخرى حتى يتم سداد القرض، وقد ضمنت الجمارك الإيرانية أداء هذا القرض، ولم يبق من القرض الروسي بعد دفع نفقات زيارة الشاه لأوربا وسداد قرض المصرف الإمبراطوري وتسوية بعض الالتزامات إلا مبلغ ستة ملايين روبل فقط، فطلبت إيران من روسيا قرضاً آخر، فقدمت لها قرضاً بمبلغ عشرة ملايين روبل.

      في عام 1319 هـ/ 1901 م أبرمت روسيا وإيران اتفاقية جمركية نصت على فرض رسوم جمركية بسيطة على البضائع الواردة من روسيا، وعلى فرض رسوم جمركية مرتفعة على البضائع الواردة من الدول الأخرى.

      قامت الثورة الدستورية في إيران بقيادة بعض علماء الدين والشباب الذين تأثروا بالأفكار التحررية القادمة من الغرب مؤيدين بالتجار والأشراف، ووصلت حركتهم إلى ذروتها عام 1324 هـ/ 1906 م مما جعل الشاه يعد بالقيام بالإصلاحات، وعندما استمر الضغط عليه أعلن الدستور في أغسطس 1906 م وسرعان ما تكون أول برلمان تعهد بمعالجة كثير من المشاكل.

      توفي مظفر الدين شاه في يناير 1907 م (1324 هـ)، وتطلع ابنه "محمد علي شاه" إلى الاستفادة من الخصام بين طبقات النواب ليستعيد سلطته المطلقة، وكان التجار قد بدأوا يظهرون عدم الاهتمام بوجود البرلمان، فامتنعوا عن مده بالأموال اللازمة، وكان علماء الدين قد انقلبوا عليهم بعد أن فشلوا في السيطرة على الحكومة الجديدة، كانت بريطانيا تساعد الدستوريين في المطالبة بوضع حد للنفوذ الروسي إلا أنها سرعان ما عقدت معاهدة مع روسيا عام 1907 م تضمنت نصوصاً تتعلق بإيران حيث اتفق الطرفان على احترام سيادتها واستقلالها وتقسيم مناطق النفوذ فيها فخضع القسم الشمالي للنفوذ الروسي والقسم الجنوبي الشرقي للنفوذ البريطاني وقد مدت بريطانيا نفوذها إلى المنطقة الواقعة بين المنطقتين لتأمين الطريق إلى الهند.

      في يونيو 1908 م (1326 هـ) ضربت فرقة القوازق الإيرانية بقيادة الكولونيل "لياكهوف" مبنى البرلمان بالقنابل وأحدثت وفيات عديدة، ثم أعلن الشاه حل البرلمان، إلا أن الثوار استولوا على مدينة تبريز حتى قامت قوة روسية بقمعهم.

      تجمعت قوات ثورية في رشت وأصفهان بقيادة أحد القواد القبايين وتقدمت نحو طهران وهزمت فرقة القوازق الإيرانية ودخلت المدينة في يولية 1909 م/ 1327 هـ لجأ محمد علي شاه إلى السفارة الروسية ثم هرب إلى روسيا، وعين البرلمان الذي أعيد افتتاحه من جديد ابنه أحمد شاه ملكاً على إيران وكان في الحادية عشرة من عمره.

      تقدمت القوات الروسية المعسكرة في شمال إيران إلى قزوين بعد قتل كثير من الثوار في تبريز، وعند قيام الحرب العالمية الأولى صارت إيران مرتعاً للحلفاء.

      بعد الحرب رفض مؤتمر الصلح مطالب إيران، وقد عقدت معاهدة عام 1338 هـ/ 1919 م وعدت بريطانيا في نصوصها باحترام استقلال إيران ومدها بالمستشارين والخبراء العسكريين والأسلحة والمعدات والقروض وإنشاء السكك الحديدية وإعادة النظر في الاتفاقات الجمركية، لكن هذه المعاهدة لم تطبق تحت الضغط الشعبي، كما أبرمت إيران وروسيا السوفيتية معاهدة عام 1340 هـ/ 1921 م ألغت بها المعاهدات السابقة، وأسقطت روسيا جميع الديون التي كانت على إيران وتنازلت عن جميع الامتيازات الروسية، ومنحت إيران حقوقاً ملاحية في بحر قزوين مساوية للروس، كما نصت المعاهدة على أن تمنع كل من الدولتين أي نشاط داخل أراضيها يكون معادياً للدولة الأخرى، وأن لروسيا الحق في إرسال قواتها عبر إيران دفاعاً عن نفسها ضد أي تهديد مباشر من أية دولة أخرى.

