إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / سورية من الاستقلال إلى حافظ الأسد




هاشم الأتاسي
أديب الشيشيكلي
أكرم الحوراني
جميل مردم
خالد العظم
حافظ الأسد
حسني الزعيم
سامي الحناوي
صبري العسلي
شكري القوتلي
سعد الله الجابري
فارس الخوري





سورية من عصر الإستقلال والإنقلابات

المبحث الرابع: مقدمات الوحدة

أولاً: اتفاقية الدفاع السورية - المصرية

عززت صفقة الأسلحة التشيكية لمصر ميل دمشق إلى القاهرة، وأغرتها بعقد اتفاقية دفاع معها انبثقت منها لجنة عليا لشؤون الدفاع، عُهِد بقيادتها إلى اللواء أركان الحرب، عبدالحكيم عامر، ما حفز فكرة الوحدة بين البلدَين. وأعلن الرئيس عبدالناصر "أن هذا الاتفاق هو فاتحة القوة، وبدء العمل في سبيل نصرة العروبة واستخلاص حقوقها المغتصبة. وستحمي سورية ومصر ـ بعون الله ـ العالم العربي من الصهيونية. والتاريخ يقول إذا اتحدت سورية ومصر، فإنهما يستطيعان تحقيق المستحيل؛ وقد استطاعا أن يحميا، من قبل، العالم الإسلامي من التتار والحروب الصليبية".

وأضحى السفير المصري في دمشق، الأميرالاي محمود رياض، صَفِيّ عبدالناصر وظله، فاعلاً في الشؤون السورية؛ إذ وثَّق علاقته بالرئيس القوتلي، وحرص على وشائجه بالزعماء السياسيين، ولا سيما أولئك المنتمين إلى حزب البعث، القوى الكبرى المؤيدة لمصر في السياسة السورية، وطليعة حركة الوحدة معها. ولم يغفل عن بسط نفوذه في أوساط الضباط الوطنيين التقدميين؛ ما مهد لتوطيد العلاقات بين الجيشَين: السوري والمصري. ولم يَخْفَ تأثيره في حمل سورية، عند تغير حكوماتها، على انتهاج سياسة خارجية، توافق تلك التي تنتهجها مصر.

لم تتوانَ إسرائيل في كشف هُراء تلك الاتفاقية، فشنت، في منتصف ديسمبر، هجوماً واسعاً على المراكز السورية في منطقة بحيرة طبرية. وعقبت جريدة "الجيروزاليم بوست" بقولها: "إننا نأمل أن تكون الغارة الإسرائيلية، قد أقنعت السوريين بأن الاتفاقية العسكرية مع مصر، قد زادت الأخطار، التي تتعرض لها سورية، بدلاً من أن تضمن الدفاع عنها".

ثانياً: الاتحاد السوفيتي وسورية

مهدت السياسة السوفيتية لرغبتها في توسيع نطاق العلاقات والاتصالات مع سورية، بمساعدتها اقتصادياً وفنياً. ورفعت درجة التمثيل الدبلوماسي بينهما، في نوفمبر 1955، إلى درجة سفارة، من أجل تعزيز علاقاتهما الودية وتطويرها. لا، بل إن الاتصالات بين سورية والكتلة الشيوعية، صارت، في ربيع 1956، وثيقة، وبدأت العلاقات التجارية بجميع دول أوروبا الشرقية تتحسن. وتدفق السلاح السوفيتي، بين سبتمبر 1955 ويونيه 1956، على سورية، بكميات كبيرة.

ونشط الشيوعيون في سورية، فملأت منشوراتهم المكتبات. وجهدوا في إنشاء جبهة شعبية، قوامها الطبقة العامة، والبورجوازية، والطلبة؛ تعزِّز أهداف السياسة السوفيتية الخارجية، المضادة للأحلاف والمعاهدات والارتباطات مع الغرب؛ ما حمل حزب البعث على مهادنتهم، إذ جمعتهما معارضة حلف بغداد، والشعور بخطر مشترك.

