إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / إيران.. التاريخ والثورة (الثورة الإيرانية من وجهة النظر الإيرانية)




هاشمي رافسنجاني
محمود أحمدي نجاد
محمد رضا بهلوي
محمد علي رحماني
محمد علي رجائي
آية الله منتظري
مير حسين موسوي
الإمام آية الله الخوميني
سيد محمد خاتمي
سيد علي خمنة آي





المبحث الثالث

المبحث الثامن

أبعاد الأزمة النووية وتطورها (2002 – 2009)

تتميز الأزمة النووية الإيرانية، التي بدأت منذ أواخر عام 2002، بسمات متميزة تماماً عما سبقها. فعلى الرغم من أن البرنامج النووي الإيراني كان موضوعاً للتقييد والتضييق من جانب الولايات المتحدة الأمريكية والكثير من القوى الغربية، منذ قيام الثورة الإسلامية في عام 1979، بهدف منع إيران من مواصلة تطوير قدراتها النووية، فإن كلّ الخطوات الأمريكية، كانت تتحرك تحت تأثير مجموعة من الشكوك والهواجس التي لم يكن لها ما يؤكدها في الواقع. وما حدث منذ أواخر عام 2002 يتمثل في اكتشاف قيام حكومة إيران ببناء منشأتَين سريتَين، الأولى لتخصيب اليورانيوم بالقرب من مدينة "ناتنز"، والثانية لإنتاج الماء الثقيل بالقرب من مدينة "آراك" الواقعة غرب طهران. وهو ما وفر للولايات المتحدة الأمريكية أدلة عملية على حدوث ما يمكن أن يُعَد انتهاكاً من جانب إيران لالتزاماتها بموجب معاهدة منع الانتشار النووي.

هذا التطور كان تطورا حاسماً وبالغ الأهمية، لكونه أول دليل في نوعه على وجود مكون سري في البرنامج النووي الإيراني؛ ولأنه يمثل انتهاكاً لالتزامات إيران بموجب معاهدة منع الانتشار النووي، والتي تفرض ضرورة خضوع كلّ الأنشطة النووية للدول الأعضاء لرقابة وتفتيش الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وضرورة  الحصول على موافقتها على إنشاء معامل لتخصيب اليورانيوم، وإشرافها الكامل على أنشطة التخصيب في الدول الأعضاء. ونظراً إلى محورية هذا التطور في الأزمة الممتدة في شأن البرنامج النووي الإيراني، فقد تلقفـت الإدارة الأمريكية هذا الاكتشاف المثير، وجعلته موضوعاً لحملتها السياسية العارمة ضد إيران.

عنصر جديد في الأزمة النووية طرأ مع اكتشاف مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، في أغسطس 2003، آثاراً مشعة بدرجة عالية في عينات مأخوذة من البيئة في إيران؛ ما عُدَّ دليلاً على أن إيران تقوم بتخصيب اليورانيوم دون إبلاغ الوكالة، حيث أظهر تحليل هذه العينات وجود مستويات لتخصيب اليورانيوم، بصورة تصل إلى المستويات الموجودة في المواد المستخدمة في إنتاج السلاح النووي. وكانت مستويات الإخصاب مرتفعة بدرجة تثير  قلق الوكالة. وهو ما زاد الشكوك الأمريكية والدولية في أن الطموحات النووية الإيرانية تتجاوز الاستخدامات السلمية لها.

أولاً: أبعاد الأزمة ودوافعها

جاءت بدايات الأزمة النووية الإيرانية مع إعلان ما يعرف بــ " المجلس الوطني الإيراني للمقاومة "، وهو أحد فصائل المعارضة الإيرانية في المنفى "، معلومات عن قيام إيران ببناء منشأتَين نوويتَين في منطقتي آراك  وناتنز، لتخصيب اليورانيوم بعيداً عن رقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية؛ وذلك من أجل صنع الأسلحة النووية. وقد اكتسبت هذه الاتهامات قدراً من الصدقية من خلال ما أظهرته صور الأقمار الصناعية الأمريكية، من أن الجانب الإيراني أقام  جدراناً أسمنتية سميكة تحت الأرض، فيما كان يوحى  بأن الجزء الأكبر من هاتَين المنشأتَين  سوف يكون تحت الأرض، سواء لضمان السرية والابتعاد عن عمليات التفتيش من جانب الوكالة الدولية للطاقة الذرية، أو من أجل تحصين هاتَين المنشأتَين في مواجهة أيّ هجمات معادية على هذا الموقع.

وقد زعم المسؤولون الأمريكيون أن إيران حاولت إخفاء هاتَين المنشأتَين المهمتَين، من طريق بناء مرافق يقام جزء منها تحت الأرض.

وعقب الكشف عن هاتَين المنشأتَين، كثفت إدارة جورج بوش هجومها على البرنامج النووي الإيراني، مستندة إلى أن هذا التطور يوفر دليلاً لا سبيل إلى إنكاره في شأن نيات إيران النووية. ويؤكد أن الهدف من إقامة هاتَين المنشأتَين يتمثل في الحصول على التكنولوجيا اللازمة لإنتاج مواد انشطارية لصنع الأسلحة النووية، ولا سيما تخصيب اليورانيوم والماء الثقيل. وطالبت الإدارة الأمريكية إيران بأن تقدم لوكالة الطاقة الذرية معلومات كاملة عن تصميم هذه المنشآت، خلال مهلة لا تتجاوز مائة وثمانين يوماً من تاريخ بدء العمل فيها؛ وذلك بموجب نصوص معاهدة منع الانتشار النووي.

وقد انتقدت الإدارة الأمريكية بشدة رفض إيران مراراً طلبات الوكالة الدولية للطاقة الذرية بالسماح لها بزيارة الموقعَين المشتبه فيهما. فقد كان من المفترض أن يقوم المدير العام للوكالة، محمد البرادعي، بزيارة الموقعَين المشتبه فيهما، في منتصف ديسمبر 2002، إلا أن الحكومة الإيرانية أجلت موعد الزيارة  إلى فبراير 2003. وبالتالي، فإن  الإدارة الأمريكية انتظرت التقرير الذي سيرفعه البرادعي إلى مجلس أمناء الوكالة في شأن هذَين الموقعَين. وشددت الإدارة الأمريكية على ضرورة امتثال إيران بشكل كامل آليات عمل الوكالة الدولية للطاقة الذرية، من حيث الالتزام بمعايير الكشف الخاصة بمنع الانتشار النووي، وخاصة التزام الدول الأعضاء بالتصريح المبكر عن منشآتها النووية، وتقديم معلومات تصميم كاملة عن المنشآت الجديدة، في مدة لا تتجاوز 180 يوماً  من تاريخ بدء العمل في إقامتها.

وفي المقابل، كرر المسؤولون الإيرانيون مواقفهم من مسألة البرنامج النووي، والقائمة على الدفاع القوي عن هذا البرنامج، بصفته برنامجاً سلمياً. وأكدوا أنه ليست لدى إيران سياسة سرية في مجال التكنولوجيا النووية، وأن جميع المنشآت التي تستخدمها إيران في التكنولوجيا النووية، هي جزء من البرنامج النووي الإيراني السلمي.

وقد أكد وزير الخارجية، كمال خرازي، أن موقف إيران في المجال النووي  يتسم بالوضوح والشفافية وفق المعاهدات الدولية. وأن المشروعات الواردة في البرنامج النووي الإيراني كانت قد عرضت على الوكالة الدولية للطاقة الذرية، التي أقرت تلك المشروعات ووافقت عليها، وتقوم بالإشراف والرقابة على ما يجرى في المنشات النووية الإيرانية. وكرر خرازي مجدداً ثوابت السياسة النووية الإيرانية، ولا سيما تلك المتعلقة بأن إيران تتبنى خطة طموحاً لبناء محطات للطاقة النووية ومنشآت الوقود النووي على مدى العشرين عاماً المقبلة، بحيث يمكن إيران الوصول  إلى إنتاج نحو ستة آلاف ميجاوات من الطاقة النووية سنوياً، في غضون 20 عاماً.

وبالنسبة إلى الموقعين محل النزاع، فإن الحكومة الإيرانية نفت بشدة اتهامات الإدارة الأمريكية بأن منشأتَي ناتنز وآراك  ربما تستخدمان في صنع أسلحة نووية؛ مع تأكيد أن مهمة هاتَين المنشأتَين تنحصر فقط في تزويد محطات نووية إيرانية قيد الإنشاء حالياً بالوقود. كما أكد المسؤولون الإيرانيون أن بلادهم كانت قد زودت الوكالة الدولية للطاقة الذرية، منذ عدة أشهر، بمعلومات كاملة في شأن موقعَي نانتاز وآراك. ولكنها لم تسمح لمفتشي الوكالة بزيارة الموقعَين؛ إذ إن التفتيش يبدأ مع وصول أول شحنة للمواد النووية إلى المنشأة، وهو ما لم يتحقق حتى مطلع عام 2003. ولذلك، فقد تمثلت الخطوة الأكثر أهمية في الموقف الإيراني في إعلان الحكومة الإيرانية موافقتها على قيام الوكالة الدولية للطاقة الذرية بتفتيش الموقعَين النوويَّين محل النزاع، في فبراير 2003. وأكدت أنها تنتظر زيارة خبراء الوكالة الدولية للطاقة الذرية، لكي تثبت أن الموقعَين النوويَّين محل النزاع ليس لهما أيّ استخدامات عسكرية.

وعلى الرغم من حرص الحكومة الإيرانية على نفي وتفنيد الاتهامات الأمريكية في شأن الموقعَين النوويَّين المشتبه فيهما؛ وحرصها على تنفيذ أهداف السياسة الإيرانية بالوسائل الدبلوماسية، فإن وزير الدفاع، الأدميرال علي شمخاني، لجأ إلى استخدام لغة  القوة من خلال تأكيده أن القوات المسلحة الإيرانية سوف تتصدى بقوة وبأيّ خيار لأيّ هجوم يمس سيادة البلاد؛ وذلك في سياق دفاعه عن البرنامج النووي الإيراني، ومواجهة الشائعات التي تتردد بين الحين والآخر بشأن استعداد الولايات المتحدة الأمريكية أو إسرائيل للهجوم على المفاعل النووي في بوشهر.

وفي الوقت نفسه، قدمت الحكومة الروسية دعماً قوياً للموقف الإيراني. فأكد وزير الطاقة النووية الروسي، ألكسندر روميانتسيف، أن بلاده سوف تواصل تعاونها النووي مع إيران، وسوف تواصل بناء محطة بوشهر للطاقة النووية؛ وهي لا تنتهك بذلك الاتفاقيات الدولية بهذا الخصوص. ونفى روميانتسيف الاتهامات الأمريكية في شأن الموقعَين المشار إليهما، قائلاً إنه لا يمكن أيّ أحد استنتاج نتائج من صور منشورة، ولا مبرر للقلق الذي أبدته الولايات المتحدة الأمريكية في هذا الشأن.

وفي محاولة لوأد هذه الاتهامات الأمريكية، سمحت الحكومة الإيرانية لوفد من الوكالة الدولية للطاقة الذرية، برئاسة مديرها العام، محمد البرادعي، بزيارة منشأتها النووية، في أواخر فبراير 2003، بغرض الوقوف على الأنشطة الحقيقية التي تجري في هذه المواقع. أضف إلى ذلك مطالبة البرادعي لإيران بالتوقيع على بروتوكول إضافي يتيح للوكالة الدولية للطاقة الذرية إمكانيات أكبر في تفتيش المواقع النووية الإيرانية، والحصول على معلومات أكثر عن برنامجها النووي. ولذلك، كان من الطبيعي أن يجري التركيز، في هذه الزيارة بصفة خاصة، في موقع ناتنز المثير للشبهات، والذي كان مفتشو الوكالة يزورونه للمرة الأولى.