عهد الدولة البهلوية

      ولد رضا خان في 16 مارس 1878 في "سوادكوه" بإقليم مازندران الواقع على بحر قزوين والتحق بفرقة القوازق الإيرانية، واستطاع أن يصل إلى قيادتها، وزحف بقواته من قزوين إلى طهران، واحتل المدينة، وكان السيد/ ضياء الدين طباطبائي ابن أحد الزعماء الدينيين رئيساً للوزراء وكان يحاول القيام بإصلاحات معينة لكنه اصطدم برضا خان الذي أصبح قائداً عاماً للقوات المسلحة ووزيراً للحربية فاضطر طباطبائي للاستقالة وترك إيران، وقد ظل رضا خان وزيراً للحربية في عدة وزارات متتالية حتى عام 1923 م حيث أصبح رئيساً للوزراء، وبعد ذلك بأشهر قليلة ترك "أحمد شاه" آخر ملوك الدولة القاجارية إيران إلى المنفى الاختياري.

      في عام 1925 م اختارت جمعية تأسيسية رضا خان ملكاً على إيران كأول ملك للدولة البهلوية، وتوج في ربيع عام 1926م.

      عمد رضا شاه إلى تنفيذ عدد من الإصلاحات الداخلية فأمر بتعديل بعض النظم الإدارية والاقتصادية وفقاً للنظم الغربية واتجه إلى إعادة بناء الجيش والاتجاه للتصنيع، كما ألغى نظام الامتيازات الأجنبية، ووضع حداً للاقتراض من الدول الأجنبية، وسلب حق إصدار العملة الإيرانية من المصرف الإمبراطوري الذي تملكه بريطانيا، وألغى الاتفاق المعقود مع شركة البترول الإنجليزية الإيرانية واستبدله باتفاق أكثر نفعاً لإيران، وقضى على كل مظاهر الشيوعية لكن هذا لم يمنعه من إقامة علاقات تجارية واقتصادية مع روسيا السوفيتية فأبرم معها خمسة مواثيق عام 1927 م وعدد آخر من المواثيق عام 1935 م تتعلق بحقوق صيد السمك في بحر قزوين وإعادة بعض المنشئات على ميناء بهلوي المطل على بحر قزوين إلى إيران، والرسوم الجمركية والعلاقات التجارية وضمانات الحياد والأمن.

      وقام رضا شاه بإعادة بناء النظام الاجتماعي فألغى استعمال الألقاب واستبدل القانون الديني بالقوانين المدنية والجنائية، وأنشئت المكاتب لتسجيل الزواج والطلاق، وتحسن موقع المرأة في المجتمع، ومنع الدروشة في الاحتفالات الدينية.

      استقدم رضا شاه المتخصصين من الأجانب لتنفيذ برنامج التصنيع والإصلاح المالي لهذا الغرض، وعقدت اتفاقيات المقايضة والتبادل التجاري بين إيران وكل من ألمانيا وروسيا السوفيتية.

      كانت الأرباح الناتجة عن الاحتكار والضرائب العادية والاستثنائية تمول الاعتمادات الخاصة بإنشاء الصناعات، وإنشاء السكك الحديدية، وتعبيد الطرق واستيراد السيارات، لكن رضا شاه أهمل الزراعة وطرق الري، كما عمل على جمع المال وامتلاك الأراضي، وقد كان صارماً مع البرلمان، واستعمل الجيش في إخماد روح التمرد، فانعدمت حرية الصحافة وسادت روح الدكتاتورية على المجتمع الإيراني.

      عندما قامت الحرب العالمية الثانية كانت ألمانيا حتى عام 1938 قد ظفرت بالمكان الأول في تجارة إيران الخارجية، وقد أثار النشاط الألماني في إيران شعور بريطانيا وروسيا بضرورة اتخاذ خطوات سريعة لتأمين مصالحها في إيران.