ثالثاً: حزب البعث يدخل الحكومة

ألَّف صبري العسلي، في 14 يونيه 1956، حكومة وحدة وطنية ضمت الحزب الوطني وحزبَي الشعب والبعث، وكتلة خالد العظم الديموقراطية، وكتلة منير العجلاني الدستورية. وتولى حزب البعث فيها منصبَين رئيسيَين، بعد قبولها شرطه، أن تشرع في محادثات مع القاهرة، تستهدف وحدة البلدَين. وهو ما جهر به العسلي، في 27 يونيه 1956، في المجلس النيابي: "سنشرع في توثيق علاقاتنا مع مصر، من خلال محادثات فورية، نأمل في أن تؤدي إلى سياسة مشتركة بين البلدَين؛ ندعو الدول العربية المتحررة إلى اتباعها، حتى يصبح بالإمكان تحقيق وحدة عربية شاملة ". وسرعان ما أعلن، في 5 يوليه 1956، بعد مباحثات مع عبدالناصر، في القاهرة، تأليف لجنة وزارية من ثلاثة أعضاء، مهمتها مفاوضة مصر في الوحدة.

رابعاً: سورية وأزمة السويس (عام 1956)

أيدت سورية عبدالناصر، في أعقاب تأميم قناة السويس، تأييداً مطلقاً؛ فهو الزعيم المنتظَر والقائد الموعود. وسارعت، في أوائل نوفمبر 1956، بعد الهجوم على مصر، إلى نسف أنابيب النفط، التابعة لشركة نفط العراق. وكان الرئيس القوتلي، قد تَعَجَّل، في 30 أكتوبر، زيارة موسكو؛ طالباً دعمها، عسكرياً وسياسياً، في مواجهة أيّ هجوم على سورية. فطمأنته، وأكدت صداقتها لسورية، والدفاع عنها، آن الخطر؛ فازدادت العلاقات بالاتحاد السوفيتي وثاقة، وتدفقت الأسلحة الروسية، من جديد، على البلاد.

وما إن بدأ الهجوم الإسرائيلي على سيناء، في 29 أكتوبر، حتى تأهبت القوات السورية لدخول إسرائيل، لولا القائد المصري العام، اللواء عبدالحكيم عامر، أبلغها الكف عمّا تُزْمِع.

لقد بدد العدوان على مصر الشكوك السورية في عبدالناصر؛ بل انقلبت تمجيداً حارّاً له ولمبادئه. وزادته محالفته لسورية سطوعاً، حتى بدا زعيماً عربياً، تصعب منازعته.

خامساً: التآمر على سورية

توطيد العلاقات بين مصر وسورية، أتاح لعبدالناصر تهديد مصالح بريطانيا في الشرق العربي. ولعل أول إرهاصاته، هو عداؤه لحلف بغداد، وإحباطه لحُلم "نوري – إيدن" بعالم عربي، يتزعمه العراق، وينقاد لبريطانيا، من خلال حلف بغداد، المستند إلى السيطرة على سورية، وعزل مركز المعارضة في مصر. وقد استشعرت بريطانيا، وأصدقاؤها في بغداد، خطر الرئيس المصري على مواقع القوة القديمة في العراق والأردن والخليج. فطفقوا، طيلة عام 1956، يكيدون لتغيير نظام الحكم في سورية، وبخاصة دسيستهم، في أواخر العام نفسه، إذ استعر صراع "نوري – عبدالناصر"، واشتد التلاحم السوري ـ السوفيتي، وأمست مناداة البعث بوحدة سورية – مصرية، تسبب الهلع في بغداد.

وازداد التضامن المصري - السوري، بازدياد التآمر على سورية. ووعد العسلي ببدء مفاوضة مصر في إنشاء وحدة فيدرالية بين البلدَين. وبُذلت محاولات لإخراج الأردن من المعاهدة البريطانية، بتعويضه عن المساعدات البريطانية بأموال عربية[1]. واشتد الهجوم على نوري السعيد، خادم الاستعمار، وممالئ بريطانيا على سياستها.

