إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / سورية من الاستقلال إلى حافظ الأسد




هاشم الأتاسي
أديب الشيشيكلي
أكرم الحوراني
جميل مردم
خالد العظم
حافظ الأسد
حسني الزعيم
سامي الحناوي
صبري العسلي
شكري القوتلي
سعد الله الجابري
فارس الخوري





المبحث الثاني: استقلال سورية وعدم استقرار الحكم

المبحث الثاني: استقلال سورية وعدم استقرار الحكم

ساعدت سورية ظروفها الخاصة، إبّان الحرب العالمية الثانية، على التخلص من الاحتلال الأجنبي، قبل غيرها من دول الشرق العربي. فقد جلت عنها، في 17 أبريل 1946، القوات الإنجليزية- الفرنسية المشتركة؛ في حين كانت بريطانيا لا تزال تساوم كلاًّ من مصر والعراق في منحها امتيازات عسكرية مقابل الجلاء. وبينما كانت قضية الجلاء، تشغل الرأي العام في كلّ من مصر والعراق؛ كانت سورية، أحزاباً وقوى سياسية، منشغلة بموضوع الاتحاد العربي وكيفية تكوينه.

اختارت سورية قبل الجلاء، نظام الجمهورية البرلمانية. وأسفرت الانتخابات البرلمانية، عام 1943، عن فوز حزب الكتلة الوطنية، ما ساعد على اختيار زعيمه، شكري القوتلي، رئيساً للجمهورية.

مهدت الحرب العالمية الثانية لنشوء طبقة بورجوازية جديدة، قوامها كبار التجار، الذين ازدادت مكاسبهم، أثناءها. وسرعان ما سعت إلى تسخير الأحزاب التقليدية، ونظام الجمهورية البرلمانية، لوصولها إلى السلطة. وقد تمكنت تلك الأحزاب، أحياناً، من الجمع بين البورجوازية الناشئة والزعماء التقليديين، الذين يعتمدون على الملكية الزراعية أو الطائفة الدينية، وهم غالبية في المجلس النيابي؛ على الرغم من أنهم غير منتمين إلى أحزاب. وتمخض ذلك بظهور أحزاب، أهمها: فهي الحزب الوطني وحزب الشعب.

وفي 29 نوفمبر 1948، أيْ في الذكرى الأولى لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، الرقم 181، الذي يوصي بتقسيم فلسطين، اندلعت تظاهرات عنيفة في المدن السورية، صادمت رجال الشرطة، فسقط عدد من الضحايا؛ ما اضطر الحكومة، في 3 ديسمبر، إلى الاستنجاد بالجيش، فكان ذلك إيذاناً بتدخل القادة العسكريين في الشؤون السياسية. وقد استهله حسني الزعيم، رئيس الأركان العامة للجيش السوري؛ تسانده جماعة من الضباط القوميين، والسياسيين الراديكاليين، فاستولى، ليلة 29/30 مارس 1949، على السلطة، وأطاح الحكم القائم. ولاقى هذا العمل رضي عامة الشعب. هكذا أقحم الجيش في السياسة، والبلاد في الفوضى والمتاعب.

أولاً: الاستقلال

كان لهزيمة فرنسا، في الحرب العالمية الثانية، أبعد الأثر في تطور سورية؛ إذ كانت هي ولبنان، هما أسبق البلاد العربية المجاورة إلى الاستقلال، من دون التقيد بواحدة من المعاهدات غير المتكافئة.

اتخذ الرأي العام السوري موقفاً سلبياً من الصراع الدولي، وعلقت أحزابه نشاطها؛ لأن سورية كانت بعيدة عن مسرح القتال. بيد أن فئات قليلة، شذت، مثل: الحزب القومي السوري، نصير النازية، وشبيهها في عقائده السياسية وتشكيلات الشباب، التي ألفها في الثلاثينيات. أمّا الحزب الشيوعي السوري، الفريد في نوعه، في الشرق العربي حينذاك، فكان فرعاً من الحزب الشيوعي الفرنسي؛ لذلك بقي قائماً حتى حل الحزب الرئيسي، لأسباب تتعلق بالسياسة الداخلية الفرنسية. لقد عارض الشيوعيون الكتلة الوطنية، إلا أنهم وافقوها على مشروع معاهدة 1936؛ لأن اليسار الفرنسي كان المسؤول عنها. ولم يلبثوا أن عانوا انقسامات، ناجمة عن اختلاف أعراقهم؛ فمنهم الأرمن والأكراد، فضلاً عن العرب.