      في 26 أغسطس عام 1941 م هاجمت القوات الروسية إيران من الشمال الغربي، ودخلت القوات البريطانية إيران من ناحية الحدود العراقية، كما أنزلت قوات على رأس الخليج، وقامت السفن البريطانية بهجوم مباشر على القوات البحرية الإيرانية في خرمشهر، فأغرقت جميع السفن الإيرانية وأحدثت خسائر فادحة في الأرواح، وانهارت المقاومة الإيرانية، فاضطر رضاشاه للتنازل عن العرش، وخرج من إيران تحت حراسة بريطانية إلى جزيرة "موريتيوس" ثم إلى جنوب أفريقيا حيث توفي هناك عام 1944م.

      خلف محمد رضا أباه على عرش إيران، وأسندت الوزارة إلى "محمد علي فروغي" الذي وقع معاهدة ودية مع الحلفاء تؤيد متابعة الحرب ضد ألمانيا في 29 يناير عام 1942 م، ولم يكد يحل ربيع عام 1942 م حتى كانت العلاقات الدبلوماسية قد قطعت مع ألمانيا وإيطاليا واليابان وأخرجت جالياتها من إيران، وفي 9 سبتمبر عام 1943 م أعلنت إيران الحرب على ألمانيا، كما أعلنت تمسكها بميثاق هيئة الأمم المتحدة.

      في آخر نوفمبر عام 1943 م جاء روزفلت وتشرشل وستالين إلى إيران لحضور مؤتمر طهران، وكان ميثاق طهران ذا أهمية حيوية للإيرانيين حيث اعترف المتحالفون فيه بالمساعدة التي قدمتها إيران في الحرب، ووافقوا على تقديم المساعدة الاقتصادية لإيران، كما عبروا عن رغبتهم في رعاية استقلال إيران وسيادتها وسلامة حدودها.

      بدأت الانتخابات البرلمانية أوائل عام 1947 م، واجتمعت الدورة الخامسة عشرة للبرلمان في 17 يولية 1947 م، واختارت في 30 أغسطس "أحمد قوام" رئيساً للوزراء.

      لم يلبث "أحمد قوام" أن استقال تحت ضغط الديمقراطيين الإيرانيين في البرلمان حيث فشل في الحصول على قرار بالثقة لوزارته في 10 ديسمبر، واختار البرلمان "إبراهيم حكيمي" في 21 ديسمبر رئيساً للوزراء، فأظهرت وزارته نشاطاً محدداً في معالجة مشاكل الميزانية وسلسلة الإصلاحات الطويلة.

      في 10 فبراير 1948 م وافق البرلمان الإيراني على قانون يوصي بشراء ما قيمته عشرة ملايين دولار من المهمات الحربية الأمريكية لتحسين مهمات قوات الأمن، كما وافق على مشروع قانون يمنع التجار الأجانب من استيراد البضائع، وكذلك مشروع قانون يوصي الحكومة باستعادة السيادة الإيرانية على جزيرة البحرين، وقد قدم مشروع قانون يقترح إنشاء مجلس للشيوخ وكان الدستور قد تضمنه، إلا أن هذه الدورة البرلمانية قد فشلت في مواجهة مسؤولياتها إزاء قلة مشروعات القوانين التي أقرتها.

      في يونية 1948 م تولت إدارة البلاد وزارة جديدة برئاسة عبد الحسين هزير إلا أنه قتل عام 1949 م فاستقالت الوزارة، وأصبح "محمد ساعد" رئيساً للوزارة، في 4 فبراير 1949 م وقعت محاولة فاشلة لاغتيال الشاه اعتبر حزب توده مسؤولاً عنها فهرب زعماؤه وحوكم الباقون وسجنوا.

      ظهرت الجبهة الوطنية بقوة على مسرح الأحداث عندما فشلت وزارة "رزم آرا" ـ التي تولت بعد ذلك ـ في معالجة أزمة النفط وعدم نجاح المفاوضات التي دارت بينها وبين شركة النفط الإنجليزية عام 1989 م، وكانت الجبهة تدعو إلى تأميم النفط.