سادساً: العلاقات الأمريكية - السورية عام (1957)

سبقت سورية دول الشرق الأوسط كافة إلى تفنيد  السياسة الأمريكية، فأصدرت حكومتها بياناً، في 10 يناير1957، ولَمّا يمض أسبوع على رسالة الرئيس دوايت ديفيد أيزنهاور إلى الكونجرس؛ تعارض فيه نظرية الفراغ، وفكرة أن المصالح الاقتصادية، تُسَوِّغ لأيّ دولة التدخل في المنطقة؛ وتنكر أن الشيوعية، تمثل خطراً مباشراً على العالم العربي.

وأيقنت مصر، وحليفتها سورية، أن التدخل الأمريكي في الشؤون العربية، المتذرع بمعاداة الشيوعية، قد سلبهما المبادرة المحلية، التي ناضلتا دونها، منذ عام 1955. ورسخ يقينَهما مسارعة الولايات المتحدة الأمريكية إلى تأييد الملك حسين، خلال أزمة أبريل 1957، ومعاونته على إقصاء الزعماء السياسيين، الموالين لكلّ من مصر وسورية؛ فكان ذلك أول نكسة للناصرية في المشرق العربي. وفي الوقت نفسه، طلب الملك حسين إجلاء القوات السورية عن الأردن؛ ما أوحى للسوريين، أن يتوقعوا سلسلة طويلة من المؤامرات المعادية.

وبلغ التنازع السوري ـ الأمريكي ذروته، في أواسط صيف 1957. وما دفعه إليها إلا توقيع وزير الدفاع السوري، خالد العظم، في 6 أغسطس 1957، معاهدة: اقتصادية وفنية، مع الاتحاد السوفيتي، في موسكو؛ وإبعاد دمشق ثلاثة دبلوماسيين أمريكيين، اتهموا بالسعي إلى قلب نظام الحكم؛ وتعيين عفيف البزري، المعروف بمودته للسوفيت، رئيساً للأركان العامة.

كان الرد في أواخر الصيف نفسه، حينما دفعت تركيا قوات عسكرية وجاء إلى حدودها مع سورية.  فاتهمتها القيادة السوفيتية بأنها تمهد لهجوم، دبّرته واشنطن. وأرسل أندريه جروميكو، وزير الخارجية السوفيتي، في 10 سبتمبر 1957، برسالة إلى رئيس وزرائها، جاء فيها: "لا يمكن الاتحاد السوفيتي، أن ينظر إلى كلّ هذه التطورات الأخيرة، من دون اكتراث". لا، بل جاهر، في الجمعية العامة للأمم المتحدة، بأن  بلاده "لا يمكن أن تظل مكتوفة الأيدي، ترقب، عن بعد، المحاولات المبذولة لتحويل الشرقَين: الأدنى والأوسط، إلى مسرح للنزاع المسلح".

أمّا جريدة الجيش السوفيتي، "النجم الأحمر"، فقد نشرت، في 10 سبتمبر1957، أن الولايات المتحدة الأمريكية، بَيَّنَت خطة لغزو سورية، تتلخص في الآتي:

1. مبادرة إسرائيل إلى تحركات عسكرية استفزازية، على حدودها مع سورية.

2. مواكبة تركيا للمبادرة الإسرائيلية، بحشد قواتها على الحدود السورية، مثيرة احتمال تصادم سوري- إسرائيلي.

3. حشد العراق قواته، للإيهام بمساعدة سورية.

4. إغارة الطائرات: العراقية والتركية، على مراكز سورية حدودية، ردّاً على خرق سوري مُدَّعَى لحدود تركيا والعراق.

5. تعجُّل هاتَين الدولتَين الزحف إلى سورية، وهما تناشدان الولايات المتحدة الأمريكية، أن تعينهما على مواجهة العدوان السوري.

وما إن وصل صلاح الدين البيطار، وزير الخارجية السوري، إلى نيويورك، في 21 سبتمبر، لعرض قضية بلاده مع تركيا على الجمعية العامة، حتى وصلت سفينتان سوفيتيتان حربيتان إلى مرفأ اللاذقية.