أثار توقيع فرنسا للهدنة بلبلة شديدة لدى السلطات الفرنسية في الشرق؛ إذ إن سورية بعيدة عن منال المحور، وفي استطاعة تلك السلطات أن تستمر في التعاون مع بريطانيا، ولا سيما أن الجنرال شارل ديجول، انتقل إلى لندن، حيث وجَّه نداءه التاريخي، في 18 يونيه 1940، داعياً الفرنسيين إلى نبذ الهدنة، واستمرار القتال إلى جانب بريطانيا. وقد أبدى الجنرال متلهاوزر، القائد الفرنسي الجديد في الشرق، ميله إلى استمرار التحالف مع بريطانيا؛ ما شجع الجنرال البريطاني، أرشيبالد ويفل، على زيارة خاطفة إلى دمشق، في نهاية شهر يونيه. إلا أن القائد الفرنسي/ ما لبثت أن تنكر لميله، بأيد\ حكومة فيشي، التي أعلنت أن من أهدافها المحافظة على الإمبراطورية؛ حاذياً بذلك حذو المقيم الفرنسي العام في كلّ من تونس ومراكش، اللذَين أعلنا ولاءهما لها.

وفي أوائل يوليه 1940، تأزمت العلاقات بين بريطانيا وحكومة فيشي، إثر تعرض الأسطول الفرنسي، في وهران، لغارة بريطانية بحرية؛ فانقطعت العلاقات الدبلوماسية بين الطرفَين. وبادرت بريطانيا إلى تحديد موقفها من سلطات فيشي، في سورية ولبنان؛ لأهمية موقع القطرَين وتأثيره تأثيراً مباشراً في النشاط البريطاني الحربي في الشرق الأوسط؛ إذ لو أمكن القوات الألمانية الوصول إليهما، لأمست مصر وقناة السويس بين فكَّي كماشة محورية. فأصدرت الحكومة البريطانية، في 2 يوليه، التصريح التالي:" تسجل الحكومة البريطانية إعلان الجنرال متلهاوزر، القائد الفرنسي العام في المشرق، بأن الحرب قد انتهت في سورية. وهي ترى أن ذلك لا يعني، إنْ فكرت كلّ من إيطاليا أو ألمانيا في احتلال سورية أو لبنان، وحاولت ذلك، على الرغم من اعتراض القوات البريطانية البحرية، أن تقف القوات الفرنسية ساكنة، من دون محاولة مقاومتها".

ومن ثَم، أعلنت الحكومة البريطانية، أنها لن تسمح لأيّ دولة معادية باحتلال سورية ولبنان، أو اتخاذهما قاعدة للهجوم على أقطار الشرق الأوسط، التي تقع على بريطانيا مسؤولية الدفاع عنها، أو تحويلهما إلى بؤرة للاضطرابات. وهددت بأنها حرة في اتخاذ أيّ إجراءات لمواجهة هذه الحالة، دفاعاً عن مصالحها. وأوضحت أن أيّاً من إجراءاتها، لن يكون له تأثير، في المستقبل، في الوضع السياسي للأقاليم الواقعة تحت الانتداب الفرنسي.

وسرعان ما ازدادت العلاقات سوءاً، بين بريطانيا وسلطات حكومة فيشي. وأغلقت الحدود بين سورية ولبنان، من جهة؛ والأقطار الخاضعة للنفوذ البريطاني، والمحيطة بهما، من جهة أخرى؛ ما أضر بالاقتصاد السوري. وعمدت السلطات الفرنسية إلى إبعاد ذوي الميول البريطانية؛ لا، بل طاول انتقامها أولئك الذين كانت قد تغاضت عنهم، أثناء تحالفها مع بريطانيا، مثل عبدالرحمن شاهبندر؛ لأنهم كانوا ينادون بملكية دستورية، سيضمها، لا محالة، اتحاد مع العراق أو الأردن؛ فهُم، إذا، أصدقاء للإنجليز ولذلك، اشتدت الريبة في صِلة حكومة فيشي باغتيال شاهبندر، في صيف 1940.

في أوائل عام 1941، وفد على دمشق ألفون أوتوهنتج، وزيراً ألمانياً مفوضاً في العاصمة السورية؛ وهو المعروف بنشاطه في الشرق الأوسط، إبّان الحرب العالمية الأولى، حتى لقب باللورنس الألماني. وشرع يستميل زعماء سورية. وتألَّف شعبها بإثارة موضوع الوطن القومي لليهود في فلسطين؛ لا، بل روج فكرة عقد مؤتمر إسلامي في دمشق، لبحث هذه القضية. فامتعضت منه السلطات الفرنسية وطلبت إبعاده عن البلاد. واستجابت لها ألمانيا، ولَمّا يمضِ على تعيينه شهران.

