إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / الثورة التونسية (2010-2011)




محمد البراهيمي
ليلى الطرابلسي
محمد الغنوشي
أحد مظاهر الاحتجاجات
المنصف المرزوقي
الثوار يرفعون علامة النصر
الباجي قائد السبسي
الجنرال رشيد عمار
الرئيس يزور الشاب بوعزيزي
الشاب محمد بوعزيزي
الشعب التونسي يحتشد
بداية الانتفاضة
حمادي الجبالي
راشد الغنوشي
شكري بلعيد
شعارات الثورة على أرض تونس
شعارات ثورة الياسمين
علي العريض
فؤاد المبزغ


موقع تونس في العالم العربي



الفصل الأول

المبحث الخامس

تطور أحداث الثورة

بدأت الانتفاضة التونسية، في 17 ديسمبر 2010، بسلسلة اضطرابات بدأت في مدينة منزل بو زيان بولاية سيدي بو زيد وسط تونس (265 كم من العاصمة)، بإقدام الشاب محمد بوعزيزي على الانتحار بإشعال النار في نفسه (اُنظر صورة الشاب محمد بوعزيزي)، عندما أظلمت الدنيا في عينيه، وهو شاب جامعي لم يجد فرصة عمل بعد تخرجه، واضطر أن يعمل بائعاً متجولاً على عربة خضروات وفاكهة، حتى يجد قوت يومه له وأسرته، وفي هذا اليوم داهمته قوات الأمن، وصادرت عربته ورُفض طلبه في استعادة العربة.

مس هذا الحادث شعور الآلاف من الشباب والأسر التي تعاني نفس المصير وتقع تحت تهديدات الأمن، وأعمال العنف والاعتقالات، لذلك، فقد انتشرت تفاصيل هذا الحادث بسرعة البرق إلى أرجاء المناطق المحرومة في تونس، حيث أعقبها حادث مماثل لشاب جامعي يعاني من الفقر والبطالة. وسرعان ما اشتعلت مظاهرات الاحتجاج، وامتدت هذه التظاهرات إلى مدن رئيسية منها صفاقس والقيروان وسوسة ومدنين، وانتهت بالعاصمة تونس، لتصبح الاحتجاجات عامة، وتواجه قوات الأمن، ثم الجيش بكل أنواع التحدي، حتى تحولت الانتفاضة إلى ثورة شاملة أطاحت برؤوس النظام، وفي مقدمتهم رئيس الدولة "زين العابدين بن علي".

جاءت الاحتجاجات بشدتها وسرعة انتشارها مفاجئة للنظام وقوات الأمن على السواء، ولم يكن الرئيس "زين العابدين بن علي" لديه القدرة والشجاعة على مواجهة الموقف سياسياً، حتى لو قدم العديد من التنازلات والقرارات من أجل تهدئة الجماهير، وإصلاح ما أفسده الأداء المتدني للحكومة، وسيطرة الأسر على اقتصاد الدولة. ولكن لجأ إلى الحلول الأمنية التي قُوبلت بتحد كامل من المتظاهرين.

في السياق نفسه، لم يراقب الرئيس التونسي ما يدبره النظام العالمي تجاهه وتجاه المنطقة، فكانت قراراته الداخلية تُتخذ على أن الغرب ظهير له وحليف لحكمه، وهذا مخالف تماماً للواقع، فكانت قراراته خاطئة أبداً، وتأتي رد فعل لما فات أوانه، ولا يساير حقيقة الموقف على أرض الواقع، بل تؤدي إلى ارتفاع سقف المطالب الجماهيرية.

وأخطأ الرئيس التونسي عندما اعتقد أن الانتفاضات التي تشتعل في كل مكان، يدبرها إرهابيون وخارجون عن القانون، دون أن يحاول تعرف الأسباب الحقيقية لهذا الامتداد الاحتجاجي في مشارق الدولة ومغاربها، بل أنه زاد من حدة التظاهرات عندما سخر من المتظاهرين وتوعدهم بالعقاب، واتهمهم بأن جهات أجنبية تحركهم.

على الرغم من الطابع العفوي للثورة، إلا أنها جاءت نتيجة حتمية لسياسات النظام الغوغائية في قسوتها ضد المعارضة، لاسيما الإسلامية منها. وقد ربط "بن علي" بقاءه في السلطة بشعار التهديد الإسلامي، الذي يرفعه في كل مناسبة ليبتز به الغرب وبعض النخب المرتعبة من الإسلاميين في الداخل.