      تم تعيين "محمد مصدق" زعيم الجبهة الوطنية رئيساً للوزراء في 28 أبريل عام 1951 م، رفض مصدق التفاوض مع الإنجليز، ورفض بعثة ستوكس البريطانية واقتراحات بعثة هاريمان وعروض الوساطة من تشرشل وترومان وايزينهاور والبنك الدولي ورفض التحكيم من قبل هيئة عالمية، ورفض في برنامجه التوازن السلمي إعطاء أية تنازلات لأي طرف.

      كانت الحركة الثورية لتأميم البترول قد بدأت من مدينة قم بزعامة آية الله أبو القاسم الكاشاني عندما أطلق صيحته المشهورة: "أيها الكلاب الإنجليز اتركوا لنا بترولنا وأخرجوا من بلادنا"، ثم قام على رأس مظاهرة عارمة قاصداً البرلمان الذي كان يناقش قضية التأميم. وقد وقف الزعيم الوطني "محمد مصدق" في البرلمان عقب اغتيال "رزم آرا" رئيس الوزراء الحديدي ـ على يد نواب صفوي زعيم منظمة فدائي إسلام ـ ليعلن تأييد الأمة لآية الله كاشاني ويقول: "افهموا جميعاً أننا هنا نمثل الأمة ونحن أصحاب الكلمة العليا".

      قام مصدق فور توليه رئاسة الوزراء بإعلان تأميم البترول الإيراني إلا أن الغرب تكتل ضده وساعد الجنرال زاهدي في القيام بانقلاب ضد حكومة مصدق، يعرف بانقلاب 28 مرداد وهزم مصدق وعاد الشاه من الخارج ليمسك بزمام الأمور بقوة.

      حاول الشاه القيام بعدد من الإصلاحات الأساسية فعمد إلى توزيع الأراضي الزراعية الملكية على الفلاحين على أن يستغل الأموال الناتجة عن بيع هذه الأراضي بأسعار رمزية في إقامة صناعات زراعية وإنشاء جمعيات تعاونية تعمل على مساعدة الفلاحين، وكان هذا الإجراء خطوة نحو إعلان الثورة البيضاء أو ثورة الشاه والشعب.

      قام الشاه خلال الثورة البيضاء بتحويل النظام الإقطاعي إلى نظام تعاوني وبيع أسهم الحكومة في المصانع للعمال، وتأميم الغابات والمراعي ومصادر المياه، وإشراك العمال في أرباح المصانع، وتعديل قانون الانتخاب، وإنشاء كتائب التعليم وكتائب العلاج وكتائب التعمير، كما أحدث تغييرات في النظام الإداري، وأنشأ لجنة وزارية لمحاربة الفساد، ووضع قانون التأمينات الاجتماعية، ثم قام بدمج الأحزاب السياسية في حزب واحد له أجنحة هو "حزب النهضة" (رستاخير) ليكون مظهراً لوحدة قوى الشعب، إلا أن الشاه لم يحقق بثورته البيضاء إنجازاً حاسماً، بل إنها أدت إلى أحداث التمرد في أوائل يونيو عام 1963م وقد عرض الدكتور أبو الحسن بني صدر نقداً تفصيلياً للثورة البيضاء في كتابه "إيران غربة السياسة والثروة".

      عندما أدرك الشاه أن فكرة الثورة البيضاء قد استنفذت أغراضها بدأ يعلن عن فكرته الجديدة في الإدارة، وهي فكرة "الحضارة العظيمة" وقد أصدر كتاباً شرح فيه أسس هذه الفكرة ومقوماتها ووسائل تطبيقها في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية والتعليمية مؤكداً أن هدفها الوحيد هو الارتقاء بإيران وتوفير السعادة والرخاء لشعبها.

      مضى الشاه "محمد رضا" قدما في تنفيذ خطته فبدأ بعمل تغييرات في القيادات، فأقال وزارة "أمير عباس هويدا" الذي ظل في منصب رئيس الوزراء منذ عام 1965 م وحتى عام 1977 م وهي أطول فترة لرئاسة الوزارة في عهد الشاه "محمد رضا"، وتقديراً لمواهبه عينه وزيراً للبلاط واختار "جشميد آموزكار" رئيساً للوزراء، فمضى في سياسة الانفتاح الداخلي حيث رفع الرقابة عن الصحف وأطلق سراح المئات من المسجونين السياسيين، كما ضمن حرية الانتخابات.