لم تقتصر محاصرة سورية على حرمانها التجارة مع الأقطار المحيطة بها؛ بل تسببت كذلك بانخفاض سعر الفرنك الفرنسي، عام 1940، انخفاضاً كبيراً؛ وذلك لأن بريطانيا كانت قد حددت له، في بداية الحرب، سعراً مجزياً مقابل الجنيه الإسترليني، ولما انقطعت التجارة مـع الأقطار الآنفة؛ والتي ترتبط بمنطقة الإسترليني، حدث ذلك الانخفاض. وفقد التجار ثقتهم بالعملة الورقية، التي يصدرها بنك سورية، المؤسَّس برؤوس أموال فرنسية. وفضَّل كبار الملاك اختزان القمح على بيعه بالسعر المنخفض؛ فنشطت السود السوداء، واستشرت الأزمة الاقتصادية، مهددة سورية بالمجاعة.

رأى القوتلي أن إنقاذ البلاد مما تعانيه، إنما يكمن في إلغاء نظام المديرين، وإعادة العمل بالدستور، وإجراء انتخابات حرة؛ وتأليف حكومة تعبّر عن الإرادة الشعبية، وتتسلم السلطة من الانتداب. وقد استجاب الجنرال دنتز، المندوب الفرنسي السامي بعض هذه المطالب في أضيق نطاق، في أوائل أبريل 1941 لبعض تلك الرؤى؛ إذ أبى إجراء الانتخابات النيابية، ورفع الرقابة عن الجرائد والحريات العامة، متعللاً بظروف الحرب؛ ولكنه عهد إلى خالد العظم بتأليف مجلس وزراء، وأبدى استعداداً لتعيين مجلس دولة، يتولى السلطة التشريعية.

1. تدخّل الحلفاء (1941)

هاودت بريطاني حكومة فيشي، عسى ألاّ تحالف الألمان؛ فلم تعكّر عليها المستعمرات الفرنسية في الشرق. بيد أنها ساعدت ديجول على الاحتفاظ بالمستعمرات، التي اختارت الانضمام إليه، في أفريقيا الاستوائية؛ ولكنها سرعان ما تخلت عن مساعدته. وفي الوقت عينه، كانت تخطط، منذ 25 أبريل 1941، للتدخل في سورية، منفردة أو بالتعاون مع تركيا، إذا ما تسللت قوات المحور إلى الشام. إلا أن كثرة أعباء القيادة البريطانية في الشرق الأوسط وتعدُّد جبهاتها، حملا الجنرال ويفل على التهديد بالاستقالة، إذا فتحت جبهة أخرى في سورية.

وعزز ريبة بريطانيا توقيع حكومة فيشي اتفاقاً مع الألمان في 21 مايو 1941، يسمح لها بتعزيز قواتها في سورية ولبنان؛ ويخولهم استخدام المطارات الفرنسية فيهما، من أجل نقل المساعدات إلى العراق. وفي أوائل يونيه 1941، أصبحت الحملة الإنجليزية على سورية، بالتعاون مع حكومة فرنسا الحرة، أمراً ممكناً؛ إذ تخلّى الجيش البريطاني عن كريت، وقضى على ثورة رشيد عالي الكيلاني في العراق؛ فأمست القوات البريطانية، تُحدِق بالشام من الجنوب والشرق.

حرصت بريطانيا، قُبَيل الحملة، على الفوز بتأييد السوريين، فأغرتهم بأن الحلفاء سيعلنون، عند بدئها، إنهاء الانتداب. ويذكر مذكرات ونستون تشرشل، أن الحكومة البريطانية، أرغمت حكومة فرنسا الحرة على ذلك الإعلان. ويشير إلى أنه أرسل خطاباً، في 6 يونيه 1941، إلى ديجول، يسجل على الأخير وعده "باستقلال سورية ولبنان". وأنه من الضروري إعطاء هذا الوعد جميع الضمانات التي يستحقها. ويجب ألاّ تكون المسألة السورية سبباً لاضطراب الأمن في الشرق الأوسط. وباستثناء هذا التحفظ الخاص بالأمن، يجب أن نبذل ما في وسعنا لإرضاء أماني العرب واحترام مشاعرهم".

