إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / سورية من الاستقلال إلى حافظ الأسد




هاشم الأتاسي
أديب الشيشيكلي
أكرم الحوراني
جميل مردم
خالد العظم
حافظ الأسد
حسني الزعيم
سامي الحناوي
صبري العسلي
شكري القوتلي
سعد الله الجابري
فارس الخوري





سورية من عصر الإستقلال والإنقلابات

المبحث الثالث: عصر الانقلابات، والعودة إلى الجمهورية البرلمانية

كان معظم الضباط القدامى في الجيش السوري، يتحدرون من عائلات كبيرة، حرص الفرنسيون على ولائها، فضموا أبناءها أولئك إلى القوات الخاصة. وإثر رحيل الفرنسيين، في أبريل عام 1946، تمخض ذلك الجيش بجيل من الشباب الوطنيين المنتمين إلى الطبقة الوسطي، التي تربت في مدارس حركات الشباب، التي عرفتها فترة الأربعينيات. وكان لخريجي عام 1946-1947، الذين شاركوا في حرب فلسطين، عام 1948، دور مهم في الجيش، وفي الحياة السياسية في سورية.

أكرم الحوراني والجيش

تنبَّه لأهمية الضباط الواعين سياسياً زعيم من حماة، هو أكرم الحوراني، قاد، منذ عام 1939، حركة الشباب في المدينة. ولم يَكْفِه نشاطها في التذمر على الانتداب والنظام السوري، فسعى على تقويتها، فألحقها، سراً، بتنظيم شبه عسكري، الحزب السوري القومي، أشد القوى عداء للانتداب. ولم يتردد الحوراني نفسه في الانضمام إلى الضباط الشباب ومشاركتهم في الغارات الفدائية على الحاميات الفرنسية في منطقة حماة؛ لا، بل اقتحم، في ربيع 1945، هو والضابطان الأخَوان: أديب وصلاح الشيشكلي، وبعض رجال الحزب السوري القومي، قلعة حماة، وطردوا حاميها الفرنسية.

كان الحوراني قد حالف، في انتخابات عام 1943، الكتلة الوطنية، فانتخب ممثلاً للجيل الجديد في حماة. واجتمع في دمشق، مع اثنَين من أركان حزب البعث العربي: ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار. وسرعان ما بدا له رحابة القومية العربية، وشمولية الاشتراكية، فاستبدلهما بتقوقع القومية السورية، وأسَّس، في مايو 1945، حزبه العربي الاشتراكي، ليمسي، في نهاية الحرب العالمية الثانية، أعظم الزعماء الشعبيين في شمالي سورية. واجتهد، بعد الحرب، في توسعة نفوذه في الجيش، من خلال اتصالاته بطلاب الكلية العسكرية في حمص. ولم يتوانَ، هو وأديب الشيشكلي، أوائل عام 1948، في قيادة المناضلين، عبْر الحدود الفلسطينية.

مناقشة مجلس النواب لميزانية الدفاع

كانت مناقشة المجلس النيابي السوري لميزانية الدفاع، هي الإيذان بالانقلاب الأول؛ إذ طلب نواب، يتزعمهم نائب، ينتمي إلى حزب يميني ناشئ، الاشتراكي العربي، ويدعى فيصل العسلين طالبوا تخفيض نفقات الدفاع، لا زيادتها، لجيش، قصَّر عن معركة فلسطين. اشتد عَصْف الكارثة الفلسطينية بسورية، حتى إن قادتها: العسكريين والمدنيين، تنافروا، وتراموا بالمسؤولية عن تلك الكارثة؛ ما كان تمهيداً لأول انقلاب عسكري.

أولاً: الانقلاب العسكري الأول، بقيادة حسني الزعيم[1] (ليلة 29/30 مارس 1949)

لم يخطط أكرم الحوراني للانقلاب، على نفوذه ولكن اثنَين من أشد مسانديه العسكريين حماسة: بهيج الكلاس وأديب الشيشكلي، آزرا حسني الزعيم على انقلابه، ليلة 19/30 مارس 1949؛ فكان أولهما نائبه في القيادة، وقاد الثاني وحدات المشاة والمدرعات، التي نفذت الانقلاب، بالزحف إلى دمشق من قطنة، التي تبعد عنها عشرين ميلاً.

نجح الانقلاب، من دون إراقة قطرة دم، وقُبض على رئيس الجمهورية، ورئيس الوزراء، وعدد من الوزراء والنواب، أولئك الذين لم يكونوا بالخونة، كما وصمهم الانقلابيون؛ وإنما ساسة لا جذور عميقة لهم بين الشعب، حرمتهم سياسة الانتداب التمرس بالشؤون الحكومية، فلم يتقنوا فن "بناء الدولة"، وتقاسموا السلطة بعد الاستقلال، بأسلوب تقليدي، لا ينم باستيعاب معنى حكومة نيابية شعبية الأُسُس.

واجه حسني الزعيم صعوبات جمة دون شرعية نظامه، سواء في الداخل أو في الخارج؛ إذ كان انقلابه بدعاً في حياة المشرق العربي السياسية، لا سابقة له في منطقة الشرق الأوسط. ففي الداخل، دُعي مجلس النواب السوري لإقرار الوضع الجديد، فتمسك غالبية أعضائه بقسم الولاء للدستور؛ وانحصرت إمكاناتهم في ثلاثة خيارات:

1.     تنصيب رئيس المجلس النيابي، وفق العادة، رئيساً للجمهورية، في حالة غياب الرئيس الأصيل أو وفاته. ولكن هذا الخيار طُّرِح؛ لأن رئيس المجلس، فارس الخوري، لم يكن راضياً عن الانقلاب العسكري، وليس لكونه مسيحياً، ولا لخطوته بتأييد شعبي واسع.

2.     تعديل الدستور بما ينص على شغور رئاسة الجمهورية، وكيفية مواجهة تلك الحالة.

3.     حل مجلس النواب، وإجراء انتخابات جديدة.