كشفت الثورة في تونس عن علاقة وثيقة بين النظام الحاكم والكيان الصهيوني، فقد كشفت بعض المصادر عن أن قوات الأمن التونسية كانت تستخدم قنابل غازات مسيلة للدموع إسرائيلية الصنع لتفريق المتظاهرين. كما كان هناك تعاونٌ استخباراتي، إلى جانب مشروع ترجمة الكتب العبرية.

استمرت الاحتجاجات والتظاهرات تنتقل في أرجاء تونس نحو أربعة أسابيع (28 يوماً)، في الفترة من 17 ديسمبر 2010 وحتى 14 يناير 2011، حين غادر الرئيس التونسي "زين العابدين بن علي" مطار قرطاج الدولي، على طائرة ليبية أرسلها له الرئيس الليبي "معمر القذافي"، حملته وأسرته وما خف حمله من النقود والذهب إلى المملكة العربية السعودية، لاجئاً سياسياً، بعد أن رفضت العديد من الدول الأوروبية المتحالفه معه (سابقاً) استقباله.

ومنذ تلك اللحظة حدثت تحولات جذرية في تونس أهمها:

1. أن الثوار عدوا أن سقوط النظام يمثل الهدف الرئيس لهم، ولم يضعوا الأسس لبداية التحول وبناء تونس الجديدة، بل أنهم تفرقوا ومنحوا الفرصة الذهبية للتيار الإسلامي ـ المحظور سابقاً ـ للقفز على الحكم، حيث كانت عودة زعيم حركة النهضة "راشد الغنوشي" إلى البلاد، في نهاية شهر يناير 2011، بعد 22 عاماً قضاها في منفاه في لندن، بادرة للاستيلاء على النظام لم يفطن إليه الثوار.

2. يرى كثير من المحللين أنه لم يكن قفز التيار الإسلامي على السلطة ممثلاً في تيار النهضة، الذي سرعان ما تحول إلى حزب وجمع حوله حزبين آخرين مؤتلفاً معهما ليحكم تونس ويستقطب الجماهير، مجرد صدفه أو نتيجة لشأن داخلي خالص، ولكن تنفيذاً لخطة متكاملة في نطاق إستراتيجية بناء الشرق الأوسط الجديد، الذي يعتمد في حكمه على تنظيم سني إسلامي على نمط الدولة العثمانية القديمة، ويجابه التيار الشيعي، ويحتوي أقطاب الفاشية الإسلامية ويبعدهم عن أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.

3. على مدى ثلاث سنوات متصلة لم يتحقق الاستقرار لتونس، ولم ينجح التيار الإسلامي في تحقيق العدالة الاجتماعية أو الديموقراطية، أو بناء دولة حديثة، وبدأ ينكشف أمره داخلياً، وبدأت الجماهير والأطياف والمنظمات تطالب بالحرية وحقوقها المفقودة.

4. لعبت النقابات العمالية (اتحاد الشغل) والجمعيات المهنية التونسية دوراً حاسماً في استمرار الثورة وتوسيع نطاقها، إلى ما بعد المناطق النائية التي بدأت فيها، وذلك بالرغم من تحييد هذه النقابات والجمعيات في ظل نظام "بن علي"، إلا أن العديد من قيادات النقابات انضموا إلى الثورة وقرروا في لحظة حاسمة تجاوز مخاوفهم إزاء سطوة النظام واستبداده.

أولاً: تطور الأحداث

1. بدأت الأحداث بإضرام الشاب الجامعي محمد بو عزيزي النار في نفسه أمام مقر ولاية سيدي بو زيد، يوم 17 ديسمبر 2010، بعد أن رفض مسؤولون محليون قبول شكواه بتسليمه عربة الخضار والفاكهة التي صادرتها الشرطة منه، حيث إنها تمثل مصدر رزقه الوحيد، وقد جاء هذا التصرف نتيجة لإحساسه بالضياع، بدليل رسالة حررها إلى أمه تحمل كل معاني الأسي، قال فيها: "مسافر يا أمي، سامحيني، ما يفيد ملام، ضايع في طريق ما هو بإيديا، إن كنت عصيت كلام أمي، لومي على الزمان، ما تلومي علي، رايح من غير رجوع، كتير ما بكيت، وما سالت من عيني دموع، ما عاد يفيد ملام على زمان غدار في بلاد الناس، أنا عييت، ومش من بالي كل اللي راح".