      شكل الشاه لجنة لتقصي الحقائق برئاسة هوشنج نهاوندي منسق الجناح الثالث في حزب رستاخيز، وقد فجر التقرير الذي نشرته  اللجنة الموقف بين الاتجاهات السياسية في إيران، وأوصى التقرير بوضع خطة منضبطة للإنفاق العام مع وضع أولويات للبرامج الدفاعية والثقافية والتعليمية، وإعادة النظر في الاعتمادات الاستهلاكية، وفي السياسة الضريبية، وحل الغرفة التجارية، وإلغاء قوانين الاحتكار في الاستيراد، وتعديل اللوائح الجمركية، والإسراع في معدل تنفيذ المشروعات، وإلغاء كافة المعوقات.

      وقد أدى هذا التقرير إلى تشقق تحالف السلطة وساعد على ظهور موجة من الاعتراض ضد الحكومة قادها علماء الدين، وقد اشترك الطلاب والمحامون في هذا الاعتراض، ومع فشل الحكومة في معالجة التضخم الاقتصادي بدأت مظاهر الاعتراض على الحكومة تتخذ شكلاً أكثر عنفاً ومظاهرات عدائية للحكومة أدت إلى اشتباكات بين الشرطة والمتظاهرين، ومع نشاط قوات الأمن والشرطة، في تعقب المتظاهرين بدأت موجة من التخريب والإحراق، وقد حاول الشاه أن يمتص هذا التمرد بتأكيده على منح الحريات إلى القدر الذي تتمتع به الدول الأوربية.

      مضى الشاه في تنفيذ ما وعد به فأقال الحكومة واختار "شريف إمامي" رئيس مجلس الشيوخ لتشكيل الحكومة الجديدة من عناصر معتدلة لتكون حكومة مصالحة وطنية وما لبثت هذه الحكومة أن أعلنت عن أهدافها مثل تنفيذ القوانين الإسلامية، محاربة الفساد، إقرار الديمقراطية، حرية الانتخابات، حرية نشاط الأحزاب، عدم التدخل في السلطة القضائية، الاهتمام بالشباب والجامعات، تدعيم الزراعة، دعم الخدمات، القضاء على الروتين، تدعيم السلطة التشريعية، كما أعلنت إلغاء التقويم الإمبراطوري والعودة للتقويم الهجري الشمسي، وإغلاق الحانات ونوادي القمار.

      اتضح أن حكومة شريف إمامي لم تكن حكومة تغيير ثوري أو شامل لأن رئيس الوزراء كان من رجال الشاه وتدرج في مناصب حكومية كثيرة في عهد الشاه فبدأ حياته السياسية وكيلاً لهيئة السكك الحديدية، ثم رئيساً لهيئة الري في وزارة "قوام"، ثم وزيراً للطرق في حكومة "رزم آرا"، ثم مديراً لهيئة التخطيط في حكومة "زاهدي"، ثم وزيراً للصناعة والمعادن، ثم رئيساً للوزراء عام 1960 م، ثم رئيساً لمؤسسة بهلوي عام 1962 م، ثم رئيساً لمجلس الشيوخ منذ عام 1963 م، لمدة خمس عشرة سنة، لذلك فهو رغم انتمائه لأسرة من علماء الدين إلا أنه انغمس في السياسة، وقد اختاره الشاه للاستفادة من خبرته السياسية في مواجهة الموقف المتوتر من ناحية وإرضاء لعلماء الدين المناهضين للنظام من ناحية أخرى.

      بدأت حكومة "إمامي" نشاطاً مكثفاً من أجل تهدئة الأمور واحتواء الأزمة فاتصلت بعلماء الدين ولم تجد استجابة كافية، واتصلت بزعماء الجماعات السياسية المعتدلة إلا أن الظروف لم تمهلها حيث زادت المظاهرات التي تتسم بالعنف وشملت العديد من المدن، ومع ازدياد حركة المعارضة قامت الحكومة بكثير من التغييرات في المناصب الكبيرة شملت عدداً من المحافظين ورؤساء الجامعات وضباط أجهزة الأمن والشرطة، إلا أن سخونة الأحداث أدت بالحكومة إلى إعلان الأحكام العرفية وتعيين حكام عسكريين في طهران وإحدى عشرة مدينة أخرى.