وعشية بدء الحملة في 8 يونيه 1941، وجّه الجنرال كاترو[1]، الذي عينته حكومة فرنسا الحرة مندوباً لها في القاهرة، التصريح التالي إلى الشعبَين: السوري واللبناني:" لقد أتيت لوضع حدّ لنظام الانتداب، ولأعلن لكم أنكم أحرار ومستقلون. وعلى هذا، ستصبحون، منذ هذه اللحظة، شعبَين مستقلَّين، ذَوّى سيادة. وسيكون لكم الخيار في أن تؤسسوا لأنفسكم دولَتين مستقلتَين، أو أن تنتظموا في دولة واحدة". وفي اليوم نفسه، نشر مايلز لامبسون، المندوب البريطاني السامي في مصر، تصريحاً مشابهاً.

لم تصادف قوات الحلفاء، في بداية الأمر، مقاومة تذكر. وما إن اقتربت من جنوب العاصمة السورية، حتى جُبهت بهجوم هجوم مضادّ، شنه نحو 35 ألف جندي. وفي 16 يونيه، استردت القنيطرة، واضطرت بريطانيا إلى إرسال تعزيزات جديدة، لم تكن متوقعة. وحُرٍم دنتز أيّ دعم من فرنسا، فطلب، في 21 يونيه، تعرُّف شروط الحلفاء لعقد الهدنة، فأجيب بأنه سيسمح بترحيل الجيش الفرنسي، مع جميع مظاهر الشرف العسكري. وفي أثناء المحادثات، سقطت دمشق، في 24 يونيه. وسارعت الولايات المتحدة الأمريكية إلى تحقيق الهدنة، فكانت في 12 يوليه 1941. ونظمت شروطها جلاء قوات حكومة فيشي عن المشرق.

2. النزاع البريطاني ـ الفرنسي (1941 – 1943)

لم يَحُل تحالف بريطانيا وفرنسان الحرة دون اختلافهما. وكانت أولى بوادره قد ظهرت قبل احتلالهما لسورية، حينما احتج ديجول على إصرار بريطانيا على تصريح، يضمن استقلال ذلك البلد؛ ما عُدَّ انتقاصاً من سلطة فرنسا الحرة في تصريف شؤونه السياسية. ولذلك عُين كاترو "مفوضاً عاماً"، يوم احتلال قوات الحلفاء لدمشق. كما أكد الإنجليز، بعد الهدنة، أنهم لا يرغبون في الحلول محل فرنسا، في أيّ جزء من إمبراطوريتها؛ بل اعترفوا بدورها التاريخي في المشرق، وبامتيازاتها في الشؤون: الثقافية والاقتصادية. ووقع اتفاق بين الجنرال ديجول وأوليفر ليتلتون، وزير الدولة البريطاني لشؤون الشرق الأوسط، عرف باسم اتفاق ديجول – ليتلتون، أقر بمركز ممتاز لفرنسا على الدول الأوروبية، شريطة تنفيذ التعهد الخاص باستقلال سورية. ولكن سرعان ما اتهم الجنرال كاترو الإنجليز، ولَمّا يمضِ على اتفاقهما سوى بضعة أيام، بأنهم يؤامرون الدروز في الانفصال عن سورية، والانضمام إلى شرق الأردن.

سعت السياسة الفرنسية، في الأشهر الأولى من الاحتلال الثنائي، إلى الاحتفاظ بجميع امتيازات الدولة المنتدَبة، حتى نهاية الحرب؛ فما  تصريح كاترو، إذاً، بالاستقلال سوى تغيير في الشكل.

أمّا بريطانيا، فكانت ترى أن إبقاء الوضع على ما هو عليه، قد يثير القلاقل في سورية، فيعرقل النشاط الحربي. لذلك، لا بدّ من تغيير فعلي، مع احتفاظ فرنسا ببعض الامتيازات، مثل تلك التي تتمتع بها بريطانيا في مصر أو العراق. وهكذا أصدر تشرشل تصريحاً، في مجلس العموم، في 9 سبتمبر 1941، جاء فيه: " إن سياستنا التي أعلناها، واشترك فيها حلفاؤنا، رجال فرنسا الحرة، هي أن ترجع سورية إلى الذين يجب أن يتمتعوا، في أقرب فرصة، بحقوقهم في الاستقلال والسيادة. ولا نري أن يؤجل ذلك إلى نهاية الحرب".