تمكن المحيطون بالشاب بو عزيزي من إطفاء النيران المشتعلة به بعد أن أصيب بحروق شديدة أدخلته المستشفي، حيث توفي في 5 يناير 2011، ولكن هذا الحادث حرك المياه الراكدة في تونس كلها بدءاً من ولاية سيدي بو زيد.

2. في أعقاب ذلك انطلقت التظاهرات في سيدي بوزيد (اُنظر صورة بداية الانتفاضة)، على مدار الفترة من 18 – 23 ديسمبر 2010، حيث وقعت مصادمات شديدة بين الأمن والمتظاهرين المحتجين، وقامت قوات الأمن باعتقال العشرات من المحتجين، الأمر الذي شاع إعلامياً، ووصل إلى سائر أرجاء البلاد، خاصة المناطق المحيطة بولاية سيدي بو زيد، بعد إشعال شاب آخر في نفسه النيران احتجاجاً على تردي الحالة الاقتصادية في الولاية.

3. مع استمرار التظاهرات، بدأت موجات الغضب في ولاية سيدي بو زيد، اعتباراً من 24 ديسمبر 2010، تخرج عن سيطرة الأمن، الذي لجأ إلى استخدام الرصاص الحي لإيقاف الاحتجاجات، حيث سقط قتيلان في مدينة منزل بو زيان التابعة لنفس الولاية، ما أدى إلى تزايد موجات الغضب وانتقالها إلى الولايات المجاورة، بدءاً من 27 ديسمبر 2010، إذ تعاظم نقل الإعلام الدولي خاصة قناة الجزيرة، والعربية والقنوات الأجنبية للأحداث، كاملة، ما أدى إلى نقل صورة الاحتجاجات إلى العالم أجمع.

4. اشتدت الحركات الاحتجاجية في الولايات المجاورة لولاية سيدي بو زيد، وولايات أخرى بعيدة عنها، واستخدمت قوات الأمن أقصي درجات العنف في التصدي للتظاهرات، وسقط قتلي برصاص الأمن في ولايات القصرين، والرقاب، وبدأت العديد من الولايات الأخرى في الاستعداد للمشاركة في التظاهرات والاحتجاجات.

على الجانب الآخر، قام الإعلام الرسمي للدولة بتشويه صورة التظاهرات، وتوجيه الاتهامات للتيارات الإسلامية باستغلال الوضع الداخلي، وتأجير الإرهابيين والمنحرفين لإشعال موجات الغضب، بهدف إشاعة عدم الاستقرار في البلاد.

5. بعد 13 يوماً من موجات الاحتجاج (اُنظر صورة أحد مظاهر الاحتجاجات)، في 30 ديسمبر 2010، جاء أول رد فعل من الرئيس التونسي، حيث ألقي خطاباً مسجلاً في وسائل الإعلام، يتهم فيه المتظاهرين بالعمالة ويعدهم بمحاكمات على ما اقترفوه في حق الشعب التونسي. وأصدر عدة قرارات، منها عزل العديد من رؤساء الولايات، منها ولاية سيدي بو زيد، ووعود بتوفير فرص عمل، وشفافية التحقيقات مع المعتقلين، وتقديم المتهم منهم إلى العدالة.

ولكن ذلك لم يغير في الأمر شيئاً، حيث جاء الخطاب متأخراً جداً، وبعد أن اجتاحت التظاهرات الولايات الجنوبية وفي وسط تونس، والنداء بإسقاط النظام حلاً وحيداً، إلى جانب انتقال الاحتجاجات إلى ولايات الساحل.

بدأت أصوات تتساءل عن أسباب عدم تدخل الجيش لإيقاف الاحتجاجات، وكان الرد هو أن الجيش ـ دستورياً ـ ليس له شأن بالسياسة، ومن ثم لم يكتسب خبرات التصدي للتظاهرات، أو خبرة الدفاع عن النظام القائم، أو في ضبط البلاد في مواجهة الانتفاضات الشعبية. وكل ذلك ينحصر في مهام الأمن، الذي يحرص الرئيس على تقويته، حتى في مواجهة الجيش نفسه، تخوفاً من الانقلابات العسكرية.

في الوقت نفسه، بدأت أصوات المعارضة تخرج للإعلام، وتدين لجوء السلطة إلى القوة ضد المتظاهرين، وتطالب بتنمية شاملة وعادلة لمحاربة الفقر. كما طالبت المعارضة تشكيل حكومة إنقاذ وطني لتصحيح مسار الدولة.