لم يتفق النواب على أيّ من تلك الخيارات. وانفضوا من دون اتخاذ أيّ قرار. ورفض معظمهم التعامل مع الحكومة الجديدة، فلم يكن بدّ من حل المجلس.

وفي الخارج، تتردد كثير من الحكومات في الاعتراف بنظام حسني الزعيم. وآثر بعض الدول الترقب، ريثما ينجلي الموقف إذ إن القائد الجديد متهَم بمواطأة عدة دول أجنبية. فقد استُبدِل على اليد الأمريكية في الانقلاب بموافقة الزعيم على مشروع التابلاين؛ واستعداده لتنسيق الخطط مع نوري السعيد، لمكافحة الشيوعية؛ وقبوله مشروعاً دفاعياً للشرق الأوسط، يكون مكملاً لحلف شمال الأطلسي؛ وتوقيعه الهدنة مع إسرائيل، وتحفُّزه لمصالحتها، لولا أنه قُتِل، قُبَيْل مفاوضته في ذلك موشي شاريت، وزير خارجيتها.

وأثار الشك في علاقة بريطانيا بحسني الزعيم مَيْله، في أيامه الأولى، إلى مشروع الهلال الخصيب. وبعث الريبة بالتدخل الفرنسي في الانقلاب وصول أسلحة فرنسية، قُبَيْله إلى الانقلابيين، والصلات الوثيقة التي توطدت، بعد ذلك، بين الزعيم وفرنسا.

وطالما تجاذب اتحاد سورية والبلاد المجاورة مشروعان: الأول، عُرف باسم مشروع سورية الكبرى، ويقضي باتحاد سورية ولبنان وفلسطين وشرق الأردن، تحت عرش الملك عبدالله بن الحسين. وعُرف الثاني باسم الهلال الخصيب، ويستهدف إيجاد اتحاد فيدرالي بين سورية والعراق، في ظل العرش الهاشمي في بغداد؛ ما أثار ردود فعل عنيفة في المشرق العربي، وزاد انقساماته حدة؛ ومن ثَم، اتفقت مصر والمملكة العربية السعودية على مناهضة الهاشميين وتطلعاتهم إلى الزعامة.

لم يكن في وسع الملك عبدالله أن يتطلع إلى ضم سورية، وبلاده ما زالت تحت الانتداب البريطاني. وإثر استقلالها استقلالاً شكلياً، عام 1946، طفق يُحيي الفكرة؛ ما دفع مجلس الجامعة العربية إلى عقد جلسة خاصة لوزراء الخارجية، انتهت إلى تصريح مشترك، أوضح أنه ليس لدى أيّ دولة نية العدوان على سيادة دولة أخرى، أو تغيير نظام الحكم فيها. ولكن الأردن تحفَّظ من التصريح العربي، وأعلن أن سورية الكبرى من أهدافه الوطنية.

ولم يفارق العراق طموحه إلى مشروع الهلال الخصيب، مستنداً إلى بعض الاقطاعيين السوريين، مثل: حسن الحكيم ومنير العجلاني، والذين كانوا يخشون تقلبات النظام الجمهوري. وما إن وقع الانقلاب السوري، حتى بادرت الحكومة العراقية في 3 أبريل 1949، على إرسال  جمال بابان في مهمة استطلاعية إلى دمشق فتلقفت العاصمة السورية مباحثته في اتحاد عسكري أولاً، وسياسي، يعينها على أيّ هجوم مفاجئ، قد تلجأ إليه إسرائيل في هذه الظروف؛ وينقذ حسني الزعيم من حَرَج مركزه في الداخل، في أيام الانقلاب الأولى.

استلهم نوري السعيد، رئيس الحكومة العراقية آنذاك،  السياسة البريطانية فلم يتحمس للاتحاد العسكري، ولا السياسي. لا، بل أوحت إليه  يشترط إعادة الوضع الدستوري إلى سورية، قبل النظر في الاتحاد الفيدرالي، أيْ لا بدّ من أن يقر الاتحاد مجلس نيابي سوري. بيد أن نوري السعيد، لم يتوانَ في حمْل سورية على انتهاج سياسته الخارجية؛ نكاية في مصر وقصراً لنفوذها. وسارع، في 16 أبريل 1949، إلى زيارة دمشق، إثر وقوفه على سعي حكامها إلى الاتصال بجميع الأطراف المتنافسة في المشرق العربي، ووصول مبعوثي حسني الزعيم إلى المملكة العربية السعودية.

أَلَحَّ حسني الزعيم على ضيفه بتحالف عسكري مع العراق. وأبدى استعداداً لمعاونة أنقرة وبغداد على مكافحة الشيوعية الدولية. غير أن نوري السعيد واجهه بمشروع اتفاق، تُوحّد بمقتضاه الجمارك والمواصلات، تمهيداً لاتحاد عسكري وسياسي.

ما إن ودّع حسني الزعيم ضيفه العراقي، حتى استقبل، في اليوم التالي، عبدالرحمن عزام، أمين عام الجامعة العربية، الذي مهد له زيارة القاهرة, في 27 أبريل، وعلى أثرها، اعترفت مصر بالنظام السوري الجديد. ولم يلبث قائد الانقلاب السوري الأول، أن مال إلى التعاون مع مصر والمملكة العربية السعودية، على أساس المحافظة على كيان سورية ونظامها؛ مُؤْثِراً إياها على الاتحاد مع العراق.

1. مواقف فرنسا وبريطانيا من الزعيم

أ. موقف فرنسا

نشطت فرنسا في الحؤول دون أيّ صلات بين الحاكم الجديد والهاشميين؛ إمعاناً في عدائها للوحدة العربية بعامة، ووحدة سورية والعراق أو الأردن بخاصة؛ إذ إنها ستخرج دمشق من منطقة النفوذ الفرنسي، لتلحقها بمنطقة النفوذ البريطاني.