وفي 13 أكتوبر 1957، نزلت القوات المصرية، من دون سابق إنذار، في المرفأ عينه، لتأخذ مواقعها في شمالي سورية، جنباً إلى جنب مع الجنود السوريين.

وهكذا، نجحت السياسة الأمريكية في تحقيق عكس ما أرادته تماماً. إذ دفعت السوريين إلى أحضان المعسكر السوفيتي، ومنحت السوفيت فرصة عظيمة للتدخل في شؤون الشرق الأوسط؛ فضلاً عن إتاحتها الفرصة لعبدالناصر، كي يخرج من عزلته في بعض دول المشرق العربي.

سابعاً: عبدالناصر والموقف في سورية (عام 1957)

بدا غزو سورية، في خريف 1957، وشيكاً؛ فالجيوش تحدِق بحدودها؛ والمبعوث الأمريكي إلى الشرق الأوسط، لوي هندرسون، يطوف في عواصم الدول التي تتاخمها. وزادها حرجاً تأزم أحوالها السياسية الداخلية؛ فجيشها تعتريه صراعات، مزقته كتلاً[2]،  تتآلف أحياناً، وتتنافر أخرى حتى تكاد تصطرع. شايع بعضها أحزاباً سورية، ذات أبعاد عربية، تطاول  الرياض وبغداد، فتسهم في الصراع بين السعوديين والهاشميين؛ بل تجعل دمشق ميداناً له. وآثر بعضها علاقاته: الاجتماعية والاقتصادية، في عاصمة أخرى، بيروت، حيث تدار الحرب الباردة في المشرق العربي. ولم يَعْدَم حزب البعث العربي الاشتراكي ضباطاً، يجاهرون بانتسابهم إليه، وعضويتهم في لجنته العسكرية. ناهيك بضباط آخرين، ذَوِي أحلام قومية عامة، وغير محددة، القاهرة موئلها؛ منهم الشخصية الرئيسية في دمشق، آنئذٍ، عبدالحميد السراج، رئيس الشعبة الثانية في الجيش السوري (الاستخبارات"). وهو يرى أن أمن سورية الوطني، يتصل اتصالًا مباشراً بالقاهرة، التي أصبحت مركزاً رئيسياً لقيادة المشروع القومي العربي.

ولم يفوِّت الحزب الشيوعي السوري المنافسة، فجهد في تكوين كتلته من الضباط السوريين. وسرعان ما سطع نجمه. وعجت وكالات الأنباء والجرائد بنشاط زعيمه، خالد بكداش. وزاده سطوعاً التحذيرات السوفياتية للغزاة من عواقب تصرفاتهم. فَرَاج الحزب، وكَثُر محازبوه؛ وعُدَّ مخلّصاً لسورية ومنقذاً. وما لبث السحر أن انقلب على الساحر؛ إذ برر الغزاة غزوهم لسورية بسيطرة الشيوعية عليها، ومن ورائهم الشيوعية الدولية.

أمّا جمال عبدالناصر، فقد ترصَّد ما تعانيه سورية، غير غافل عن انتهاز إسرائيل لانشغال العالم العربي بتهديد خارجي، تسوِّغه، وتساعد عليه عواصم عربية؛ فتبادر إلى غاية في نفسها، تمثلت ي احتلالها  منطقة جبل المكبر، في القدس؛ لكي تحكم الحصار على المدينة القديمة.

وأعلن، في 9 سبتمبر 1957، لجريدة "الأهرام": "إنني أتابع تطورات الموقف في سورية. وأتساءل هل انحازت سورية، حقيقة، إلى المعسكر الشيوعي؟ والجواب هو بالنفي قطعاً. وهل يمكن أن يصل الفكر والتصور الأمريكي، بغض النظر عن صحة هذا التصور أو بطلانه، أن سورية انحازت إلى المعسكر الشيوعي؟ والجواب أيضاً بالنفي. إن الولايات المتحدة الأمريكية، لديها من إمكانيات العلم بحقائق الأوضاع في سورية، وفي غير سورية، ما يسمح لها أن تعرف كلّ الدقائق والتفاصيل؛ وليس معقولاً أن يصل الخطأ في الحكم إلى مثل هذه الدرجة، التي توحي بها تصرفات السياسة الأمريكية. وإذن، لا يتبقى إلا أن تكون المسألة خطة مرسومة، مدروسة، تنفذ تفصيلًا بعد تفصيل، وبخطوات تعرف مواقع أقدامها.