6. في الفترة من 1 – 7 يناير 2011، انتشرت المواجهات العنيفة في أرجاء متفرقة من البلاد بين المتظاهرين، الذين تطورت مطالبهم من مجرد عيش كريم وفرص عمل والقضاء على الفساد، إلى إسقاط النظام، وبدأت موجة جديدة من الاحتجاجات بحرق مقار الحزب الحاكم (حزب التجمع الدستوري الديموقراطي)، إلى جانب مقرات حكومية أخرى في العديد من المحافظات.

سببت وفاة الشاب "بو عزيزي"، في 5 يناير 2011، بعد فشل علاجه من الحروق التي أصيب بها، غضباً شعبياً جارفاً، ترجم إلى عنف في التظاهرات (اُنظر صورة الشعب التونسي يحتشد في الميادين)، ولم يشفع للرئيس التونسي عند المتظاهرين زيارته في المستشفي بعد الحادث، وإصدار الأوامر بالعناية بعلاجه (اُنظر صورة الرئيس التونسي يزور بوعزيزي). وأصبح هذا الشاب من تلك اللحظة هو الرمز للثورة التونسية (اُنظر صورة شعارات ثورة الياسمين).

7. استمرت التظاهرات في معظم الولايات، مع بداية اقترابها من العاصمة، وكانت ولايات سيدي بو زيد، والقصرين، والقيروان، والرقاب، هي الأشد في الاحتجاجات، وتوسعت قوات الأمن في استخدام الرصاص الحي ضد المتظاهرين دليلاً على فشلها في السيطرة على الموقف، وأدى ذلك إلى سقوط نحو 50 قتيلاً وعشرات الجرحي من المتظاهرين. واستخدمت قوات الأمن فرق من القناصة، لاصطياد النشطاء من المتظاهرين. ولكن ذلك لم يوقف سيل التظاهرات الذي بدأ يقترب من ولايات الساحل، وفي مقدمتها العاصمة تونس. كما ترددت بيانات الإدانة من قوى العالم المختلفة، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية، وكلها تنادي الحكومة باتخاذ إجراءات لإيقاف العنف وحل مشكلات الجماهير الغاضبة.

8. أمام موجات العنف، قررت الحكومة، في 10 يناير 2011، إيقاف الدراسة بالمدارس والجامعات، ومنع التجمعات في المناطق الحيوية والميادين. كما ألقى الرئيس "بن علي" خطاباً إلى الشعب التونسي، وصف فيه ـ لأول مرة منذ بدء الانتفاضة ـ الاحتجاجات الجارية بأنها "أعمال إرهابية تمارسها عصابات ملثمة"، وأشار إلى التيار الإسلامي الذي يهدد البلاد، وذلك في محاولة منه لاستقطاب القوى الغربية لصالحه. وأعلن في الخطاب نفسه، عن حزمة قرارات لصالح الجماهير، منها تدبير 300 ألف وظيفة للعاطلين وبمشاركة القطاع الخاص، خاصة الحاصلين على شهادات جامعية، كذلك القضاء على الفساد في مؤسسات الدولة. كما اقترح عقد ندوة وطنية تشارك فيها المجالس الدستورية والأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني والجامعيين، بهدف اقتراح خطط إستراتيجية جديدة لدعم سياسة العمل، وتعهد بإعطاء دفعة جديدة للإعلام وتخصيص مساحات إعلامية أوسع لولايات الجنوب لتعبر عن مشكلاتها.

9. لم يكن لخطاب الرئيس أي تأثير في الموقف، حيث دخلت التظاهرات، منذ صباح يوم 11 يناير، منعطفاً جديداً بانتشارها في أرجاء العاصمة والعديد من المدن الساحلية الرئيسة، وهو تحول خطير لم يكن يتوقعه النظام، وجاء نتيجة للفشل في إصدار القرارات السياسية. لعلاج الموقف في الوقت المناسب، وفشل قوات الأمن في التعامل مع التظاهرات السلمية. وسارت عدوى التظاهرات بين المدن التي عانت كثيراً، خاصة أن السبب مشترك، ونشطت النقابات العمالية والجمعيات المدنية، وربما تكون هناك قوى أخرى ساندت هذه التظاهرات، وقد صاحبت التظاهرات في العاصمة أعمال عنف ونهب وحرق للمقرات، وتهديد كامل للأمن.