ب. الموقف بريطانيا

استمرت بريطانيا تعترف بسيادة فرنسا ورغباتها في سورية، فلم تشجع المطامع الوحدوية لكلّ من الملك عبدالله أو الوصي على عرش العراق؛ بل قاومت، صراحة، جميع الخطط الوحدوية. بيد أن موقفها ذاك، لا هو بدد الريبة الفرنسية في الدوافع البريطانية؛ ولا هو أرضى الوطنيين العرب؛ بل زاد سخطهم على لندن. وأيقن السوريون، أن مشروعَي الهلال الخصيب وسورية الكبرى، ليسا سوى ستار للإمبريالية البريطانية؛ ولذلك، فقد رفضتهما بريطانيا. واتهمها أولئك الزعماء، الذين فهموا التوازن، الذي تتوخاه، بأنها تستجيب المطامع الفرنسية، وتحيي روح الانتداب. واضطرت الحكومة البريطانية، غير مرة، إلى نفي موافقتها على مشروع سورية الكبرى، والإعلان أن موقفها هو الحياد التام.

2. حكم حسني الزعيم

استنّ حسني الزعيم بسُنة مصطفى كمال العلمانية في تركيا. فطهَّر الجهاز الحكومي، وخيَّر رجاله، خلال عشرة أيام، بين الخدمة العامة والأعمال والمصالح الخاصة. وعيَّن محافظين جدداً، يتمتعون بالسلطتَين: المدنية والعسكرية. وجهر برغبته في تحديد الثروات الطائلة، وإجراء إصلاح زراعي. وخطط مشروعات عامة عديدة. وعقد اتفاقيات، تجهيز مرور أنابيب النفط بالأراضي السورية. ومنع استخدام ألقاب، كالباشا والبك.

وندد حسني الزعيم بالشيوعية؛ لمعارضته مبادئها مبادئ القومية العربية، التي ينتمي إليها الشعب السوري. وزعزع الزعيم المجتمع الدمشقي، المتشبث بالتقاليد الدينية بإلغاء الأوقاف الإسلامية؛ واستبدال قوانين: مدنية وجنائية وتجارية، عصرية، مقتبسة من قوانين مصر خاصة، استبدالها بقوانين الشريعة الإسلامية. ومنح المرأة، للمرة الأولى، حق الانتخاب. وأعلن سخطه على اللباس العربي التقليدي، فامتلأت الشوارع بالقبعات الأوروبية، وتفلتت النساء من بعض قيودهن.

وسرعان ما فاجأ حسني الزعيم مجلس الوزراء، في يونيه 1949، بقرار ترشيح نفسه لرئاسة الجمهورية، من خلال الاستفتاء الشعبي. جرى الاستفتاء في 24 يونيه 1949، وأسفر عن فوزه بأغلبية الأصوات[2]. فبادر إلى التخلي عن رئاسة الوزراء، ليتولاها كردي آخر، هو محسن البرازي. وهو محام، تعلم في فرنسا؛ كان قبل الانقلاب مديراً لمكتب شكري القوتلي؛ وهو من صاغ البطاقة الانتخابية في الاستفتاء.

سعى حسني الزعيم، بعد انتخابه، إلى تدعيم الفردية المطلقة. فتنكر لرفاق الأمس، أولئك الضباط، الذين شاركوه في الانقلاب. وقرّب الأقليات: العِرقية والدينية، فعهِد بالمراكز المهمة في الجيش إلى أكراد وعلويين. ومنح نفسه رتبة مارشال.  وأخضع الصحافة للرقابة. وعطل نشاط الأحزاب، من دون أن يستعيض عنها هيئة سياسية تصله بالشعب. فتنكرت له؛ بما فيها تلك التي كانت قد رحبت بالانقلاب به؛ إذ شرع حزب الشعب يعارضه، حين اتضح عداؤه للعراق، فاستقال فيضي الأتاسي، من الحكومة بعد ثلاثة أيام من تأليفها. وكذلك حزب البعث، الذي لفته إلى خطر الرقابة على الصحافة، وتزايد دور الاستخبارات؛ بل كان قد حذره، في 24 مايو 1949، من ارتكاب أخطاء نُظُم الحكم السابقة، بالتزام هذا الجانب أو ذاك، في الخلافات ما بين الدول العربية.

إذاً، لم يكن حسني الزعيم سياسياً بارعاً، قدر ما كان ضابطاً عطشاً إلى السلطة. ما إن انتخب رئيساً للجمهورية، حتى سارع إلى المجاهرة بانحيازاته الدولية، فأعلن لأحد المراسلين: إذا لم يكن ممكناً تقوية الجامعة العربية، لمواجهة إسرائيل؛ فإنني سأحالف مصر والمملكة العربية السعودية ولبنان. وأكد معارضته لنشوء سورية الكبرى. وتنبأ بتوثُّق العلاقة بالدولة الصديقة، فرنسا، وتمام التفاهم بين باريس ودمشق. كما تقرَّب من تركيا، فأثار حفيظة السوريين، الناقمين من استيلائها على لواء الإسكندرونة.

لقد قصَّر نهج حسني الزعيم الآنف في عمر عهده، الذي لم يتجاوز أربعة أشهر ونصف الشهر. ولعل القاضية، كمنت في علاقته بفرنسا، المناهضة لمشروع الهلال الخصيب؛ وتسليمه ضيفه، أنطون سعادة، الساعي إلى هذا المشروع، إلى الحكومة اللبنانية، التي أعدمته. فاستشاط على الزعيم ضباط في الجيش السوري، موالون لسعادة وحزبه، القومي السوري؛ منهم فضل الله أبو منصور، الذي حاصر، في انقلاب سامي الحناوي، قصر الرئاسة السوري، حيث قبض على حسني الزعيم، ومعه محسن البرازي وأعدمهما.

ثانياً: الانقلاب الثاني بقيادة سامي الحناوي (أغسطس 1949)

كان سامي الحناوي قائداً لفِرقة مدرعة. برر انقلابه بإنقاذ الأهداف، التي تنكر لها حسني الزعيم. غير أن التدخل الأجنبي في حركته، كان مبيناً؛ إذ دعمه العراق بالمال. ورحبت الجرائد البريطانية  بخطوته، التي رأت فيها تلك الفرنسية مؤامرة، اشتركت فيها بريطانيا وحكومة نوري السعيد.