إن الهدف الحقيقي للسياسة الأمريكية تجاه سورية، هو تحويل الأنظار عن إسرائيل، وتوجيهها إلى أهداف أخرى، تتمشى مع مصالح السياسة الأمريكية. ثم لا يوجد في العالم العربي من يرى في هذا كلّه نذيراً بالخطر. لماذا؟ لأن السياسة الأمريكية، استطاعت تحويل المعركة، وأصبح الخطر، الآن، في أنظار الذين انطلت عليهم الخدعة، قادماً من سورية، والهجوم سيجيء منها، والعدّو لم يعد في دمشق!".

ولفت إلى أمرَ ين:

أولهما: الخطة ليست جديدة، وإنما هي امتداد للخطة الإستراتيجية القديمة؛ ولكن على أساس تكتيكي جديد.

ثانيهما: الخطة، كما يبدو من دراستها، لا تستهدف سورية وحدها؛ وإنما هدفها الأصيل هو القومية العربية كلّها.

وأكد السياسة الأمريكية تجاه العرب، تسعي إلى ثلاثة أهداف:

1. حل مشكلة إسرائيل، على أساس الأمر الواقع.

2. فرض تنظيم دفاعي، يخدم المصالح الأمريكية وحدها.

3. الانحياز إلى الموقف الأمريكي، في جميع المشكلات الدولية؛ وكأن الدول العربية منطقة نفوذ أمريكية.

ولم يكتفِ جمال عبدالناصر بذلك، بل استزار العقيد عبدالحميد السراج، رئيس الاستخبارات في الجيش السوري؛ واللواء عفيف البزري، رئيس الأركان. والتقاهما في القاهرة، مساء 11 سبتمبر 1957. واستمع إلى تقريرهما في شأن الأوضاع العامة في سورية، وكُتل جيشها وتكويناتها وانتماءاتها: العربية والسياسية؛ ودور الحزب الشيوعي السوري. وأبدى تخوُّفه على الكتل العسكرية تصارعاً، ينجم عن لبس؛ فتتحول الخلافات السياسية إلى صراعات مسلحة. واقترح إنشاء مجلس، يضم قادة تلك الكتل، للحيلولة دون تصادمها. ورأى أن توزيع القوات السورية على الحدود التركية والعراقية غير كافٍ. كما نفى أيّ خطر شيوعي على دمشق؛ وما التشهير بالشيوعية سوى ذريعة لغزو سورية.

ثامناً: سعي حزب البعث إلى الوحدة

آمن البعث بالوحدة العربية، وقدّمها على الحرية والاشتراكية. وطمح في إنشاء دولة عربية متحدة. فكان له غير هدف إيديولوجي، تجسمت كلّها في إنشاء نظام اجتماعي تقدمي، وتحرير جميع أجزاء الوطن العربي من النفوذ الأجنبي. وتبيَّن له أن الوحدة العربية، لن تتأتّى إلاّ بعمل جريء، يقضي على المصالح التقليدية، وينقض دعاوى المدافعين عن الأمر الواقع، ويزري بالعواطف الإقليمية.

وتمثلت الوحدة لعبدالناصر نضالاً عربياً واحداً، وترساً دون الإمبريالية. وما تبشيره بها إلا حرص على تضامن سياسة العرب الخارجية، وفق التوجهات المصرية؛ لا، بل رغبة في السيطرة على تلك التي تنتهجها الدول العربية المجاورة، بتنحية الحكومات المعادية، بل إطاحتها. ومصداق ذلك تنحية حكومة فارس الخوري، في دمشق، في فبراير1955، واستبداله بها حكماً موالياً لمصر، يُعِينها على حلف بغداد.