غير أن هذه الزيارة لم تؤد إلى تبديد الاتهامات الأمريكية، بل إنها تسببت في ازدياد الشكوك بأن إيران تسعى إلى إنتاج السلاح النووي. فقد وجد مفتشو الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن موقع مدينة ناتنز يضم شبكة صغيرة، تضم مئات من معدات الطرد المركزي لتخصيب اليورانيوم، والمُعَدَّة لإنتاج اليورانيوم المخصب. كما استنتج  المفتشون أن إيران لديها المكونات اللازمة التي تتيح لها إنتاج و تركيب عدد كبير من أجهزة الطرد المركزي الإضافية؛ استناداً إلى أن من غير الممكن أن تكون إيران قد قامت ببناء هذه المنشأة الكبيرة الخاصة بعمليات الطرد المركزي، بدون أن تكون قد اختبرت أولاً بعضها في مواقع سرية أخرى لم يتم إبلاغ الوكالة الدولية بها. وخلص مفتشو الوكالة إلى أن هذه الشبكة من المكائن المسؤولة عن تخصيب اليورانيوم، ربما تكون خطوة أساسية على طريق امتلاك إيران للسلاح النووي.

وقد أظهرت هذه الزيارة كذلك أن البرنامج النووي الإيراني أصبح متطوراً بدرجة كبيرة، حتى إنه قد يكون قادراً على الاستمرار بدون مساعدة أجنبية. لا، بل أصبحت إيران قادرة على صنع بعض الأجهزة الأساسية الخاصة بتخصيب اليورانيوم المطلوب لصناعة السلاح النووي، مثل الجهاز المتعلق بالدوران، والذي يُعَدّ وجوده حيوياً لإجراء عمليات الطرد المركزي لغاز اليورانيوم.

ومما زاد من حدة الأزمة أن الرئيس الإيراني محمد خاتمي كان قد أعلن، في منتصف فبراير 2003، أن إيران تملك احتياطياً ضخماً من خام اليورانيوم؛ وأنها بدأت بالفعل عمليات التعدين في منطقة "شاجاند"، على بعد نحو 200 كيلو متر من مدينة يزد بوسط البلاد. كما أعلن رئيس هيئة الطاقة الذرية الإيرانية، وقتذاك، بدء تنفيذ برنامج طموح للطاقة النووية في إيران، يتضمن معالجة اليورانيوم. وفي الوقت نفسه، أعلن المسؤولون الإيرانيون، في تلك المدة عينها، إعادة العمل في منشأة لتحويل اليورانيوم، تقع بالقرب من أصفهان، وهي منشأة مختصة بإنتاج غاز سداسي فلوريدا اليورانيوم المستخدم في عملية التخصيب.

وقد أثارت هذه المعلومات تقويمات متباينة من جانب الأطراف المعنية : إيران، والولايات المتحدة الأمريكية، والوكالة الدولية للطاقة الذرية. فقد كرر المسؤولون الإيرانيون مجدداً تأكيداتهم أنه ليس هناك أغراض عسكرية وراء برنامجهم النووي. وأنه ليس هناك ما يثير  الشبهات في مواقع ناتنز بصفة خاصة، وهو موقع خاضع للإشراف الدولي، وسوف تحتفظ الوكالة الدولية للطاقة الذرية بأجهزة رقابة  فيه، وسوف تقوم بعمليات تفتيش منظم لتأكيد أنه لن يكون هناك أيّ تحويل لليورانيوم المخصب لأغراض سرية أخرى.

وأكد المسؤولون الإيرانيون أن موقع ناتنز بصفة خاصة سوف يستخدم في إنتاج  يورانيوم مخصب بدرجة قليلة، بغرض استخدامه محلياً في المفاعلات الإيرانية. وقامت المنظمة الإيرانية للطاقة الذرية بفتح محطة الطاقة النووية في بوشهر، التي ما زالت قيد الإنشاء، أمام الصحفيين للمرة الأولى في منتصف مارس 2003، في محاولة لنفى الاتهامات الأمريكية. وبرر المسؤولون الإيرانيون عمليات الإنشاء الجارية في هذا الموقع بأنها تندرج في إطار سعي إيران إلى امتلاك برنامج نووي متكامل يستهدف إنتاج الطاقة اللازمة للشعب الإيراني، من أجل تحقيق الوفر في الثروة النفطية الإيرانية. وكرر المسؤولون الإيرانيون رفضهم التوقيع على البروتوكول الإضافي، الذي يتضمن التزاماً بفتح المنشآت النووية الإيرانية أمام عمليات تفتيش غير محددة الموعد من قبل مفتشي الوكالة.

ولكن الجانب الأمريكي ظل يرفض على الدوام هذه التبريرات الإيرانية. ووجد في هذه التطورات إشارة بالغة الخطر على تطور البرنامج النووي الإيراني. وخلصت أجهزة الاستخبارات الأمريكية من التطورات سالفة الذكر إلى أن البرنامج النووي الإيراني هو أكثر تقدماً مما كان متصوراً من قبل. وأن هذا البرنامج قد أصبح أكثر تقدماً مما كان قد تحقق في المجال النووي في العراق، في النصف الثاني من ثمانينيات القرن العشرين. وكرر مسؤولو الاستخبارات الأمريكية اتهامات سابقة لإيران بأنها تقوم ببناء مفاعل آخر بالقرب من مدينة آراك؛ لإنتاج الماء الثقيل الذي يمكن استعماله في صنع البلوتونيوم. وأشاروا إلى أن إيران تبني لذلك مفاعلاً آخر قادراً على استعمال الماء الثقيل.

ويتبنى المسؤولون الأمريكيون سيناريو افتراضياً عن البرنامج النووي الإيراني، يقوم على أن إيران تسعى أولاً إلى استخراج اليورانيوم من أراضيها أو شرائه من الخارج. ثم يؤخذ هذا اليورانيوم إلى موقع أصفهان، حيث سيتم تحويله إلى غاز يورانيوم الكلوريد الثماني. ويتم بعد ذلك نقل هذا الغاز إما إلى موقع في مدينة ناتنز أو ربما إلى مفاعلات نووية سرية أخرى؛ من أجل تخصيبه إلى درجة تجعله ملائماً للاستخدام في صنع الأسلحة النووية.

وقد وجد المسؤولون الأمريكيون أن المعلومات التي كشفها مفتشو الوكالة الدولية للطاقة الذرية، تشير إلى أن إيران تتقدم بسرعة في مجال امتلاك السلاح النووي. وأنها قد قطعت خطوات مهمة في مجال الطرد المركزي. وقد رفض المسؤولون الأمريكيون الحجة الإيرانية القائمة على أن موقع ناتنز سوف يستخدم في إنتاج يورانيوم مخصب بدرجة قليلة؛ لغرض استخدامه  في مفاعلات توليد الطاقة المدنية التي سوف يتم بناؤها لاحقاً. وارتكز الرفض الأمريكي لهذه الحجة على أن مفاعل بوشهر النووي، الذي يبنيه الروس في مدينة بوشهر الإيرانية، لن يحتاج إلى يورانيوم مخصب بدرجة منخفضة مأخوذ من موقع ناتنز؛ لأن روسيا سوف تزوده بالوقود، إذ سوف تقدم نحو 80 طناً من اليورانيوم، لتكون وقوداً في محطة بوشهر النووية الإيرانية.

ونظراً إلى أن إيران لديها القدرة على بناء مفاعل نووي للأغراض المدنية في ناتنز، حسب مزاعم الاستخبارات الأمريكية، فإنها تستطيع في المقابل أن تطور مفاعلاً نووياً سرياً آخر يقوم بعملية تخصيب اليورانيوم، بعيداً عن الرقابة والتفتيش الدوليَّين.

وفي حين لاحق، حصلت الوكالة الدولية للطاقة الذرية على آثار ليورانيوم مخصب في عينات مأخوذة من البيئة الإيرانية، كانت نسبة التخصيب فيها تناهز 54 %، في أحد المواقع في إيران. وبلغت نسبة التخصيب 36% في تجهيزات، كانت موسكو قد زودت الصين بها، ثم قامت الصين بدورها بتسليمها إلى باكستان، مساعدة لبرنامجها النووي، قبل أن تبيعها شبكة عبدالقدير خان لطهران؛ وهو ما خلق بعداً آخر للأزمة. كما آثار ذلك قدراً أكبر من الشكوك إزاء حقيقة النيات والأنشطة النووية الإيرانية.

ثانياً: عناصر البرنامج الإيراني لتخصيب اليورانيوم

تُعَدّ مشكلة تخصيب اليورانيوم هي المصدر الرئيسي للأزمة النووية بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية وكلّ الأطراف الدولية المعنية. ويتمثل جوهر هذه الأزمة في أن إيران أقدمت على إنشاء محطة لتخصيب اليورانيوم في ناتنز، بدون الحصول على موافقة الوكالة  أو إشرافها؛ علاوة على قيامها بتخصيب كميات من اليورانيوم لمستويات عالية، بدون إبلاغ الوكالة. وهو ما عَدّته الولايات المتحدة الأمريكية والعديد من الدول الغربية أمراً يثير الشكوك في شأن حقيقة دوافع إيران النووية، وطالبتها بوقف هذه الأنشطة.

وفي المقابل، رفضت إيران هذا الطلب، استناداً إلى أن معاهدة منع الانتشار النووي تنص في المادة الربعة  على "حق الدول الأعضاء غير القابل للتصرف في تنمية بحوث وإنتاج واستخدام الطاقة النووية للأغراض السلمية؛ والحق في التبادل الكامل للمعدات والمواد والمعلومات العلمية والفنية لاستخدام الطاقة النووية في الأغراض السلمية ". وينطبق هذا النص بالطبع على الأنشطة كافة المندرجة في إطار الاستخدامات السلمية للطاقة النووية، ومن بينها تخصيب اليورانيوم.

وقد ظلت المعلومات تتكشف بصور تدريجية في شأن حقيقة قدرات إيران في مجال تخصيب اليورانيوم. ومن خلال المعلومات التي حصل عليها مفتشو الوكالة الدولية، صار واضحاً أن البرنامج الإيراني لتخصيب اليورانيوم بواسطة الطرد المركزي. كان قد بدأ منذ عام 1985. ومر بالعديد من المراحل التي تختلف في الحجم ومستوى التطور وطبيعة الأنشطة. وذلك على النحو التالي :

1. المرحلة الأولى: وجرى خلالها الاعتماد على الوحدات التابعة لمنظمة الطاقة النووية الإيرانية في طهران، ولا سيما مركز طهران للأبحاث النووية، الذي يضم مفاعلاً نووياً طاقته 5 ميجاواتات، خاصاً بالأغراض البحثية. وكانت إيران قد حصلت عليه من الولايات المتحدة الأمريكية، عام 1967.

2. المرحلة الثانية: وجرى خلالها نقل الأنشطة الرئيسية في مجال التخصيب إلى شركة كالاي الكهربائية، في عام 1977؛ ولكن مع الإبقاء على بعض الأنشطة في طهران. وتضم شركة كالاي العديد من الأقسام والمباني. وتقوم بالعديد من الأنشطة، بما فيها ورشة كبيرة تقوم بإنتاج مكونات الطرد المركزي، والقيام بأنشطة تخصيب اليورانيوم. وقد اعترف المسؤولون الإيرانيون بالفعل بأن هذه الورشة تقوم بإنتاج مكونات أجهزة الطرد المركزي. ولكنهم أكدوا مع ذلك أنه لم يتم استخدام مواد نووية في تشغيل هذه الورشة أو تجميع أجهزة الطرد المركزي، سواء في كالاي، أو في أيّ موقع آخر في إيران.