موّه الحناوي استجابته للرغبة البريطانية ـ العراقية في تحقيق الهلال الخصيب، بإعلانه إشراك السياسييين، من مختلف الأحزاب، في حكومة مؤقتة، ريثما تجري الانتخابات لجمعية تأسيسية، يناط بها تقرير مستقبل البلاد؛ وإبعاد الجيش عن السياسة، وقصر مهمته على المراقبة، تحت إشراف مجلس عسكري، تكون من أحد عشر ضابطاً، برئاسة الحناوي.

وعهِد إلى المناضل المحنك، هاشم الأتاسي، رمز المقاومة للانتداب الفرنسي، بتأليف تلك الحكومة. وإذا بحزب الشعب، يستأثر بخيرة الحقائب الوزارية. واللافت إشراك حزبَي البعث والعربي الإشتراكي، اليسارييَن فيها، على يمينيتها، ممثلَين في ميشيل عفلق وأكرم الحوراني، أنهما استقالا، حينما أوشكت أن تنفذ مشروع الهلال الخصيب.

أُجريت انتخابات الجمعية التأسيسية، في نوفمبر1949، وأسفرت عن ازدياد نفوذ حزب الشعب، وتقدُّم الأحزاب الجديدة، ذات النزعة اليسارية، على الحزب الوطني؛ ولكن بدلاً من أن تحل محله، ازداد عدد النواب المستقلين، المؤيدين للهلال الخصيب، مثل: زكي الخطيب ومنير العجلاني.

انبرى الحناوي يصلح ما أفسده حسني الزعيم بعداوته للأردن والعراق، وصداقته لمصر والمملكة العربية والسعودية وفرنسا. فتدارك ما عطله من اتفاقيات دولية. واستحث دعاة الوحدة في بغداد على عمل سريع، ومحدد؛ محذراً من النتائج الوخيمة، التي ستنجم عن التأجيل. وحض على مناقشة العلاقات بالعراق؛ وهو ما وصفته الجرائد المصرية بأنه بيع لاستقلال سورية؛ وهو نفسه ما سيؤكده الشيشكلي فيما بعد. لا، بل حاولت القاهرة أن تصرف عن دمشق عُقبى الهلال الخصيب، فاقترحت، في أكتوبر 1949، فكرة الدفاع العربي المشترك، أو مشروع الضمان الجماعي.

حال انقسام الحكومة على نفسها، وتعرُّضها لضغوط خارجية متصارعة، دون تحقيق هوى الحناوي. وأكد رئيسها أنها حكومة انتقالية، لا يمكنها أن تلزم الدولة بسياسة طويلة الأمد، قد يكون لها تأثير حاسم في مستقبلها. حزب الشعب، ممثلاً في وزير الشؤون الخارجية، ناظم القدسي، عارض التضحية بالنظام الجمهوري، أو إخضاع سورية للمعاهدة البريطانية ـ العراقية. وارتأى أن يقتصر الاتحاد مع العراق على اتحاد جمركي، وبرلمان فيدرالي، يمثل البلدَين. ونفى بشدة أن يكون حزبه نصيراً للهاشميين. ولعل كثيراً من الساسة السوريين، بمن فيهم أعضاء في حزب الشعب، كانوا يقبلون اتحاداً مع العراق، بشروط أهمها إبعاد نوري السعيد، الذي يَعُدُّونه صنيعة بريطانيا. ناهيك من أنصار حزبَي البعث والعربي الاشتراكي، الذين كانوا يرتابون في نيات حزب الشعب، وفي كثير من النواب المستقلين، الذين فازوا في انتخابات نوفمبر 1949.

ثالثاً: الانقلاب الثالث، بقيادة أديب الشيشكلي (ديسمبر 1949)

لم ينتم العقيد أديب الشيشكلي[3] إلى أيّ من حزبَي العربي الاشتراكي والقومي السوري، وإنما كان على صلة ودية بهما. فزعيم الأول، أكرم الحوراني، هو نسيبه، وصديق طفولته، في حماة، وشبابه كذلك. وللشيشكلي علاقة قديمة بأعضاء الحزب الثاني، ولا سيما أبي منصور. ولكن القربى، لم تكن الآصرة الوحيدة بين الحوراني والشيشكلي، وإنما كان العداء للعراق، هو عروتهما الوثقى؛ بل هي التي دفعتهما إلى انقلابهما، حينما وجَّه الشيشكلي دباباته نحو دمشق، في 19 ديسمبر 1949، ليدافع عن نظام الحكم الجمهوري في سورية، وينقذها من النفوذ البريطاني والوحدة مع العراق ونظامه الملكي.

بدا الشيشكلي وكأنه بطل استقلال سورية؛ على الرغم من ميشيل عفلق، الذي كَبُر عليه هذا اللقب. فالرجل أتقن حياكة الدسائس، وأجاد تنظيم الرجال. توارى عن السلطة، عامَي 1950 و1951، ريثما يتمرس بها. فأملى للسياسيين، خلالهما، في اصطراعهم: يكتبون مسودات دساتير، ويصدرون بيانات، ويحيكون الدسائس مع قوى أجنبية.

برر الشيشكلي حركته بالحفاظ على النظام الجمهوري، أيْ منع مشروع الهلال الخصيب. ووعد بعدم تدخّل الجيش في السياسة، إلا أنه لم يبر بوعده. إذ سرعان ما جعل من الأركان العامة سلطة منافسة للجمعية التأسيسية. وضعضع حزب الشعب، فأجبر رئيس الحكومة، ناظم القدسي، على الاستقالة، ليعهد برئاستها إلى خالد العظم، وهو من المستقلين؛ على أن يشرك فيها أربعة وزراء من ذلك الحزب، كُلِّفوا وزارات ثانوية؛ بينما عُهِد إلى أكرم الحوراني، صديق الشيشكلي، بوزارة الدفاع؛ وتولّى الداخلية أحد المستقلين.