10. أمام فشل قوات الأمن في السيطرة على الموقف، صدرت الأوامر لقوات الجيش، في 12 يناير، بالانتشار في العاصمة وفي بعض الأحياء الشعبية المحيطة بها، للسيطرة على الموقف ودعم قوات الأمن. وقد أدى تدخل قوات الجيش في هذا اليوم إلى سقوط نحو ثمانية قتلى وعشرات المصابين. كما أُعلنت إقالة وزير الداخلية "رفيق بلحاج قاسم"، في محاولة لتهدئة المتظاهرين واستعادة السيطرة على البلاد. وأعلن رئيس الوزراء "محمد الغنوشي" الإفراج عن المعتقلين (اُنظر صورة محمد الغنوشي)، فيما عدا المتورطين في أعمال عنف، في محاولة لتهدئة الموقف. كما أُعلن عن سقوط أول قتيل يحمل جنسية أجنبية، وهو الفرنسي من أصل تونسي "حاتم بلطاهر"، الذي قتل في مدينة توز بولاية قبلي جنوبي غربي تونس.

وأُعلن فرض حظر التجوال ليلاً، في محاولة أخرى من السلطة لاستعادة السيطرة على الشارع التونسي، وإيقاف أعمال حرق المقرات والنهب في العاصمة وضواحيها، وارتفعت وتيرة الاعتقالات، بما فيها اعتقال الناطق باسم حزب العمال الشيوعي المحظور "حجه الهمامي"، واتخذت إجراءات لتقييد الإعلام، ومنع وصول الإعلاميين إلى أماكن المتظاهرين، ومصادرة أي أنباء تمس الأوضاع في تونس.

11. بالرغم من كل الإجراءات الأمنية، فقد اشتدت الاحتجاجات في العاصمة، واضطر الجيش إلى الانسحاب بقواته من وسط العاصمة إلى الأطراف التي تشتد فيها التظاهرات، تاركاً للأمن مسؤولية تأمين المناطق التي انسحب منها (اُنظر صورة شعارات على أرض تونس). وازدادت أعداد القتلى والجرحى، كما ازدادت عمليات حرق المرافق والمقرات، وامتدت إلى حرق ممتلكات الأفراد من عائلة الرئيس وعائلة زوجته، خاصة في منطقة الحمامات السياحية جنوبي تونس العاصمة. وتعالت الاحتجاجات الدولية على النظام التونسي، سواء من الولايات المتحدة الأمريكية أو دول الاتحاد الأوروبي، مطالبة الحكومة التونسية باتخاذ إجراءات فورية لإيقاف العنف وتحقيق مطالب الجماهير.

ألقي الرئيس التونسي خطابه الثالث والأخير في هذه الأزمة، وأعلن فيه عدم ترشحه لانتخابات عام 2014، وكرر جملة "لا رئاسة مدى الحياة. لا رئاسة مدى الحياة"، ووعد بإصلاحات ديموقراطية وبإطلاق الحريات العامة.

12. تسارعت الأحداث يوم 14 يناير، وخصوصاً امتداد التظاهرات وشدتها في مواجهة قوات الأمن في قلب العاصمة تونس، ما حدا بالرئيس التونسي إلى اتخاذ العديد من القرارات أهمها:

أ. إعلان حالة الطوارئ في البلاد، وعودة الجيش بقوة إلى شوارع العاصمة، التي باتت تشهد حالة انفلات أمني، وذلك في ظل عناصر أمنية مرتبطة بالنظام تحرق وتزرع الرعب، وهو ما تأكد لدي أجهزة الاستخبارات.

ب. إعلان حل الحكومة، وإجراء انتخابات برلمانية مبكرة.

ج. منع التجمعات لأكثر من ثلاثة أشخاص، حيث يجرى القبض عليهم أو إطلاق النيران تجاههم في حالة محاولتهم الهرب.

د. تقييد ما ينشر في وسائل الإعلام، وفرض رقابة شديدة على النشر، ومنع مندوبي وسائل الإعلام من الوصول إلى أماكن الاضطرابات لنقلها عبر وسائل الإعلام.

ثانياً: موقف الجيش من النظام

يذكر الجنرال "رشيد عمار" رئيس أركان جيش البر التونسي (القوات البرية) (اُنظر صورة الجنرال رشيد عمار)، أنه رفض إطلاق النار على المتظاهرين، وأن جنوده حاولوا حماية هؤلاء المتظاهرين من بطش الشرطة وأعوان الأمن، وأكد أنه تمسك باحتضان ثورة الشعب ورغبته الجامحة في التغيير، كما أصدر أوامره بإيقاف عصابات القتل والنهب والتخريب (اُنظر صورة الثوار يرفعون علامة النصر).