3. المرحلة الثالثة: وجاءت مع انتشار محطة ناتنز لتخصيب اليورانيوم، في عام 2002، والتي انتقلت إليها عملية تجميع وحدات الطرد المركزي.

وكان من المخطط أن تتضمن محطة ناتنز ما لا يقل عن 50 ألف وحدة للطرد المركزي، حتى تصبح قابلة للتشغيل على نطاق تجاري، أيْ أن تكون قادرة على إنتاج نحو 500 كجم من اليورانيوم عالي التخصيب لمستويات قابلة للاستخدام في الأغراض العسكرية. وكان من المخطط أن يتم الوصول بالطاقة الإنتاجية لهذه المحطة إلى هذا المستوى، في أوائل عام 2005؛ إلا أن اكتشاف أنشطة هذه المحطة من جانب الوكالة قد حال دون استكمال هذه الخطط.

وقد أجرى الفنيون الإيرانيون تجاربهم الأولى على أجهزة الطرد المركزي في ناتنز، في 25 يونيه 2003، باستخدام غاز اليورانيوم ( يو إف 6 ). ثم قاموا في 19 أغسطس 2003 بإجراء اختبار آخر، مع تطبيق إجراءات الضمانات والسلامة النووية في الحالتَين.

أمّا من حيث الجهات التي تعمل في مجال تحويل اليورانيوم، وهي عملية أولية يتم بموجبها تحويل اليورانيوم الطبيعي الخام إلى غاز ـ فهي تتمثل بالأساس في معمل جابر بن حيان ومنشأة أصفهان. فقد كان معمل جابر بن حيان تلقى، في عام 1991، كميات من اليورانيوم الطبيعي ( ألف كجم من يو إف 6 )، و ( 400 كجم يو إف 4 )، و(400 كجم من يو أو 2). وكانت هذه المسألة موضوعاً لمناقشات مطولة بين الوكالة الدولية والسلطات الإيرانية في شأن مصير هذه الكميات من اليورانيوم. ومن ناحية أخرى، تقوم منشأة تحويل اليورانيوم في أصفهان بأنشطة تحويل الكعكة الصفراء إلى أكسيد اليورانيوم وسادس فلورايد اليورانيوم ومعدن  اليورانيوم. وتخطط منظمة الطاقة النووية الإيرانية لإنشاء مفاعل للماء الثقيل فيها.

وقد اكتشف مفتشو الوكالة الدولية للطاقة الذرية، في فبراير 2004، تصميمات لأجهزة طرد مركزي متطورة، من "طراز بي 2"، لم تكن إيران قد أعلنتها من قبل. وكان مصدرها الأصلي شركة يورينكو، وهي اتحاد شركات ( كونسورتيوم ) بريطاني – ألماني – هولندي. وكانت هذه  التصميمات خاصة بآلة من الجيل الثاني للطرد المركزي. وتُعَدّ أكثر تقدماً من التكنولوجيا التي كانت إيران تستخدمها. كما أثيرت احتمالات بأن تكون إيران قد استفادت من هذه التصميمات من أجل تطوير قدراتها في مجال تخصيب اليورانيوم.

وقد اضطرت إيران من جانبها إلى الاعتراف بأنها حققت بالفعل نجاحاً كبيراً في تكنولوجيا تخصيب اليورانيوم. وأكدت أن التصميمات التي عثر عليها مفتشو الوكالة تستهدف تزويدها باحتياجاتها من الوقود النووي، اللازم لتشغيل المحطات النووية الإيرانية؛ مع تأكيد أن ذلك كله يندرج في إطار الاستخدامات المدنية للطاقة النووية. وقد أكد المسؤولون الإيرانيون، وقتذاك، أن الدافع الرئيسي وراء إصرار إيران على تطوير قدراتها في المجال النووي، يرتبط بالعقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة الأمريكية عليها، منذ أكثر من ربع قرن؛ ما اضطر إيران إلى تطوير قدراتها على تصنيع الوقود النووي من أجل الوفاء باحتياجاتها من الطاقة، للعقود المقبلة.

وفي آن لاحق، أعلنت الوكالة أن إيران أخفت قيامها بإنتاج واختبار البولونيوم. وهو مادة يمكن استخدامها  في التفجيرات النووية، إذ تُعَدّ عنصراً أساسياً يمكن استخدامه  في بدء التفاعل المتسلسل لتفجير نووي. ومع أن هذا العنصر يستخدم في بعض المجالات الصناعية، إلا أنه يمكن استخدامه مع مادة البريليوم لتأكيد أن سلسلة الانفجارات التي تؤدى إلى الانفجار النووي سوف تحدث بالضبط، في التوقيت المطلوب. وقد كررت الوكالة الدولية الاتهامات لإيران بالعثور على آثار يورانيوم مخصب في معدات نووية إيرانية.

وعلى أساس هذه الاكتشافات، أعلن العديد من المسؤولين الغربيين أن الكميات التي أنتجتها إيران من اليورانيوم ربما تصل إلى نحو 37 طناً من معدن اليورانيوم؛ جرى إدخالها إلى عملية التحويل في منشأة أصفهان. كما أشاروا إلى أن إيران أنتجت كمية غير محددة من غاز "يو إف 6 " الذي يستخدم في تخصيب اليورانيوم. وخلصوا إلى أنه إذا حاولت إيران استخدام هذه الكمية من اليورانيوم المخصب، فإنه ربما يكون لديها ما يكفي لصنع ست قنابل نووية.

وقد امتدت المخاوف الأمريكية والغربية إلى الآفاق المستقبلية لبرنامج تخصيب اليورانيوم. فأشار بعض التقارير إلى أن مسؤولي استخبارات غربيين يعتقدون أن لدى إيران خطة لإقامة عشرات الآلاف من أجهزة الطرد المركزي المتقدمة، في منشأتها النووية الضخمة المقامة تحت الأرض؛ الأمر الذي سوف يسمح لها بتخصيب اليورانيوم  بطريقة أسرع مرتَين مما هو متوقع. ومع أن المسؤولين الغريبين الذين أطلقوا هذه المخاوف لم تكن لديهم أدلة دامغة على أن إيران تقوم بالفعل بتصنيع أجهزة الطرد المركزي المعدلة، فإن ما كانوا يستندون إليه في ذلك يتمثل في أن الحكومة الإيرانية نفسها كانت قد أعلنت، في عام 2004، أنها تعتزم استخدام أجهزة الطرد المركزي المتقدمة لاحقاً؛ علاوة على استمرار الأعمال الرامية إلى تطوير منشأة تخصيب اليورانيوم في ناتنز. وتقوم الخطة المزعومة على أن إيران تعتزم إقامة50  ألف جهاز للطرد المركزي في قاعتَين هائلتَين تحت الأرض في ناتنز؛ ما سوف يتيح لإيران في هذه الحالة إنتاج كميات كبيرة من اليورانيوم عالي التخصيب.

أمّا على الجانب الإيراني، فقد دأب المسؤولون الإيرانيون على القول بأن الهدف من السعي إلى امتلاك قدرات في مجال تخصيب اليورانيوم، يتمثل في إنتاج الوقود النووي اللازم لتشغيل المحطات النووية، ولا سيما أن لإيران خططاً طموحاً في هذا المجال. وبالنسبة إلى كميات اليورانيوم التي قامت إيران بتخصيبها بدون علم الوكالة، قال مسؤولون إيرانيون إن هذه الكميات قليلة للغاية، ولا تكفي لإنتاج السلاح النووي؛ وتم تخصيبها لأغراض البحث والتطوير.

ومن أجل تخفيف المخاوف الدولية، أعلنت إيران، في منتصف فبراير 2004، استعدادها لبيع الوقود النووي الذي سوف تنتجه في الأسواق الدولية. وكانت هذه هي المرة الأولى التي تعلن فيها إيران رسمياً قدرتها على إنتاج الوقود النووي بكميات تجارية قابلة للتسويق في الأسواق العالمية. وكان هذا الإعلان محاولة من جانب إيران لتأكيد أن عملية تخصيب اليورانيوم التي تقوم بها  ترتبط بالاستخدامات التجارية المدنية، سواء من أجل تلبية الاحتياجات الوطنية الإيرانية، أو من أجل تصدير الفائض من الإنتاج الإيراني من الوقود النووي.

ولكن هذه التطمينات الإيرانية لم تفلح في تهدئة المخاوف الأمريكية والغربية. وبات المطلب الرئيسي للولايات المتحدة وللكثير من دول الاتحاد الأوروبي، يتمثل في مطالبة إيران بوقف برنامجها لتخصيب اليورانيوم؛ لأنه يثير الشكوك في شأن احتمالات سعي إيران إلى بناء أسلحة نووية؛ ما يُعَدّ بالقطع دليلاً على انتهاك إيران لمعاهدة منع الانتشار النووي؛ علاوة على أن هذا الأمر ربما يتسبب حال حدوثه في انعكاسات إستراتيجية بالغة الخطر؛ لعل أبرزها إشعال حالة من سباق التسلح النووي في الشرق الأوسط.

غير أن إيران ظلت من جانبها تتمسك بحقها في مواصلة أنشطة تخصيب اليورانيوم. ولا تعرض إلا الوقف الجزئي والمؤقت لهذه الأنشطة؛ لمعايير تتعلق بالمفاوضات التي كانت تجرى بين الحين والآخر بين إيران والدول الأوربية، أو بينها وبين مسؤولي الوكالة الدولية للطاقة الذرية. ولم ينف ذلك  أن إيران تحتفظ لنفسها بالحق الكامل في تخصيب اليورانيوم، المسموح به بموجب معاهدة منع الانتشار النووي. وأقصى ما يمكن إيران أن تقدمه في هذا الصدد هو الالتزام بتقديم الضمانات كافة التي تكفل للوكالة الدولية ولكلّ الأطراف الدولية الأخرى، بأنها لن تستخدم الوقود النووي الناجم عن عمليات تخصيب اليورانيوم في أغراض عسكرية.

ثالثاً: الإدراك الدولي للسلوك  الإيراني

المعلومات المتعلقة بقيام إيران بإنشاء موقعَين نوويَّين سريين في ناتنز وآراك، لإنتاج الوقود النووي والماء الثقيل، أدت إلى مضاعفة الشكوك الأمريكية في حقيقة النيات والأنشطة النووية الإيرانية. وكان من أوائل ردود الفعل الأمريكية إزاء هذه المعلومات استحواذ البرنامج النووي الإيراني على أسبقية عليا في اهتمامات الإدارة الأمريكية، ربما بدرجة تفوق الاهتمام ببرامج أسلحة الدمار الشامل العراقية؛ على الرغم من أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تكن قد قامت، وقتذاك، باحتلال العراق.