لم يَطُل الجفاء بين حزب الشعب وأديب الشيشكلي. وربما أسهم في انحساره استحسان نظام القدسي، بعد تنكُّر، لاقتراح مصر ضماناً اجتماعياً، في إطار سيادة كلّ دولة من الدول الأعضاء في الجامعة العربية. ولذلك، لم يَعُق الشيشكلي الجمعية التأسيسية عن وضع الدستور؛ وتحوُّلها، بعد ذلك، إلى مجلس نيابي، مدته أربع سنوات. وقد أدى ذلك إلى استقالة الحوراني؛ وتكليف ناظم القدسي، في يونيه، تأليف حكومة جديدة. وأنجزت الجمعية، في سبتمبر 1950 وضع دستور، نص على أن الجمهورية السورية جمهورية عربية، شعبها جزء من الأمة العربية. وحسم الجدل في دينها، باشتراطه إسلام رئيس الدولة فقط. ناهيك بتدعيمه النظام البرلماني، وتخويله مجلس النواب انتخاب رئيس الجمهورية، ومنح الثقة بالسلطة التنفيذية وحجْبها عنها.

لم يستطع النظام الدستوري الجديد السيطرة على تنازع الجيش والحكومة، ولا على تصارع القوى السياسية. فاستمر الخلاف، مثلاً، بين حزب الشعب الحاكم وحزب البعث، الذي أوعز إلى الطلبة بالاحتجاج على تحوُّل الجمعية التأسيسية إلى مجلس نيابي. وزاد الخلافات الداخلية تفاقماً، أن ناظم القدسي كان متردداً غير حازم، ولا حاسم. وزاده ضعفاً، أن حزبه لم يسمح له باتخاذ موقف واضح إلى جانب الغرب. فاستقال في 9 مارس 1951؛ وكانت استقالته دليلاً على فشل سياسة الحرب: الداخلية والخارجية. واستشرت تلك الخلافات، إثر رفض حزب الشعب الانضمام إلى حكومة وحدة وطنية، نِيط بخالد العظم تأليفها؛ وبقيت سورية من دون حكومة ثمانية عشر يوماً، حتى ألّف العظم وزارة، في 27 مارس 1951، غالبيتها من المستقلين؛ باركها كلّ من الحوراني والجيش، وناوأها بشدة حزب الشعب.

مهد ابتعاد حزب الشعب عن الحكم لاستعادة الحزب الوطني نشاطه. ولكنه لم يعاون الشيشكلي، بل زعم أنصاره أنهم أقدر من الجيش على مناهضه مشروع الهلال الخصيب. ولذلك، طفق صبري العسلي يناشد شكري القوتلي وجميل مردم، اللاجئَين إلى مصر، العودة إلى سورية. واستأنفت مصر والمملكة العربية السعودية تأييدهما للحزب الوطني؛ لأنهما كانتا أميل إليه منهما إلى النظام العسكري. ومن ثَم، لم تكن علاقة الشيشكلي بمصر الملكية أو بالمملكة العربية السعودية، بأفضل منها بالعراق.

واضطرت سورية، في أبريل 1951، إثر مخالفة إسرائيل شروط الهدنة، بردمها بحيرة الحولة، تمهيداً لإقامة مستعمرات متاخمة للحدود السورية، اضطرت إلى استنجاد العراق ومصر معاً. فبادر العراق، بتقديم المساعدات العسكرية في 17 مايو 1951، إلى دفع قواته إلى أراضيها. ولم تتحرج حكومتها من ذلك؛ لأن حزب الشعب، كان قد دلل على انصرافه عن فكرة الهلال الخصيب، إذ رفع ناظم القدسي، إبّان رئاسته الحكومة السورية، مشروعاً إلى الجامعة العربية، بإنشاء اتحاد شامل، على أساس تطوير نظام الجامعة؛ ونبذ فكرة الاتحادات الجزئية، ومنها الهلال الخصيب، وسورية الكبرى.

على المستوى الداخلي، حاول العظم حل مجلس النواب، لرفضه الموافقة على اعتمادات إضافية للدفاع، أو السماح بزيادة رواتب الموظفين. ولكن الرئيس الأتاسي، عارض حاولته؛ فلم يستطع رئيس الحكومة السيطرة على إضرابات الموظفين المطالبين برفع أجورهم، فاستقال. واختير أحد المستقلين، حسن الحكيم، المؤيد للهاشميين والغرب لرئاسة الوزارة الجديدة. غير أنه استقال، إثر تقديم بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة وتركيا، في نوفمبر 1951، مذكرة رباعية إلى مصر، تطلب انضمامها إلى منظمة دفاعية لحوض شرق البحر الأبيض المتوسط؛ واكتفاء الدول الأربع بإبلاغ سورية بما تضمنته تلك المذكرة، من دون مطالبتها، أسوة بمصر، بالانضمام إلى المنظمة الآنفة.

رابعاً: انقلاب الشيشكلي الثاني والحكم المباشر "1951 – 1954":

خلف معروف الدواليبي حسن حكيم في رئاسة الوزارة. و اختار هو نفسه وزير الدفاع؛ ناقضاً ما كان الشيشكلي اشترطه لنفسه على رؤساء الحكومات. وكانت تلك القشة، التي قصمت ظهر البعير؛ إذ أضيفت إلى الأزمات المتوالية بين قيادة الجيش وهاشم الأتاسي، رئيس الجمهورية، المستاء من تدخّل العسكر. فعَجِل الشيشكلي، ليلة 28/29 نوفمبر 1951، إلى انقلاب جديد. واعتقل الوزراء، بعد يوم واحد من توَّزُّرهم؛ ما اضطر هاشم الأتاسي إلى الاستقالة، فعينت قيادة الجيش فوزي سلو رئيساً للدولة.