وفي 28 سبتمبر 1941، أعلن كاترو قيام دولة سورية. وقد اختُلِف في تفسير الخطوة الفرنسية، فرأى فيها بعضهم خضوعاً لتصريح تشرشل في مجلس العموم. وتأوّلها آخرون بأنها إحباط لفكرة الهلال الخصيب، التي راج الحديث بها؛ إذ إن الإعلان الفرنسي، أكد الصفة الجمهورية للدولة السورية الجديدة.

رفضت الولايات المتحدة الأمريكية الاعتراف بالدولتَين الجديدتَين: سورية ولبنان؛ لأن حكومتَيهما لا تمثلان إرادة الشعبيَن: السوري واللبناني. ولكن بريطانيا بادرت إلى الاعتراف بسورية، وعينت فيها وزيراً مفوضاً، هو إدوارد سبيرز. وفي دمشق راود كاترو هاشم الأتاسي على رئاسة الجمهورية، في مقابل الاتفاق السري على وضع معاهدة 1936 موضع التنفيذ. فقبل العمل بالمعاهدة، خلال فترة الحرب؛ ولكن رفض أن يشارك الفرنسيين في مؤامرة على الحركة الوطنية.

لطالما ارتاب الوطنيون السوريون في نيات بريطانيا. وكانت فرنسا الحرة أشد ريبة، أثناء تأليف حكومة سورية في صيف 1942؛ ما زعزع علاقاتها بلندن، حتى إن ديجول هدد بالتخلي عن محالفة الإنجليز، مكتفياً  بالانزواء في أفريقيا الاستوائية.

ولكن تغير الموقف العسكري، في شمالي أفريقيا، في أوائل عام 1943، أدى إلى تأييد تشرشل لتولي ديجول زعامة الفرنسيين هناك. وابتعدت ميادين القتال عن الشرق الأوسط، فزالت الحجة، التي طالما تذرع بها الفرنسيون لتأجيل الانتخابات في سورية. وهكذا أصدرت حكومة فرنسا الحرة قراراً، في 24 يناير 1943، يسمح بإجراء الانتخابات، لتكوين جمعية وطنية في البلاد.

3. التصادم

أسفرت الانتخابات النيابية في سورية، صيف 1943، عن فوز الكتلة الوطنية؛ وتولِّي جيل جديد لقيادتها، فتزعمها شكري القوتلي بدلاً من هاشم الأتاسي، وصار المرشح الوحيد لرئاسة الجمهورية.

أصر المفوض الفرنسي، خلال المفاوضات بين الحكومة السورية والسلطات الفرنسية، على أن الانتداب لا يمكن إلغاؤه إلا بمعاهدة، كتلك المبرمة بين بريطانيا وبعض الدول العربية؛ فضلاً عن أنه لا يُلغَى إلا إذا استبدل بعصبة الأمم، التي أقرته، منظمة دولية أخرى. وفنّد السوريون الحجج الفرنسية، وذكروا أن الانتداب غير صحيح، منذ البداية؛ لأن أهل البلاد، لم يستشاروا فيه.

لم يَلِن موقف فرنسا على بعد الضربة التي تلقتها، في نوفمبر 1943، وأضعفت قدرتها على المساومة؛ فاضطرت إلى التخلي عن كثير من امتيازاتها، إذ أعادت إلى حكومة دمشق إدارة المناطق، التي كانت تتمتع بالحكم الذاتي، مثل: جبل الدروز وبلاد العلويين. ولكنها عادة إلى تشددها، عام 1944، إثر تحرير الأراضي الفرنسية من الاحتلال الألماني، واعتراف الدول بحكومة ديجول المؤقتة. ويلمِح إلى ذلك قول ديجول نفسه، في 25 يناير 1945: "كانت فرنسا أول دولة اعترفت باستقلال سورية ولبنان، اللتَين لها فيهما مركز ممتاز، يجب عليها أن تحافظ عليه. وهي مصممة على أن تمنح أصدقاءها: السوريين واللبنانيين، استقلالاً حقيقياً؛ ولكن التدخل الأجنبي، هو الذي يزيد من تعقيد هذه المسألة".

غاب عن فرنسا، أن سورية حظيت كذلك باعتراف الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي باستقلالها؛ كما تأكد استقلالها الاقتصادي باستمرارها في الارتباط بالإسترليني، خوفاً على النقد السوري من التقلبات الشديدة، التي تعتري الفرنك الفرنسي.