      مع تدخل العسكريين من أجل مواجهة الفوضى والمحافظة على الأمن والاستقرار في إيران زادت نظرة السخط والكراهية للحكومة والنظام مما أدى إلى فشل التدخل العسكري في إنهاء الاضطرابات، وقد اعترف القادة العسكريون أنفسهم بهذا الفشل.

      استطاع علماء الدين أن يكونوا مسموعي الكلمة بين أوساط الشعب المختلفة، وكانت الحكومة تضع تصريحاتهم موضع الاعتبار وتحرص على إرضائهم، فأطلقت سراح آية الله طالقاني وآية الله منتظري وسمحت لآية الله طباطبائي بالعودة إلى إيران، كما وعدت بالتفاوض مع آية الله الخميني حول عودته إلى إيران من المنفى.

      بدأ نشاط آية الله الخميني بعد أن رفعت السلطات العراقية الخطر عنه فغادر العراق إلى باريس في 5/10/1978م وأصدر أول بيان له من باريس بعد وصوله بثلاثة أيام يشجع فيها الطلاب المضربين ويهاجم حزب توده والدول الكبرى لمحاولتها التدخل في الشؤون الداخلية لإيران.

      ويعد التقاء المهندس "مهدي بازر كان" زعيم لجنة الدفاع عن حقوق الإنسان مع آية الله الخميني في باريس بداية العمل المنظم للجبهة التي تكونت بزعامة الخميني للعمل على إسقاط النظام الحاكم، وقد انضم إليها جبهة إيران الوطنية بزعامة "كريم سنجابي"، وصار مطلب هذا التكتل هو إقامة حكومة إسلامية كحل وحيد للخروج من هذه الأزمة.

      كاد يحدث تصدع في الائتلاف الخميني عندما أعلن آية الله الخميني مطالبته بأن تكون إيران جمهورية إسلامية حيث لم ير علماء الدين المعتدلين وعلى رأسهم "آية الله شر يعتمداري" في ذلك أمراً ملحاً وكانت الجبهة الوطنية أميل إلى رأي شر يعتمداري في حين استصوب "آية الله طالقاني" الفكرة ومعه اليساريون، إلا أن تصرفات الحكومة غير المتزنة جعلت المترددين يلتفون حول الخميني.

      حاول الشاه التفاهم مع زعماء المعارضة من أجل الاتفاق على رئيس وزراء قوي يخرج البلاد من هذه الأزمة في الوقت الذي أعلن فيه الخميني طرد كل من يتفاوض مع الشاه من ائتلاف المعارضة والحركة الإسلامية.

      نجح الشاه في الاتصال بالرجل الثاني في الجبهة الوطنية وهو "شابور بختيار" وكان وزيراً في حكومة "مصدق" بعد فشل الاتفاق مع "كريم سنجابي" زعيم الجبهة، وقد طلب بختيار من الشاه أن يوافق على تشكيل مجلس وصاية ينوب عنه وأن يقوم الشاه بمغادرة البلاد في عطلة. وعلى أثر قبول "بختيار" رئاسة الوزراء حدث انشقاق في الجبهة الوطنية فأصبحت جناحين أحدهما برئاسة "سنجابي" والآخر برئاسة "بختيار"، ورغم تعهد بختيار بالإصلاح وتطبيق الملكية البرلمانية وفق دستور عام 1906 م إلا أن المعارضة رفضت التعاون معه، وأعلن الخميني طرده من الحركة الإسلامية، مما أدى إلى تصاعد الصراع بين النظام والمعارضة فاضطر بختيار إلى الاستعانة بالجيش لإعادة الهدوء والنظام والأمن فنزلت وحدات من القوات المسلحة إلى الشارع فطلب علماء الدين وزعماء المعارضة من الجماهير النزول إلى الشارع تصدياً للاستبداد، وقد وجدت هذه الدعوة استجابة سريعة فتجمع في ميدان الجيش "سبه" وما حوله بطهران أكثر من مليوني شخص من الرجال والنساء والأطفال، افترشوا الأرض وأحرقوا إطارات السيارات، وأخذوا يقذفون قوات الجيش بالحجارة، وقد اضطر الجيش في النهاية إلى إطلاق النار على الجماهير لإرعابها فسقط كثير من الضحايا دون أن يؤثر ذلك في الجماهير، بل زاد من غضبها فأذعن الجيش وأوقف إطلاق النار.