يُنْتَقَد على الشيشكلي مصادمته جميع القوى: السياسية والاجتماعية؛ وتحريمه نشاط الأحزاب؛ لا، بل قضاؤه عليها، بإنشائه، عام 1952، حركة التحرير العربي، لتكون حزب سورية الأوحد. بيد أنه لا يُنْكَر عليه إصلاحاته المهمة، خلال سنتَين من حكمه لسورية.  فقد تشدد في مراقبة الأموال الخارجة من البلاد. وأمّم بعض الشركات الأجنبية، وألزم تلك التي لها فروع في البلاد، أن يكون ممثلوها في سورية سوريين. ورفع الضريبة على الدخول إلى 36%، أيْ أنه حاول أن يحطم قواعد الاقتصاد الحر. وأصدر قانوناً، في يناير 1952، يحدد الملكية الزراعية، في المستقبل؛ ويجعل محصول الأراضي المستأجرة مناصفة بين فلاحيها ومالكيها، بعد أن كان نصيب الآخِرين منه 75%. وآمن الشيشكلي بالوحدة العربية الشاملة، وليست تلك  الجزئية. فزار مصر، عام 1952، إثر انقلاب جيشها، وضاف، في أوائل عام 1953، الأردن ولبنان والمملكة العربية السعودية. غير أن علاقته بالعراق ساءت، منذ توليه السلطة،.

عند عودة الشيشكلي من مصر، فوجئ بجماعة من صغار الضباط، يتقدمهم عدنان المالكي، يتلقونه، في المطار، بمطالبتهم بإعادة الحرية الكاملة للأحزاب السياسية؛ وإيقاف التبرعات، شبه الإجبارية، التي تجمع باسم الجيش، وتصرف على حزبه،. فتقبل مطالبهم بقبول حسن، ريثما يصل إلى مقر القيادة، حيث أمكنه اعتقالهم جميعاً.

وطلع الشيشكلي على سورية، في21 يونيه 1953، بدستور جديد، ينص على الجمهورية الرئاسية[4]؛ وكادت الموافقة عليه تكون إجماعية. ورشح نفسه للرئاسة، في استفتاء، في 10 يوليه 1953، ففاز بها. وألّف وزارة، بعد خمسة أيام، استبعد منها وجه الحياة السورية العامة.

ما ألَّف بين القوى المتنافرة، والمختلفة البواعث، إلا معارضتها لحكم الشيشكلي؛ ففي جبل الدروز، الإقطاعيون ناقمون عليه؛ وفي حمص، موطن أسْرة الأتاسي، صدرت جريدة معارضة، تسمي سورية الجديدة؛ وفي حلب، الأقليات: العرقية والدينية، المنتشرة في المحافظة غاضبة عليه. أما الأحزاب، على اختلاف نزعاتها (الشعب والوطني والبعث والشيوعي) فقد عقدت، اجتماعاً سرياً، في 4 أغسطس 1953، انتهى إلى ميثاق وطني، يتيح لكلّ منها أن يعمل في نطاقه الإقليمي لتحرير نفسه، ريثما تنطلق الشرارة الأولى من جبل الدروز. حظيت المعارضة بتأييد بعض الدول العربية، وخاصة العراق. وفضحت المحاكمات، التي أجراها عبدالكريم قاسم لبعض الساسة العراقيين، أن شخصيات سورية، مثل صبري العسلي تلقوا أموالاً عراقية. لا، بل شهد غازي الداغستاني، أثناء محاكمته أمام محكمة الشعب العراقية، عام 1958، أن الجيش العراقي وضع خطة لغزو سورية، أثناء الفوضى التي عمت البلاد، في الأيام الأخيرة من حكم الشيشكلي. وأمست المعارضة، منذ ديسمبر 1953 إلى أواخر فبراير 1954، معارضة علنية، تمثلت في تظاهرات الطلبة.

واجه الشيشكلي معارضيه بإغلاق الحدود مع لبنان, وإعلان الأحكام العرفية، وتسليم السلطة لرؤساء الحاميات العسكرية في المحافظات، واعتقال أكثر من مائة من الحزبيين، بمن فيهم هاشم الأتاسي. غير أن كلَّ ذلك، لم يعصمه من الجيش، الساخط عليه، لابتعاده عنه، وإيثاره عليه حركته السياسية الجديدة. فانقض عليه، إذ استولى فيصل الأتاسي، قائد حامية حلب، على المدينة. وتأسى به أمين أبو عساف، قائد الفرقة الثالثة، المرابط على دير الزور. واقتدى بهما قائد حامية حماة. وتوالى انضمام الحاميات الأخرى، عدا حامية دمشق، التي استمرت موالية للشيشكلي؛ غير أنه آثر الاستسلام والاستجابة لإنذار بمغادرة البلاد؛ كي يجنِّب سورية حرباً أهلية، وينقذ  أمواله، التي استغلها، بعد ذلك، في مشروعاته في البرازيل. وفي ذلك يقول: "رغبة مني في تجنُّب سفك دماء الشعب الذي أحبه، والجيش الذي ضحيت بكلّ غال من أجله، والأمة العربية التي حاولت خدمتها بإخلاص صادق، أتقدم باستقالتي من رئاسة الجمهورية إلى الشعب السوري المحبوب، الذي انتخبني، والذي أولاني ثقته، أملاً أن تخدم مبادرتي هذه قضية وطني. وأبتهل إلى الله أن يحفظه من كلّ سوء، وأن يوحده، ويزيده منعة، وأن يسير به إلى قمة المجد".

تَعَجَّل الشيشكلي مغادرة سورية، في 25 فبراير 1954، فعمتها الفوضى؛ إذ لَمّا يصل الثائرون بعد إلى دمشق، حيث تسلم السلطة العليا رئيس الأركان العامة، الزعيم شوكت شقير، الذي أذاع نداء، طالب فيه بالهدوء، وأطلق المعتقلين السياسيين في سجن المزة. واقتحمت على النواب مجلسهم، صبيحة 26 فبراير، تظاهرة طلابية شاركت فيها جماعات من الدروز والشيوعيين والإخوان المسلمين؛ ولم ينفضوا إلا بعد أن أكد لهم سعيد إسحاق، أن المجلس النيابي، قد وافق على حل نفسه.