لطالما افتقر البعثيون إلى الاتصال بالمؤسسات السياسية النافذة. وتداركوا ذلك بإنشائهم علاقة خاصة بعبدالناصر؛ لتوافق الطرفَين في حل المشاكل؛ حتى إنهم حسبوا أنه بعثياً، ولاسيما  في تعامله مع الدول الكبرى، وإصراره على الاستقلال الوطني؛ فضلاً عن مواهبه الذاتية. وأصبحوا، عام 1956، من أشد الداعين له، والمقدرين لدوره الوطني. وفي ذلك يقول صلاح الدين البيطار: "لقد آمنا، نحن في حزب البعث، بأن اتحاداً مع مصر، سوف يغذي فيها نفس العواطف القومية، التي ألهبتنا". ويوضح ميشيل عفلق رأيه، بقوله: " لقد كانت لدينا القناعة، بأنه لا يمكن أن تكون هناك وحدة عربية، بدون وجود مصر".  وفي المقابل، تمتعوا بقوة الدعم السياسي المصري وثقله.  وأضحى الطرفان عام 1957، أشد قوتَين فاعلتَين في السياسة السورية؛ ما أتاح لدعاة الوحدة البعثيين المشاركة في حكومة صبري العسلي الائتلافية، التي كوِّنت بعد حرب السويس مباشرة.

حمل مصر، إذاً، على اعتناق فكرة القومية العربية عوامل ثلاثة:

ـ الأخطار الناجمة عن استمرار مواجهة إسرائيل.

ـ الاعتراف بوحدة نضال الدول العربية، من أجل الاستقلال الكلي عن الدول الكبرى.

ـ الصراع العربي الداخلي على السلطة، وضرورة سيطرة مصر على سورية، لتؤكد زعامتها العربية.

بيد أن جمال عبدالناصر، بعد حرب السويس، لم يكن مهيأً للوحدة؛ فضلاً عن أنه لم يستشعر استعداد الرأي العام المصري لها. وهو ما وافق نُصْح سفيره في دمشق، محمود رياض، بعدم زعزعة الأمر الواقع، الذي تستميت مصر في الدفاع عنه؛ إذ يقول:

"لم نطلب الوحدة مع سورية مطلقاً. بل أوضحنا، دائماً، أن الفكرة سابقه لأوانها. وقلنا لكلّ جماعة، مارست الضغط من أجل الوحدة، إننا نرفض إقامة اتحاد، بقوة السلاح؛ فنحن نعتقد أن الوحدة، لا يمكن أن تستمر، إذا ما حُققت بواسطة الجيش. لقد ادَّعى جميع زعماء الأحزاب السورية، بأنهم مؤيدون للوحدة؛ لكن حزب البعث، كان الوحيد الذي خطط للأمر فعلً،ا وطالب بخطوات عملية لتحقيقها. لقد كانت سياستنا، في الواقع، هي تجنب الوحدة؛ إذ كنا نعلم أنها ستثير كل القوى ضدنا، وأننا سنتهم بضم سورية".

ولكن الضعف الذي اعترى البعثيين، دفعهم إلى الإلحاح على مصر بوحدة، ترجحهم على خصومهم ومنافسيهم، وتساعدهم على نشر مبادئهم الوحدوية في العالم العربي كلّه. ومهد لتحقيق الرغبة البعثية وصول بعثة برلمانية مصرية إلى دمشق، في أواخر نوفمبر1957؛ ما حفز حزب البعث، في ديسمبر، تقديم مشروع، يقضي بتكوين اتحاد فيدرالي بين مصر وسورية.