وعن موقف الجيش من الرئيس "بن علي"، يذكر الجنرال عمار أنه ذهب إلى قصر قرطاج، يوم 14 يناير 2011، وبعد محاولات مستميتة تمكن من لقاء الرئيس "بن علي" وخاطبه بمنتهي الجدية "لقد انتهيت، ولابد أن تتنحى عن الحكم"، وهو ما حدث فعلاً.

وقد اعترفت الولايات المتحدة الأمريكية بأن الجيش هو الذي أجبر الرئيس على التنحي ومغادرة البلاد، حتى تهدأ الأمور ولا يزداد الموقف حرجاً.

ثالثاً: مغادرة الرئيس التونسي للبلاد

لم تستطع قرارات الرئيس وإجراءاته إيقاف الاحتجاجات التي اقتربت من القصر الرئاسي نفسه، وباتت تهدد الرئيس وأسرته. لذلك قرر الرئيس المغادرة، وأجري العديد من الاتصالات، أهمها:

1. اتصال بالعقيد القذافي (رئيس ليبيا)، لتدبير طائرة لتنقله من تونس إلى المكان الذي يلجأ إليه.

2. اتصالات مع العديد من دول أوروبا يطلب اللجوء إليها، وكلها رفضت ذلك.

3. اتصال بالمملكة العربية السعودية، والتي وافقت على استقباله لأسباب إنسانية.

في مساء يوم 14 يناير، أعلن الوزير الأول "محمد الغنوشي" نفسه رئيساً مؤقتاً لتونس، اعتماداً على الفصل 56 من الدستور، وهو ما أثار غضب المعارضة، التي اتهمته بمحاولة الالتفاف على ما حققته الانتفاضة الشعبية. وقد ادعى الغنوشي أنه أخذ تفويضاً من الرئيس السابق بذلك، كما أعلن عن إجراء مشاورات مع الأحزاب والقوى السياسية من أجل التهدئة والخروج بتونس إلى بر الأمان.

وبالرغم من إعلان الغنوشي احترامه للدستور والشروع بالقيام بإصلاحات سياسية واجتماعية، إلا أن تظاهرات صاخبة خرجت عقب إلقاء بيانه، تطالبه بالرحيل.

وفي هذا اليوم أيضاً، استمرت العناصر الأمنية المؤيدة للنظام السابق في إجراء أعمال عنف عشوائية ضد أفراد الشعب. وضد المنشآت والأهداف الحيوية بدافع النهب والسرقة. في الوقت نفسه، بدأت رموز النظام السابق في البحث عن محاولات للهرب خارج تونس، سواء عبر الحدود مع ليبيا أو الجزائر، أو من خلال وسائل أخرى، إلا أن البعض منهم اعتقل.

ويمكن تلخيص أسباب نجاح الثورة في الآتي:

1. هشاشة النظام في تونس، بالرغم من كل إجراءات الأمن والحماية التي نسجها النظام حول نفسه، واقتنع بتحصينها ضد كل تيارات مضادة.

2. هشاشة نظام الأمن، الذي لم يكن يعتمد على أسس علمية في متابعة الموقف والحصول على معلومات وتحليلها ورسم سيناريوهات المستقبل، ولم يقدر احتمالات وقوى الشعب ضده.

3. التعبئة الشعبية ضد النظام الفاسد، فعندما جاءت لحظة الانفجار لم يتمكن أحد من مواجهتها أو إيقافها. وهو أمر يحسب للشعب التونسي عندما قرر الثأر لكرامته.

4. التردد في استخدام الجيش للتصدي للتظاهرات كان إجراءً إيجابياً لصالح الثورة نفسها، حيث مكّن الاحتجاجات من التغلب على إجراءات الأمن القمعية.

رابعاً: خسائر الثورة

تعددت خسائر الثورة فيما بين خسائر بشرية ومادية ومعنوية، فالخسائر البشرية راوحت ما بين 150 – 200 شهيدٍ، طبقاً لمصادر متعددة، أهمها لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، كما أدت إلى إصابة المئات من أفراد الشعب التونسي.

والخسائر المادية قدرت بعدة مليارات من الدولارات، سواء نتيجة تعطل عجلة العمل أو التدمير أو النهب، أو توقف الاستثمارات الخارجية والداخلية، وما زال الاقتصاد التونسي بعد ثلاث سنوات من الثورة يعاني ركوداً وتضخماً شديداً يؤثر على فئات الشعب المختلفة.