عودة الخميني وإعلان نجاح الثورة الإسلامية (22 بهمن 1357هـ. ش/ فبراير 1979م)

      أصبحت الظروف مواتية لعودة آية الله الخميني إلى إيران رغم أنف الحكومة واعترض بختيار رئيس الوزراء، إلا أن الخميني صمم على العودة، وقد قام أنصاره باتخاذ التدابير الكفيلة بحمايته وسط هذه الاضطرابات، وأذعن بختيار في النهاية.

      كان الخميني قد شكل مجلساً لقيادة الثورة الشعبية الإسلامية خلال فترة وجوده في باريس تحت رئاسته يضم آية الله مرتضى مطهري، والمهندس مهدي بازركان، والدكتور يد الله سحابي، وآية الله بهشتي، وآية الله موسوي أردبيلي، وحجة الإسلام محمد جواد باهنر، وحجة الإسلام هاشمي رفسنجاني، ثم انضم إليه بعد ذلك آية الله مهدوي كنى، وآية الله طالقاني، وآية الله خامنه اي.

      عند وصول الخميني شكل مجلس قيادة الثورة عدة لجان لمواجهة المشاكل، كان أهمها لجنة الوقود التي بادرت برئاسة رفسنجاني إلى حل مشكلة الوقود وتنظيم إدارة إضراب عمال النفط، فضلاً عن لجان الإضراب والمسيرات والدفاع والأمن وغيرها.

      وقد أعلن مجلس قيادة الثورة عن تشكيل حكومة مؤقتة برئاسة المهندس مهدي بازركان تضم زعماء الحركات الوطنية التي شاركت في الثورة، وكانت على النحو التالي: كريم سنجابي للخارجية ـ داريوش فروهر للعمل ـ عباس أمير انتظام نائباً لرئيس الوزراء للشؤون الإدارية والعلاقات ومتحدثاً رسمياً ـ إبراهيم يزدي نائباً لرئيس الوزراء لشؤون الثورة، أحمد حاج سيد جوادي للداخلية ـ على أردلان للاقتصاد والمالية ـ أسد الله مبشري للعدل ـ عباس تاج للطاقة ـ علي محمد ايزدي للزراعة ـ رضا صدر للتجارة ـ كاظم سامي للصحة والبيئة ـ يد الله سحابي وزير دولة للتخطيط الثوري ـ أحمد مدني للدفاع ـ سيد أحمد ميناجي للإعلام والسياحة ـ مصطفى كتيرائي للنقل والطرق ـ معين فر للصناعة والتعدين ـ هاشم صباغيان وزير دولة ـ الله ولي قره ني قائد للقوات المسلحة ـ اللواء ناصر مجللي رئيساً للشرطة ـ حسن نزيه رئيساً لشركة البترول الوطنية ـ صادق قطب زاده رئيساً للإذاعة والتليفزيون.

      اضطر شابور بختيار إلى ترك الحكم والسفر خارج البلاد، واضطر الشاه للبحث عن منفى اختياري، وبدأ كل من مجلس قيادة الثورة الإسلامية والحكومة المؤقتة برئاسة بازركان ممارسة عمله في إدارة شؤون إيران والإعداد لاستفتاء شعبي حول نظام الحكم واختيار رئيس للبلاد، وقد كان السؤال الوحيد الذي طرح في الاستفتاء على نظام الحكم هو: هل توافق على إقامة جمهورية ديمقراطية إسلامية أم لا؟، وقد باركت كافة الجماعات السياسية هذا الاستفتاء بما فيها حزب "توده" وأعلنت جماهير الشعب عن رأيها بالموافقة.