تاسعاً: الشيوعيون والوحدة

منذ أزمة السويس وما بعدها؛ وبعد أن أصبحت الدعوة إلى اتحاد سوري ـ مصري أمراً سياسياً محضاً؛ أعرب الشيوعيون عن تأييدهم إنشاء الاتحاد الفيدرالي؛ مؤمنين بأن صيغة فيدرالية ملتبسة، ستمنع الاتحاد من أن يصبح فعالاً، وتسمح لهم بأن يستمروا في نشاطهم الحزبي في سورية. غير أن منازعتهم البعث، في نهاية عام 1957، دفعتهم إلى مزايدته على الاتحاد الفيدرالي، فتزيّدوا المطالبة بالاندماج الكامل بين سورية ومصر؛ واثقين أن عبدالناصر، الذي ما زال يتلكأ عن الاتحاد الفيدرالي، سيرفض الاندماج. وهكذا يحبطون خطط الاتحاد، دفعة واحدة؛ ويشوّهون سمعة الرجل؛ ويتألفون الشعب بكونهم قوميين مندفعين. فاضطر البعث، حرصاً على استئثاره بزعامة حركة الاتحاد، أن يستبدل بمشروعه الفيدرالي، المطالبة بالوحدة الاندماجية. وإذا بزمام الحالة في يد الرئيس المصري، الذي انبرى  المسؤولون السوريون يستبقون إلى تسليمه البلاد.

عاشراً: الجيش السوري والوحدة

مزق عصف الرياح السياسية بسورية جيشها، في أواخر عام 1957، أجنحة متصارعة، خشية بعضها بعضاً أشد من خشيته أيّ قوة خارجية؛ ما أضعف الجيش وفككه؛ حتى إن كلّ وحدة عسكرية، أمست جيشاً مستقلاً. وطالما أثار ذلك تحفُّظ عبدالناصر من تحمُّل مسؤولية سورية، ما لم يُرْأَب التصدع الحاد في الجيش السوري. ولم يتردد في إعرابه للبعث، مراراً، عن اهتمامه بهذا الأمر؛ فأيقن البعثيون أنه لن يبدد مخاوفه سوى بعثة من قادة الجيش السوري، تعلن له ولاءها، وائتمارها بإمرته بلا تحفُّظ. وفطن الشيوعيون لهذه النية، فتداركوا أمرهم، بالمبادرة إلى إصلاح ما فسد من علاقاتهم بحزب البعث. وأصدروا بياناً، يشير إلى ضرورة التفاهم بين الشيوعيين والبعثيين، الذين يشكلون معاً حجر الزاوية في الجبهة الوطنية.

وصل إلى القاهرة، في 12 يناير 1958، أربعة عشر ضابطاً، يرأسهم رئيس الأركان العامة؛ فأثار سَفَرهم غير المعلن وغموض هدفهم ريبة الحكومة السورية وخِيفتها. وعزموا على عبدالناصر، أن يوافق على اتحاد غير مشروط مع مصر، ووفق شروطها. فكاشفهم بتحفظات عديدة، ولاسيما تَسَوُّس الجيش السوري؛ واشترط حل جميع الأحزاب السياسية.

 



[1] فى19 يناير عام 1957، وقعت اتفاقية في القاهرة، تعهدت كل من السعودية ومصر وسورية بموجبها أن تدفع إلى الحكومة الأردنية مبلغا سنويا تعويضاً لها عن المساعدات البريطانية.

[2] برزت في الجيش السوري في الفترة التي سبقت الوحدة مع مصر ست كتل رئيسية هي:

- ظهور عبدالحميد السراج كقوة فردية لا ينتمي إلى أي حزب أو جماعة.

- كتلة البعث، وكان من أبرز عناصرها في الجيش: مصطفى حمدون- عبدالغني قنوت- بشير صادق- حسان حيده- جمال الصوفي.

- كتلة حزب التحرير، وشملت جماعة من الضباط المناهضين للكتلة البعثية، وتزعم هذه الجماعة أمين النفوري.

- تأرجحت بين الكتلة البعثية وجماعة النفورى- كتلة رابعة تزعمها طعمة العودة الله وأحمد الجنيدي.

- كتلة دمشق وتزعمها أكرم الديري.

- كتله عفيف البزري وقد كان تعاطفها مع اليسار