أعلن الزعيم شقير حل مجلس النواب، وتخويل رئيسه، مأمون الكزبري صلاحيات: تنفيذية وتشريعية، مؤقتة؛ بل لم يرضِ الثائرين، الذين طلبوا من الكزبري الاستقالة، فوراً؛ لأن الشعب والجيش، لم يعترفا بالنظام، الذي كان يحاول تثبيته. فبادر الزعيم شقير إلى اجتماع مع القادة السياسيين والرؤساء الثائرين، أسفر عن اتفاق على إعادة السلطة إلى أصحابها الدستوريين. واستقال الدكتور الكزبري، صبيحة اليوم التالي. وفي الأول من مارس 1954، دخل هاشم الأتاسي دمشق، في موكب، يتألف من 400 سيارة؛ عائداً إلى القصر الجمهوري.

خامساً: العودة إلى الجمهورية البرلمانية (1954 – 1958)

سيطرت الأحزاب التقليدية، في عهد الجمهورية البرلمانية الأولى، على حياة البلاد السياسية. ولكن الانقلابات العسكرية المتوالية، أضعفت تلك الأحزاب، وأتاحت رواج أخرى عقائدية، وخاصة البعث والشيوعي.

1. وزارة صبري العسلي الائتلافية

ألَّف صبري العسلي، في الأول من مارس 1954، حكومة ائتلافية، من الحزب الوطني وحزب الشعب؛ مدعمة ببعض المستقلين البارزين، مثل: الزعيم الدرزي، حسن الأطرش؛ والإقطاعي الحموي، عبدالرحمن العظم. وخلت من الحوراني والبعثيين، معارضي الشيشكلي الأشد، والناشطين في إسقاطه. وقد شاع أن الحوراني، طلب وزارة الداخلية، فرفض طلبه؛ لذا، عارض، هو وعفلق، الحكومة الائتلافية.

أبقى صبري العسلي على صِلاته قوية بمصر والمملكة العربية السعودية؛ استجابة لسياسة حزبه، الحزب الوطني. غير أنه بقي كذلك على ميله إلى العراق؛ لا، بل أمعن فيه، فعقد مع ميخائيل البان، وهو سياسي موال للعراق؛ وبحضور الزعيم العراقي، محمد فاضل الجمالي، اجتماعاً سرياً، في منتجع برمانا اللبناني؛ للتدبَّر في تنفيذ وحدة الهلال الخصيب؛ حسبما نمَّت به محاكمات بغداد، بعد انقلاب 1958. 

تضافرت على حكومة العسلي عوامل شتّى، حملتها، في 8 يونيه 1954، على الاستقالة؛ وكمّا تنجز ما انتدبت له، إجراء الانتخابات. ولعل أهم تلك العوامل، أنها افتقدت مهارة الانتقال من الدكتاتورية العسكرية إلى النظام البرلماني؛ وفاوضت الولايات المتحدة الأمريكية في اتفاقية معونات عسكرية، كتلك التي عقدتها واشنطن مع بغداد؛ فضلاً عن الخلاف بين الجيش ووزير الدفاع، معروف الدواليبي.

2. حكومة سعيد الغزي

الغزي محامٍ دمشقي. ألَّف، في 9 يونيه 1954، حكومة غير حزبية، عهِد فيها بوزارة الدفاع إلى اللواء شوكت شقير؛ استرضاءً للجيش. وأعلن حياده التام في القضايا الداخلية؛ وعزمه على الاحتفاظ بالصلات الأخوية مع الدول العربية جمعيها، ضمن إطار الجامعة العربية. ولم يلزم سورية أيّ ارتباطات دولية. وأكد أن المهمة الأولى الوحيدة لحكومته، هي الإشراف على انتخابات حرة، نزيهة، وفق قانون انتخابات جديد، يعاون على وضعه المجلس النيابي؛ ما أكسبه ثقة الجيش والشعب معاً.

نص قانون الانتخابات الجديد على أن يكون عدد النواب142 نائباً، يمثل كلّ منهم 30 ألفاً من المواطنين. وأُجِّل موعدها إلى 24 سبتمبر 1954، بدلاً من 20 أغسطس، استجابة لبعض الأحزاب. وجُعِلَت مرحلتَين: الأولى، يومَي 24 و25 سبتمبر، وملأت 99 مقعداً؛ والثانية، 4 و5 أكتوبر. واتسمت بما لم يسبق له مثيل، من الحرية والنظام. وتمخضت بفوز مبين للمستقلين (64%)، ولا سيما خالد العظم وكتلته، في دمشق؛ وحظوة بين بينة البعث (22%)؛ وانتخاب أول نائب شيوعي في العالم العربي، خالد بكداش. وأسفرت كذلك عن تراجع حزب الشعب، واضمحلال وحدة الهلال الخصيب. ولعل أهم ما نمَّت به نتائج الانتخابات، انتصار الحياد في الرأي العربي.

كُلِّف فارس الخوري، الطيب السمعة، تأليف الحكومة الجديدة. فكوَّن حكومة المستقلين وحزب الشعب، سرعان ما واجهت إصرار الحكومة العراقية على تكوين حلف بغداد، فتريثت، فتعرضت لسخط الأحزاب الشابة، قوية التأثير. وانقسم، مثلاً، الحزب الوطني كتلتَين: الأولى، بزعامة لطفي الحفار، تؤيد سياسة الحكومة العراقية؛ والثانية، بزعامة صبري العسلي، تؤيد سياسة الحياد، التي بدت ملامحها، آنئذ.

ولاح تكتل جديد، يتجافى عن الأحلاف، ويضم الفريق الثاني من الحزب الوطني ويساريِّي البعث، والمستقلين اليساريين وعلى رأسهم خالد العظم. ولكن التنافس في رئاسة الجمهورية، كشف أن انضمام الحزب الوطني إلى اليسار، ما هو إلا مداورة؛ إذ واطأ حزب الشعب على التراجع عن ترشيح ممثله، الكيخيا، قبيل لحظات من الانتخابات؛ كي لا تتبعثر أصوات القوى التقليدية، فتقترع كلّها مرشح الحزب الوطني، شكري القوتلي، فتفوت الرئاسة مرشح الجبهة اليسارية، خالد العظم.