كان من المقرر أن تبدأ المفاوضات، بين فرنسا وسورية، في 19 مايو 1945. غير أن الحكومة الفرنسية آثرت، قبل بدئها، أن تلوّح بالقوة، فشرعت، منذ 15 مايو، ترسل تعزيزات عسكرية إلى سورية؛ ما أثار احتجاج دمشق وأدى قطع المفاوضات. بدا ضيق السوريين بالخطوة الفرنسية في إضراب عام، سرعان ما تحوّل إلى اشتباك حول محطة حماة، واصطدامات في حلب، وانتهى إلى ضرب دمشق، جوا،ً في 29 مايو 1945. وقدر ضحايا تلك الأحداث بنحو 500 قتيل و1400 جريح.

عجِلت بريطانيا إلى إنذار فرنسا. فأرسل تشرشل، في 31 مايو1945، إلى ديجول، يقول: "إزاء الموقف الخطير بين قواتكم ودولتَي المشرق، ونشوب القتال العنيف معهما، آسف كلّ الأسف، أن أبلغكم أننا قد أمرنا القائد العام في الشرق الأوسط بأن يتدخل، ليحُول دون الاستمرار في إراقة الدماء؛ محافظة على الأمن في منطقة الشرق الأوسط كلّها. وتجنباً لاصطدام القوات: البريطانية والفرنسية، نطلب منكم أن تأمروا، في الحال، القوات الفرنسية بأن تكفّ عن إطلاق النار، وأن تتراجع إلى ثكناتها. وما إن يقف وقف إطلاق النار، ويرجع النظام إلى نصابه، نكون مستعدين لأن نبدأ محادثات ثلاثية، في لندن".

اضطر الإنذار البريطاني الفرنسيين إلى التخلي عن استئثارهم بقضية سورية ولبنان، ورفضهم تدويلها. فعرض جورج بيدو، وزير خارجية فرنسا، أن يطرح موضوع علاقات الدول العربية المختلفة بكلّ من بريطانيا وفرنسا، على الدول الخمس الكبرى، أو الأمم المتحدة. غير أن الولايات المتحدة الأمريكية، رفضت الفكرة، بحجة أن هذا الموضوع معقد، لا تقوى عليه المنظمة الدولية الناشئة.

أيقنت فرنسا أن لا مفر من مفاوضة الحكومة السورية؛ علّها تستطيع أن تظفر ببعض الامتيازات. فأعلنت، في 8 يوليه 1945، أنها ستفوض إليها، خلال 45 يوماً، إمرة القوى التابعة للاحتلال، والتي اختص بها سورية.[2]

صارت الفرصة سانحة للمطالبة بالجلاء، دونما حاجة إلى معاهدة، لا يتكافأ طرفاها؛ كما حدث في بعض الدول العربية. ولكن، عاق اغتنامها اشتراط بريطانيا للموافقة على الجلاء، أن تُنْشَأ هيئة دفاع مشترك للشرق الأوسط، والتي من شأنها أن تؤكد النفوذ البريطاني في الشرق العربي،. وقد وضحت بريطانيا سياستها الجديدة في تصريح 13 ديسمبر 1945:"سينفذ برنامج الجلاء على نحو، يضمن أن تبقى في المشرق قوات كافية للمحافظة على الأمن، ريثما تقرر هيئة الأمم تنظيم أمن جماعي خاص لهذه المنطقة".

أَوَّلت فرنسا ذلك التصريح بأن بريطانيا، ستجلو عن سورية ولبنان، وتبقى في هذا الأخير القوات الفرنسية. وبدد الإنجليز هذا اللَّبْس بالإعلان أنهم لا ينوون الجلاء وحدهم، في أيّ حال من الأحوال. وما لبثت القضية أن عرضت، في فبراير 1946، على مجلس الأمن، حيث تبين أن لندن غير متمسكة بالاحتلال، فأُحرجت باريس، واضطرت إلى الخضوع لقرار أغلبية المجلس، الذي حض الأطراف المتنازعة على التفاوض، للوصول إلى اتفاق على مبدأ الجلاء؛ وهو  القرار الذي لم يبطله نقض الاتحاد السوفيتي، إذ عَدَّه غير كافٍ، وأراد أن ينص على الجلاء، صراحة. وأضحت مصائب المحتلين فوائد لسورية؛ إذ أعلنت بريطانيا وفرنسا، في 4 مارس 1946، أنهما اتفقتا على الجلاء عنها. وكان جلاؤهما في 17 أبريل 1946.