وارتبط الاهتمام الأمريكي المتزايد بالبرنامج النووي الإيراني بأن المعلومات سالفة الذكر شكلت تأكيداً عملياً لحقيقة الاتهامات التي ظلت الولايات المتحدة الأمريكية توجهها إلى إيران، منذ منتصف تسعينيات القرن العشرين. فقد صرح جون وولف، مساعد وزير الخارجية الأمريكي، عقب إعلان اكتشاف وجود المنشأتَين من جانب ما يعرف بـ " المجلس الوطني للمقاومة " الإيراني، المعارض، في أغسطس 2002، بأن معلومات وزارة الخارجية موافقة لما أعلنه هذا التنظيم المعارض، إذ كان هذان الموقعان معروفَين لأجهزة الاستخبارات الأمريكية، منذ أكثر من عام. ورأى أن ذلك يمثل تأكيداً لمحاولة إيران تنفيذ برنامج متكامل للتسلح النووي، تحت مظلة استكمال دورة وقود نووي كاملة للأغراض السلمية.

وفي بادئ الأمر، اعتقد المسؤولون الأمريكيون أن روسيا هي التي أمدت إيران بالجزء الأكبر من المعدات والمعلومات، التي استخدمتها الأخيرة في بناء منشأتَي ناتنز وآراك؛ وذلك استناداً إلى صور التقطها قمر صناعي تجاري، في منتصف ديسمبر 2002. فقد أظهرت إحداها مصنعاً للماء الثقيل. وأظهرت صورة أخرى منشأة مستقلة لإنتاج اليورانيوم عالي التخصيب. وهو ما دفع وزير الطاقة الروسي ألكسندر روميانتسيف إلى إعلان أن هذه الصور لا تثبت أيّ افتراض في شأن الدور الروسي. إلا أن مسؤولاً من وزارة الدفاع الأمريكية رد على ذلك بتأكيد أن الروس يسهمون في كلّ أوجه البرنامج النووي الإيراني، بما في ذلك إقامة هذه المنشآت الحديثة.

ولكن الجانب الأكثر خطراً من المنظور الأمريكي، يتمثل في أن قيام إيران بإنشاء محطة لتخصيب اليورانيوم، أو حتى قيامها بإعادة معالجة الوقود النووي المستنفد الذي سوف تحصل عليه من روسيا ـ يعنى أن إيران ربما تتأثر خطى كوريا الشمالية. فقد كانت إيران قد  أعلنت تمسكها بحقها في تخصيب اليورانيوم. وهو ما عَدَّته مصادر رسمية وأكاديمية في الولايات المتحدة الأمريكية تحدياً سافراً للمجتمع الدولي، ودليلاً على رغبة إيران في مضاعفة جهودها في مجال إنتاج السلاح النووي.

وقد بدأت الصورة تتضح بصورة تدريجية مع زيارة وفد الوكالة الدولية للمنشآت النووية الإيرانية، في فبراير 2003، والتي كشفت امتلاك إيران محطة لتخصيب اليورانيوم تتضمن أعداداً كبيرة من معدات الطرد المركزي؛ علاوة على امتلاك إيران للتكنولوجيا والقدرات التي تتيح لها تصنيع المزيد من وحدات الطرد المركزي؛ ما قد يساعد إيران على برنامج إنتاج السلاح النووي. وخلص مسؤولون أمريكيون إلى أن إيران ربما تسعى إلى تنفيذ خطة متكاملة لامتلاك السلاح النووي. كما بدأ الدور الباكستاني في برنامج إيران لتخصيب اليورانيوم يتضح بدرجة أكبر، بحيث أصبح واضحاً أن باكستان، وليس روسيا، هي التي قدمت المساعدة الأكبر والأكثر أهمية لإيران في هذا المجال.

وفي مايو 2003، أعدت وزارة الدفاع الأمريكية تقريراً يتضمن تحليلاً لقدرات إيران النووية. أشار إلى أن برنامج إيران النووي قد تطور إلى حدّ لا يحتاج فيه البلد إلى مساعدة أجنبية على صنع القنبلة النووية. وأصبح من غير الممكن إيقاف هذا البرنامج، من خلال ممارسة ضغط إضافي على الدول التي ساعدت على بناء المشروع النووي الإيراني. وطالب هذا التقرير باتخاذ سياسة أمريكية أكثر حزماً تجاه إيران، تقوم على التخلي عن سياسة احتواء البرنامج النووي الإيراني. وتعتمد بدلاً من ذلك على تصعيد المواجهة ضد إيران،  بما في ذلك تنفيذ جهود غير علنية لزعزعة النظام الإيراني. وفي المقابل، أعلن مسؤولو وكالة الاستخبارات المركزية عدم اتفاقهم مع استنتاج وزارة الدفاع، ولا سيما فيما يتعلق بالاستنتاج بعدم حاجة إيران إلى مساعدة خارجية، حيث لا توافق الوكالة كلياً على هذا الرأي.

وقد رأى مسؤولو الإدارة الأمريكية أنه إذا أصبحت إيران قوة نووية بالفعل، فإن ذلك سوف يضع الولايات المتحدة الأمريكية أمام معادلة عسكرية وسياسية صعبة للغاية؛ إذ إنها ستصبح أول دولة تملك سلاحاً نووياً في مجموعة الدول التي تَعُدّها الإدارة الأمريكية من البلدان التي ترعى الإرهاب؛ علاوة على أن امتلاك إيران للسلاح النووي سوف يغير ميزان القوى في المنطقة، كما سيؤثر في محاولات واشنطن إقامة حكومات موالية لها في كلّ من أفغانستان والعراق.

ووفق هذا التقييم، انتقلت الإدارة الأمريكية إلى مرحلة الاحتيات للاحتمالات كافة. فقد صرح ضباط استخبارات غربيون، في أوائل أغسطس 2003، بأن وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية قد أطلعتهم على خطة عاجلة لتوجيه ضربات جوية وصاروخية إلى منشآت نووية إيرانية، أعدتها الإدارة الأمريكية في سياق الاستعداد لكلّ احتمالات التعامل مع الأزمة النووية الإيرانية. وعلى  الرغم من أن المسؤولين العسكريين الأمريكيين كانوا مدركين أن التخلص من  البنية التحتية النووية لإيران سيكون عملية صعبة، بسبب توزيع المنشآت النووية  على مواقع متعددة في البلاد؛ فضلاً عن السرية الشديدة المفروضة على بعض المنشآت النووية الأخرى؛ علاوة على أن منشأة نووية واحدة على الأقل قد شيدت على أساس تصميم يقاوم الضربات الجوية التقليدية. إلا أن إعداد هذه الخطة كان مرتبطاً على ما يبدو بالحسابات الروتينية الخاصة برغبة وزارة الدفاع الأمريكية في الاستعداد لكلّ الاحتمالات، من دون أن يعني ذلك بالضرورة أن هناك قراراً سياسياً قد اتخذ في شأن توجيه ضربة عسكرية ضد المنشآت النووية الإيرانية، بل على العكس ظلت إدارة جورج بوش تركز في احتواء إيران من خلال أنشطة الوكالة الدولية للطاقة الذرية.

ومنذ ذلك الحين، ظلت الإدارة الأمريكية تركز جهودها في العمل من خلال الوكالة الدولية للطاقة الذرية، عبْر محاولة بناء إجماع أو توافق واسع داخل مجلس أمناء الوكالة في شأن نقل الملف النووي الإيراني من مجلس أمناء الوكالة إلى مجلس الأمن الدولي؛ لفرض عقوبات على إيران بحجة انتهاكها لتعهداتها بموجب معاهدة منع الانتشار النووي، واتفاق الضمانات النووية المبرمة بين إيران والوكالة الدولية.

رابعاَ: تطور الأزمة النووية الإيرانية

مرت الأزمة النووية الإيرانية، منذ بدايتها في أغسطس 2002، بعدد من مراحل التطور، التي كانت كلّ مرحلة منها تختلف عن غيرها من حيث الخصائص والسمات العامة؛ إضافة إلى اختلافها في طبيعة التفاعلات التي شهدتها كلّ مرحلة. ومن الممكن هنا تقسيم المراحل التي شهدتها الأزمة إلى أربع مراحل رئيسية.

1. المرحلة الأولى: مرحلة التحقق من المعلومات في شأن المنشأتَين النوويتَين، من أغسطس 2002  إلى فبراير 2003. فقد جرى خلال هذه المرحلة التركيز في التحقق من مدى صحة المعلومات التي ذكرتها جماعة المعارضة الإيرانية. وكانت الخطوة الأبرز في هذا الإطار تتمثل في قيام محمد البرادعي، المدير العام للوكالة، بزيارة لطهران، في أواخر فبراير 2003؛ لتفتيش المنشأتَين النوويتَين المشتبه فيهما. وكان المطلب الرئيسي للبرادعي أثناء هذه الزيارة يتمثل في مطالبة المسؤولين الإيرانيين  بأن يكونوا واضحين تماماً، وأن يثبتوا أن برنامجهم النووي مخصص للأغراض السلمية فقط.

وعقب زيارة هذا الوفد، عكف مفتشو الوكالة على تقييم المعلومات التي حصلوا عليها من إيران، من أجل تحديد ما إذا كانت إيران قد خالفت معاهدة منع الانتشار النووي. وكانت المسألة محصورة خلال هذه المرحلة في المستوى الفني؛ ومع ذلك، فإن إدارة جورج بوش في الولايات المتحدة الأمريكية كانت تضغط على الوكالة، لإعلان إن إيران قد خالفت المعاهدة. في حين أن المسؤولين الإيرانيين كانوا يؤكدون مراراً من جانبهم على أن طموحات بلادهم النووية تقتصر على إنتاج الكهرباء، وأنها سمحت لمفتشي الوكالة بزيارة منشآتها النووية عدة مرات؛ ما يؤكد الطابع السلمي لبرنامجهم النووي.

وقد استكملت هذه العملية مع قيام المدير العام للوكالة بتقديم أول تقرير له عن الحالة الإيرانية إلى مجلس أمناء الوكالة، في يونيه 2003. وأشار فيه إلى إن إيران خالفت اتفاقية الضمانات، في شأن عدد من النقاط، أبرزها عدم إعلان واردتها من اليورانيوم الطبيعي، في عام 1991. وقد أثيرت في هذا التقرير مسألة توقيع إيران على البروتوكول الإضافي لمعاهدة منع الانتشار النووي؛ على أساس أن ذلك ضرورة حيوية لتمكين الوكالة من تقديم تأكيدات ذات صدقية في شأن أنشطة إيران النووية.

2. المرحلة الثانية: مرحلة الضغط على إيران للتوقيع على البروتوكول الإضافي، من أغسطس 2003 إلى نوفمبر 2003. فقد جرى التركيز خلال هذه المرحلة برمّتها في الضغط على إيران من أجل التوقيع على البروتوكول الإضافي. وكان الدافع الرئيسي وراء هذه الضغوط من جانب الوكالة بصفة خاصة، يتمثل في أن هناك العديد من الخطوات الإضافية التي يتعين القيام بها من أجل تأكيد صحة البيانات التي تقدمها إيران إلى الوكالة في شأن أنشطتها النووية، ولا سيما على صعيد التحقق من أنه لم تجر أنشطة تخصيب اليورانيوم. وهذه الخطوات ربما يتعذر القيام بها بدون قيام إيران بالتوقيع على البروتوكول الإضافي الملحق بمعاهدة حظر الانتشار النووي، التي تتيح لمفتشي الوكالة القيام بعمليات تفتيش مفاجئة واقتحامية للمواقع النووية الإيرانية المشتبه فيها. ومع أن إيران لم تكن تمانع، من حيث المبدأ، من التوقيع على هذا البروتوكول، إلا أن هناك عدداً من المخاوف التي كانت تطرحها إيران في هذا الصدد، وبالذات فيما يتعلق بنقطتين رئيستَين، هما:

أ. الأولى، تتمثل في حماية سيادة إيران على أراضيها، بحيث لا تستغل عمليات التفتيش المفاجئ للمنشآت النووية الإيرانية، بموجب البروتوكول الإضافي، في انتهاك سيادة إيران أو استغلالها واتخاذها ستاراً لتجسسها، وبخاصة تجسس برنامج الصواريخ البالستية الإيرانية.