نال القوتلي 91 صوتاً مقابل، 41 للعظم، فأصبح مديناً لحزب الشعب والمستقلين أكثر من لحزبه؛ ولذلك، أشركهم في وزارة سعيد الغزي الثانية. أمّا الساخطون، اليسار وأنصاره في الجيش، فقد ارتقبوا التطورات:  الدولية والعربية والداخلية، المتشابكة، عسى أن تتيح لهم توجيه السياسة السورية. وسرعان ما تأتيَّى لهم ذلك، حينما قتل نائب القائد العام، الضابط البعثي، عدنان المالكي. فقد كان مقتله إيذاناً بسعي الفئات المتنافسة في الجيش إلى السيطرة على القيادة. وتمثلت تلك الفئات في  اثنَي عشر ضابطاً. بينهم اثنان فقط بعثيان: مصطفى حمدون، الخاضع لتأثير الحوراني؛ وعبدالغني قنوط. وفيهم كذلك عبدالحميد سراج، مدير المكتب الثاني، أيْ الاستخبارات السورية. وأمسى هؤلاء هم أصحاب النفوذ الفعلي في الجيش؛ حتى إنه لولا موافقتهم، لما كان لشوكت شقير وخلفه توفيق نظام الدين أن يتوليا القيادة العامة.

هكذا، غرق الجيش السوري في السياسة، وافتقد قوام الجيوش، طاعة النظام. وانبرى معظم الضباط الاثني عشر يعملون، كلّ لحسابه الخاص، وهو يحسب أنه يحمي المصالح الوطنية أو التقدمية. ولعلّ تنافس تلك الفئات المختلفة، هو ما اضطرها إلى قبول اللواء شوكت شقير قائداً عاماً، على الرغم من أنه شغل هذا المنصب في عهد الشيشكلي. وهو نفسه ما حملها على ارتضاء عفيف البزري، عام 1957، للقيادة العامة؛ وليس، كما أشيع، لأنه شيوعي.

3. وزارة صبري العسلي الثانية (1955)

وسط الانقسامات الداخلية، ولا سيما الناجمة عن الموقف من الأحلاف، ألَّف صبري العسلي وزارته الثانية. واقترن تأليفها بحادثَين مهمَّين، لفتا إلى قيمة التعاون السوري – المصري. أولهما، حشد القوات التركية على حدود سورية؛ تحذيراً لمجلس النواب من عرضه الحكومة الحيادية الجديدة للثقة. وثانيهما، اعتداء إسرائيل على غزة، في 28 فبراير 1955 اعتداءً واسعاً.

وعلى أثر ذلك، بادر شوكت شقير وخالد العظم، وزير الخارجية، إلى عقد اتفاق مبدئي على إنشاء قيادة عسكرية موحدة مع مصر. وجاء في مقدمته أن الهدف الأول هو معارضة ميثاق بغداد، الذي أدى إلى تفتت دول الجامعة العربية. وقد أثَّر توقيعه في المشاركة الإيجابية لسورية في مناهضة مصر للأحلاف. وطوَّف صلاح سالم وخالد العظم بعدة عواصم عربية، لإغرائها بالاتفاق العسكري الجديد؛ ولم يوفَّقا، لا في بيروتن ولا في عمّان.

ونجم عن ذلك تقارب سوري – سوفيتي، وتلقي سورية للأسلحة من الاتحاد السوفيتي وتشيكوسلوفاكيا. وكان للتحول المطَّرد في سياسة سورية الخارجية، وازدياد قوة اليسار في الداخل، أثره في موقف حلف بغداد والدول الغربية التي تؤازره.

 



[1] ولد حسني الزعيم في حلب لأسرة غنية من التجار تعود أصولها إلى الأكراد، وعاش حتى نهاية أيامه حياة صاخبة. بدأ عمله في الجيش العثماني وأسره الإنجليز في الحرب العالمية الأولى ثم انضم إلى "القوات الخاصة" أثناء الانتداب والتي كانت تشكل جزءاً من الجيش الفرنسي وقبض عليه وقدم للمحاكمة وحكم عليه عام 1942 بالأشغال الشاقة لمدة عشر سنوات – بسبب انضمامه للفاشيين– ولكن القوتلي أطلق سراحه في أواخر الحرب العالمية الثانية وأعيد ضابطاً بالجيش الوطني السوري الذي شكل حديثاً، والزعيم مغامر، وسهل الاستثارة، شجاعاً إلى حد التهور ولكنه قليل المواهب في رسم الخطط الحربية، آمن به الضباط الوطنيين بعد حملة فلسطين.

[2] عدد الذين يحق لهم الانتخاب: 816.321، وعدد المقترعين: 730.731، عدد الأصوات التي نالها الزعيم 726.116.

[3] ولد الشيشكلي في حماة عام 1909 وانتسب في البداية إلى مدرسة زراعية قبل أن يقرر الالتحاق بالقوات الخاصة، فدخل الجيش عام1930، ولكنه هرب منه في مايو 1945 ليساهم مع الحوراني في الثورة على الفرنسيين. كان في بداية حياته عضواً في الحزب القومي السوري، قاد هو وأكرم الحوراني مجموعات من المناضلين في يناير 1948 في الهجوم على المستعمرات اليهودية في فلسطين، وكان من الضباط البارزين خلال حرب فلسطين. والشيشكلي هو الضابط الشاب الذي اختاره الزعيم ليكون على رأس الفرقة المدرعة التي قلبت حكم القوتلي في مارس1949، بينما أصبح الحوراني المستشار المقرب للزعيم ولكن سرعان ما اختلف الشيشكلي والحوراني مع الزعيم، وأقيل الشيشكلي من الجيش في أغسطس 1949، ثم أعيد بعد أسبوعين قائداً للواء الأول عندما استعان الحناوي بالحورانى، ولكن الرجلين استعملا مهارتهما في الثورة واستوليا على السلطة لحسابهما لإجهاض مشروع الوحدة مع العراق.

[4] أذاع الشيشكلي بنفسه مواد الدستور مؤكداً على فوائد الحكم الرئاسي وذكرت المادة الأولى منه أن سورية جمهورية عربية ديموقراطية ذات سيادة.