ثانياً: عدم استقرار الحكم

تداول رئاسة الحكومة السورية، بين عامَي 1943 و1947، ثلاثة من أعيان الكتلة الوطنية: سعدالله الجابري وجميل مردم وفارس الخوري. وقد عانت حكوماتهم تشبُّث فرنسا بما تبقى لها من السلطة، وإصرارها على معاهدة مع السوريين تصون مصالحها؛ فضلاً عن معاناة تلك الحكومات شحوب صورتها، وافتقارها ثقة الشعب. وطاولت المعاناة الكتلة نفسها، بل قضت عليها بعد موت سعدالله الجابري، في 20 يونيه 1947؛ وهو أشد رجالها شجاعة واستقامة، وربما أوْحدهم سمعة ونفوذاً. وقد أنعش ذلك مكانة رئيس الجمهورية، القوتلي؛ وسمح بظهور القوى المناوئة للكتلة المحتضرة.

1. الحزب الوطني

في ربيع 1947، وقبل بضعة أشهر من الانتخابات العامة ببضعة شهور، سعى جناح الكتلة الحاكم إلى توحيد شتيته في الحزب الوطني؛ وكان مركزه في دمشق، حيث يتوافر أتباع رجاله، أمثال: القوتلي وفارس الخوري ولطفي الحفار وصبري العسلي. وقَصَرَ الحزب سياسته على العاصمة السورية، فلم يطرح أيّ منهاج مفصل، ولم يُخضع محازبيه لأيّ نظام؛ بل لم يستطع الادعـاء بأن له قيادة ذات بنية تنظيمية واضحـة. ولم تعتمد قوّته الانتخابية على الخصائص الذاتية لقادته اعتمادها على سجلهم الوطني. ولذلك، فَقَدَ مرشحوه تأييد الناس، وبخاصة عام1950؛ إذ خرجوا من أحيائهم القديمة، وقطنوا في المناطق السكنية الحديثة؛ فضلاً عن افتقاده ما حظيت به الأحزاب العصرية الأيديولوجية، من محازبين شباب، ونوادٍ سياسية، اضطلعت بدور انطلاقي وتعليمي.

2. حزب الشعب

اتسم رجال الكتلة الوطنية بضيق الآفق، وانحصار طموحهم في صيانة وجودهم السياسي، والمحافظة المحدودة على استقلال الدولة؛ نايهك بتخلُّفهم عن الرأي العام السوري، ولا سيما رأي الشباب، الذين أمسوا عرضة للأفكار: البعثية والشيوعية، فانبروا يطالبون بالاستقلال التام، سبيلاً لإصلاح الحياة الوطنية، وجعْل بلدهم معقلاً، تندفع منه حركة تحرير الدول العربية الأخرى وتوحيدها. فأضحت الكتلة نَخِرة، كثُر معارضوها، وبخاصة أولئك الذين يناوئون القوتلي، مثل: الكتلة البرلمانية الدستورية والكتلة البرلمانية الشعبية. وما لبث المعارضون أن انشقوا عن الكتلة الوطنية، ليأتلفوا في حزب الشعب، الذي كان يمثل المصالح التجارية في حلب والمنطقة الشمالية، حيث اكتسب تأييد عائلة الأتاسي الإقطاعية، ذات الأملاك الشاسعة، في حمص.

لم يكن حزب الشعب حزباً هاشمياً، ولا ملكياً؛ فقد كان يرتبط بالمؤسسات الجمهورية. وإنما كان حزباً حلبياً، في المقام الأول، ذا بُعْد قومي. ولذلك، جهد في إزالة الحدود بين سورية والعراق، وتحطيم الحواجز التجارية بين البلدين. ورفع، في 23 أكتوبر 1948، إلى الرئيس القوتلي مذكرة، تدعو إلى اتحاد عربي، لمواجهة التهديد الإسرائيلي.

3. انتخابات عام 1947

في انتخابات يوليه 1947، شكل حزبا البعث والشعب جبهة مشتركة، لشن حملة إصلاح انتخابي. ونجحت حملة المعارضة من أجل انتخابات مباشرة، في مرحلة واحدة. وفازت بثلاثة وثلاثين مقعداً جديداً، فارتفع تمثيلها في المجلس إلى 53 نائباً؛ مقابل 24 نائباً للحزب الوطني، يضاف إليهمما يزيد على الخمسين، من المستقلين، الذين لا ينتسبون إلى أيّ حزب. حقق هؤلاء المستقلون التوازن بين الكتلَتين المتنافستَين؛ غير أنهم استمروا أرضاً صالحة للانتهازيين السياسيين، حتى اختفاء البرلمان السوري، عام 1958. وتمثلوا في ملاك أراضٍ ورجال أعمال وزعماء قبائل، وأقليات، ورؤساء عائلات كبرى؛ ومن ثَم، فهُم يضعفون التنظيمات الحزبية.