ب. الثانية، تتمثل في ضمان حق إيران في الحصول على التكنولوجيا النووية المتطورة الخاصة بالاستخدامات السلمية للطاقة الذرية. وأصرت إيران على الحصول على الضمانات الكافية  من وكالة الطاقة الذرية والقوى الدولية الكبرى في شأن حقها في الحصول على هذه التكنولوجيا قبل التوقيع على البروتوكول الإضافي؛ بما في ذلك ضرورة إسقاط الولايات المتحدة الأمريكية للعقوبات المفروضة على إيران، ولا سيما تلك المتعلقة بمنع إيران من الحصول على التكنولوجيا النووية المتطورة؛ وأن تتعهد الولايات المتحدة الأمريكية بألا تمنع دولاً أخرى من نقل التكنولوجيا النووية إلى إيران.

وقد أثارت مسألة التوقيع على البروتوكول الإضافي انقساماً داخلياً في إيران، ولا سيما بين المحافظين والإصلاحيين. فقد طالب المحافظون ليس برفض التوقيع على البروتوكول فقط، وإنما قالوا بالتصدي لما يسمونه: "المطالب غير العقلانية " للغرب؛ لأن بعض نقاط البروتوكول الإضافي تعارض أصل السيادة الوطنية وروح الإسلام والدستور. وذهبوا، وقتذاك، إلى أن تبني منهج المواجهة ضد هذه المطالب هو وحده الذي يمكن أن يؤدي إلى تغيير موقف الولايات المتحدة الأمريكية والغرب إزاء إيران. كما رفضوا بشدة التدخل الغربي في الشؤون الإيرانية، بل طالبوا بانسحاب ِإيران من معاهدة منع الانتشار النووي. وكان المحافظون يخشون من أن يكون التوقيع على البروتوكول الإضافي مقدمة للمزيد من الضغوط الغربية على إيران، بما في ذلك إمكانية اتهام إيران لاحقاً بإنتاج السلاح النووي.

وفي المقابل، كان الإصلاحيون يؤيدون الانضمام إلى البروتوكول، إذا أتيحت لإيران حرية الحصول على التكنولوجيا النووية من الغرب، وإذا جرت مراعاة واحترام سيادة إيران على أراضيها. وكانوا يرون أن التوقيع على البروتوكول سوف يحقق مكاسب سياسية عديدة لإيران، يأتي في مقدمتها تفويت الفرصة على الولايات المتحدة الأمريكية لتصعيد الأزمة؛ إضافة إلى أن هذه الخطوة الإيرانية سوف تساعد على كسب تأييد دول الاتحاد الأوربي. أمّا الحكومة الإيرانية، فإنها كانت تتبنى موقفاً يقوم على أن التوقيع على هذا البروتوكول هو مسألة وطنية، يجب أن تتم بالإجماع، وبعد قرار من المجلس الأعلى للأمن القومي.

وقد انضمت معظم القوى الدولية إلى حملة مطالبة إيران بالانضمام إلى البروتوكول الإضافي، بما في ذلك الاتحاد الأوروبي وروسيا الاتحادية. ويشير بعض المصادر الغربية إلى أن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، تعهد بعدم تسليم إيران أيّ كميات من الوقود النووي  ما لم توقع على البروتوكول الإضافي، إذ لم تكن روسيا قد بدأت عملية تسليم إيران اليورانيوم المخصب اللازم لتشغيل محطة بوشهر النووية. وهي عملية كانت تتطلب كذلك توقيع الجانبَين الروسي والإيراني على اتفاقية لإعادة الوقود المستخدم إلى موسكو.

وخلال اجتماع مجلس أمناء الوكالة، في سبتمبر 2003، كررت الولايات المتحدة الأمريكية محاولتها نقل الملف النووي الإيراني إلى مجلس الأمن. ووزعت مسودة قرار على أعضاء مجلس أمناء الوكالة تتهم إيران بأنها " لم تذعن " لالتزاماتها النووية تجاه الأمم المتحدة. وطالبت المسودة بطرح المسألة على مجلس الأمن. إلا أن هذا المشروع الأمريكي لم يحصل على التأييد المطلوب، سواء من جانب  دول العالم الثالث الأعضاء في المجلس أو حتى من جانب دول الاتحاد الأوروبي. فقد أعربت دول العالم الثالث عن تأييدها للتعاون بين إيران ووكالة الطاقة الذرية. ودعت إلى استمرار هذا التعاون وتسوية هذا الموضوع في إطار قوانين الوكالة، من دون الحاجة إلى طرحه على مجلس الأمن. كما أشارت إلى أن مسودة القرار الأمريكي لا تتضمن القدر الكافي من الوضوح في شأن الاتهام الموجه إلى إيران بانتهاك الالتزامات الدولية.

3. المرحلة الثالثة: مرحلة التعاون الواسع بين إيران والوكالة، من نوفمبر 2003  إلى نوفمبر 2004. لقد أدى توقيع إيران على البروتوكول الإضافي لمعاهدة منع الانتشار النووي إلى توسيع مجالات التعاون بين إيران والوكالة إلى مستويات غير مسبوقة. وبدأت إيران هذا التعاون بتقديم تقرير واف وشامل في شأن مختلف مكونات برنامجها النووي. وهو ما أشار إليه المدير العام للوكالة في تقريره اللاحق إلى مجلس الأمناء، والذي نوه فيه بالتطور في التعاون بين الجانبين، ولا سيما في اتجاه قيام إيران بتوسيع الإيقاف أحدي الجانب لعمليات التخصيب وإعادة المعالجة. إلا أن ذلك لا ينفى أن هذا التقرير أعرب عن القلق العميق من إغفال إيران إبلاغ الوكالة عدداً من الأمور المتعلقة ببرنامجها النووي؛ مع الإشارة بصفة خاصة إلى إن إيران لم تذكر من تلقاء نفسها "امتلاكها تصميمات خاصة بأجهزة طرد مركزي متطورة من طراز بى 2"؛ وهى أجهزة قادرة على إنتاج اليورانيوم المخصب لأهداف عسكرية.

وقد ظلت آثار اليورانيوم المخصب التي تم العثور عليها في بعض المواقع الإيرانية موضوعاً لاهتمام مكثف في تقارير الوكالة، حيث أشار تقرير فبراير 2004 إلى أن هذه الآثار ما زالت محل قلق. وكانت إيران قد زعمت في بادئ الأمر أن هذه الآثار كانت عالقة في معدات استوردتها من الخارج. إلا أن هذا الزعم الإيراني كان يناقض حقيقة أن آثار اليورانيوم كانت مختلفة فيما بين منشأة كالاي الكهربية ومنشأة ناتنز لتخصيب اليورانيوم؛ ما يناقض الزعم بأنها مستوردة من مكان واحد، أو أنها حتى مستوردة من الأصل. كما حث التقرير إيران على التوقف عن حجب معلومات عن الوكالة الدولية؛ وأن تبادر إلى تقديم جميع المعلومات ذات الصلة بالتفاصيل كافة وعلى وجه السرعة.

4. المرحلة الرابعة: مرحلة الضغط على إيران لوقف تخصيب اليورانيوم. فقد جرى التركيز خلال هذه المرحلة في مطالبة إيران بإيقاف أنشطة تخصيب اليورانيوم التي تقوم بها. وهي المطالبة التي تكررت من جانب العديد من الدول الغربية الأعضاء في مجلس أمناء الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية واليابان وأستراليا وكندا وألمانيا وبريطانيا وفرنسا. وهو ما رفضته إيران على أساس أن أنشطة تخصيب اليورانيوم تُعَدّ حقا أصيلا للدول الأعضاء في معاهدة منع الانتشار النووي.

وقد استندت مطالبة هذه الدول إيران بوقف عمليات تخصيب اليورانيوم إلى استنتاج يقوم على أن هذه العمليات تثير الشكوك في كونها جزءاً محورياً من جهود ترمي إلى إنتاج السلاح النووي؛ استناداً إلى أن الطريقة التي أدارت بها إيران أنشطة تخصيب اليورانيوم تجعل من غير الواضح ما إذا كانت طموحات إيران النووية سلمية كلياً، على الرغم من أنه ليس هناك في الوقت نفسه أدلة دامغة على وجود برنامج للتسلح النووي في إيران. وكانت تقديرات هذه الدول تقوم على أن الوقود النووي الناتج من عمليات تخصيب اليورانيوم، سوف يتجه نحو الاستخدامات العسكرية. وهو ما لم يكن مقبولاً قط من جانبها، بل أكدت أنها لن تقبل أن يكون لدى إيران أسلحة نووية أو احتمال أن يصبح لديها أسلحة نووية.

يلتزم الأوروبيون بتشجيع التجارة والاستثمار ونقل التكنولوجيا لإيران، والتفاوض حول اتفاق تعاون تجاري بينهم وبين إيران؛ مع دعم الترويكا الأوروبية لانضمام طهران إلى منظمة التجارة العالمية.

يقترح الأوروبيون استحداث آلية لمراجعة هذا الاتفاق على المستوى الوزاري، كلّ عشرة أعوام.

ولكن الإشكالية في هذه المقترحات الأوروبية من وجهة النظر الإيرانية، تتمثل في أنها جاءت خالية تماماً من الاعتراف بحق إيران في تخصيب اليورانيوم؛ وبالتالي فهي لا قيمة لها بالنسبة إلى إيران. فالحق في تخصيب اليورانيوم يُعَدّ مسألة محورية من وجهة النظر الإيرانية، سواء بحكم نصوص معاهدة منع الانتشار النووي، أو في ظل الاحتياجات الوطنية الإيرانية. فإيران ترى أن الحصول على الوقود النووي من روسيا الاتحادية، ثم إعادة الوقود المستنفد إلى روسيا، حتى لا يستخدم في الأغراض العسكرية، يعتبر مسألة مهينة للكرامة الوطنية الإيرانية.

ومن ناحية أخرى، ترفض إيران الاعتماد على مصادر التوريد الأجنبية في الحصول على احتياجاتها من الوقود النووي اللازم لتشغيل محطاتها النووية؛ لأن الدول الموردة للوقود قد تعدل عن قرارها في أيّ لحظة، بما في ذلك روسيا الاتحادية، ولا سيما في حالة ما إذا زادت الولايات المتحدة الأمريكية من ضغوطها على روسيا. ومن الناحية الاقتصادية، فإن الموقف الإيراني يقوم على أن نفقة الوقود النووي المنتج محلياً تُعَدّ أقل بكثير من نفقة الوقود المستورد من الخارج؛ ما يعني من وجهة النظر الإيرانية أن متطلبات الاستقلال الوطني والمعايير الاقتصادية تشترك معاً في تأكيد أهمية أن تمتلك إيران قدرة على إنتاج الوقود بنفسها.

خامساً: الأفكار الإيرانية البديلة: حدود الفاعلية

أدى الرفض الإيراني للمقترحات الأوروبية إلى حدوث تصعيد شديد للأزمة. فطلبت دول الترويكا الأوروبية من إيران في بادئ الأمر التروي ودراسة المقترحات بتمعن وهدوء. وحينما أصرت إيران على رفضها, طلبت الدول الأوروبية عقد اجتماع استثنائي، في يوم الثلاثاء 9 أغسطس 2005، لمجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية؛ لبحث الموقف الإيراني، مع ما كان ينطوي عليه هذا الأمر من إمكانية تشديد لهجة مجلس الأمناء إزاء إيران. ومع أن بعض القوى الدولية، ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية، كانت تطالب في هذا الاجتماع بنقل الملف النووي الإيراني إلى مجلس الأمن، فإنه كان من الواضح أن مواقف الدول الأعضاء داخل مجلس الأمناء لم تكن مؤيدة قط للموقف الأمريكي في هذا الشأن. وكان أقصى ما يمكن توقعه من هذا الاجتماع هو مطالبة إيران بالتعامل الإيجابي مع المقترحات الأوروبية، ووقف الأنشطة المحظورة، في غضون مهلة حتى أوائل سبتمبر2005.

ولكن المشكلة أن البيان الهادئ نسبياً الذي صدر عن هذا الاجتماع، كان يتضمن قدراً من الالتباس على نحو يتيح لكلّ طرف من أطراف الأزمة أن يتصور أنه قد حقق جانباً من مطالبه. فقد رأت إيران أن هذا البيان لم يتضمن اتهاماً صريحاً لها بانتهاك التزاماتها؛ ناهيك بأن الانقسام الحادث في موقف الدول الأعضاء في مجلس الأمناء في شأن الأزمة النووية الإيرانية بدا كما لو كان يوفر نافذة فرص لإيران من أجل اللعب على هذه الانقسامات. أمّا الولايات المتحدة الأمريكية، فقد بدا كما لو أنها وجدت في مضمون هذا البيان خطوة أولية على طريق طويل، قد يؤدى في نهاية المطاف إلى نقل الملف النووي الإيراني إلى مجلس الأمن.

حاولت إيران استثمار حالة الارتباك التي أحاطت بالأزمة، عبْر طرح أفكار ومقترحات جديدة، وفق ما كان الرئيس محمود أحمدي نجاد قد تعهد به منذ أداء يمين الرئاسة؛ في محاولة لإعادة توجيه دفة التفاعلات في اتجاه جديد تماماً، قد يتيح لإيران إجمالاً أن تحقق هدفها الرئيسي المتمثل في الاحتفاظ بالحق في تنفيذ أنشطة تخصيب اليورانيوم.

كانت الفكرة الرئيسية التي طرحتها الحكومة الإيرانية في هذا السياق تتمثل في توسيع نطاق عملية المفاوضات الخاصة بتسوية الأزمة؛ فلا تقتصر على إيران ودول الترويكا الأوروبية ( ألمانيا وفرنسا وبريطانيا )، وإنما تتسع لكي تشمل دولاً أخرى من أعضاء مجلس أمناء الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ولا سيما روسيا والصين ومجموعة عدم الانحياز، مثل جنوب أفريقيا والبرازيل وماليزيا. فيكون أيّ اتفاق يتم الوصول إليه من خلال هذه المفاوضات معبراً عن توافق دولي واسع، وليس عن اتفاق ذي قاعدة ضيقة، تقتصر على عدد محدود فقط من الدول الأعضاء في مجلس أمناء الوكالة.

إن أهمية هذا الاقتراح الإيراني تتمثل في أنه يتيح إنشاء آلية جديدة للتفاوض من أجل إنهاء الأزمة النووية الإيرانية، بعدما انهارت المفاوضات الإيرانية – الأوروبية. فالرفض الإيراني للمقترحات الأوروبية يعني في واقع الأمر الوصول إلى طريق مسدود في العملية التفاوضية بين الجانبَين، مع ما يعنيه ذلك من انهيار هذه الآلية. فعلى الرغم من تأكيدات الجانبَين أن رفض إيران للمقترحات الأوروبية لا يعني بالضرورة وقف المفاوضات أوانهيارها، فإن الإشكالية هنا أنه إذا كان كلّ طرف قد قدم أقصى ما لديه، ووصلا إلى طريق مسدود، فما الذي سوف يتفاوضا فيه في الجولات القادمة؟

أهمية الاقتراح الإيراني إذاً تتمثل في أنه قد يساعد على إعطاء قوة دفع جديدة لجهود تسوية الأزمة النووية. إلا أن الهدف الحقيقي لإيران من هذا الاقتراح يتمثل في محاولة حشد أكبر قدر ممكن من التأييد للموقف الإيراني؛ إذ إن كثيراً من الدول التي اقترحت إيران مشاركتها في المفاوضات، تؤيد حق إيران في تخصيب اليورانيوم. وهي في هذا الموقف مدفوعة باعتبارات عديدة. فروسيا والصين تدفعهما علاقاتهما التجارية الوثيقة مع إيران نحو تبنى موقف مؤيد جزئياً لإيران، بينما تخشى دول عدم الانحياز المالكة لقدرات نووية متطورة نسبياً، بما في ذلك قدرات في مجال تخصيب اليورانيوم، مثل جنوب أفريقيا والبرازيل والأرجنتين. فتخشى أن يؤدي فرض حظر مماثل في المستقبل على أنشطتها هي عينها في المجال نفسه؛ ما يدفعها على التحفظ من مبدأ حظر أنشطة تخصيب اليورانيوم؛ على أساس أن هذه الأنشطة مسموحا بها بموجب معاهدة منع الانتشار النووي.

ويرتبط بما سبق أن إيران تسعى إلى إحداث انقسام أكبر بين الدول الأعضاء في مجلس أمناء الوكالة الدولية للطاقة الذرية، والتي ينبغي أن يشارك الكثير منها في المفاوضات الموسعة التي تقترحها إيران. فإذا خلصت هذه المفاوضات إلى تسوية تتضمن الاعتراف بحق إيران في مواصلة أنشطة تخصيب اليورانيوم، فإن ذلك سوف يحدث انقساماً هائلاً في مجلس الأمناء؛ لأن الولايات المتحدة الأمريكية والكثير من الدول الأوروبية تعارض ذلك؛ ما سوف يحول دون استصدار قرار من المجلس يدين إيران.

ولا يقلّ عن ذلك أهمية أن إيران تواصل، من خلال هذا الاقتراح، سياستها البارعة في كسب الوقت وتوسيع نطاق المناورة. وهي السياسة التي دأبت إيران على تنفيذها بمهارة، منذ بداية الأزمة قبل أكثر من عامَين. فإيران تحاول أن تبدو دائماً مستجيبة للمطالب الدولية، ولو بعد ممانعة وتردد. وتسعى دائماً إلى تفادي الوصول إلى طريق مسدود. ولكنها في الأحوال كافة تخلق لنفسها خطاً للتراجع عن أيّ التزامات تضطر إلى التعهد بها في حالة اشتداد الضغوط الدولية عليها. علاوة على أن التنفيذ العملي لهذا الاقتراح يعطى إيران فرصة لإطالة أمد المفاوضات الموسعة.

سادساً: العقوبات الدولية والدور الإيراني

لا يزال مصير الملف النووي الإيراني غير محسوم حتى الآن، على الرغم من القرار الأخير الذي أصدره مجلس الأمن الدولي الرقم 1803، والقاضي بتشديد العقوبات على طهران وإمهالها مدة ثلاثة أشهر لكي تسوى باقي المسائل العالقة في برنامجها النووي. لكن إيران ترى من جانبها أن ملفها أصبح مغلقاً، ويجب أن يعود من مجلس الأمن الدولي؛ وأن العقوبات الجديدة وضعت صدقية الوكالة الدولية للطاقة الذرية على المحك. وهي تستند في ذلك إلى التقرير الأخير للدكتور محمد البرادعي، مدير عام الوكالة، الذي أكد الانتهاء من المسائل العالقة في البرنامج النووي وأهمها مصدر أثار اليورانيوم العالي التخصيب التي عثر عليها المفتشون الدوليون على معدات نووية في الجامعة التقنية بطهران؛ إضافة إلى استخدام وإدارة منجم كرخ لليورانيوم في إيران، والذي رأت الوكالة أن المعلومات التي قدمتها السلطات في طهران في شأنه تتسق مع الاستنتاجات والاستخلاصات التي توصلت إليها الوكالة في هذا الشأن.

وبهده النتائج التي توصل إليها البرادعي في تقريره، يرى الإيرانيون أنهم قاموا بتنفيذ التزاماتهم وتعهداتهم وفقاً لاتفاق الشفافية بين الجانبَين، في إطار خطة العمل والبرنامج الزمني الذي تم الاتفاق عليه مسبقاً.

لذلك فإن كثيراً من المراقبين يفهمون الموقف الإيراني الرافض للتفاوض مع الدول الغربية، ليس على أنه رفض للعقوبات فقط، بل رفض المفاوضات كذلك في ظل تسليط سيف العقوبات على رقبة طهران؛ ما يعني أن المفاوضات لن تجري بين ندَّين متساويَين.

وإضافة إلى ذلك فإن إيران ترى أن أنشطة تخصيب اليورانيوم للاستخدام في الأغراض السلمية هو حق بمقتضى معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية. وأن وقف هذه الأنشطة هو من المسائل الطوعية، وليس الإلزامية، أيْ أن وقفها لا يستند إلى نص قانوني ملزم. وبالتالي فإن القرارات 1737 و1747 و1803 لا تصلح أساساً لإلزام طهران بوقف التخصيب.

زِد على ذلك أن الدول الأعضاء سواء بالمعاهدة أو الوكالة غير ملزمة بالانضمام إلى البروتوكول الإضافي الذي يسمح لمفتشي الوكالة بمزيد من عمليات التفتيش والتحقق المكثف، من دون الحصول على إذن مسبق من السلطات المختصة. ويكتفي الجانب الإيراني بأنه أظهر التعاون الشفاف والكامل مع الوكالة؛ وهو ما بدا جلياً من خلال تنفيذ اتفاق الشفافية. وكذلك القيام بجميع الأنشطة النووية تحت رقابة وإشراف خبراء الوكالة؛ ما يساعد على تبديد الشكوك والمخاوف الغربية من احتمال استخدام البرنامج النووي في أغراض تصنيع سلاح نووي.

كما أن جميع تقارير الوكالة وكذلك تقرير الاستخبارات الأمريكية الأخير، أكدت عدم وجود برنامج نووي عسكري في إيران.

ولذلك فإن أيّ حديث عن مساعي إيرانية في الوقت الحالي لاستخدام البرنامج النووي لأغراض تصنيع عسكري، يُعَدّ من قبيل الهراء وفقاً لوجهة النظر الإيرانية. لكن الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية ما زالت ترى أن الملف النووي الإيراني مفتوح، ولكن يجب على إيران الالتزام بالقرارات الدولية.

إلا أن هناك عقبة مهمة تضمنها تقرير البرادعي من شأنها أن تبقي المخاوف الدولية من البرنامج النووي الإيراني، وتتعلق بالوثائق التي قدمتها الولايات المتحدة الأمريكية وتقول إنها تتعلق بدراسات ذات طبيعة عسكرية. وهذه الوثائق نفت إيران صحتها جملة وتفصيلاً؛ ورأت أنه لا أساس لها على الإطلاق. ولم تحدد الوكالة إذا ما كانت هذه الدراسات صحيحة أم لا؛ بل طالبت طهران ببذل مزيد من الجهد من أجل توضيحها.

لكن الكثيرين يقللون من أهمية هذه الدراسات حتى بفرض صحتها؛ لأنها تتعلق بما قبل عام 2003؛ وأن الحديث عن أنها تخص أنشطة يحتمل أن تشمل برنامجاً نووياً عسكرياً في ما بعد خريف عام 2003 ـ أمر غير مقبول.