ففي حلب، فاز جميع زعماء المعارضة، وهم: رشدي الكيخيا، وناظم القدسي، ومصطفى برمدا، ووهبي الحريري، وأحمد الرفاعي. وفي دمشق، أخفق، في الدورة الأولى، معظم كبار الحزب الوطني في الحصول على 40% من الأصوات المشترَطة للنجاح؛ ولكنهم في الدورة الثانية، حين أصبحت الأغلبية القليلة كافية، فازوا بأغلبية ساحقة، مريبة، اتُّهمَت وزارة الداخلية بالمواطأة عليها. وقد انتخب المجلس الجديد، في جلسته الأولى، في 27 أغسطس 1947، فارس الخوري رئيساً له. وفي اليوم التالي، استقالت حكومة جميل مردم، ليكلَّف رئيسها نفسه تأليف الحكومة الجديدة.

بادر القوتلي الحكومة، في أكتوبر 1947، بحملها على تقديم مشروع قانون،يعدِّل المادة 68 من الدستور، فيمكّنه من تجديد انتخابه، في 18 أبريل 1948، خمس سنوات أخرى. أبهج التجديد المستنفعين، ولا سيما أقارب الرئيس القوتلي نفسه؛ ولكنه أساء إلى الشعب السوري، إذ أحدقت به الفوضى وسوء الإدارة، وارتفاع الأسعار وشح المحاصيل. وكلُّ ذلك عاق حركة الإصلاح، وأسهم في انهيار النظام البرلماني السوري.

4. وزارة خالد العظم

أسخطت السوريين نتائج حرب فلسطين عام 1948؛ فعّمت الإضرابات مدنهم الكبرى، امتعاضاً من ضعف الجيش السوري في تلك الحرب، وتبرماً بحالة الطوارئ المعلنة في البلاد؛ فاستقال جميل مردم، في الأول من ديسمبر 1948. وتهيَّب الكيخيا والقدسي، زعيما حزب الشعب الاشتراكي؛ وهاشم الأتاسي، تهيبوا تأليف حكومة جديدة؛ ما اضطر القوتلي إلى استدعاء الخبير المالي، خالد العظم، من باريس، وعهد إليه بتأليفها. فجاءت الوزارة، في 16 ديسمبر 1948، من خارج المجلس النيابي. واستهلت نشاطها، بعد عشرة أيام، بمواجهة مشكلَتين: أولاهما، الحاجة إلى عقد اتفاق نقدي مع فرنسا؛ الأمر الذي استنكرته المعارضة، وعَدَّته مقدمة لإحياء النفوذ الفرنسي في سورية. وثانيتهما، قضية منح شركة الأنابيب الأمريكية (التابلاين) تسهيلات عبور من المملكة العربية السعودية إلى ميناء الزهراني، جنوب صيدا، على الساحل اللبناني من البحر الأبيض المتوسط؛ وهو ما أوحى معارضو الحكومة بأنه طليعة الاستعمار الأمريكي.

قادة معارضة الحكومة، في داخل المجلس النيابي، حزب الشعب والإخوان المسلمون؛ وفي خارجه، حزب البعث والطلاب. غير أن المعارضة، لم تثنِ خالد العظم عن توقيع اتفاقية سورية – فرنسية، في دمشق، في 7 فبراير 1949، ذللت جميع المتاعب المالية المعلقة. تلاها، في 16 من الشهر عينه، توقيع اتفاقية التابلاين. وقبل إقرار المجلس النيابي للاتفاقيتَين، قاد حسني الزعيم انقلاباً عسكرياً على شكري القوتلي، ليلة 29/30 مارس 1949. ولم يُجْدَ المجلس تردده في إقرار اتفاقية التابلاين؛ إذ وقعها سواه، ليشاع أن الولايات المتحدة الأمريكية، تزكِّي انقلاب حسني الزعيم.



[1] استطاع كاترو خلال وجوده بالقاهرة أن يشكل جيشاً صغيراً بهدف التدخل به لانتزاع سورية ولبنان من يد حكومة فيشي.

[2] هي قوات تتكون من عناصر مختلطة من الشركس والأرمن ومن سكان البلاد الأصليين، وكانت تتبع لقيادة الجيش الفرنسي وتقوم بأعمال الشرطة وقدر عددها بنحو 25 ألفاً، وطالبت سورية بضم هذه القوات للحكومة السورية حتى تكون نواة لجيشها الوطني.