فبقاء الملف النووي الإيراني مفتوحاً، على أساس وجود فرض قد يخالف الواقع والحقيقة لا يمكن الاعتداد به. كما أن هذه الجزئية بفرض صحتها، لم تترجم في المعامل أو في المفاعلات النووية إلى نشاط نووي ملموس يمكن أن يثير المخاوف والشكوك.

وتدعم دول عدم الانحياز ومجموعة السبع والسبعين الموقف الإيراني. فهي ترى أن طهران تعاونت بشكل كامل وشفاف مع الوكالة. وأنجزت الكثير من المهام في إنهاء جميع المسائل العالقة. وقدمت كلّ ما طلبته منها الوكالة. وبالتالي فلن يكون هناك داعٍ لإصدار قرار يدين إيران في مجلس الوكالة، وإن ظلت الدعوة إلى وقف أنشطة تخصيب اليورانيوم واستئناف العمل بمقتضيات البروتوكول الإضافي.

لكن مع ذلك فإن طهران ترى أن هاتَين المسألتَين تدخلان في إطار الإجراءات الطوعية للدول، وليس الإجراءات الإلزامية؛ لعدم وجود أساس قانوني يمكن بناء عليه إلزام الدول بتنفيذهما. وعلى الرغم من ذلك ترى الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية أن صدور قرارَين عن مجلس الأمن في هذا الخصوص، يمثل أساساً قانونياً في حد ذاته. لكن إيران ترى أن القرارَين لا يستندان إلى أيّ أساس قانوني، منذ البداية، وأنه يكفي المجتمع الدولي أن التقارير الدولية أثبتت عدم وجود برنامج نووي عسكري.

لكن تقرير البرادعي الأخير يشير إلى أن الوكالة ما زالت في وضع لا يسمح لها بالتوصل إلى استنتاجات واستخلاصات، تؤكد أن البرنامج النووي الإيراني مخصص فقط للأغراض السلمية. وهذه هي النقطة التي يمكن بناء عليها القول بأن الملف النووي الإيراني ما زال أمامه المزيد من أعمال التحقق والتفتيش من أجل أن تتوصل الوكالة إلى هذه النتيجة، حتى يمكن أن تطالب بإغلاق الملف إلى الأبد، ما لم يظهر جديد آخر على الساحة.

إلا أن النظرة الغربية إلى الملف النووي الإيراني تقف حجر عثرة أمام إغلاق هذا الملف. فكثير من المراقبين يرى أن الولايات المتحدة الأمريكية، الحليف الرئيسي لإسرائيل، تريد أن يظل ميزان القوى والردع النووي لمصلحة إسرائيل فقط وبشكل دائم. لذلك فإنها تسعى بجميع السبل وشتى الوسائل إلى القضاء على البرنامج النووي الإيراني وعدم تمكين طهران من امتلاك التكنولوجيا النووية، خشية أن تستخدمها في المستقبل في أغراض تصنيع عسكري.

لهذا تدعم واشنطن موقف إسرائيل الرافض دائماً الانضمام إلى معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية، والرافض كذلك إخضاع منشآتها وأنشطتها وموادها النووية للرقابة الدولية. وعلى الرغم من أن إسرائيل وباعتراف رئيس وزرائها "إيهود أولمرت" تمتلك سلاحاً نووياً وترسانة نووية، لكن سياسات المعايير المزدوجة التي تنتهجها بعض الدول الكبرى تجاه القضايا النووية ذات الطبيعة السياسية الخاصة بمنطقة الشرق الأوسط ـ تُعَدّ السبب الرئيسي الذي يمكن أن يقوض صدقية نظام منع الانتشار ويحول دون تحقيق عالميته.

لهذه الأسباب فإن التوقع بإغلاق الملف النووي الإيراني في المستقبل القريب أمر مستبعد. لذلك فإن الدور الإقليمي الإيراني في منطقة الشرق الأوسط سواء في ما يتصل بالنفوذ داخل العراق أو حتى مجالات التقارب مع الدول العربية ـ يفهم على أنه وثيق الصلة بأزمة الملف النووي.

فكثير من المراقبين يفسر إبقاء طهران على نفوذها داخل العراق، وتوطيد تحالفها مع سورية وحزب الله، بأنه ورقة ضغط كبيرة في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية وحليفتها في المنطقة إسرائيل؛ من أجل تأكيد أهمية دورها الذي تتفاوض معها واشنطن في شأنه تحت عنوان الأمن في العراق.

كما يتضح أن مجالات تقاربها مع الدول العربية وآخرها مشاركتها في قمة مجلس التعاون الخليجي والقمة العربية الأخيرة بدمشق؛ على الرغم من وجود ملفات مفتوحة في شأن العلاقات بين الجانبَين وأهمها الجزر المتنازع فيها مع دولة الأمارات العربية المتحدة ـ ما هي إلا محاولات للحصول على تأييد إقليمي في مواجهة عزلة العقوبات التي فرضتها الدول الكبرى من خلال مجلس الأمن الدولي.

ولعل هذا الأمر كان له تأثير كبير في نتائج قمة دمشق. كما أن الغرب وإسرائيل يسعيان إلى زيادة عزلة إيران وسورية. وفسرت ذلك التقارير التي تحدثت عن استعداد إسرائيل للتفاوض مع سورية، في حالة فك تحالفها مع طهران.

سابعاً: تحول الموقف الإيراني في القضية النووية

تشير الحركة السياسية الإيرانية على مختلف الأصعدة، سواء في المباحثات مع الاتحاد الأوروبي، أوعلى الساحة السياسية داخل إيران، أو التحول في التعامل مع مستجدات الساحة الدولية، إلى أن هذه الحركة تحقق مرونة واضحة تفادياً للضربة المتوقعة للمنشآت النووية الإيرانية. ويبدو أن الفصائل السياسية الإيرانية تتجه إلى الاتفاق والتماسك، من خلال موقف ترضاه كلّ الأطراف، وهو الاستجابة الفعالة لأيّ مقترحات للاتحاد الأوروبي لحل مشكلة الملف النووي الإيراني. وهو الموقف الأساسي للإصلاحيين باختلاف أحزابهم، بمن فيهم المتطرفون. أمّا الأصوليين فينقسمون بين يمين متشدد، ووسط مرن، ويسار يقترب بشدة من الإصلاحيين.

يمثل الوسط الأصولي مسؤولون لهم دراية عسكرية وأمنية. ويقوده كلّ من علي أكبر ولايتي وعلي لاريجاني ومحسن رضائي. وهم المنافسون السياسيون للرئيس أحمدي نجاد. ويقومون بحركة متحولة داخل النظام وعلى مائدة صنع القرار. وقد أعربوا عن رغبتهم في أن تقبل إيران مقترحات الاتحاد الأوروبي؛ على أساس أن الصدام مع الولايات المتحدة الأمريكية وصل إلى أوجه. وقد نشرت جريدة "الشعاع" (تابناك) التي تمثل هذا المحور نتائج استبيان قامت به حول مدى تقبل الشعب الإيراني للمقترحات الأوروبية، والتي أشارت إلى أن 24% فقط هم من يرفضون، و26% يقبلون من دون تحفظ، و50% يقبلون مع بعض تعديلات في البنود. وهي الإشارة التي وضعها هذا المحور أمام الرأي العام والنخبة وصناع القرار؛ لحثهم على قبول العرض. ويؤكد ولايتي أنه من الضروري أن تستجيب إيران للمجتمع الدولي؛ لأنه أحد السبل للوصول إلى الحقوق المشروعة؛ وعلى إيران أن لا تفقد هذه الساحة. كما يرى ضرورة التعامل مع العقوبات الاقتصادية حتى لا تبدو سبباً لتراجع إيران.

ويرى هذا المحور أن البرنامج النووي الإيراني ليس هدفاً في حد ذاته، ولكنه وسيلة لتحقيق أهداف أخرى للنظام تحقق منها الكثير؛ ما يساعد على الميل إلى المباحثات لمنع الأخطار، بحيث لا يكون الملف النووي في المرحلة المقبلة خطاً أحمر. وهذا الجناح يسعى لطمأنة المسؤولون بأن قبول المقترحات الأوروبية لن يؤدي إلى تغيرات في المناصب. وأن هذا الموقف ليس موقف مصلحة سياسية أو إعداد انتخابي؛ فتغير الإستراتيجية الإيرانية يجب أن يكون وفق مبدأ المصلحة الشيعية. وأن نجاح هذه الإستراتيجية سيحقق مكسباً لكلّ الأطراف.

أمّا اليمين الأصولي فيرى الصمود في المواجهة مع الغرب حتى النهاية، مع أقلّ الخسائر، وخاصة مع الظروف الاقتصادية الراهنة التي تمثل تحدياً إضافياً، يقتضى التقشف الذي تعودته إيران خلال سنوات الحرب مع العراق، بتقليل استخدام البنزين وضبط الإنفاق، وتقليل الدعم وتحويله إلى دعم نقدي، وإطلاق الأسعار، وأن تستعد إيران لأسوأ الاحتمالات. ويمثل المسؤولون العسكريون أداة هذا التوجه؛ على أساس أنه واجبهم الوظيفي في حراسة الثورة الإسلامية، ونظام الجمهورية الإسلامية، وتحقيق أهدافه؛ لأن ميلهم إلى الوسط يشير إلى تقاعسهم، أو عدم قدرتهم على تولي هذه المسؤولية. فاللواء محمد علي جعفري، قائد جيش حراس الثورة الإسلامية، يقوم بدوره بطمأنة الرأي العام، بأن إيران لديها القدرة على الرد على أيّ اعتداء بشده رادعة؛ وأنه في حالة الهجوم على إيران سيغلق مضيق هرمز، ويمنع تصدير النفط من الخليج. كما أن الصواريخ البعيدة والمتوسطة المدى ستستهدف إسرائيل كلّها، وكذلك القواعد العسكرية الأمريكية في دول المنطقة.

لقد كان اليمين الأصولي وراء تعيين اللواء محمد علي جعفري قائداً لجيش حراس الثورة الإسلامية، بهدف تطوير هذا الجيش استعداد للمرحلة المقبلة؛ إذ إن التهديدات التي تتعرض لها إيران متغيرة وليست تقليدية، وتتخذ أشكالاً عسكرية وأمنية وسياسية وثقافية واقتصادية. ومن ثم جرى التغيير في جيش الحراس على محورَين هما التطوير وارتفاع المستوى. وقد اقتضى التطوير إنشاء جيش للحراس في محافظات إيران الواحدة والثلاثين. وهذا يعنى زيادة عدد جيش الحراس بمختلف وحداته فيصبح 31 جيشاً. كما اقتضى التطوير تغييراً هيكلياً في هذا الجيش، بحيث لا يكون جافاً وعسكرياً صرفاً؛ فيتفاعل مع متغيرات التهديد، كما يدعم الصلة بقوات التعبئة العامة (بسيج)، ويضاعف التنسيق بينهما. وهذا يعنى توفير القوى البشرية الفاعلة من البسيج للحراس دون زيادة، منعاً من ترهل هذه القوات، والاستفادة منها في التعامل مع اتجاه الولايات المتحدة الأمريكية لتخريب النظام بغية إسقاطه من الداخل؛ فيشكل حائطاً أمنياً.

ويرى الإصلاحيون أن عدم قبول إيران للمقترحات الغربية سوف يضاعف الوجود الأمريكي في الخليج، وتجاهل حسابات المكسب والخسارة لتحقيق مصالح أمنية عليا، كما حدث في الحرب العالمية الثانية وفيتنام والعراق. وينتقدون تصريحات اللواء جعفري بأنها لا تستند إلى أسانيد واقعية. فالولايات المتحدة الأمريكية لن تسكت على إغلاق مضيق هرمز. وقد قامت بالفعل بمناورات عسكرية في مياه الخليج لهذا الغرض.، كما أن إيران ستتحمل قدراً من الخسارة بهذا الإغلاق وجهداً ونفقات باهظة لإعادة فتحه. كما أن حديثه عن القدرات العسكرية التي تطاول إسرائيل والقواعد الأمريكية فيها مبالغة؛ لأن تركيز جيش حراس الثورة في وحدات الصواريخ لم يسمح له بامتلاك قوات جوية هجومية، تضم قاذفات القنابل البعيدة المدى الإستراتيجية، وطائرات تزويد الوقود، وطائرات مقاتلة حديثة. واكتفى بعدد من طائرات الميج والسوخوى الروسية والصينية، وإعادة تصنيع طائرتي فانتوم تحت اسم اذرخش. كما أن وحدات الصواريخ ثابتة، ولا تستطيع تغطية المجال الجوي الإيراني. وإن كان قد تم شراء 29 وحدة صواريخ سام مضادة للطائرات (ام تور 1) من روسيا، بنفقة مليار دولار، فقد نشرت حول المواقع النووية الإيرانية فقط.

يبدو أن القيادة الإيرانية تعتمد في تعويض جوانب الضعف والنقص لديها، كما يرى المحللون، على عاملَين مهمَّين: الأول، تحقيق الاكتفاء الذاتي في المواد الإستراتيجية والعسكرية والبينية. والثاني، القدرة على الحركة السريعة في كلّ الاتجاهات من خلال تماسك المؤسسات وتوحد النظام، بمعنى تقليل الفاقد واستثمار فاقد الآخرين؛ فضلاً عن أن النظام الدفاعي المعتمد على الصواريخ يلائم الطبيعة الجغرافية لإيران، وصعوبة استخدام الطيران الحربي لتغطية الاتساع الشاسع مع وجود الجبال الشاهقة.

والسؤال المطروح هو: هل أصبح من الممكن توجيه ضربة لإيران، إذا لم تتخلَّ عن خطها الأحمر، وتصل بتخصيب اليورانيوم إلى الكمية المحظورة؟ أم أن هذه الخطوط الحمراء يمكن تفكيكها بوسائل بديلة فتنتفي الحلول العسكرية؟ ينقسم المحللون في الإجابة عن هذا السؤال بين فريقَين: فريق يرى الضربة العسكرية حتمية، ولم يبق إلا تحديد موعدها، والاتفاق على حجمها وتفاصيلها. وفريق يرى استحالة هذه الضربة، لأسباب متباينة، أهمها حسابات المكسب والخسارة إزاء رد الفعل الإيراني؛ فضلاً عن عدم تقبل الرأي العام العالمي للفكرة، وتفضيله الحل الدبلوماسي.

لا شك أن توجيه ضربة إلى إيران تحقق مصالح عليا لإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية. وفي هذا الإطار يمكنهما تحمل الخسائر، لكن من الضروري كذلك أن تحقق الضربة نجاحاً عسكرياً وإستراتيجياً يحفظ ماء الوجه ويبرر الخسائر. ولكي يتحقق ذلك ينبغي أن تكون لدى إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية معلومات كافية، سواء عن البرنامج النووي الإيراني، أو المناطق الإستراتيجية المهمة، أو الوضع الاقتصادي والسياسي، أو الظروف الجغرافية والمناخية؛ والأهم من ذلك القدرات العسكرية؛ فضلاً عن ضرورة تهيئة الظروف لعنصر المفاجأة. هذه العناصر مطلوبة كذلك إذا اختارت الولايات المتحدة الأمريكية الحرب الناعمة ضد إيران من خلال عمليات الضغط الإعلامي والسياسي والاقتصادي، واختراق الجبهة الداخلية، والعمل على إثارة الفوضى وإسقاط النظام من الداخل؛ فضلاً عن احتياج هذه الحرب إلى حقبة طويلة، ومثابرة، هي لمصلحة النظام الإيراني الذي تمرس بالحرب الطويلة والحصار، وحسن حشد القوى وتوزيع الأدوار.

ثامناً: حالة اللاحسم في الملف النووي الإيراني

بعد مرور أكثر من خمس سنوات، ما زالت حالة اللاحسم تسيطر على تفاعلات البرنامج النووي الإيراني. ومع وصول الرئيس الأمريكي الجديد، باراك أوباما، إلى سدة الحكم، يثار السؤال حول فرص وإمكانيات تسوية هذا الملف سلماً. وهل ينتهج أوبانا أسلوباً مغايراً الأسلوب سلفه، بوش، يعتمد على الحوار ودبلوماسية التفاوض بعد أن أثبتت العقوبات عدم جدواها في ثني طهران عن الاستمرار في تخصيب اليورانيوم؟ أم أن هناك حدوداً لهذا الحوار والتقارب؟

فعلى البرغم من أن أوباما تعهد في حملته الانتخابية بفتح حوار غير مشروط مع الدول المارقة، مثل إيران وسورية وكوريا الشمالية؛ وأعطى الأولوية لدبلوماسية التفاوض؛ إلا أنه سرعان ما بدد التفاؤل بإمكانية إحداث تغيير جذري تجاه طهران وتسوية ملفها النووي سلماً، عندما صرح عقب فوزه بأن امتلاك طهران للسلاح النووي أمر غير مقبول. وكان ذلك رداً سريعاً على رسالة الرئيس الإيراني، أحمدي نجاد، الذي هنأه فيها بالفوز في الانتخابات الرئاسية. وهو إشارة صريحة كذلك إلى أنه لن يفرط في ثوابت السياسة الخارجية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط وقضية الملف النووي الإيراني؛ وأن ما سوف يحدث هو تغيير في التكتيكات وليس الاستراتجيات. وإبداء أوباما رغبته في الحوار مع طهران لا يعني أن تتخلى واشنطن عن موقفها المتشبث بمطالبة طهران بوقف تخصيب اليورانيوم؛ لأن ذلك من وجهة نظرها سيقودها إلى امتلاك السلاح النووي، وهو أمر غير مقبول؛ لأنه تهديد للأمن القومي الأمريكي أو لأمن حليفة واشنطن إسرائيل.

 وفي المقابل ترفض إيران وقف التخصيب ؛ إذ إنه خط أحمر، وأحد ثوابتها التي لن تحيد عنها؛ على الرغم من حزمة العقوبات الدولية التي فرضت عليها. وهذا التعارض في ثوابت البلدين يستشرف لنا المدى الذي يمكن أن تصل إليه نقطة التفاهم أو التقارب، إذا ما حدث حوار بينهما. فالحوار يمكن أن يصل إلى نتيجة في حالتَين: الأولى، أن تتخلى واشنطن عن مطالبتها لطهران بوقف تخصيبها لليورانيوم. والثانية، أن توقف طهران من ذاتها عملية التخصيب وتقبل عرض الحوافز الذي قدمته الدول الغربية، سواء في صورته الأصلية أو المعدلة، والذي يقوم على وقف طهران للتخصيب مقابل تقديم حوافز مادية وفنية وتزويدها بالوقود النووي ورفع العقوبات الدولية عنها. وكلتا الحالتَين مستبعدة على الأقل في المديَين القصير والمتوسط. وهو ما يعنى أن الملف الإيراني سيظل يشهد استمراراً للمزج بين سياسة العصا في فرض العقوبات والجزرة في الحفاظ على الحوار وعرض الحوافز؛ مع استبعاد الخيار العسكري لعوامل موضوعية لا ترتبط بعدم تحمس أوباما له؛ وإنما بنفقته التي تغدو عالية في ظل استمرار المأزق الأمريكي في العراق وتصاعد مأزق أفغانستان؛ ولا القدرات التسليحية العالية لطهران والتداعيات الاقتصادية السلبية له.

ويدعم استمرار حالة اللاحسم في الملف الإيراني وعدم حله سواء بالحوار أو الحرب أو حتى العقوبات، عدة عوامل. أولها أن ملامح سياسة أوباما تجاه طهران لن تتضح بشكل كامل. وثانيها أن أولوياته ستكون محلية بالأساس وستكرس لمعالجة واحتواء تداعيات الأزمة المالية العالمية، وإخراج الاقتصاد الأمريكي من حالة الركود التي يعيشها؛ وهو أمر سيستغرق سنوات. أما أولويات سياسته الخارجية، فستكون بالأساس لحسم الملف العراقي وتقرير مسألة انسحاب القوات الأمريكية من هناك وفق جدول زمني كما تعهد من قبل؛ وإعادة توجيهها إلى أفغانستان لمواجهة الصعود المتزايد لنفوذ طالبان، والتي يَعُدّها أوباما الجبهة الأساسية للحرب على الإرهاب؛ ومن ثم لن يكون في مصلحته إشعال الجبهة الإيرانية. وثالثها أن عملية تخصيب اليورانيوم من جانب إيران لم تصل بعد إلى النقطة الحرجة التي تقرب طهران من امتلاك السلاح النووي، وتستدعي رداً حازماً من جانب واشنطن لإيقاف التخصيب. ذلك أن طهران تحتاج إلى امتلاك خمسين ألف جهاز طرد مركزي من "نوع 2" المتطور لإنتاج القنبلة النووية؛ ولا تمتلك منها حالياً سوى ستة آلاف جهاز؛ واستيفاؤها يحتاج إلى وقت طويل. ورابعها أن إسرائيل تمثل طرفاً ثالثاً في المعادلة بين الجانبَين، وتؤثر بشكل كبير في درجة التقارب أو التباعد بينهما. وتمثل عاملاً كابحاً لتوجه أوباما نحو الحوار والتقارب مع طهران. وخامسها الإرث التاريخي العدائي الثقيل بين البلدَين والذي تراكم على مدار عقود، ويفرض قيوداً على المدى الذي يمكن أن يصل إليه الحوار بينهما.

وبالتالي يظل الخيار المتاح أمام أوباما في تعامله مع الملف الإيراني، هو العمل ضمن التحرك الجماعي الغربي، وخاصة الفرنسي والبريطاني المؤيد لفرض عقوبات جديدة على طهران؛ لإجبارها على وقف تخصيب اليورانيوم؛ مع الاستمرار في فتح باب الحوار معها. أمّا إيران، فحرصت على عدم قطع خيوط التواصل مع الغرب؛ كسباً للوقت، لتحقيق استمرار عملية التخصيب؛ ومنعاً للتصعيد ومزيد من العقوبات الدولية التي أثقلت كاهلها؛ ومحاولة توظيف الورقة العراقية والنفطية في مفاوضة الولايات المتحدة الأمريكية؛ والتعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية لتأكيد سلامة نيتها أمام المجتمع الدولي وحقها في امتلاك التكنولوجيا النووية للأغراض السلمية. لكن لعبة التوازن وحالة اللاحسم في الملف الإيراني هذه ربما لا تستمر إلى ما لا نهاية، إذا ما تهورت إسرائيل وأقدمت على شن ضربة استباقية ضد المنشآت النووية، إذا ما وصلت طهران إلى النقطة الحرجة والاقتراب من امتلاك القنبلة النووية. ووقتها لن يكون هناك بدّ أمام أوباما من التخلي عن دبلوماسية التفاوض، والمبادرة إلى التحرك العسكري ضد طهران والذي تفرضه المصالح العليا الأمريكية، وخاصة أنه أكد من قبل عدم استبعاد اللجوء إلى الحل العسكري، ليكون خياراً أخيراً.